لودفيغ فيتغنشتاين

لودفيغ فتغنشتاين (بالألمانية: Ludwig Wittgenstein) (26 أبريل 1889 - 29 أبريل 1951فيلسوف ومنطقي نمساوي بريطاني في المقام الأول في أسس المنطق وفلسفة الرياضيات وفلسفة العقل وفلسفة اللغة. يعتبر واحدًا من أعظم الفلاسفة في العصر الحديث، ويعد من أهم الفلاسفة المتحدثين بالانجليزية فى النصف الأول من القرن العشرين، مع أنه ولد فى مدينة فيينا، وعاش فى النمسا حتى عام 1912. وكان لأفكاره أثرها الكبير على حركتين فلسفيتين هما، الوضعية المنطقية والتحليل اللغوي. وقد حظي بالتقدير بفضل كتابيه «رسالة منطقية فلسفية» و«تحقيقات فلسفية» اللذين نُشرا بعد وفاته.

على الرغم من مكانته، لم يُنشر طوال حياته إلا كتاب واحد عن فلسفته، وهو الكتاب الرقيق نسبيًا لوغيش فيلوسوفيش أبنهاندلونغ (مصنف منطقي فلسفي) (1921) والذي ظهر برفقة ترجمة إنجليزية في عام 1922 تحت العنوان اللاتيني تراكتاتوس لوجيكو فيلوسوفيكوس. أعماله المنشورة الأخرى الوحيدة هي مقال: «بعض الملاحظات على الشكل المنطقي» (1929)، ومراجعة كتاب وقاموس للأطفال. حُررت مخطوطاته الكثيرة ونُشرت بعد وفاته. أول سلسلة ما بعد وفاته هذه وأشهرها هو كتاب تحقيقات فلسفية الصادر عام 1953. صنّفت دراسة استقصائية بين معلمي الجامعات والكليات الأمريكية التحقيقات على أنه الكتاب الأهم في فلسفة القرن العشرين، بارزًا بأنه «التحفة الانتقالية الوحيدة في فلسفة القرن العشرين، والمؤثرة في شتى التخصصات والتوجهات الفلسفية».

غالبًا ما تُقسم فلسفته إلى فترة مبكرة، وتتجسد في التراكتاتوس، وفترة لاحقة فُصّلت بصورة رئيسة في التحقيقات الفلسفية. كانت «الفيتنغنشتاينية المبكرة» تعنى بالعلاقة المنطقية بين القضايا والعالم كان مؤمنًا بأنه بتقديم تفسير للمنطق الكامن وراء هذه العلاقة، يحل كل المشكلات الفلسفية. لكن «الفيتنغنشتاينية اللاحقة» رفضت العديد من افتراضات التراكتاتوس، بحجة أن معنى الكلمات يُفهم على أفضل وجه كما هو استخدامها في لعبة لغوية معينة.

اعتقد فيتجنشتاين أن معظم المشاكل الفلسفية تقع بسبب اعتقاد الفلاسفة أن معظم الكلمات أسماء. وعلى سبيل المثال، طرح الفلاسفة التساؤل الآتي ما الوقت؟ ووقعوا في حيرة شديدة، لفشلهم في الوصول إلى شيء اسمه الوقت، وقال فيتجنشتاين: إن هذا هو الأسلوب الخطأ لكشف ماهية الوقت. والمطلوب هو تحديد كيفية استخدام كلمة الوقت. في جملة "حان الوقت للذهاب إلى البيت" يُعرف معنى كلمة وقت. وهكذا فإن معناها مشكلة، ولاقيمة لكلمة وقت إلا باستخدامها في جملة. ورأى فيتجنشتاين أن هذه النظرة للغة تذيب المشاكل التقليدية للفلسفة، وقد أثر منهجه في التعامل مع اللغة على المثقفين في كثير من الميادين، تأثيرا ملموسا. كان لأفكاره أثرها الكبير على كل من «الوضعانية المنطقية وفلسفة التحليل». أحدثت كتاباته ثورة في فلسفة ما بعد الحربين. ورغم أسلوبه النيتشوي المربك، فقد غير وجهة التفكير الفلسفي وطرق التعامل مع المسائل الفكرية.

على حد تعبير صديقه ووصيّه الأدبي، يوري هينريك فون فريغت، فقد اعتقد أن:

أُسيء فهم أفكاره عمومًا وشُوهت حتى من قبل أولئك الذين زعموا أنهم تلاميذه. شكّ أنه سيُفهم على نحو أفضل في المستقبل. قال مرة إنه شعر وكأنه يكتب لأشخاص يفكرون بطريقة مختلفة، ويتنفسون هواءً مختلفًا في الحياة، عن حياة الناس الحاليين.

درس بجامعة كمبردج بإنجلترا وعمل بالتدريس هناك من عام 1929 حتى 1947. وتوفي في كمبردج في 29 أبريل سنة 1951.

سيرة حياته

آل فيتغنشتاين

وفقًا لشجرة عائلة أُعدّت في القدس بعد الحرب العالمية الثانية، فقد كان جد جد جد فيتغنشتاين لأبيه موسيس ماير، وهو سمسار أراضٍ يهودي عاش مع زوجته بريندل سيمون في باد لاسفه في إمارة فيتغنشتاين في وستفاليا. في يوليو 1808، أصدر نابليون مرسومًا يُلزم الجميع، بما فيهم اليهود، باتخاذ اسم عائلة موروث، لذا اتخذ ابن ماير، وكان اسمه موسيس أيضًا، اسمَ أرباب عمله، آل ساين فيتغنشتاين، وصار اسمه موسيس ماير فيتغنشتاين. تزوج ابنه، هيرمان كريستيان فيتغنشتاين – الذي اتخذ الاسم الأوسط كريستيان لينأى بنفسه عن الخلفية اليهودية – من فاني فيدغور، وهي يهودية تحوّلت إلى البروتستانتية قبل زواجهما، ثم أنشأ الزوجان عملًا ناجحًا في تجارة الصوف في لايبزيغ. كانت جدة لودفيغ فاني ابنة عم عازف الكمان جوزيف خواكيم.

أنجبا 11 طفلًا من بينهم أبو فيتغنشتاين. صار كارل أوتو كليمينس فيتغنشاتين (1847- 1913) من ملوك المال الصناعيين، وبحلول ثمانينيات القرن التاسع عشر صار واحدًا من أثرى رجال أوروبا، محتكرًا احتكارًا حقيقيًا اتحاد الصلب في النمسا. بفضل كارل، صارت أسرة فيتغنشتاين ثاني أثرى عائلة في الإمبراطورية النمساوية المجرية، ولم يكن أثرى منهم سوى آل روتشيلد. اعتُبر كارل فيتغنشتاين النظير النمساوي لأندرو كارنيغي، الذي كان صديقه، وصار واحدًا من أثرى رجال العالم في التسعينيات. نتيجة لقراره الاستثمار بقوة في هولندا وسويسرا وفي الخارج أيضًا، لا سيما في الولايات المتحدة، كانت العائلة إلى حد ما حصينة أمام التضخم المفرط الذي أصاب النمسا في 1922. مع ذلك، تضاءلت ثروتهم نتيجة للتضخم المفرط الذي حدث بعد عام 1918 وعقب ذلك في إبان الكساد الكبير، رغم أنهم حتى وقت متأخر من عام 1938 كانوا يملكون 13 قصرًا في فيينا وحدها.

بداياته

وُلد فيتغنشتاين في فيينا بالنمسا في 26 أبريل سنة 1889، في واحدة من أثرى عائلات أوروبا، وورث ثروة عن والده في عام 1913. منح في البداية بعض التبرعات لفنانين وكتّاب، ومن ثم، في فترة اكتئاب شخصي حاد عقب الحرب العالمية الأولى، منح كامل ثروته لأخوته وأخواته. توفي ثلاثة من أخوته الأربعة الأكبر منه إثر عمليات انتحار منفصلة.

دراسته

درس فتغنشتاين الهندسة في برلين ومانشستر. وعني بدراسة الرياضيات والأسس المنطقية التي تقوم عليها، فالتحق بجامعة كمبردج حيث درس المنطق الرياضي على يد برترند رسل في سنة 1929. فكان لتعاليم رسل تأثير بارز في تفكيره وفي الأفكار التي سجلها فتغنشتاين في بحث له بعنوان: «مصنف منطقي فلسفي» (بالألمانية) Logisch-Philosophische Adhandlung (نشر في «حوليات فلسفة الطبيعة» Annalen der Naturphilosophie في سنة 1921 ص 185 - 262). وقد أعاد نشر هذا البحث بعد ذلك بعام، في سنة 1922، في لندن مع مقدمة لبرترند رسل وترجمة انجليزية بعنران Tractatus logico-philosophicus (وله طبعة ثانية منقحة، ظهرت في سنة 1933).

اعتقد فتغنشتاين أنه قد حلّ بكتابه الأول (مصنف منطقي فلسفي) كل مشاكل الفلسفة الكبرى، ولم يعد هناك مزيد لما يقال في الفلسفة. مما أدى به إلى الانقطاع عن الانشغال بالفلسفة ليتفرغ لتدريس الصغار في بعض القرى النمساوية ويطبق بعض نظرياته التربوية كان هذا بين عامي (1920- 1926) ثم عمل بعد ذلك بعض الأعمال الصغيرة، بوابا وعاملا في حديقة أحد الأديرة ومهندسا معماريا بارعا أنجز بيتا لإحدى أخواته أصبح بعد ذلك نموذجا في البناء. إلا أن محاضرة سنة 1928 في أسس الحساب قد أعادت استفزاز عقل فتغنشتاين ليعود مرّة أخرى للبحث الفلسفي.

ترك فيتغنشتاين الأوساط الأكاديمية عدة مرات، فعملَ ضابطًا على الخط الأول في إبان الحرب العالمية الأولى، حيث كُرّم عدة مرات لشجاعته.

ثم عاد إلى وطنه، النمسا، حيث قام بالتدريس في المدارس الأولية. ودرّس في مدارس في قرى نمساوية نائية، حيث واجه جدلًا حول استخدام العنف، على فتيات وصبي (حادثة هايدباور)، في خلال حصص الرياضيات،

وعاد بعد ذلك في سنة 1929 إلى كمبردج، حيث حصل على منحة بحث research fellowship.

الحرب العالمية الثانية

في سنة 1939 خلف ج. ي. مور Moore أستاذاً للفلسفة في جامعة كمبردج. وفي أثناء الحرب العالمية الثانية (بعد أن أصبح مواطناً بريطانياً) عمل في الخدمة العسكرية مرة أخرى (1940) مساعداً صحياً لحساب الجيش الإنجليزي في مستشفى بلندن. واشتُهر بإخبار المرضى بعدم تناول الأدوية الموصوفة لهم، وأيضًا عمل في وقتٍ لاحقٍ فني مخبر في مستشفى رويال فيكتوريا في نيوكاسل أبون تاين.

الفترة الأخيرة من حياته

استقال فتغنشتاين من منصبه في كامبردج في عام 1947، وترك التدريس نهائياً للتركيز على كتاباته. وقد خلفه صديقه يوري هنريك فون فريكت بمنصب الأستاذ. نزل في دار الضيافة في البيت كيلباتريك في شرق مقاطعة ويكلاو في عام 1947 وعام 1948.

أنجز الكثير من أعماله اللاحقة على ساحل أيرلندا الغربي في عزلة ريفية يفضلها مع باتريك لينش. اكتشف أنه مصاب بسرطان البروستاتا سنة 1949م. قام بعدها بكتابة معظم المواد التي نـُشرت بعد وفاته وكان قد أتم الجزء الأول من كتابه «(تحقيقات فلسفية)»، وحرر أغلب فقرات الجزء الثاني.

توفي لودفيغ بكامبريدج بعد 3 أيام بعد احتفاله بعيد ميلاده الثاني والستين أي يوم 29 أبريل، سنة 1951.

تطور فكره

يمكن تمييز مرحلتين واضحتين في تطور فكره:

أ) مرحلة «الرسالة المنطقية الفلسفية».

وب) مرحلة تدربه في كمبردج، ويتجلى خصوصاً في كتابه الثاني الرئيسي: «مباحث منطقية» .

في المرحلة الأولى عمل في أثر مور ورسل على تعمق التحليل اللغوي والتصورات المنطقية الفلسفية، عند كل من ج. اي. مور ورسل. وجمع فيها بين التجريبية والعقلية.

وفي المرحلة الثانية اتجه إلى النظر إلى الفلسفة على أنها تحليل لغوي يتحرر من الأساكيم الحاضرة التي لجأت إليها الوضعية الجديدة. وأسهم بذلك في تكوين وتوجيه المدارس التحليلية الانجليزية الناشئة في جامعتي كمبردج وأكسفورد.

مرحلة الرسالة المنطقية الفلسفية

صاغ فتغنشتاين أفكاره الأساسية في «الرسالة ....» في سبع قضايا أساسية يتوجها قضايا أخرى ميزها بأرقام عشرية. وهذه الأفكار الأساسية تدور حول موضوعين: (الأول): تحليل طبيعة اللغة وقدرتها على التمثيل الرمزي والبحث عن الطابع الخاص للغة المنطقية والرياضية. واللغة التي يبحث فيها فتغنشتاين هي اللغة المثالية الكاملة التي ينبغي عليها - بغض النظر عن نحو اللغات الخاصة الجزئية المتكلم بها - أن تعكس في تركيبها التركيب المنطقي للحقيقة الواقعية. وهذه اللغة تكون ذات معنى من حيث هي صورة للعالم: فالعلامات البسيطة (الأسماء) في القضايا تناظر أشكال الموضوعات (الأشياء) في الموقف الواقعي. وتبعاً لذلك فإن معنى القضية هو القدرة على رصف الوقائع الممكنة. ومعنى هذا أنه توجد وقائع بسيطة (وقائع - ذرات) تناظرها قضايا بسيطة جداً (أولية أو ذرية)، ولو لم توجد وقائع - ذرات، لتوقف معنى القضية دائماً على حقيقة قضية أخرى، ولن يكون هناك صورة للعالم. ويقصد من «الوقائع - الذرات»: المعطيات المباشرة، أي وقائع الإحساس بوصفها عناصر واحدية لا هي ذاتية ولا هي موضوعية. وعلى أساس القضايا الذرية يقوم كل بناء اللغة. أما القضايا غير الأولية (الجزئية) الناشئة عن ربط القضايا الذرية بواسطة الثوابت المنطقية («واو»، «أو»، «إذا . . . حينئذ»، إلخ) فهي دوال لحقيقة هذه القضايا، لأن قيمتها كحقيقة تتوقف على قيم حقيقة هذه. وجماع القضايا الذرية والجزيئية ذوات المعنى التجريبي يؤلف لعلم، وخارجها لا محل لقضايا من نمط آخر.

و(الثاني) هو البحث في طبيعة تقريرات المنطق الصوري والرياضيات. فينتهي إلى القول بأن مثل هذه التقريرات ليست سوى قضايا زائفة Pseudo-propositions خالية من المعنى sinnlos: إنها مجرد تحويلات لعلامات لغوية، صحتها لا تتوقف على تحقيق تجريبي، بل على الشكل الباطن الجوهري للعلامات. والقوانين والاستدلالات المنطقية هي مجموعات من تحصيل الحاصل tautologies وقضايا الفلسفة التقليدية (التي لا تنتسب إلى العلم ولا إلى المنطق) هي أيضاً قضايا زائفة ليست فقط خالية من المعنى sinnlos بل وأيضاً غير معقولة unsinnig. والفلسفة ليست مذهباً doctrine، بل نشاط activité يقوم في بيان التناظر بين الوقائع والصور القضائية، وهو تناظر يمكن بيانه، لكنه لا يمكن التعبير عنه. ومن هنا ختمت «الرسالة .... » بهذه العبارة: «وعما لا يمكن الكلام عنه بعدينبغي السكوت» (القضية السابقة). وإلى ميدان ما لا يمكن التعبير عنه تنتسب القيمة أيضاً. والنشاط الوحيد الجائز للفيلسوف هو توضيح الأفكار المعتمة أو الغامضة.

مرحلة تدربه في كمبردج

إن لغتنا تشبه مدينة عتيقة هي مشتبك من الأزقة والميادين، ومن المنازل المبنية في عصور مختلفة، وتحيط يها ضواح جديدة أكثر انتظاماً وتشابهاً في الشكل. وكل قطاع من القطاعات اللغوية له طريقة خاصة في الدلالة على المعنى، يمكن فهمها بواسطة بناء نموذج لغوي (أو لعبة لغوية sprachspiel) ابتغاء إيضاح استعمال الألفاظ. ومعنى اللعبة اللغوية هو نمط استعمالها. ولا ينبغي رد أشكال اللغة إلى جنس واحد، بل يجب تحليل الأنساب التي تربط بينها وتجعل منها أسرة.

وينتج عن هذا نتائج مهمة في نظره بالنسبة إلى التفلسف. يقول: «إن غلطتنا هي أن نبحث عن تفسير هناك حيث ينبغي أن نرى الوقائع بوصفها ظواهر أصلية، أعني حيث ينبغي أن نقول: إنه تُلعب هذه اللعبة اللغوية. والأمر ليس أمر تفسير لعبة لغوية بواسطة تجاربنا المباشرة، بل إيضاح لعبة لغوية» («مباحث فلسفية» ص 167). وبهذا تصبح الفلسفة «معركة ضد اعتلال عقلنا بسبب من لغتنا» (ص 47). ويحاول فتغنشتاينفي «المباحث الفلسفية» أن يعالج «الأمراض اللغوية».

إسهاماته

يتمثل إنجازه الفذ فى أنه قدم للفكر الإنسانى - فى خلال حياته الأكاديمية القصيرة نسبياً - مذهبين فلسفيين أحدثا آثارا فكرية عميقة رغم عدم توافق أحدهما مع الآخر.

وقد تأثر الإنتاج الفلسفى المبكر لفيتجنشتين بأراء برتراند راسل فى كتابه: مبادئ الرياضيات، وعبر عن آرائه تلك أكمل تعبير فى كتابه: النهج المنطقى الفلسفى، الذى نشر لأول مرة باللغة الألمانية عام 1921، ثم بعد ذلك باللغة الانجليزية عام 1922. واحتل محور الارتكاز فى هذا العمل رأى فيتجنشتين فى اللغة والمعنى، حيث ذهب إلى أن كل جملة مثل صورة تعبر عن بعض الأمور والأوضاع الممكنة. فالجمل تكوينات من الأسماء التى يتعين أن تدل فى تحليلها النهائى على بعض الأشياء البسيطة دلالة لا مواربة فيها. ولكى تتحقق علاقة التصوير هذه بين الواقع، واللغة والفكر، لابد أن نشترك جميعاً فى شكل منطقى واحد. ولكن هذا الشكل المنطقى ذاته ليس موجوداً - بالطبع - فى العالم الواقعى، ومن ثم لا يمكن للغة أن تصوره وتعبر عنه. ويصدق نفس الأمر على القيم الأخلاقية وعلى العلاقة بين الذات والعالم، فهى أمور لا يمكن للغة أن تصورها. فهى أمور ميتافيزيقية لا نستطيع أن نقول بصددها شيئاً ذا معنى ومن ثم يتعين علينا السكوت عنها. وكثيراً ما فهمت آراء فيتجنشتين الأولى - خطأ - على أنها متعاطفة مع نزعة التحقق المناوئة للميتافيزيقا عند جماعة فيينا. ولكن فيتجنشتين يختلف عن أتباع تلك الجماعة فى أنه يعترف بعمق وخطورة المسائل الميتافيزيقية، وإن كان ينكر إمكانية الإجابة عليها. وقد رفض فتغنشتاين دائماً أن يُعَدّ من أعضاء «دائرة فينا» التي أنشأها مورتس اشلك وكان من أكبر رجالها رودلف كرنب R. Carnap.

أما مذهب فتجنشتين الثانى - الذى جاء بعد ذلك - فقد تبلور تدريجياً، أو قدمه هو على مراحل، وذلك من خلال الرسائل التى كتبها خلال ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين، وكذلك من خلال محاضراته فى جامعة كمبردج خلال نفس الفترة. وقد اتخذت تلك الفلسفة الجديدة لفيتجنشتين شكل النقد المدمر لنفس الآراء فى اللغة والمعنى التى سبق أن تبناها ودافع عنها فى المرحلة السابقة من حياته. والمصدر الرئيسى لتلك الفلسفة الجديدة كتابه الشهير : البحوث الفلسفية، الذى نشر بعد وفاته فى عام 1953.

ويبدأ هذا الكتاب بوصف مجموعة من "الألعاب اللغوية" التخيلية يحاول فيتجنشتين من خلالها أن يبدد الفكرة القوية التى تمثل إغراء لنا جميعاً، ومؤداها أن هناك جوهر أساسى واحد لجميع اللغات، ولكل لغة، وأن هذا الجوهر يتمثل فى علاقة تصوير العالم، وأن الكلمات تؤدى وظيفتها بالأساس من خلال عملية التسمية، أو من خلال التسمية فحسب. وقد أوضح فيتجنشتين فى تحليلاته أن تلك الألعاب اللغوية عبارة عن ممارسات إنسانية تخضع لقواعد محددة، حيث يتحدد معنى الكلام المنطوق بالدور الذى يلعبه فى سياق الممارسة. ومن هنا يمكن القول بصفة عامة أن معنى الكلمة أو الجملة هو استخدامها فى هذه الممارسة، ومن ثم يمكن أن تتنوع المعانى بتنوع الممارسات وتنوع الأغراض التى يستخدم فيها البشر تلك المعانى. ونجد بالمثل أن القواعد التى تحكم الاستخدام اللغوى ليست ثابتة - بأى صورة من الصور - على مر العصور بفعل تعريف معين أو صيغة منطقية معينة، وإنما تنهض تلك القواعد وتتاسس على الممارسة الاجتماعية نفسها. فإضفاء معنى معين على كلمة ما هو عبارة عن وصف الممارسات التى تستخدم فيها تلك الكلمة، وتأمل عملية اكتسابها بالتعلم، وتحت أى ظروف يمكن تصحيح أى خطاً فى استخدامها.

ويمثل هذا الرأى - بدوره - أساس واحد من أكثر آراء فيتجنشتين تأثيرا وإثارة للجدل فى نفس الوقت. فإذا كان المعنى يعتمد على الاستخدام ويتحدد من خلاله، وأن هذا الاستخدام نفسه لا يتحقق إلا فى سياق ممارسة إنسانية يمكن من خلالها تحديد سوء الاستخدام اللغوى وتصويبه، فمعنى ذلك أنه لا يمكن أن يكون هناك وجود لشئ مثل اللغة الخاصة منطقيا. والنتيجة المهمة التى تترتب على ذلك أن يتعين رفض كافة طرق التفكير المنحرفة أو المضللة عن اللغة، وهى تلك التى نتحدش فيها عن حياتنا الداخلية الخاصة. بل إن الصور الو اسعة الاتتشار عن اللغة كتعبير خارجى عن أفكارنا الداخلية سوف تعد - فى ضوء هذا - منحرفة ومضللة كل التضليل. و لكن فيتجنشتين يصر على أنه إذا كانت اللغة التى نتحدث بها عن أفكارنا، وأحلامنا، وخيالاتنا، وأحاسيسنا وما إلى ذلك من أمور لها أى معنى على الإطلاق، فإن معناها الوحيد أنها تمثل وسيلة مكشوفة وعلنية للوقوف على كيفية استخدامها استخداماً صحيحاً، أو هى الأشكال الصحيحة لإساءة استخدام اللغة ... وما إلى ذلك. ويعبر عن تلك النقطة بقوله : إن العملية الداخلية تحتاج إلى "معيار" خارجي.

وكثيرا ما صور فيتجنشتين خطاً على أنه مفكر سلوكى، ولكن بعيداً كل البعد عن أن ينكر أن لنا حياتنا الداخلية أو أننا نستطيع أن نتحدث عن تلك الحياة حديثا ذا معنى، بل إنه يقدم لنا تحليلا قويا للسبل التى تمكننا من فعل ذلك. وتتحقق إمكانية استقرار وتأسيس ممارسات الحديث عن الحياة الذاتية الخاصة، وتعليمها للأطفال، من خلال تكوين مخزون (رصيد) من أساليب التعبير الطبيعية عن الألم، والمتعة، والنفور من طعام أو شراب معين وما إلى ذلك، وهى أساليب يمكن التعرف عليها وفهم معناها بشكل ثابت ولدى الكافة فى ثنايا معايشة "شكل مشترك للحياة",

عند هذه النقطة تتباين تفسيرات آراء فيتجنشتين. فهل شكل الحياة المشترك هو عبارة عن تاريخ طبيعى مشترك، كذلك التاريخ الذى يميز الأنواع المختلفة أحدها عن الأخرى (لعلنا نلاحظ أن كتابات فيتجنشتين كثيراً ما تحوى إشارات طريفة إلى القدرات السيكولوجية للكلاب أو الأسود)، أم أن شكل الحياة المشترك يقصد به ثقافة شعب معين على النحو الذى نعرفه فى الأنثروبولوجيا؟ وقد أخذ التفسير الأخير بعض أتباعه فى اتجاه تبنى بعض الآراء النسبية الثقافية حول اللغة، والمعنى، والتفكير العقلى. أما التفسير الأول فهو أكثر اتساقاً مع التوجه ذى النزعة الطبيعية الذى يربط إمكانيات الحياة الاجتماعية والثقافية عند البشر ببعض حقائق التاريخ الطبيعى للأنواع.

ويمكن القول أن المذهب الفلسفى الأخير لفيتجنشتين قد أثر أعمق الأثر فى كافة العلوم الإنسانية والاجتماعية. وقد كان تحليله للمعنى فى ضوء الممارسة الاجتماعية الحكومة بقواعد محددة بمثابة أداة مهمة فى خلق الصلة من جديد بين الفلسفة والعلوم الاجتماعية، كما كان بمثابة تحد قوى للأشكال الوضعية من مناهج العلوم الاجتماعية. وقد ذهب البعض إلى أن فيتجنشتين قد مهد وفتح الطريق أمام بعض القضايا المهمة لما بعد الحداثة، وذلك فى رفضه للماهيوية (الجوهرية)، وفى وضعه للتصور كأساس للتفكير فى معنى اللغة، ومن ثم فى تناول الذاتية البشرية والاهتمام بها.

يقدم كتاب جرايلنج المعنون: فيتجنشتين، الصادر عام 1988، مقدمة موجزة ولكنها ممتازة عن أعماله و آرائه.

أفكاره الأساسية

مهمة الفيلسوف في فلسفة اللغة

يذكر بنّور في مقدمته، بحسب فتغنشتاين، أن هناك عمليتين في استخدام اللغة: الأولى خارجية تتمثل في التعامل مع العلامات، والثانية داخلية تتمثل في فهم تلك العلامات وتكمن مهمة الفيلسوف، في إحباط ألاعيب اللغة والتفطن إلى أفخاخ النحو في مستويات الاستعمال: الداخلي والخارجي. ونحن، يتحدث فتغنشتاين، نهتم باللغة على أنها عملية خاضعة للقواعد البيّنة، لأن المشاكل الفلسفية عبارة عن سوء فهم يزيله توضيح القواعد التي نستعمل الألفاظ بموجبها، فنحدد الفلسفة باعتبارها مقاومة فتنة تفكيرنا بواسطة لغتنا. ولم يعد المهم بالنسبة إلى الفلسفة والمنطق أن نبين ماهي القضايا الصادقة والقضايا الكاذبة، في علاقتها بالواقع، بقدر ما يهم النحو (قريب من علم الدلالة) باعتباره ما سيمكننا من تمييز القضية ذات المعنى من القضية عديمة المعنى، فالفلسفة هي قبل كل شيء مقاومة الفتنة التي تحدثها فينا بعض أشكال التعبير. إن المشاكل الفلسفية ليس سببها نقصا في المعرفة، بل خلط وتراكم غير منتظم للمستويات.

اللغة - اللعبة

اللغة عند فتغنشتاين هي الطريق إلى المعرفة باعتبارها وسيلة لفهم تكوين المعنى في الخطاب. ونظرا لعلاقة التضمن أو التوازي بين اللغة والتفكير فلا سبيل إلى فلسفة التفكير والمعرفة والفهم دون اللغة إذ أن «كل شيء يحدث داخل اللغة». يقول جون سيرل في كتابه «العقل» أن التطور اليوم يعكس المعادلة ففهم اللغة لا بد أن يمر أولا بفهم العقل وهذا ما يجعل لفلسفة العقل الأولوية على فلسفة اللغة. فهو يعتبر أن اللغة تتمثل في مجموع الألعاب اللغوية الممكنة. وأوجه الاستعارة متعددة فاللعبة تتضمن القواعد تماما مثل اللغة. واللعبة فعل مثل اللغة. واللغة مكونة من الألفاظ مثلما تتكون اللعبة من قطع وأشكال. واللغة نظام يأخذ فيه كل لفظ مكانه باعتبار محيطه، كذلك تكتسب كل قطعة أو شكل في اللعبة قيمتها من القطعة الأخرى. وأخيرا فإن كل من اللغة واللعبة مؤسسات اجتماعية.

حدود المنطق

في فصل المنطق عن الخيال، وفصل التمثيل الرياضي للفيزيائي عن استعارة الشاعر، واللغة الوصفية المباشرة من «التواصل غير المباشر»، كان فيتجنشتاين مقتنعا بأنه حل «مشكلة الفلسفة». وأوضحت نظرية النموذج كيف تصبح معرفة العالم ممكنة. وأوضح الأساس الرياضي (المنطقي) لتلك النظرية كيف أن بنية المقترحات نفسها تظهر حدودها- أي كيف يحدد هيكل المقترحات حدود البحث العلمي (العقلاني). وكان من نتائج نظرية النموذج أن «معنى الحياة» يقع خارج نطاق ما يمكن قوله. يجب أن يشار إلى «معنى الحياة» على النحو الصحيح على أنه لغز، بدلا من أن يكون رمزا محتملا، لأنه لا يوجد امكانية لحله أو الإجابة عنه.

لذا فإن نظرية النموذج تؤكد فكرة كريكجارد بأن معنى الحياة ليس موضوعا يمكن مناقشته من خلال فئات المنطق.

أعماله

كتابه الأول هو "مصنف منطقي فلسفي" الذي يحتوي على مقاربة للفلسفة تنسف إمكانية التفلسف وتعيدها إلى نقطة الانطلاق، وتدعو للسكوت عمّا لا ينبغي قوله. إلا أنه انتقد لاحقا هذا الكتاب بسبب «الدوغمائية التي نقع فيها بسهولة عندما نتفلسف» كما عبر هو عن ذلك.

لم ينشر فيتجنشتاين في حياته، إلى جانب «مصنف منطقي فلسفي» سوى بحث آخر صغير بعنوان: «تعليقات على الشكل المنطقي» (في «أعمال الجمعية الأرسطية»، ملحق المجلد التاسع، سنة 1929 ص 162 - 171). لكنه ترك بعد وفاته عدداً كبيراً من المؤلفات المخطوطة، منها:

  1. «تعليقات على المنطق»، كتبه سنة 1913.
  2. «محاضرة عن الأخلاق»، كتبها سنة 1929 أو سنة 1930.
  3. «الكتاب الأزرق»، كتبه سنة 1933، سنة 1934
  4. «الكتاب الأسمر»، كتبه سنة 1934، سنة 1945
  5. «أسس الرياضيات»، كتبه سنة 1939
  6. «مباحث فلسفية» Philosophische Untersuchungen (أوكسفورد سنة 1953)، وهو كتابه الرئيسي الثاني، الذي قام بنشره بعد وفاته G.E.M. Anscombe وR. Rhees وG.H.W. Right مع ترجمة إلى الإنجليزية. فلسفة الألعاب اللغويّة التي عرت نضجها في هذا الكتاب. ولكن هذه الفلسفة تم إنضاجها قبل «التحقيقات» في ما يعرف بـ«الكراسة الزرقاء» و«الكراسة البنية» اللتين لم يتم نشرهما إلا بعد وفاة فتغنشتاين سنة 1958.
  7. «ملاحظات عن أساس الرياضيات» -Berner Grund lagen der Mathematik (أكسفورد ونيويورك 1954). يعدّ من أهم كتبه، بالإضافة إلى أهم كتبه على الإطلاق وأكثرها شهرة وتأثيراً: «تحقيقات فلسفية»

وبعدذلك نشر رقما 3 و4 في مجلد واحد، في أكسفورد ونيويورك سنة 1958؛ ثم 16-1914 Notebooks في نيويورك سنة 1961؛ ثم: «محاضرات ومحادثات في علم الجمال وعلم النفس والإيمان الديني» في باركلي - أكسفورد سنة 1966؛ و«رسائل من لودفج فنتجنشتين»، أكسفورد سنة 1967.

انظر أيضًا