الوظيفية (علم الاجتماع)

بالرغم من أن استخدام مفاهيم الوظيفة (بالإنجليزية: Function) والوظيفية (بالإنجليزية: Functionalism) يرتبط فى الغالب بأعمال تالكوت بارسونز فى علم الاجتماع الحديث، إلا أن هناك تراثاً طويلاً من التفسير الوظيفي فى دراسة المجتمعات، كما أن هناك صورة معدلة من الوظيفية تشهد الآن بعثاً جديداً. ومن بين مؤسسي علم الاجتماع، كان إميل دوركايم أكثرهم ارتباطاً بالوظيفية، إذ كثيراً ما استخدم مماثلات بيولوجية. وكان أشهر هذه المماثلات المماثلة العضوية، التى بمقتضاها نظر إلى المجتمع ككيان عضوى يعمل كل جزء من مكوناته على المحافظة على الأجزاء الأخرى، تماماً كما تعمل أجزاء الجسم للمحافظة على بعضها البعض وعلى الجسد ككل. ولقد كانت هذه الفكرة ذات أهمية محورية فى مفهومه عن التضامن العضوي. كما فرق دوركايم بين التفسيرات الوظيفية والتفسيرات التاريخية وأدرك أهمية الحاجة إلى كليهما. ويعمل التفسير الوظيفي على الكشف عن وجود ظاهرة معينة، أو الإتيان بفعل معين، فى ضوء النتائج المترتبة على الظاهرة أو الفعل - أى مساهمته فى المحافظة على استقرار الكل الاجتماعي. وعلى سبيل المثال فإن التفسير الوظيفي لوجود الجريمة يتمثل فى أنه يوضح حدود السلوك المقبول اجتماعياً وتدعيم هذا السلوك (من خلال العقاب)، ومن ثم تصبح الجريمة ملمحاً سوياً للحياة الاجتماعية. وبنفس الطريقة، فإن النظم الدينية تعمل على توليد التضامن الاجتماعى والحفاظ عليه. أما التفسيرات التاريخية فإنها توضح التطور التتابعي لنفس الظواهر أو الأفعال. وذهبت الوظيفية الحديثة، من خلال أعمال روبرت ميرتون، إلى التمييز بين الوظائف الظاهرة "Manifest Function" (النتائج المقصودة أو التتائج التى يعي بها المشاركون) والوظائف الكامنة "Latent Function" (النتائج غير المقصودة التى لا يكون المشاركون على وعى بها). ويلاحظ أن الوظائف الكامنة قد تكون مفيدة أو غير مفيدة للعموم.

ولقد اكتسبت الوظيفية حضوراً قوياً فى علم الاجتماع والأنثروبولوجيا الاجتماعية خلال معظم القرن. كما يمكن أن نعثر على نوع من الوظيفية الكامنة فى الصور الحتمية للنظرية الماركسية، حيث ينظر إلى الخصائص السطحية للتكوين الاجتماعي (كالأنساق السياسية والإيديولوجيات ونقابات العمال) على أنها نواتج لعلاقات الإنتاج، وهى تعمل على المحافظة على هذه العلاقات. ومع ذلك فإن أشهر التحليلات الوظيفية فى علم الاجتماع هى تلك المرتبطة بالنظرية الوظيفية فى التدرج لاجتماعى والتى قدمها كنجزلي ديفز وويلبرت مور، بالرغم من أن ديفز كتب مدخلاً وظيفياً بعنوان المجتمع الإنساني (صدر عام 1949)، وقدم دفاعاً متحمساً عن الوظيفية فى الخطاب الافتتاحى لاجتماع الجمعية الأمريكية لعلم الاجتماع فى عام 1959 (انظر مقاله بعنوان: "خرافة النظر إلى التحليل الوظيفي كمنهج خاص فى علم الاجتماع والأنثروبولوجيا"، والمنشور فى المجلة الأمريكية لعلم الاجتماع، 1959). ويصف البعض مقال هربرت جان المشهور بعنوان "الوظائف الإيجابية للفقر" (المنشور فى المجلة الأمريكية لعلم الاجتماع عام 1972) بأنه قد كتب كسخرية من الوظيفية - البنائية، ورغم ذلك فإن المقال يعد مثالاً ممتازاً على التحليل الوظيفي غير المتأثر بالإيديولوجيا.

ولقد تعرضت الوظيفية فى أواخر الستينيات لهجوم منظم من مصادر متعددة. فذهب البعض إلى القول بأن هذا الاتجاه لا يمكن أن يفسر التغير الاجتماعي أو التناقضات البنائية والصراع فى المجتمعات وأن تأكيده على الاستقرار والمماثلة العضوية يجعله محافظاً من الناحية الإيديولوجية: وأصبح وصف الوظيفية بأنها نظرية الإجماع موضة فكرية فى ذلك الوقت. و الحق أن هذه الانتقادات ليست دقيقة كل الدقة. فقد نظرت نظرية بارسونز فى التطور إلى التطور التاريخي فى ضوء التباين وإعادة التكامل بين الأنساق الرئيسية والفرعية، ومن هنا تستطيع هذه النظرية أن تفسر التغير ويمكن أن تفسر الصراع - على الأقل قصير المدى - إلى أن يستعيد التكامل بين الأنساق قوته من جديد. كما أن وجود التفسيرات الوظيفية فى الماركسية يدل على أنها يمكن أن توجد إلى جانب الاعتراف بوجود التناقضات فى الأنساق الاجتماعية. ولقد كان دوركايم نفسه قادراً على ربط التفسيرات الوظيفية بصورة من صور الاشتراكية النقابية - كانت راديكالية فى بعض الأحيان.

أما النقد الحقيقى والفعال للوظيفية فقد كان نقداً إبستومولوجيا وأنطولوجيا. وكاتت وجهة النظر الإبستومولوجية ترى أن التفسير الوظيفي ليس تفسيراً على الإطلاق، طالما أنه لا يحدد الآليات والعمليات السببية. ويفترض هذا الرأي أن النظم الاجتماعية قد تم تفسيرها فى ضوء النتائج المفترض حدوثها. أما المناقشات الأنطولوجية فإنها تتعلق بما نعتقد أنه يشكل طبيعة المجتمع نفسه. فبعض المنظرين ممن يقبلون فكرة أن المجتمع له وجود مستقل متعال عن الأفراد، يذهبون مع ذلك إلى القول بأننا لا يمكن أن نعزو حاجات (على سبيل المثال: المتطلبات الوظيفية الأربعة الشهيرة التي قدمها بارسونز وهى: التكيف وتحقيق الهدف والتكامل والكمون) إلى المجتمع فى حد ذاته، لأنها تضفي على المجتمعات خصائص مثل خصائص الأفراد. ثم أننا لو كنا نستطيع أن ننسب هذه الحاجات إلى المجتمع، فإن ذلك لا يعنى بالضرورة أنها ستلبي لمجرد كونها موجودة فنحن بحاجة إلى تفسير تاريخى دقيق وتفسير سببي كاف لتوضيح الطريقة التى تلبي بها هذه الحاجات ولماذا تلبي. و لقد ذهب أنتونى جيدنز إلى أن كل التفسيرات الوظيفية يمكن أن يعاد كتابتها كتفسيرات تاريخية للفعل الإنساني وما ترتب عليه من نتائج.

ويعني ذلك أن الأفراد وأفعالهم هى الحقيقة الوحيدة، وأننا لا يمكن أن نعتبر المجتمعات أو الأنساق ذات وجود مستقل يعلو فوق الأفراد.

وبدا أن الوظيفية كمدرسة فى الفكر وكأسلوب لفهم وتفسير الظواهر الاجتماعية قد اختفت طوال الجزء الأكبر من عقدي السبعينيات والثمانينيات. إلى أن جدت فى السنوات الأخيرة بعض المحاولات اللاقتة الساعية لإعادة إحيائها. وقد تم ذلك تحت تأثير جيفرى ألكسندر فى أمريكا؛ ونيكلاس لومان فى ألمانيا، ومن خلال المراجعة المثيرة للماركسية فى بريطانيا على يد ج. أ. كوهن.

فقد ذهب ألكسندر (فى كتابه الوظيفية الجديدة، الصادر عام 1985) إلى أن أفضل سبيل لفهم الوظيفية حق فهمها هو النظر إليها كمدرسة عامة (على نحو شبيه بوضع الماركسية)، وأنها تنطوى على اتجاهات متنوعة، وليست نظرية منهجية منظمة على النحو الذى قدمه بارسونز. فلا يجب أن ننظر إليها على أنها تقدم تفسيرات، بل تقسدم وصفا يركز على العلاقات التكاملية بين النظم الاجتماعية وبيئتها، متخذة من التوازن (الاستقرار) نقطة مرجعية للتحليل، وليس شيئاً موجوداً بالضرورة فى المجتمع، وأنها تعالج التباين البنائي بوصفه الشكل الرئيسى للتغير الاجتماعي. ويؤدى هذا إلى ابتعاد الوظيفية عن حتمية نظرية النظم. فالوظيفية - فى رأى الكسندر - هى منحى واحد من بين عدة مناح، وتتحصر ميزتها فى تركيزها على جوانب معينة من "الاجتماعي" تهملها مناح أخرى.

أما كوهن ( فى كتابه: البحث، الصادر عام 1982) فيتبنى موقفاً يمكن أن نجده فى شكل مختلف فى أعمال دوركايم. فقد ذهب إلى أنه يمكن النظر للمجتمعات على أن لها حاجات، ولكن ليس بنفس الطريقة التى توجد بها لدى الأفراد حاجات، وإنما بوصفها تمتلك ما يسميه بالحقائق النزوعية، ويقصد بتلك الحقائق النزوعية بعض ملامح البيئة الاجتماعية التى تشجع الوجود المستمر لنظام معين، ولكنها لا تتسبب فعلاً فى إيجاد هذا النظام. والمثال الذى يقدمه كوهين على ذلك هو العرقية (النزعة العنصرية)، التى قد تكون نتجت تاريخياً عن مجموعة من العوامل، ولكنها تبقى لأن وجودها يساعد النظام الرأسمالي على الاستمرار، عن طريق تقسيم الطبقة العاملة، وتسهيل الضبط الاجتماعي.

وبنفس الطريقة ذهب جون إلستر، وهو أحد رواد نظرية الاختيار الرشيد الحديثة، إلى أننا يجب أن نستخدم التفسير الوظيفي لكى نوضح لماذا تتبنى معظم الشركات الرأسمالية سياسة تعظيم الربح. فالسوق لا يسمح بالبقاء إلا للشركات التى تقترب من هذه الاستراتيجية المثلى، بصرف النظر عن الطريقة التى وجدت بها الشركة، وهو بذلك يجبر هذه الشركات على الانصياع لهذه الاستراتيجية (انظر فى ذلك مؤلفه بعنوان أوديسيوس والسيرينات، الصادر عام 1979). والإشارة هنا إلى أوديسيوس (أولعوليس) الذي اشتهر بالذكاء وحسن المناورة، وإلى السيرينات وهن عرائس البجر أو الحريات اللائي كن يتنبين بنشيد يجذب لهن السامع، ثم يدفعنه بعدها إلي الهلاك. واحتال أوديسيوس بأن ربط نفسه في صاري السفينة وجعل البحارة يسدون آذانهم حتى يتمكن من سماعهن.

وهكذا ما تزال الوظيفية تحتل مكاناً في علم الاجتماع، وإن كان هذا المكان أصبح الآن أضيق مما كان عليه الحال عندما كانت وظيفية بارسونز سائدة.

انظر أيضاً