نظرية الوصم

نظرية الوصم (بالإنجليزية: Labelling Theor) تصف كيفية تأثر وتحدد سلوك الأفراد وهويتهم الذاتية بالمفردات المستخدمة في وصفهم وتصنيفهم. ترتبط نظرية الوصم بمفاهيم النبوءة ذاتية التحقق والقوالب النمطية الاجتماعية. ترى نظرية الوصم أن الانحراف ليس متأصلًا بالفعل، وتركز على ميل الغالبية لوصم الأقليات أو الذين ينحرفون عن القواعد الثقافية المعيارية بشكل سلبي. كانت هذه النظرية بارزة في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وطُورت بعض النماذج المعدلة منها ومازالت شائعة حتى الآن. تعرف وصمة العار بأنها وصم سلبي للغاية يغير مفهوم الذات والهوية الاجتماعية عند الفرد.

ترتبط نظرية الوصم عن كثب بالبناء الاجتماعي والتحليل التفاعلي الرمزي. طورت نظرية الوصم على يد علماء الاجتماع في ستينيات القرن الماضي. أثر كتاب هوارد سول بيكر «الغرباء» بشكل كبير في تطور هذه النظرية وشهرتها.

ترتبط نظرية الوصم بمجال الجريمة وغيره من المجالات. مثلًا؛ نظرية الوصم المتعلقة بالمثلية الجنسية. كان ألفرد كنزي وزملاؤه الدعاة الرئيسيين للفصل بين دور «المثلي جنسيًا» والأفعال التي يقوم بها، كفكرة أن الذكر ذو التصرفات الأنثوية هو بالتأكيد مثلي الجنس. يلعب الوصم دورًا أيضًا في الأمراض العقلية وهو ما تخصص به توماس ج. شيف. لا يشير الوصم إلى أفعال إجرامية وإنما إلى أفعال غير مقبولة اجتماعيًا ناتجة عن المرض العقلي.

خلفية عامة

تمثل نظرية الوصم خطاً رئيسياً فى ثورة الشك التى سادت ميدان دراسة علم الاجتماع للانحراف خلال الخمسينيات والستينيات. فقد كان علم الإجرام التقليدى (الأرثوذكسي) فى فترة ما بعد الحرب مباشرة، فى كل من بريطانيا وأمريكا، يتتاول موضوع الجريمة أو السلوك الانحرافي باعتباره حدثاً ليس فيه ثمة غموض ويمكن تفسيره بسهولة باعتباره نتاجاً لعلم النفس الفردي أو حتى للجينات الوراثية. فالجرائم ترتكب بواسطة أفراد ذوى أنماط مجرمة أو إجرامية، أى مجموعة خاصة من الناس ذوى السمات السيكولوجية الخاصة، أو الخلفيات الاجتماعية الثقافية التى ترتبط بهم دون غيرهم.

وقد واجهت هذه النظرة الوضعية تحدياً من قبل أعضاء جمعية دراسة المشكلات الاجتماعية (فى الولايات المتحدة) والمؤتمر القومي لدراسة الانحراف (فى المملكة المتحدة) الذين كانوا يرون أن علم الإجرام التقليدي كان متحيزاً، لأنه تبنى تعريفات قطعية آمرة للانحراف، بالإضافة إلى أنها ذات طبيعة حتمية مفرطة فيما يتعلق بأسباب الانحراف، ولأنه لم يتبن موقفاً نقدياً من القول بأن المنحرف يمثل نمطاً خاصاً من الناس. ثم لم يطرح علم الإجرام التقليدي سوى بضعة أسئلة محدودة حول سلوكيات الجريمة ودوافعها، من قبيل: لماذا يرتكبها الناس؟ أى نوع من الناس يرتكب الجرائم؟ كيف يمكن أن نوقفهم عن العودة إلى ارتكابها مرة أخرى...؟ أما أصحاب نظرية الوصم فقد طرحوا بعداً نسبياً جديداً فى دراسة الانحراف من خلال إثارتهم لعدد من المسائل المرتبطة بالتعريفات والمفاهيم والتى كان يتم تجاهلها من قبل إلى حد كبير، ومنها: لماذا توجد أصلاً تلك القاعدة أو القانون الذى يمثل خرقه انحرافاً؟ ما هى العمليات التي يمر بها وسم شخص بأنه منحرف، وتطييق تلك القاعدة أو القانون عليه؟ ما هى التبعات أو النتائج المترتبة على هذا الوصف أو الوصم بالنسبة لكل من الفرد والمجتمع؟

من هذا المنطلق يمكن أن نعتبر أن منظور الوصم هو تطور مستمد من التمييز الذى أقامة إدوين ليميرت فى كتابه: علم الأمراض الاجتماعى، الصادر عام 1951) بين الانحراف الأولى والانحراف الثانوى، أى بين ذلك السلوك الأولي (الذى يمكن أن يظهر بفعل مجموعة أسباب عديدة)، وبين إعادة التنظيم الرمزي للذات وللأدوار الاجتماعية والذى قد يحدث بسبب الاستجابة المجتمعية تجاه أى انحراف عن المعايير. ويعد هوارد بيكر أبرز العلماء الأمريكيين الذين دافعوا عن نظرية الوصم، حيث يرى فى كتابه بعنوان: الغرباء (الصادر عام 1963) أن الانحراف ينشأ بواسطة المجتمع، بمعنى أن الجماعات الاجتماعية تخلق الانحراف لأنها تعين القواعد التى يعد الخروج عليها أنحرافاً، ولأنها تطبق هذه القواعد على أشخاص معينين تصمهم بأنهم "غرباء" أو "خارجين". ومن هذا المنطلق فإن الانحراف ليس خاصية للفعل الذى يرتكبه الشخص، وإنما هو نتيجة لتطبيق القواعد، "فالسلوك الانحرافى هو السلوك الذى يصمه الناس بأنه كذلك". وإلى جانب بيكر طور آخرون (منهم على سبيل المثال كوهين فى: كتابه المعنون الشياطين الشعبية والذعر الأخلاقى، الصادر عام 1972) القضية القائلة بأن الوصم يمكن أن يؤدى إلى زيادة الممارسات الانحرافية. ومعنى ذلك أن محاولات الضبط الإجتماعى قد تصف أفراداً معينين وصفاً مشيناً (انظر مادة: وصمة) (مثل: سفاح، عدواني، أو قاطع طريق أو غير ذلك) وبالتالى تهيئ الظروف بطريقة غير مقصودة لتشجيع الانحراف بنفس الطرق التى استهدفت التقليل منه، نظراً لأنها تجبر الأفراد على استخدام "الهوية الانحرافية" كوسيلة للدفاع أو الهجوم أو التكيف مع المشكلات التى أوجدها رد الفعل الاجتماعى تجاه وصفه بهذه الأوصاف المنحطة. وهكذا يتفاقم الانحراف وتشتد وطأته. فالفعل المخالف لقواعد الالتزام أو الفعل الذى يمثل انحرافاً ينظر إليه باعتباره يستحق الاهتمام ويتطلب استجابة تأديبية أو عقابية، وبالتالى يبدأ عزل الفرد المنحرف نفسه عن المجتمع العادي، وعندها يشرع الفرد فى التعرف على ذاته كمنحرف ويصف نفسه بألفاظ انحرافية، ثم يبدأ الارتباط بأخرين ممن يمرون بموقف مشابه لموقفه أو موقعه، وهو الأمر الذى يقوده إلى ارتكاب المزيد من الاتحراف، ومن ثم يدفع الجماعة إلى اتخاذ المزيد من الإجراءات التأدييية أو العقابية ضده.

الأساس النظري

يعود أصل نظرية الوصم إلى كتاب «الانتحار» لعالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركهايم، الذي وجد أن الجريمة ليست انتهاكًا للقانون الجنائي بقدر ماهي اعتداء على المجتمع. كان دوركهايم أول من اقترح أن الوصم المتعلق بالانحراف يلبي تلك الوظيفة ويشبع حاجة المجتمع للتحكم بالسلوك.

افترض جورج هربرت ميد، باعتباره مساهمًا في «البراغماتية الأمريكية» وعضوًا في مدرسة شيكاغو، أن الذات تُبنى اجتماعيًا ويعاد بناؤها عبر التفاعل بين الفرد والمجتمع. تقترح نظرية الوصم أن الناس يحصلون على ألفاظ الوصم من خلال منظور الآخرين لنزعاتهم وسلوكهم. يكون كل فرد واعيًا بآلية حكم الآخرين عليه لأنه اختبر عدة أدوار ووظائف في التفاعلات الاجتماعية وكان قادرًا على قياس ردود الفعل الاجتماعية تجاهها.

نظريًا، يبني هذا مفهومًا شخصيًا للذات، ولكن حين يقتحم الآخرون حياة الفرد، يصبح ذلك بيانات «موضوعية» متماثلة عند الأفراد الآخرين ما قد يتطلب إعادة تقييم مفهوم الذات اعتمادًا على مصداقية أحكام الآخرين. يحكم أفراد العائلة والأصدقاء بشكل مختلف عن حكم الغرباء. الأفراد الأهم تمثيلًا في المجتمع كأفراد الشرطة أو القضاة ربما يكونون قادرين على إعطاء الأحكام الأكثر اعتبارًا. إذا كان الانحراف فشلًا في الامتثال لقواعد باقي أفراد الجماعة، فإن ردة فعل الجماعة هي وصم الشخص بأنه أساء لقواعدهم السلوكية الاجتماعية والأخلاقية. تتمثل قوة الجماعة: بوسم الاعتداءات على قواعدها بالانحراف، ومعاملة الأشخاص المسيئين بشكل مختلف عن باقي أفراد الجماعة اعتمادًا على خطورة الانتهاك الذي قاموا به. كلما زاد اختلاف المعاملة، تأثرت صورة الذات عند الفرد.

لا تهتم نظرية الوصم كثيرًا بالأدوار العادية التي تحدد حياتنا وإنما بالأدوار الخاصة التي يقدمها المجتمع للسلوك المنحرف، وتسمى الأدوار المنحرفة أو الوصمة الاجتماعية. الدور الاجتماعي هو مجموعة من التوقعات في أذهاننا حول سلوك ما. وهي ضرورية لتنظيم وعمل أي جماعة أو مجتمع. نتوقع من ساعي البريد على سبيل المثال أن يلتزم القيام بأدوار محددة تخص عمله. «الانحراف» بالنسبة لعالم الاجتماع لا يعني الخطأ الأخلاقي وإنما السلوك الذي يُدان من قبل المجتمع، سواء كان عملًا إجراميًا أو غير إجرامي.

وجد الباحثون أن الأدوار المنحرفة تؤثر بشدة على رؤيتنا لهؤلاء الذين يحملون هذه الأدوار. وتؤثر أيضًا على رؤية المنحرف لنفسه وعلاقته بالمجتمع. يرتبط الدور المنحرف والوصم الاجتماعي بهم كشكل من العار الاجتماعي. يوجد دومًا شكل من أشكال «التلوث» أو الاختلاف كسمة متجذرة في السلوك المنحرف. يستخدم المجتمع أدوار العار هذه ليتحكم ويحد من السلوك المنحرف: «إذا مارست هذا السلوك ستصبح فردًا من تلك المجموعة».

أما ما إذا كان انتهاك قاعدة معينة سيجلب العار، فهذا يعتمد على أهمية القاعدة الأخلاقية أو غير الأخلاقية التي ينتهكها السلوك. تعتبر الخيانة الزوجية مثلًا انتهاكًا لقاعدة غير رسمية أو جريمة اعتمادًا على وضع الزواج والأخلاقيات والدين في المجتمع. في معظم الدول الغربية، لا تعد الخيانة الزوجية جريمة، لكن وصم الخيانة قد يكون ذو آثار غير محمودة وغير شديدة. بينما يكون الزنا في الدول الإسلامية جريمة وقد يؤدي إثبات الخيانة الزوجية إلى عواقب شديدة على المتورطين فيه.

تنتج وصمة العار عن قوانين وضعت لمكافحة السلوك. فمثلًا، تؤدي القوانين التي تحمي العبودية وتجرّم المثلية إلى نشوء أدوار منحرفة ترتبط بهذه السلوكيات. سيُعتبر من ينتهك هذه القوانين أقل إنسانية وموثوقية. الأدوار المنحرفة مصدر للقوالب النمطية السلبية التي تميل لدعم رفض المجتمع للسلوك.

جورج هربرت ميد

جورج هربرت ميد أحد مؤسسي التفاعلية الاجتماعية. ركز على العمليات الداخلية التي يركب من خلالها العقل صورة الذات. في كتابه العقل والذات والمجتمع عام 1934، بين ميد كيف يتعرف الأطفال على الأشخاص أولًا ولاحقًا يتعرفون على الأشياء. تبعًا لميد، التفكير عملية اجتماعية وواقعية تتمثل في نموذج محادثة بين شخصين يناقشان حلًا لمشكلة. المفهوم المركزي عند ميد هو الذات وهو الجزء من شخصية الفرد المكون من الوعي الذاتي وصورة الذات. تُبنى صورة الذات من خلال أفكارنا حول ما نظنه رأي الآخرين بنا. بينما نهزأ من الذين يحدثون أنفسهم علانية، فإن هؤلاء قد فشلوا فقط في إخفاء هذه المحادثات الداخلية التي نجريها جميعًا. السلوك الإنساني حسب قول ميد، هو نتيجة للمعاني التي ينشئها التفاعل الاجتماعي في المحادثات الواقعية والتخيلية.

توماس شيف

توماس ج. شيف أستاذ فخري في قسم علم الاجتماع في جامعة كاليفورنيا سانتا باربارا، نشر كتاب «أن تكون مريضًا عقليًا: نظرية في علم الاجتماع» في عام 1966. وفقًا لشيف، للمجتمع نظرته حول الناس المصابين بالمرض العقلي. يقول شيف إن كل الأفراد في المجتمع يتعلمون الصورة النمطية للمرض العقلي عبر التفاعلات الاجتماعية العادية. يتعلم الناس منذ الطفولة استخدام مفردات مثل «مجنون» و«معتوه» و«مخبول» ويربطونها بالسلوكيات المضطربة. يساهم الإعلام أيضًا في هذا التحيز ضد المرضى العقليين عبر ربطهم بالجرائم العنيفة. يعتقد شيف أن المرض العقلي وصم يعطى لشخص ذو سلوك بعيد عن القواعد الاجتماعية في المجتمع ويعامل كانحراف اجتماعي. حين يعطى الشخص وصم «المريض عقليًا» يتلقى مجموعة من الاستجابات الموحدة من المجتمع، تكون سلبية في طبيعتها عمومًا. تفرض هذه الاستجابات المجتمعية على الشخص أن يأخذ دور المريض عقليًا، فتصبح العمليات الداخلية عنده موافقة لذلك. عندما يأخذ الفرد دور المريض عقليًا، يصبح الوصم هويته المحورية، فيصبح مريضًا عقليًا بشكل ثابت. المرض العقلي المزمن وفقًا لذلك، هو دور اجتماعي، وردّ الفعل الاجتماعي هو العامل المحدد الأكثر أهمية في دخول الشخص في الإزمان. وفقًا لشيف، يعزز تحويل الأفراد إلى المصحات العقلية هذا الدور الاجتماعي ويجبر الفرد على أخذ هذه النظرة الذاتية. حين يُحوَل الشخص للمصحة النفسية نتيجة إصابته بمرض عقلي، يصبح موصومًا بالجنون ويُجبر على أن يكون فردًا من مجموعة اجتماعية منحرفة. يصبح بعد ذلك من الصعب على ذلك الشخص المنحرف أن يعود للحالة الوظيفية السابقة، إذ إن وصم المرض العقلي جعل تقييمات الآخرين له وتقييمه لنفسه سلبيًا.

وصم «المجرم»

كتطبيق على هذه الظاهرة، تفترض النظرية أن الألقاب التي تطلق على الأفراد تؤثر على سلوكهم. وبالتحديد، يعزز تطبيق الألقاب السلبية مثل «مجرم» أو «جانٍ» السلوك المنحرف، لتصبح هذه الألقاب نبوءة ذاتية التحقق. فمثلًا، الفرد الذي يوصم لا يملك سوى خيار الامتثال للمعنى الأساسي للحكم الذي أطلق عليه. وبالتالي، تفترض نظرية الوصم إمكانية منع الانحراف الاجتماعي عبر الحد من ردود الفعل الواسمة بالعار الاجتماعي، الصادرة عن مطلقي ألفاظ الوصم، واستبدالها بالرفض الأخلاقي مع التسامح. تؤكد النظرية على إصلاح المجرمين عبر تغيير الوصم. تتضمن سياسات منع الجرائم في هذا السياق برامج تمكين العميل، والوساطة، والتعويض، والمصالحة بين الضحية والجاني «العدالة التصالحية»، والتقويم. تتضمن الخيارات البديلة للسجن «التحويل». اتُهمت نظرية الوصم بأنها تعزز استخدام تطبيقات غير عملية، وانتقدت بأنها عاجزة عن شرح الانتهاكات الاجتماعية الخطيرة.

الانتقادات

على الرغم من أن نظرية الوصم قد قادت وبشكل سريع إلى إجراء كم كبير من الدراسات الإمبيريقية، إلا أنها تعرضت لهجوم قوى خلال السبعينيات. وكان أكثر الاتتقادات التى وجهت إليها شيوعاً أنها تجاهلت مصادر السلوك الانحرافي، وأنها بذلك لا يمكن أن تنطبق إلا على عدد محدود من الأنشطة الإجرامية، وأنها كانت حتمية بصورة مبالغ فيها فى تصورها لعملية الوصم، كما وأنها أغفلت مسائل وقضايا منها: القوة، والبناء الاجتماعى. وبالنسبة للمطالبين بالحقوق السياسية بدت هذه النظرية مناظرة للدعوة أو الادعاء بأن العديد من المجرمين هم فى الحقيقة مجرد ضحايا، وقع الذنب عليهم أكثر من كونهم أذنبوا. وقد جعلت نظرية الوصم من ردود الفعل المجتمعية (والتى تتمثل على وجه الخصوص فى أنشطة الشرطة والمحاكم ومؤسسات الضبط الاجتماعى الأخرى) متغيرات أساسية وحيوية. وقد كان الاتهام الموجه لهذا التوجه الجديد فى علم اجتماع الانحراف، هو أنه أكثر اهتماماً بالتماس الأعذار لممارسة الأتشطة الاجرامية بدلاً من تقديم تفسير لأسباب وقوعها. وقد تعرضت نظرية الوصم لهذا النقد بصفة خاصة لأنه تم تصويرها بوصفها أسهمت فى الترويج لنوع فج من الجريمة يرى أنه "حيث لا يوجد انحراف، ترتفع أنواع من الوصم، الأمر الذى يؤدى إلى وقوع الانحراف". وقد ازداد هذا التصور قوة وعمقاً نظراً لأن تلك النظرية يمكن أن تنطبق بحق، بشكل واضح، على صور الانحراف التعبيرى والجرائم التي ليس فيها ضحايا مثل الشذوذ الجنسي، وتعاطي العقاقير والكحوليات، وعضوية شلل النواصي أو العصابات، والأمراض العقلية. وهكذا أصبح منظور الوصم معروفاً فى بعض الأوساط على أنه "علم اجتماع المخبولين، والبغايا، والمنحرفين جنسياً".

أما نقاد النظرية من أصحاب الاتجاه اليسارى السياسى فقد رأوا أن النظرية لم تصل إلى المدى الكافي فى هجومها على الوضع القائم. ذلك أن اقتصار اهتمامها على منظمات الضبط الاجتماعى ذات المستويات الدنيا أو المتواضعة - مثل وسائل الإعلام وأقسام الرعاية الاجتماعية - قد جعلها تغفل النخب أو جماعات الصفوة الحاكمة التى تعمل تلك المنظمات بالفعل من اجل خدمة مصالحها. لقد درس مفكرو نظرية الوصم منفذي القوانين والقرارات وتركوا صناع تلك القوانين والقرارات. كما أن تعاطف النظرية مع المظلومين لم يتم ترجمته إلى نقد منظم للملكية الفردية أو الخاصة وغيرها من الأبنية الاجتماعية الظالمة والمستغلة فى المجتمعات الرأسمالية. ومن المفارقات الساخرة أن بعض أوجه النقد هذه قد انبثقت من داخل "المؤتمر القومي لدراسة الانحراف" نفسه، أى من صفوف من يطلق عليهم علماء الإجرام الراديكاليين من أمثال إيان تايلور وبول والتون وجوك يانج فى كتابهم المعنون: علم الإجرام الجديد، الصادر عام 1973).

ومعظم النقد الذي وجه لنظرية الوصم يعد نقداً ظالماً بلا شك، حيث أنه استتد إلى سوء فهم أساسي لوجهات نظر أصحاب هذه النظرية. ولعل أقوى دفاع عن تلك النظرية هو دفاع كين بلامر فى بحثه المعنون: سوء فهم آراء نظرية الوصم (والمنشور فى كتاب من تحرير داونز وروك، تحت عنوان: تفسيرات الانحراف، عام 1979). ويشير بلامر فى هذا الدفاع إلى أن منظور الوصم كان مهتماً فقط بالعمليات الاجتماعية التى تحكم طبيعة عملية الوصم وظهورها وتطبيقاتها ونتائجها. ولهذا السبب فإن هذه النظرية يمكن أن تتوافق مع العديد من دراسات الانحراف التى يتم إجراؤها انطلاقاً من وجهات نظر عديد من النظريات المتباينة. فقد أنطلق كثير من أصحاب منظور الوصم فى - تفسير عملية الوصم - من تراث المدرسة التفاعلية الرمزية، والتى ترى أن المجتمع يتكون من خلال تبادل الإيماءات أو الإشارات، بما فيها أشكال الاتصال الرمزى، والتحاور حول المعانى بين الأشخاص المتفاعلين فى عملية الاتصال والحوار، ومن الواضح أن هذا التوجه العام يتسق مع القضايا التى تطرحها نظرية الوصم. ولكن بعض الدراسات الأخرى لعملية الوصم كانت فى الأساس ذات طابع وظيفى أو ظاهراتى أو مسرحى أو إثنوميثودولوجى (أو غيره) من حيث افتراضاتها ومنطلقاتها. ومن هنا بدا جلياً أن بعض الانتقادات التى وجهت إلى نظرية الوصم كانت فى حقيقتها انتقادات لبعض قضاياها ومقدماتها ذات الطابع التفاعلى أو الظاهراتى (الفينومينولوجى) الخالص. والحقيقة أن تفسيرات عملية الوصم يمكن أن تتوافق مع عدد غير قليل من النظريات الاجتماعية.

فإذا فحصنا كثيراً من الانتقادات الشائعة التى وجهت إلى نظرية الوصم، من هذا المنطلق، فسوف نجد أنها ببساطة قد حادت عن أهدافها. فنظرية الوصم نفسها لم تحدد أسباب الانحراف الأولى لأنها لم تنشأ من أجل ذلك. فهى - إذن - تقدم تفسيراً للوصم وليس تفسيراً للسلوك. وقد اعتمد معظم شراح هذه النظرية على أنواع أخرى من التفسيرات المطروحة للانحراف الأولى والتى كان رد فعل المجتمع موجهاً إليها. وحتى هوارد بيكر نفسه لم يدع أن الوصم يعد — فى ذاته - السبب الأساسى للسلوك المنحرف، كما لم يقل أحد أن هناك شيئاً حتمياً فيما يتصل بالوصم أو تضخيم الانحراف. والتحول من الانحراف الأولى إلى الانحراف الثانوى عملية معقدة مليئة بالمصادفات والأشياء الطارئة. وقد يكون دور الوصم فيها مقبولاً أو قابلاً للنقاش أو مرفوضاً. وليس من العدل أيضاً أن نشكو من أن أصحاب نظرية الوصم قد تجاهلوا أو أغفلوا نطاقات واسعة من صور السلوك الانحرافي، طالما أنهم لم يدعوا أنهم سيطرحون تفسيراً شاملاً لكل سلوك انحرافي أو إجرامي معروف. وعلى العكس من ذلك فإن أصحاب هذا المنظور اتخذوا موقفاً متواضعاً يتمثل فى أن الوصم قد يغير فى اتجاه الخبرة الانحرافية أو كثافتها أو تواترها. وعلى أسوأ الفروض فإن غاية ما يمكن توجيهه من اتهام إلى أصحاب هذا المنظور هو أنهم وضعوا لأتفسهم أهدافاً أكثر تواضعاً فيما يتصل بثفسير أسباب الانحراف.

و على الرغم من التطورات الجديدة الكثيرة فى دراسة الانحراف منذ السبعينيات، فقد بقيت نظرية الوصم ذات تأثير واضح وخاصة فى أمريكا الشمالية. والحقيقة المثيرة للسخرية (إذا ما أخذنا الجذور الراديكالية لهذه النظرية) أنها قد أصبحت تمثل "تراثا أصولياً جديداً".

اقرأ أيضاً