حراك اجتماعي

(بالتحويل من الحراك الاجتماعي)

الحراك الاجتماعي (بالإنجليزية: Social mobility) هو عملية انتقال - الأفراد عادة، وفى بعض الأحيان جماعات بأكملها - بين مواقع مختلفة فى إطار نسق للتدرج الاجتماعى فى أى مجتمع. وهو الوضع الذي يشير إلى إمكانية تحرك الأشخاص أو الجماعات إلى أسفل أو إلى أعلى الطبقة أو المكانة الاجتماعية، في هرم التدرج الاجتماعي. يرى باحثون آخرون أن مصطلح «حراك» يُستخدم، أيضاً، ليدل على الحركة المكانية أو الهجرة السكانية، وهذا ما يسمى «الحراك الفيزيقي». أما الانتقال من وضع اجتماعي إلى آخر داخل البناء الاجتماعي فيُسمى «الحراك الاجتماعي»، بمعنى انتقال الفرد أو مجموعة من الأفراد من مستوى طبقي إلى مستوى آخر، مما يدل على أن الحراك الاجتماعي يتطلب وجود مجتمع طبقي. لهذا، فالحراك الاجتماعي ظاهرة جديدة في المجتمع الحديث، بل هو أحد المقومات الرئيسية في المجتمع المتحضر، الذي يتميز عن المجتمع التقليدي الإقطاعي، الذي يُعد مجتمعاً مغلقاً، ولا يتحرك الفرد فيه خارج الجماعة التي ينشأ فيها لوجود حواجز اجتماعية تربط الفرد بجماعته.

بشكل عام، بوصفه التحرك من فئة أو شريحة اجتماعية إلى فئة أو شريحة أخرى. ويكون هذا التحرك ـ عادة ـ من جماعة مهنية إلى جماعة مهنية أخرى. فإذا انتقل الفرد من مهنة الطب إلى مهنة الهندسة، يكون انتقاله في شكل أفقي. أما إذا انتقل من مهنة التمريض إلى الطب، مثلاً، فيكون حراكه رأسياً. وقد يكون الحراك على شكل حركة بين تجمعات تقع على مستوى واحد. فالحراك الاجتماعي الحقيقي يعبر عن دينامية المجتمع وتغيره واستجابته لكل التغيرات، التي تحدث نتيجة تغير نوع العلاقات الاجتماعية وتقريب الفوارق الطبقية. وبناءً على ذلك، فإن الحراك الاجتماعي يعبر عن عملية اجتماعية ينتقل من خلالها الفرد أو الجماعة من وضع اجتماعي معين إلى وضع آخر. لهذا، يربط بعض الباحثين بين «الحراك الاجتماعي» وظاهرة أعم وأشمل وهي ظاهرة "التغير الاجتماعي"، التي يتعرض لها الأشخاص أو الجماعات، حيث تنتقل أو تتحول من وضع اجتماعي معين إلى آخر، ومن مكانة اجتماعية معينة إلى أخرى، وذلك حسب اختلاف المكان والزمان.

أشكال الحراك الاجتماعي وطبيعته

ميّز علماء الاجتماع بين أشكال كثيرة من الحراك الاجتماعي، داخل البناء الاجتماعي للمجتمع المعاصر. ومن أهم تلك الأشكال التمييز بين:

  • الحراك الاجتماعي الصاعد / إلى أعلى (بالإنجليزية: Up Ward Social Mobility) الذي يُشير إلى انتقال الفرد من مستوى طبقي أدنى إلى مستوى طبقي أعلى في سلم التميز.
  • الحراك الاجتماعي الهابط / إلى أسفل (بالإنجليزية: Down Ward Social Mobility) الذي يُشير إلى هبوط الفرد من مستوى طبقي أعلى إلى مستوى طبقي أدنى في سلم التميز، كأن ينتقل الفرد من طبقة عليا إلى طبقة متوسطة، مثل تدهور الحال لدى بعض الأثرياء والأغنياء نتيجة أزمة اقتصادية معينة، وانحدارهم إلى مستوى طبقي أقل.

وقد حدد بعض علماء الاجتماع عدداً من الأسس العامة للحراك الاجتماعي الرأسي، أهمها:

  • يندر وجود مجتمع تكون فيه الطبقات مغلقة إغلاقاً محكماً، أو لا يوجد فيها حراك اقتصادي وسكاني ومهني.
  • لا يمكن أن يوجد مجتمع يكون فيه الحراك الرأسي حراً بصورة مطلقة، ويكون الحراك من طبقة إلى أخرى من دون عقبات.
  • يختلف عمق وشمولية الحراك الاجتماعي الرأسي من مجتمع لآخر.
  • يختلف عمق وشمولية الحراك الاجتماعي الرأسي في المجتمع نفسه، من وقت لآخر.
  • لا يوجد اتجاه دائم ومحدد نحو زيادة، أو نقص، عمق الحراك الاجتماعي.

ويوضح علماء الاجتماع طبيعة الحراك الاجتماعي على أساس حركة وتنقل الأفراد دون الجماعات. وهذا يوضح الفارق بين الحراك الاجتماعي، الذي يتخذ شكلاً فردياً، والحراك الذي يتخذ شكلاً جماعياً، ويُطلق عليه «الحراك الطبقي» (بالإنجليزية: Class Mobility)، ويُطلق الحراك الاجتماعي الأفقي (بالإنجليزية: Horizontal Social Mobility) على حركة الأفراد أو الجماعات، من وضع اجتماعي إلى آخر مع عدم وجود اختلاف في الدرجات بين الوضعين؛ فمن يترك مهنة كهربائي ليعمل ميكانيكياً، يُعبِِّر عن حركة أفقية حيث تحتاج المهنتان إلى الجهد والعمل نفسيهما تقريباً، وتقاضي الأجر نفسه، والوضع الاجتماعي ذاته داخل بناء المجتمع.

كما يميز علماء الاجتماع بين نمطين آخرين من الحراك:

  • الحراك الاجتماعي بين الأجيال (بالإنجليزية: Intergenerational Social Mobility) الذي يشير إلى الحراك انتقالاً من وضع الأسرة الأصلية إلى الموقع الطبقي أو المكانة الخاصة بالفرد ذاته، والذي يظهر عند مقارنة الطبقة الاجتماعية، التي ينتمي إليها كل من الأبناء وآباؤهم أو أجدادهم. فإذا حقق الأبناء مستوى طبقياً أعلى من ذلك الذي ينتمي إليه آباؤهم، فإنهم بذلك يكونوا قد أنجزوا حراكاً اجتماعياً صاعداً عبر الأجيال، وعكس ذلك صحيح أيضاً للحراك الاجتماعي الهابط عبر الأجيال.
  • الحراك الاجتماعي الجيلي / داخل نفس الجيل (بالإنجليزية: Interagenerational Social Mobility) يشير إلى الحراك الذى يحدث للفرد خلال حياته العملية مثل الوظيفة الأولى للمبحوث مقارنة بوظيفته الحالية، وتجري بمقارنة الأوضاع الطبقية التي شغلها الفرد في حياته المهنية، وما يحققه من إنجاز فيها.

وثمة تمييزات أخرى - من أهمها التفرقة بين الحراك البنائى وغير البنائى - تتسم بأنها ذات طابع أكثر استمرارية.

وقد حدد أبرز علماء الاجتماع وهو بيتريم سروكين أربعة أنماط أساسية للحراك الاجتماعي على النحو التالي:

الحراك المهني

ويُقصد به تغيير الفرد لمهنة أسرته، وتبديل الأبناء لمهن آبائهم نتيجة لازدياد التخصص المهني، وتوافر مجالات العمل أمام الفرد، حسب ميوله الفردية واستعداده للإنتاج. ويساعد الحراك المهني على تحرك الأفراد اجتماعياً واقتصادياً، عن مكانة أسرهم الاجتماعية والاقتصادية. ويؤدي ارتقاء الفرد في التركيب المهني وتغييره لوضعه المهني، عن وضع أسرته الأصلية، وصعوده أو هبوطه في السلم المهني، إلى تغييره مكان إقامته، ومعارفه وأصدقائه الذين تربى معهم في نشأته الأولى، واختلاطه بأفراد جدد ذوي ميول واتجاهات مغايرة عن الوسط الذي نشأ فيه، وتغييره أيضاً لأسلوب حياته ومركزه الاجتماعي ما يؤثر في علاقته القرابية بأعضاء أسرته.

أصبحت وراثة الأبناء لمهن الآباء ظاهرة نادرة في المجتمع المعاصر، وأصبح طبيعياً أو سوياً أن نرى أعضاء الأسرة يعملون في مهن متباينة، لا ترابط بينها ولا اتصال. فقد يعمل أحد أفراد الأسرة في التجارة وآخر في التدريس وثالث في مهنة الطب، بينما يعمل قريب لهم في حرفة يدوية، كالنجارة أو الحياكة.

الحراك المكاني

هو أكثر أشكال الحراك الاجتماعي انتشاراً في المجتمع الحضري الصناعي. فقد أصبح من الشائع انتقال الفرد من إقليم إلى إقليم، أو من حي لآخر. وكان الحراك المكاني محدوداً في المجتمع التقليدي، وكان الفرد يدين بالولاء للأرض التي يُولد فيها ويمارس نشاطه الاجتماعي والاقتصادي فوقها؛ ولكن أدى تقدم وسائل المواصلات ووسائل النقل، ونشأة مهن جديدة ذات أجور مرتفعة في أماكن متفرقة، إلى ازدياد الحراك المكاني للأفراد، وهجرتهم من الأقاليم التي يقيمون بها مع أسرهم إلى مواطن العمل الجديدة.

ولاحظ علماء الاجتماع أن الأفراد في المجتمع الحضري أصبحوا أقل ارتباطاً بالأرض التي ينشأون عليها، وزاد تحرك الأفراد من بلد لآخر، وزاد تغيير الأفراد للوحدات السكانية، وتبديلهم لجيرانهم، وزادت المسافات التي يقطنها الفرد في انتقالاته من مجتمع لآخر في المجتمع الحديث، ما يؤثر في ولائه لأسرته وارتباطه بأقاربه.

الحراك الاقتصادي

ويُقصد به تغير مراكز الأبناء الاقتصادية عن مراكز الآباء والأجداد. فلقد أدى تغير نظام الملكية، ونمو الملكيات الفردية، ونشأة نظام الأجور، وتقييم العمل على أساس إنتاج الفرد ومقدار ما يبذله من مجهود ونشاط، إلى تغير المراكز الاقتصادية للأفراد. وأصبح من الطبيعي أن تتغاير المراتب الاقتصادية للأبناء عن مراتب آبائهم، لتغير المهن التي يقوم بها كل منهم. ولعل تغاير المراتب الاقتصادية يعني أن التكوين الطبقي أصبح مرناً ومتغيراً، وأصبح من السهل أمام الأفراد الانتقال إلى مرتبة أعلى من مرتبة أسرهم بمقدار ما يبذلونه من جهد وعمل، وما يقومون به من نشاط في مهنهم. وصار من الطبيعي أن تنخفض مكانة الأفراد الاقتصادية عن مكانة أسرهم، إذا ما فشلوا في مهنهم.

الحراك الفكري

يقصد به مقدار ودرجة وقوة ارتباط الفرد بالقيم والأفكار المستحدثة المختلفة. وقد ساعدت وسائل الاتصال ـ مثل الراديو والسينما والتليفزيون والصحف والكتب والمجلات وازدياد الاختراعات الحديثة في العلوم والفنون وأيضا الحركات النسائية والأحزاب والجمعيات الأهلية والكتب التعليمية المقدمة في مراحل التدريس ة العادات والتقاليد الموروثة شفهيا مثل نقل قيم فكرية من الأجداد إلي الأبناء، ساعد ذلك على ازدياد فرص الحراك الفكري، وعرض نماذج فكرية واجتماعية في أساليب جديدة من السلوك. وكذلك تغير التقاليد المتوارثة عن الآباء والأجداد. كما أدى ازدياد حركة الكشف العلمي إلى ضعف ارتباط الأفراد بالقيم القديمة، واتجاههم نحو تقبل الأفكار والمبادئ المستحدثة.

عوامل الحراك الاجتماعي

يتحدد مدى الحراك الاجتماعي بناءً على عدد من العوامل، التي تساعد على حدوثه داخل المجتمع. ومن هذه العوامل: الهجرة، والتعليم، والتحولات السياسية. على أن هذه العوامل ليست جامعة مانعة لأسباب حدوث الحراك، ولكنها أهم العوامل التي تسهله وتحفزه:

الهجرة

تلعب الهجرة دوراً كبيراً في الحراك الاجتماعي، على أساس أن الهجرة ناتجة عن السعي لتحسين ظروف وأحوال الأفراد والجماعات اجتماعياً واقتصادياً، لِما تتيحه من فرص متعددة في التعليم والعمل ومستوى عالٍ من الدخل، ومن ثم تحقيق الرقي الاقتصادي والاجتماعي للأفراد، خاصة وأن هناك اعتقاداً سائداً بأن المهاجرين يميلون إلى أن يكونوا من طبقة اجتماعية أعلى من عامة السكان. فلقد أكدت الدراسات الاجتماعية أنه يسود في المجتمعات الصناعية المتقدمة معدل هجرة مرتفع في صفوف الأفراد المهرة من التخصصات الفنية. إذ تكون لدى المهاجرين رغبة في تحسين وضعهم الاقتصادي، ولذلك تكون رغبتهم محدودة في الاستقرار في مكان واحد. إن التقدم المتدرج للمتخصصين في المهارات المختلفة، في سلسلة من المراكز المرتفعة داخل البناء الاجتماعي المتدرج، يرتبط ـ بشكل أو آخر ـ بحركة السكان المكانية والاجتماعية.

التعليم

يُعد التعليم عاملاً أساسياً من العوامل، التي تؤدي إلى حدوث الحراك الاجتماعي داخل المجتمع المعاصر، نظراً لما يتيحه من فرص تحقيق التقدم العلمي والاجتماعي، بما يجعل الأفراد أكثر استعداداً لتقبل التغيير وتحسين أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية. فقد دلت الدراسات والبحوث أن بعض الفئات الاجتماعية من الطبقات الدنيا، استطاعت، على الرغم من ظروفهم السيئة وعدم توفر الإمكانيات، أن تصل إلى أعلى الدرجات في السلم التعليمي، وأن تحسّن من وضعهما الطبقي من خلال الحراك الاجتماعي الذي يحققه التعليم. وقد أكدت بعض الدراسات الحديثة أن فرص الحراك المهني الاجتماعي محدودة، نظراً لوجود تمايز في النسق التعليمي يجعل أبناء الطبقة العليا محتكرين للمهن ذات المستوى الرفيع. إن القضية ليست إتاحة الفرص للفرد ليلتحق بالتعليم، ولكنها قضية هل يستطيع مواصلة الطريق حتى النهاية؟!

التحولات السياسية

يرى علماء الاجتماع أن التحول السياسي يرتبط بفترات الاضطراب الاجتماعي، مثل الحرب والثورة وحركة الإصلاح السياسي والاجتماعي. ففي فترات الحرب يحدث حراك اجتماعي صاعداً أو هابطاً لبعض الأفراد، مثل أولئك الذين يستفيدون من استمرار الحرب ويحققون ثراءً ـ أغنياء الحرب ـ فيحققون حراكاً اجتماعياً صاعداً. كما أن الاتجاه نحو الإصلاح الديموقراطي وترسيخ دعائم الحرية، يساعد على تحقيق تقدم الحياة الاجتماعية، بحيث يصبح الارتقاء والحراك الاجتماعي والانتقال من طبقة إلى أخرى أكثر يُسراً، إذ تتميز المجتمعات الديموقراطية بشدة حراكها الرأسي، إذا قورنت بغيرها من المجتمعات. ففي المجتمعات الديموقراطية لا يُحدد وضع الفرد بمولده، بل تُترك كل الأوضاع الاجتماعية مفتوحة لكل فرد بحيث يستطيع الحصول عليها وشغلها، ولا توجد عوائق شرعية أو دينية للارتقاء أو الهبوط.

كما تُعد الثورات عاملاً فعالاً في الحراك الاجتماعي، لأنها تضع نظاماً سياسياً محل غيره، وتأتي بأناس كانوا من الدرجة الثانية أو الثالثة وتضعهم على رؤوس الأمم، فيصبحوا من قادتها وزعمائها. كما تعمل الحروب والانتفاضات الاجتماعية على سرعة الحراك، حيث تساعد هذه العوامل على ظهور قيادات وطنية جديدة لتحل محل القيادات التقليدية القديمة، وما يرتبط بذلك من حدوث حراك اجتماعي. كما هو مشاهد في مجالس قيادات الثورات التي حدثت في غالبية دول العالم الثالث.

الدراسات الاجتماعية للحراك الاجتماعي

ركزت الدراسات الاجتماعية جل اهتمامها على الحراك بين الأجيال، وخاصة على دور الإنجاز التعليمى مقارنا بدور الخلفية الاجتماعية أو الخصائص المكتسبة بالميراث كالعرق - فى تفسير أنماط الإنجاز المهنى. و على الرغم من توفر عدد كبير من دراسات الحالة حول تكوين جماعات الصفوة وطرق الالتحاق بها (انظر على سبيل المثال كتاب ستانورث وجيدنز، جماعات الصفوة والقوة فى المجتمع إلبريطانى؛ الصادر عام 1974)، فإن الأداة البحثية الأكثر شيوعاً فى بحوث الحراك هى مسوح العينات الكبيرة الحجم، كما أن أكثر موضوعات المقارنة هى المهن. وقد تصدى بعض علماء الاجتماع لدراسة الحراك الاجتماعى فى مجتمعات ما قبل الصناعة (انظر مثلاً كتاب كيلبل، البحث التاريخى فى مجال الحراك الاجتماعى، المنشور عام 1977) فضلاً عن آخرين فيما يتعلق بالبلدان النامية المعاصرة مثل الهند (انظر مؤلف بيتاى، الطائفة والطبقة والقوة، المنشور عام 1965) على أن أغلب الدراسات قد تناولت بالبحث مجتمعات الغرب الصناعية الحديثة، وبدرجة أقل دول شرق أوربا الشيوعية سابقاً.

وتعد دراسة الحراك الاجتماعى قضية ذات جذور سوسيولوجية وطيدة ترجع إلى كتابات كل من كارل ماركس وجون ستيوارت ميل فى منتصف القرن التاسع عشر، وإلى الإسهامات الأساسية لكل من فلفريدو باريتو (الذى طور نظرية "دورة الصفوات") وبيتريم سوروكين فى بدايات القرن العشرين.

وتتداخل الأدبيات الواسعة فى الموضوع الآن بطريقة لا فكاك منها مع المناقشات الواسعة حول قضايا التعليم، والنوع الاجتماعى، والثقافة، والقوة، والأساليب الإحصائية، ودور النظرية فى البحث الاجتماعى (وغير ذلكمن القضايا).

والواقع أنه من الممكن أن نرجع العديد من الحوارات الكلاسيكية فى علم الاجتماع المعاصر إلى المعالجات المبكرة للحراك. فعلى سبيل المثال كتب سوروكين فى مؤلفه الحراك الاجتماعى (الذى صدر عام 1927) يقول: "إن قنوات التدوير الرأسى توجد فى أى مجتمع متدرج، وهى ذات أهمية مماثلة لتلك التى تحتلها قنوات الدورة الدموية بالنسبة للجسد". وفى أطروحة سابقة على ما سوف يعرف فيما بعد باسم النظرية الوظيفية فى التدرج الاجتماعى، ذهب سوروكين إلى القول بأن هذه "السلالم" أو "المصاعد" تعد ضرورية للتوزيع الفعال للمواهب على المهن، وأن الفشل فى تحقيق ذلك يشجع على عدم الفعالية واللانظام. ومع ذلك، فإن سوروكين لم يذهب إلى القول بضرورة المكافاة الضخمة فى دفع الأفراد إلى تلقى تدريب للحصول الوظيفى للمجتمع، كما ذهب إلى ذلك كل من كينجزلى ديفيز وويلبرت مور فى أعمالهما التى نشراها بعد عقدين من الزمان من نشر سوروكين لكتاباته. بل إنه أكد على موقف أكثر إقناعاً مؤداه أن المرشحين لمثل هذه المواقع سيكونون قادرين على استغلال أدوارهم المهنية المهمة لكن يحققوا امتيازات مادية وغير مادية. و لقد كان سوروكين مهتماً على وجه الخصوص بدور النظم التعليمية فى توزيع الناس على المواضع المهنية المختلفة. وكما لوكان يتوقع الانتقادات الراديكالية لعلم الاجتماع التربوى الجديد فى السبعينيات، ذهب سوروكين إلى القول بأن المدارس تعمل بصفة أساسية باعتبارها "وكالات للاختبار والانتقاء والتوزيع"؛ بمعنى أن دورها يقتصر على تأهيل الأطفال لمواقع بعينها فى سوق العمل، ولا تقوم بتطوير قدرات كل فرد أو تشجيعهم على تطوبر مواهبهم.

وإزاء الاتساع الهائل المحتمل لنطاق هذا الميدان، فلعله من المناسب لأغراض التعلم الذاتى أن ننظر إلى الأدبيات المعاصرة حول الحراك الاجتماعى باعتبارها تمثل نزاعابين مشروعين بحثيين مختلفين، حدد الموضوع ومازال يهيمن على ميدانه منذ عام 1945 وحتى اليوم. فمن ناحية، يرى بعض الباحثين الحراك فى إطار تدرج هرمى اجتماعي، يمكن فى ظله ترتيب الأفراد وفقا لمستويات الدخل، أو الإنجاز التعليمى، أو الهيبة الاقتصادية الاجتماعية. ومن ناحية أخرى، يضع آخرون الحراك فى إطار البناء الطبقى، بحيث يشير المفهوم إلى موقع اجتماعى يتحدد من خلال العلاقات السائدة فى أسواق العمل والوحدات الإنتاجية. ولقد كان الاتجاه الأول التدريجى والذى نبع فى الأساس من الولايات المتحدة هو السائد خلال الخمسينيات والستينيات حيث بلغ ذروته فيما عرف باسم تراث إحراز المكانة فى دراسات الحراك. و لقد تم تحدى هذا الاتجاه بصفة متصاعدة خلال السبعينيات والثمانينيات من قبل الباحثين الذين تربوا فى ظل الكتابات الأوربية فى التحليل الطبقى أو تأثروا بها.

ويرى اتجاه إحراز المكانة أن مجال الاهتمام الأساسى لدراسات الحراك يكمن فى محاولة تحديد تلك الخصائص التى تسم الأفراد الذين ينتهون فى المواقع الوظيفية المرغوبة بقدر اكبر من المواقع ذات الجاذبية الأدنى. وتبحث هذه الدراسات تقليديا فى مدى اقتران المكانة المهنية الراهنة للأفراد بمكانة أسرهم الأصلية، عوضا عن اقترانه بمتغيرات الإنجاز الفردى، مثل الإنجاز التعليمى. وإحدى مميزات هذا الاتجاه مقارنة بالاتجاهات السابقة، التى كانت تعتمد على مقارنة مهنة الأب بمهنة الإبن من خلال الجداول الممركبة، هو أنه على الأقل قد فض الاشتباك بين بعض العمليات التى كانت تربط ما بين الأجيال. فعلى سبيل المثال، فحص الباحثون العلاقه بين تأثيرات تعليم الأب على الإنجاز المهنى للأبناء وأوضحوا أن هذه التأثيرات متميزة عن تأثيرات مهنة الأب على ذات المتغير. ولقد أكدت معظم الدراسات على أن تعليم الإبن هو الرابطة الأساسية بين الخلفية الأسرية والنجاح المهنى، ذاهبين إلى المقول بأن حوالى نصف هذا الاقتران بين المتغيرين يرجع إلى أثر التعليم، وأن الأطفال الذين ينتمون إلى أسر أكثر حظوة يتميزون بأنهم ذوى إنجاز تعليمى أفضل من ذلك الخاص بنظرائهم من الفقراء. ولقد وسع الباحثون فيما بعد من مجال اهتمام هذا الميدان البحثى بحيث تضمن ببانات عن المدخل، وانتهى معظمهم إلى القول بأن تأثير الخلفية الأسرية على الدخول بالغ الأهمية، و لكنه يعمل بطريقة غير مباشرة كلية من خلال الإنجاز المتعليمى والمهنى.

ولقد استخدمت أغلب هذه الدراسات الأسلوب الإحصائى المعروف باسم تحليل الانحدار (وعلى وجه الخصوص تحليل المسار). وتميزت أغلبيتها بالانصياع الضمنى للنموذج الليبرالى للمجتمعات الصناعية باعتبارها مجتمعات تشهد درجة متزايدة من المتجانس، وسيادة الطبقة الوسطى، وتنهض على نظام الجدارة وأنها مجتمعات مفتوحة. ولذلك، مالت عادة إلى القول بأن التحولات البنائية فى الاقتصادات الصناعية المتقدمة (وبخاصة التوسع فى الوظائف الإدارية والممهنية والإدارية العليا) قد خلق مساحة "أكثر اتساعاً عند القمة"، ومن ثم أفضى إلى زيادة فرص الحراك إلى أعلى للأفراد من ذوى ا لأصول المنابعة من الطبقة العاملة. وقد دعمت حالة السيولة الاجتماعية المتزايدة هذه بواسطة التحول التقدمى المتزايد من الاستناد على معايير المكانة الموروثة إلى معايير الإنجاز كعوامل أكثر أهمية فى تحديد إحراز المكانة. وقد أفضى هذا التحول باتجاه الانتقاء استنادا إلى نظام المجدارة المصحوب بسيادة درجة عالية من الحراك الاجتماعى إلى تقويض احتمالات المتشكل الطبقى، ومن ثم الصراع الطبقى فى المجتمعات الصناعية. ويعد مؤلف بيتر بلاو وأوتيس دانكن المعنون: البناء المهنى الأمريكى الصادر عام 1967، بصفة عامة بمثابة النموذج الإرشادى لدراسة الحراك المهنى فى إطار مدرسة إحراز المكانة.

وقد وجه نموذج بلاو - دانكن عددا كبيرا من الدراسات التى استلهمته. وأيا ما كانت أوجه الشبه والاختلاف بينها، فإنها نهضت جميعا على الادعاء بأنه من الممكن ترتيب المهن فى إطار نظام متدرج للمكانات يلقى قدرا كبيرا من الإجماع داخل المجتمع الواحد وبين المجتمعسات وبعضها البعض. وقد صيغ هذا النظام التدرجى الاجتماعى مفاهيميا فى بعض الدراسات بمعنى ضيق يشير إلى الهيبة المهنية. فى حين استخدم فى دراسات أخرى بمعنى أكثر عمومية بحيث اشتمل على جوانب أكثر اتساعا للمكانة الاجتماعية الاقتصادية. وعوضا عن المنازعة فى تفاصيل التدرج الهرمى المهنى، سعى التحليل الطبقى فى علم الاجتماع الأوربى بشكل متزايد إلى تحدى الاقتراضات الأساسية لبرنامج بحوث إحراز المكانة، وعلى وجه التحديد القول بأنه يمكن النظر إلى الحراك الاجتماعى على أفضل وجه باعتباره مسألة تدرج هرمى للنجاح المهنى بين أفراد بتنافسون فيما بينهم.

وبنطلق تراث التحلبل الطبقى من إدعاء مختلف مؤداه أن الأفراد يولدون بانتماءات طبقية متمايزة، تميل عضويتها إلى الالتصاق بهم طوال حياتهم، كما أنها ذات تبعات واضحة بالنسبة لفرص الحياة، والقيم، والمعايير، وأساليب الحياة و أنماط الارتباطات الاجتماعية. ويذهب أنصار هذا الانجاه إلى القول بأن مقاييس المكانة الاجتماعية الاقتصادية التى تحتل مكانة القلب فى اتجارإحراز المكانة تعانى من العديد من نقاط الضعف المنهجية التى لم يتم حلها. و أكثر نقاط الضعف هذه أهمية، هى أنه نظرا لأن هذه المقاييس تتكون من مؤشر مركب من الأحكام الشائعة حول الهيبة النسبية أو الوضع الاجتماعى للمهن المختلفة، فإنها ترتب مهنا ذات مواضع بنائية متباينة غاية التباين إلى جانب بعضها البعض كما لو كانت ذات مستويات متماثلة فى مكانتها الاجتماعية الاقتصادية.

فعلى سبيل المثال، من المحتمل أن يحصل العامل اليدوى الماهر على نفس درجة الهيبة التى يتمتع بها القائمون بالأعمال الكتابية أو أصحاب المحال الذين يعملون لحسابهم، أو أن يتم وضع المشرفين الإداريين فى مستوى واحد مع المزارعين والمدرسين. بعبارة أخرى، فإن المفئات التركيبية للمقياس عادة ما تحتوى على مجموعات مهنية تخضع لقوى بنائية مختلفة: وتؤدى التغيرات القطاعية والتغيرات الأخرى فى البناء المهنى، إلى جعل بعض المهن تشهد نموا واتساعا، فى حين تتعرض مهن أخرى للإنكماش، فى الوقت الذى تترك مجموعة ثالثة من المهن على حالها. ويسهم هذا القدر من عدم التجانس فى تعقيد فهمنا للحراك: فمن المستحيل أن نفرق بطريقة مناسبة بين التأثيرات البنائية المتعددة على الحراك وبين تلك التى تنبع من عوامل أخرى، وبالتالى يكون من المستحيل أيضا أن نعزل التأثيرات التدرجية لعوامل مثل الخلفية الأسرية والتحصيل النعليمسى أو أية عوامل أخرى عن التأثيرات الأخرى ذات النوعية غير التدرجية (مثل التغيرات فى التقسيم المهنى للعمل، والنمو أو التدهورالصناعى أو القطاعى، والسياسات الحمائية الحكومية وغيرها).

ولقد هجر تراث التحليل الطبقى فى بحوث الحراك الاجتماعى، الذى بدا فى السبعينيات، نموذج بلاو - دانكن لقياس الهيبة المهنية سعيا فى إثر فئات طبقية متمايزة يشترك أعضاؤها فى مواقع متشابهة فى سوق العمل وفى الوحدات الانتاجية. وأكثر هذه المفئات الطبقية شيوعا فى الاستخدام فى أوربا تلك التى صاغها جون جولدثورب فى دراسة جامعة أكسفورد حول الحر اك خلال السبعينيات، حيث صاغ هيكلا طبقيا يحاول تجميع جماعات مهنية يشترك أعضاؤها فى ذات "الموقف من السوق" و"الموقف من العمل" (وهى نظرية فى الطبقات استمدها جولدثورب من عمله البحثى السابق مع ديفيد لوكوود حول العامل المترف خلال المستينيات. أما فى الولايات المتحدة، فقد لفتت "النزعة البنائية الجديدة" التى سادت فى السبعينيات انتباه عدد من دارسى الحراك الاجتماعى إلى أهمية تأثيرات سوق العمل على مسارات الحراك، و أفضت إلى ظهور عدد من الماركسيين الذين اعتمدوا أسلوب تحليل الانحدار (من أمثال إريك أولين رايت) الذين طوعوا الأدوات المنهجية لكل من بلاو ودانكن للموقف النظرى الذى يشير إلى أهمية الملكية، والسلطة، والاستقلاليه الذاتية فى مواقع العمل.

وقد أفضت هذه النظرية الجديدة إلى منهجيات ونتائج جديدة. فقد ذهب المحللون الطبقيون إلى القول بأن الأساليب المنهجية للتحليل الملوغاريتمى الخطى تناسب بشكل أفضل تحليل بيانات الحراك، نظرا لأنها لا تتطلب بيانات تراتبية (ومن ثم فإنها لا تنهض على ادعاءات لم يتم التحقق منها) حول التدرج الهرمى للمكانة من ناحية، ولأنها تسمح للباحثين بتحليل مصفوفة مقننة للحراك (جداول للتوافق تزاوج فى جداول مركبة ما بين الأصول الطبقية والغايات أو المقاصد الطبقية) بغرض تمييز المعدلات المطلقة أو الكلية للحراك (بما فى ذلك المتغير فى الحراك الناجم عن التحولات فى البناء المهنى) عن التغيرات فى السيولة الاجتماعية أو الانفتاح فى البناء فى حد ذاته (المعدلات النسبية). وعند تطبيق منظور التحليل الطبقى وباستخدام أسلوب النمذجة اللوغاريتمية الخطية على ذات البيانات الكبيرة الحجم التى استخدمتها بحوث إحراز الممكانة، أشارت النتائج إلى أن الادعاءات الليبرالية السابقة التى نهضت عليها دراسات المكانة كانت متفائلة بشكل غير مبرر. فعلى الرغم من أن المستويات المطلقة للحراك فى أغلب المهن الماهرة غير اليدوية، إلا أن فرص الحراك النسبى ظلت دون تغير يذكر إلى حد بعيد خلال الفترة ذاتها. فاتساع الفرص المتاحة على القمة لم يفض إلى مزيد من المساواة فى الفرص المتاحة للوصول اليها، ذلك أن الزيادة النسبية فى الوظائف المتاحة للطبقة الوسطى الجديدة قد تم شغلها بواسطة أبناء الطبقات ذات المواقع المتميزة فى المجتمع. وكنتيجة لذلك، فقد ظل الاقتران بين الأصول الطبقية للفرد، والموقع الفعلى الذى ينتهى إليه ثابتا بدرجة تدعو الى الدهشة عبر الأفواج المتعاقبة من المواليد، على الرغم من النمو الاقتصادى والإصلاح التعليمى، والسياسات الاجتماعية لإعادة توزيع الدخل.

وبحلول منتصف الثمانينيات صمم جولدثورب (بالاشتراك مع باحثين آخرين من السويد و ألمانيا) مشروعا بحثيا حول "التحليل الممقارن للحراك الاجتماعى فى الدول الصناعية" لدراسة هذه المشكلة دراسة مقارنة مدققة، وقد أظهرت البيانات التى تمخض عنها هذا المشروع أن صورة الحراك فى المجتمعات المتقدمة المجتمعات الصناعية قد ازدادت بالفعل أكثر تعقيدا مما توحى به النظرية بشكل كبير خلال ثلاثة أرباع القرن الليبرالية حول المجتمعات الصناعية أو المنقضى، وذلك بالاتساق مع النمو فى التحليلات الماركسية للمجتمع الرأسمالى. وتذهب أكثر النتانج أهمية فى هذا الصدد إلى أنه عندما تم قياس الحراك فى صورة معدلات مطلقة، فإن قدر ونمط الحراك قد أظهرا قدرا من كبيرا من التباين عبر المجتمعات المدروسة؛ وأن المعدلات النسبية للحراك (أو أنماط السيولة) تظهر درجة كبيرة من التشابه عبر المجتمعات، وأن التغيرات فى السيولة الاجتماعية عبر المزمن تتخذ نمطا متذبذبا لا يتخذ اتجاها محددا، و لكنها لا تظهر دلائل على الزيادة المطردة. باختصار، يمكن القول بأنه ليس هناك ما يشير إلى وجود تحلل طويل الأمد فى البناء الطبقى، ولا زيادة فى المسيولة وبالتالى يمكن القول ضمنا أنه ليس هناك توجه متزايد نحو الجدارة.

وينازع كل من هذين البرنامجين البحثيين فى مصداقية النتاتج الأساسية التى يتوصل إليها كل منهما. وتمتلى الدوريات العلمية الممهتمة بالقضية بمناقشات حادة حول قضايا النظرية والمنهج. وأحيانا ما تؤدى هذه المناقشات إلى إيقاع غير المتخصصين فى الحيرة وإرباكهم: ولقد وصف أحد المراقبين المتشككين هذا المجال البحثى بأنه "عبارة عن مجموعة من الأساليب الإحصائية التى تبحث عن مشكلة". فى حين ذهب آخرون إلى القول، و لأسباب مختلفة، بأن الحوار حول الحراك الاجتماعى ما زال يثير القضايا الأساسية للعلم - علم الاجتماع ككل. فقد أشار آنصار النزعة النسوية على سبيل المثال الى واقع أن أغلب دراسات الحراك تنهض على عينات من الذكور فقط وقد أثار هذا مناقشات واسعة حول الوحدة الملائمة لمتحليلات الحراك (الفرد أو الأسرة)، طبيحة ما يطلق عليه الأسر العابرة للطبقات (حيث يشغل الزوجان البالغان من كاسبى الأجور مواقع طبقية مختلفة ويطور كل منهما مسارا مختلفا لحراكه)، والآثار المترتبة على تقسيم العمل المهنى وفقا للنوع على دراسات الحراك. ويمكن العثور على أفضل عرض لهذه المناقشات وغيرها من المناقشات ذات العلاقة بالموضوع فى كتاب أنتونى هيث: الحراك الاجتماعى، المنشور عام 1988.

ومع ذلك، فإن معظم الخلاف فى هذا الميدان يغلب عليه الطابع البالغ التخصص ذى الطبيعة الفنية أكثر من كونه خلافاً نظرياً. وتدور أقدم موضوعات الجدل حول إمكانية التفرقة بين المصادر البنائية وغير البنائية للحراك. ولقد حاول بعض علماء الاجتماع فى دراساتهم المبكرة أن يميزوا بين الحراك البنائى (أو الصافى) وبين الحراك الدورى او (التبادلي)، حيث يشير أول المفهومين إلى كمية الحراك المتطلبة من قبل بنية الجدول ذاته (واقع أنه إذا ما كانت الإجماليات الفرعية تظهر أن توزيع الأبناء والآباء ثابتة، فإن الاختلافات بينهم تعنى أن بعض المستجيبين لابد وأن يتوزعوا على الخلايا غير القطرية فى الجدول). وتمثل نسبة المبحوثين الذين مروا بتجربة الحراك -نتيجة لبناء الجدول ذاته - قدر الحراك البنائي فى المجتمع. أما الحراك الدورى فقد عرف آنذاك ببساطة على أنه الفارق بين إجمالى عدد المبحوثين الذين مروا فعلا بتجربة الحراك و أولئك الذين يعدون وفقا للتعريف أنهم يشهدون حراكا بنائياً. ومع ذلك فإن كلا من هذين المفهومين ليس إلا أداة إحصائية غير ذات مضمون واقعى واضح، ومن ثم فإن هذه التفرقة المصطنعة إلى حد ما بين الحراك البنائى والدوري قد فتحت الطريق للخلاف حول مفهومى معدلات الحراك المطلق والنسبى. ففى أى جدولة لبيانات أصول الحراك ومقاصده، سيكون مجموع الأعمدة والصفوف الفرعية (كتوزيع الآباء بالمقارنة مع توزيع الأبناء على سبيل المثال) مختلفاً، مفضياً إلى حالة من اللاتماثل الناجم جزئياً عن المتغيرات فى البناء المهنى ذاته (مثلما هى الحال على سبيل المثال فى حالة التغيرات القطاعية من النوع المشار إليه آنفا). ويسمح استخدام الأساليب اللوغاريتمية الخطية (المستندة إلى نسبة الفرق) بحساب فرص الحراك النسبية التى تتيح (استبعاد) ذلك الجزء من الحراك الكلى الناتج عن التغيرات فى التوزيعات الفرعية للجدول. ويصر العديد من الباحثين المتخصصين فى دراسة الطبقات على أن هذا الأسلوب المنهجى يسمح لذلك بالتفرقة — بشكل دال واضح - بين الحراك الناتج عن التغيرات فى شكل المبناء الطبقى وذلك الذى يعكس التغيرات فى درجة انفتاح المجتمع. وبالمقابل، يؤكد النقاد على أن مفهوم الحراك النسبى ليس أقل تضليلاً من مفهومى الحراك البنائى والدورى، نظراً لأنه وبغض النظر عما إذا كان الحراك الاجتماعى ناتجا عن المتحولات القطاعية وحدها أم لا، فإن الحراك المطلق أو الكلى أمر حقيقى واقع، حيسث لا يمر المبحوثون بتجربة الظاهرة اللاتاريخية واللاسياقية "لفرص الحراك النسبى". كما يمثل هذا فى جانب منه موضوعا للخلاف حول العلافه ببن الحراك المهنى والحراك الطبقى، ومن ثم فإنه يمثل حتما حوارا حول جوهر تعريف مصطلح الطبقة الاجتماعية ذاته.

انظر أيضاً