ميجيل دي أونامونو
ميجل ديه أونامونو (بالإسبانية: Miguel de Unamuno) فيلسوف وشاعر وروائي ومؤلف تمثيليات إسباني باسكي، وُلد في بلباو في 29 سبتمبر 1864. عيِّن أستاذًا للغة اليونانية بجامعة سلامنكا عام 1891م، ثم رئيسًا للجامعة في عام 1900م. بالإضافة إلى كتبه الكثيرة، كتب أونامونو ما يزيد على 3,000 مقالة قصيرة. ولقد اكتسب عداء أربع حكومات متعاقبة بسبب نقده السياسي الجريء. وتوفي في شلمنقة 31 ديسمبر 1936.
حياته
هو الثالث بين ستة أطفال لفيليكس أنامونو صاحب متجر للخبز. ولد في مدينة بلباو على خليج الباسك في شمالي إسبانية. وقد شهد في طفولته أعمال العنف بين القوى التقليدية والتقدمية من خلال حصار بلباو. فتركت آثارا عميقة في فكره السياسي.توفي والداه فانتقل للعيش مع عمه، ثم انتقل عام 1880م لمدريد للدراسة، كان أنامونو متديناً جداً، وفي مدريد بدأ بالتردد على أتينو وقرأ في مكتبة المركز كتب الفلاسفة والمفكرين. حصل في عام 1884م على درجة الدكتوراة في الآداب من جامعة مدريد برسالة حــول اللغة الباسكية.عاد إلى بلباو وعمل معلماً فيها حتى عام 1891م، وأسس فيها مع أصدقائه المجلة الاشتراكية (La Lucha de Clases). يعتبر أحد ابرز مفكري إسبانيا في القرن العشرين، واصغر شاب شغل منصب رئيس جامعة سلامنكا عام 1900، وأدى وقوفه ضد حكم بريمو دي ريبيرا عام 1924 إلى نفيه إلى جزيرة تنريفي ومن ثم إلى باريس حتى عام 1930. كتب اونامونو العشرات من البحوث والكتب في الأدب والفكر والفلسفة، ومنحته عدة جامعات الدكتوراه الفخرية ومنها جامعة اكسفورد عام 1931، وفي عام 1934 عين رئيسا فخريا لجامعة سلامنكا مدى الحياة.
رجل مثير للجدل
حين انفجرت الحرب الأهلية الإسبانية وقف مع القوميين في مواجهة الشيوعيين لكن موقفه تغير بعد اغتيال الشاعر فدريكو جارسيا لوركا. فقد صرح أمام الجنرال ميان أستراي، والذي كان يعتبر من ألد أعدائه: أن تنتصر على عدوك لا يعني أنه اقتنع بفكرتك. وفي 5 أكتوبر وخلال الاحتفال الذي أقيم بجامعة سلامنكا حضرته زوجة فرانكو، أنتقد أونامونو الجنرال ميان قائد الفيلق الأجنبي الموالي لفرانكو قائلاً من يستمع لخطاب ميان الرسمي يدرك اللا إنسانية والطبيعة الدنيئة للانتفاضة فرد عليه شبان الجامعة الموالون لميلان: فليمت أونامونو، فليمت المثقفين ورد الجنرال ميـان: فليمت الذكاء وليحيى الموت إشارة إلى احتـجاج أونامونو على تنفيذ أحكام الإعدام العسكري. ومن ما قال ميـان كذلك: "كاتالونيا وبلاد الباسك هما سرطان في جسد الأمة!. والفاشية، دواء إسبانيا، هدفها القضاء عليهم، تقطع اللحمة الحية كسكين المبضع! "، فأجابه أونامونو على الفور: إسبانيا بدون إقليم الباسك وبدون كاتالونيا تكون بلداً على شاكلتك ياسعادة اللواء، أعني بلداً أعور أقطع. فثار ميلان وكاد يضربه، فتدخلت زوجة فرانكو لفض الاشـتباك. وُعزِل أونامونو من رئاسة الجامعة، وبسبب شهرته العالمية، والمشكلة التي تلت أغتيال الشاعر لوركا، رفض فرانكو طلب ميلان بإعدام أونامونو، ولكن تم عزل أونامونو في منزله ولم يسمح له بالتعبير عن آراءه للجمهور. وفي الواحد والثلاثين من ديسمبر توفي أونامونو، وبعد وفاته سجل اثنان من أبنائه أنفسهم كمتطوعين في الجبهة الشعبية (تحالف لأحزاب اليسار).
أعماله
ومن أحسن أعمال أونامونو الإدراك المأساوي للحياة (1913م) الذي يعالج النزاع بين الإيمان والعقل منذ عصر النهضة وحتى القرن العشرين. ويقيِّم المؤلف في هذا الكتاب أهمية الإرادة، والرغبة في الخلود، والبحث عن الحب في التاريخ البشريّ. ولقد ساعدت دراسة أونامونو للثقافة الأسبانية في كتاب حول التقليدية (1895م) على إنعاش حركة الإحياء العقلانية الأسبانية المعروفة بجيل 1898. ومن أنضج قصائده تأملاته الطويلة المسماة مسيح فيلازكز (1920م). وتبحث أعظم رواياته الضباب (1914 م) في أسرار الوجود الإنساني.
وبالإضافة إلى كتبه الكثيرة، كتب أونامونو مايزيد على 3,000 مقالة قصيرة. ولقد اكتسب عداء أربع حكومات متعاقبة بسبب نقده السياسي الجريء. ولكونه رائد إحياء أسبانيا الحديثة، فقد ذهب إلى أن الفرد، وليس الحضارة أو المجتمع أو الثقافة، هو موضوع كل فكرة والباعث الأسمى.
ومن أشهر مقالاته: «الأصالة القومية»، و«الكرامة الإنسانية»، و«أزمة الوطنية»، و«الوحدة»، و«الفردية الإسبانية»، و«النزعة الأوربية»، و«الحضارة والمدنية»، و«الفلانية»، و«ما الحقيقة؟»، و«سرّ الحياة».
حياته
أونامونو شخصية فذة في كل شي،: في فكرها ووجدانها، وسلوكها في الحياة.
فذ في فكره لأنه لا يمكن ان يندرج تحت مذهب من المذاهب الفلسفية أو الفكرية عامة، بل كان أبغض شيء لديه أن يضعه الناس تحت صفة أو اسم من الصفات والأسماء التي يبادر الناس إلى إلصاقها برجال الفكر والعلم والفن، ثم يخيل إليهم بعد هذا أنهم استراحوا من تحديدها والوقوف من بعد عندها - حتى قال عن نفه: «لا أريد أن يضعي الناس في خانة، لأني أنا ميجيل دي أونامونو، نوع فريد شأني شأن أي إنسان آخر يريغ إلى الشعور الكامل بذاته» (Mi Religion),
بل لا يندرج تحت اي وصف عام من أوصاف أهل الكتابة : فلا هوفيلسوف، لأن أفكاره لا ترقى إلى درجة تكوين مذهب فلسفي بالمعى الدقيق لهذا اللفظ، ولا هوفصصي، لأن قصصه تتجاوز القواعد التقليدية المرسومة للقصة، ولا هو كاتب مسرحي لأن الجمهور أجمع حينيا شاهد مسرحياته تمثل على انها ليست من المسرح في شيء، ولا هو شاعر، لأن شعره حافل بالأفكار اكثر منه بالغناء والموسيقى، ولا هو سياسي لأن اتجاهاته في السياسة كانت من التذبذب والاضطراب بحيث لم يعرف أصحاب ه ولا أعداؤ ه ما هو مذهبه السياسي . وبالجملة لم يكن واحداً من هؤلاء، لأنه كان كل هؤلاء مجتمعين في شخص واحد، نسيج وحده في كل مناحي حياته امادية والروحية.
على أنه يجمع هذه النواحي كلها وجدان حاد يدفعبه إلى الغلو في إدراك معاني الحياة والاحاس بنبضها وتدفقها، يصاحب هذا كله أو كنتيجة له قلق مرهف عنيف من الوجود وشعور بالغ بطابع الحياة الأسيان trágico .
ولد دون ميجبل دي أونامونو Miguelde Unamuno في مدينة بلباو Bilbao على خليج الباسك في شمال إسبانيا في التاسع والعشري من شهر سبتمبر سنة ١٨٦٤ وأمضى دراسته الابتدائية في سان نيقولاس في بلباو، تلميذا هادئا مغمورا لم يلمع بين لدانه. وفي اليوم الحادي والعشرين من فبراير سنة ١٨٧٤سقطت قنبلة على سقف منزل مجاور للمنزل الذي كان يقطن فيه وأسرته أثناء الحروب الكارلية . فكان لها في تكوينه، كما يغرل، أثر عميق، فإنها كانت بذرة الشعرر الوطنى التى ستنمو وتسمق دائماً طوال حياة اونامونو وإليها يعزى اهتمامه البالغ بالسياسة القومية. ثم دخل معهد بكايا سنة ١٨٧٥ -١٨٧٦ ليقضي دراسته الثانوية ومضت اربع سنوات ليس فيها نمويذكر، بعدها بداً يقرأ قراءات جدية واسعة مغلقاً على نفه في مكتبة أبيه، يقرا خصوصاً كتب فيلسوفي إسبانيا : بالمس 5ع٦٦اه ودونوسوكورتيس Donoso Cortès . ومن كتب بالمس عرف كنت وديكارت وهيجل، معرفة ناقصة من غير شك، لأن بالمس (سنة ١٨٤٨٠١٨١٠) كان قليل البضاعة من الفلفة العقلية، لكنه أفاد منه أن عرف الفلسفة فبدأ يقرأ لكنت نفسه وفشته وهيجل، وبلغت حماسة الشباب الأولى أن حملته على وضع مذهب فلسفي لنفسه في هذه السن المبكرة، فيد فيه آراءه في الزمان والمكان والعلة والجوهر، والمبدأ الأول.
وفي سنة ١٨٨٠ دخل جامعة مدريد ليدرس الآداب والفلسفة في كلية الآداب، وأمضى ثلاث سنوات حصل في اثرها على الليسانس. وفي سنة ١٨٨٤ أي في السنة التالية حصل على الدكتوراه في الآداب برسالة في «اللغة البسكية» وكانت تلمع في مدريد في ذلك الحين أسماء: ألاركون (١٨٢٣- ١٨٩١) القصصي والسياسي، وأيالا Ayala ودون خوان فاليرا (١٨٢٤ - ١٩٠٥) الدبلوماسي الواسع الثقافة المتعدد أنواع الكتابة، ودونوسوكورتيس (١٨٠٩ - ١٨٥٣) ومنندث إي بلايو Playo ٧ ءع٦٤٦0ع٨٧4(سنة ١٨٥٦-١٩١٢) أغزر باحث في تاريخ الفكر والأدب الاسباني. وإبان دراسته بجامعة مدريد حدثت له أزمة دينية عنيفة.
ولما أتم شهادة الدكتوراه، عاد إلى بلدته بلباو، وظل بها يمارس التعليم الخاص حتى سنة ١٨٩١ ، وفي تلك الفترة عرف حبه الأول والأخير في فتاة تدعى كونشا، كما مارس الصحافة فكان يكتب في مجلة أسبوعية سمها «صراع الطبقات»
وعاد إلى مدريد في ربيع سنة ١٨٩١ ليتقدم لترشيح نفسه للكراسي الخالية في الجامعات؛ تقدم أولا لكرسي علم النفس والمنطق والأخلاق ثم الميتافيزيقا؛ فلم يظفر بهما نظرا لاستقلاله في الرأي؛ وأخيراً تقدم لكرسي اللغة والأدب اليونانيين فحصل عليه في جامعة شلمنقة. وفي تلك الأثناء عرف أنخل جانيبت Angel Canivet (سنة ١٨٦٢ - سنة ١٨٩٨) رائد جيل سنة ١٨٩٨ الذي انتحر وهو قنصل في فنلنده وكانت سنه السادسة والثلاثين وكان على وعي مرهف بالروح الاسبانية، ومصيره كان رمزاً لمصير إسبانيا نفسها٠
واستمر أونامونو يشغل كرسى أستاذ الآداب واللغة ا لبونان ية في شلمنفة حتى سنة ١٩٠١ حين عبن مديراً لجامعة شلمنقة نفسها، محتفظا في الوقت نفسه بكرسي اللغة الاسبانية. على أن شغله لهذين الكرسيين لم يكن إلا من اجل امعاش، اما اهتمامه الحقيقي فكان بالفلسفة خصوصاً، ثم بالسياسة. لكن اشتغاله بالسياسة هذا قد جر إلى فصله من منصب مدير الجامعة سنة ١٩١٤. ولما قامت الحرب العالمية الأولى خاض غمار السياسة إلى قمة رأسه، مدافعاً عن قضية الحلفاء ضد حزب اليمينيين الذين كانوا يناصرون المانيا. وكان من الناحية الداخلية من أشد أعداء الملكية بل خصماً لدوداً شخصيا للملك الفونس الثالث عشر، فراح يكتب مقالات عديدة ضده في الصحف الأجنبية مما أدى إلى الحكم بسجنه ست سنوات، لكن صدر عنه العفور فورا . وفي سنة ١٩١٩ رشح نفسه نائباً جمهورياً ، لكنه أخفق في الانتخاب . ولم اعلنت ديكتاتورية بريمو دي ريقير سنة ١٩٢٣ حمل عليها أونامونو حملة عنيفة، بلغت ذروتها في رسالة وجهها إلى مدير تحرير صحيفة: «نحن» Nosotros في بوينوس أيرس في الأرجنتين ونشرت في الصحيفة نفسها. فكانت هذه الرسالة سببا في إصدار قرار من بريمو دي ريفيرا بنفي أونامونو من إسبانيا في العشرين من فبراير سنة١٩٢٤؛ وأرسل إلى جزيرة فورر تفنتورا؛ لكن مدير مجلة Quotidien با الفرنسية أنقذه من المنفى في٩ من يوليو من نفس العام؛ وبعد هذا بقليل اصدرت الحكومة الاسبانية قرارا بالعفوعنه . غير أ ن أونامونو ل يشأ العودة إلى إسبانيا، بل بقي في باريس، ومنها رحل إلى هنداية على الحدود الفرنسية الاسبانية، ومنها ظل يحمل على دكتاتورية بريمودي ريفيرا ، إلى أن سقطت، فعاد إلى إسبانيا في ٩ من فبراير سنة ١٩٣٠، واستقبل استقبالا حافلا من الثوار الذين حطموا عرش الملكية والدكتاتورية. وفي ١٩٣١ عرض عليه من جديد أن يشغل كرسي الآداب واللغة اليونانية في جامعة شلمنقة، لكنه فضل عليه اللغة الاسبانية. ثم عين «مديراً مدى الحياة» لجامعة شلمنقة، وأنشى له كرسي خاص باسمه مع الحرية المطلقة لتدريس ما يشاء؛ وفي سنة ١٩٣٥ منح أعظم وسام في الجمهورية. فلقب بلقب «مواطن الشرف لسنة ١٩٣٥»، واختيرنائباً في الجمعية التأسيسية التي وضعت دستور الجمهورية الناشئة .
ثم قامت الحرب الأهلية في إسبانيا في صيف ١٩٣٦ بين الوطنيين والشيوعيين . فأعلن انضمامه إلى اوطنيين . لكنه
خطب بعد ذلك خطبة لم ترض الوطنيين فطردوه من منصب مدير الجامعة، ولم يلبث إلا قليلا حتى توفي بالسكتة القلبية في الحادي والثلاثين من شهر ديسمبر سنة ١٩٣٦ .
فلسفته
أما عن فلسفته، فليس لأونامونو، كما قلنا، فلسفة بالمعنى الدقيق لهذا اللفظ، إنما هي آراء وأفكار متناثرة قد يستشف منها صورة في الوجود والحياة أغلبها ورد في كتابيه الرئيسيين: «في المعنى الأسيان للحياة» (سنة ١٩١٣) و«حياة دون كيخوته وسنتشو» (سنة ٥ ٠ ١٩ ).
والذين تأثر بهم أونامونو في تفكيره هم على الأخص: بسكال وكيركجور. وكلاهما، كما قلنا آنفاً، من أسرة روحية واحدة: فكلاهما متوحد ذو حياة باطنة قوية عنيفة يتجاذبها القلق والشك من ناحية، والايمان أو إرادة الايمان من ناحية أخرى. وأونامونو حلل شخصية بسكال في بحث كتبه أولا في «مجلة المتافيزيقا والأخلاق» RMM سنة ١٩٢٣ (ص ٣٤٥-ص ٣٤٩) بمناسبة الذكرى المئوية الثالثة لميلاده. فقال عنه : إنه شخصية أسيانة . وفهمه على نحو إسباني خاص كما قال: «لما كنت أنا إسبانياً، فإن بسكال أيضاً إسباني من غيرشك» (الموضع نفسه ص ٣٤٥) ولهذا ربطه بأقطاب الروحية الاسبانية : القديسة تريزا الآبلية وريموندوسابندو، وريموندو مارتين، وسان سيران، وإغناطيوس دي لويولا - أما كيركجور فقد عرفه أونامونو أول ما عرفه عن طريق براندس Brandes في دراسته عن كيركجور (سنة ١٨٧٩ ) فأعجب به وبلغ الاعجاب حداً حمله على دراسة اللغة الدانمركية فأتقنها. وقرأكيركجورفي أصله فازداد به ولوعاً وتأثراً. وقد جذبه إليه أخذه بفكرة اللامعقول وإن كان الأساس في قول كليهما بهذه الفكرة ختلفاً ، والنزعة إلى الفردية، والتفرقة بين المسيحية الرسمية والمسيحية الحقيقية.
أما الفلسفة الاسبانية في زمانه وقبيله فلم يكن فيها من القوة مايمكن أن يؤثرفي شخصية مثل شخصية أونامونو فقد كان يؤثرفيها فلسفة ك. ف. كراوزه Krause ت .C التي جلبها من ألمانيا خوليان سنث دل ريو 18:0 اعل 9302 Julian الذي أوفدته الحكومة الاسبانية إلى ألمانيا للاطلاع على لتيارات الفلسفية الألمانية سنة١٨٤٣.
وإنما تأثر أونامونو مباشرة بالتيارات السائدة في أوروبا وأهمها في ذلك الحين، أي في النصف الثافي من القرن التاسع عشر: المثالية عمثلة في الهيجلية الجديدة والوضعية ممثلة في اتباع سنبسر وأوجيست كونت Comte ، ولكنه وقف من كليهما موقف المعارضة باسم مذهب آخر يرتبط أكثر ما يرتبط بمذهب كيركجور.
ذلك أن اونامونو يرى ان موضوع الفلسفة هو لانسان العيني الموجود الحي المؤلف من لحم وعظم، الانسان المفرد الذي يولد ويموت، ويتفلسف لا بعقله فحسب، بل وبارادته وعاطفته وروحه وبدنه؛ فالانسان يتفلسف بكل أجزائه , وهذا الانسان المفرد الحي ليس هو الأنا المطلق الذي يقول به فشته والمثاليون الألمان، وليس هوالحيوان السياسي كما يقول أرسطو، أو الانسان الاقتصادي الذي تقول به الماركية، أو الحيوان الناطق الذي يقول به الفلاسفة التقليديون. لهذا يقول أونامونو تصحيحاً لقول الشاعر الكوميدي اللاتينى: انا إنسان، ولا شيء إنسانياً بغريب عني - انا إنسان، وليس ثم إنسان غريب عني، لأنه يرى أن الاسم العيني اوضح هنا دلالة من الصفة: فلا اسم معنوياً ولا صفة، أي لا إنساني ولا إنسانبة، بل الانسان العيني الحي نفسه الانسان الذي نراه ونسمعه، اخونا، أخونا الحقيقي.
والانسان غاية وليس وسيلة، والحضارة كلها مرتبة له، لكل إنسان، لكل ذات إنسانية، والمسألة الكبرى بالنسبة إلى الانسان هي البقاء؛ ومن هنا كان طموح الانسان إلى الخلود. ويقتبس اونامونو هنا كلمة لكيركجور: «المهم يالنسبة إلى من يوجد ان يوجد وجوداً لا نهاية له». بيد أن الإيمان بالخلود هو مجرد إيمان، وليس أمراً عقلياً ، ولهذا لا يمكن لهذا الطموح أن يتخذ صورة منطقية عقلية بل هو امر قائم يفرض نفسه على النفس كالجوع. وكل هموم الانسان تدور حول مسألة بقائه في الوجود. فهويخلق العالم المادي المحيط به من أدوات ومنشات من اجل المحافظة على جوهر حياة الموجود الحي؛ ويخلق العالم المعقول العلمي والعقلي، من أجل المحافظة على البقاء . والغريزة الجنسية إغما قصد بها إلى الغاية نفها، أي الاستمرار في البقاء.
ولكن هذا لانسان في جوهره أسيان، لأنه يصطدم دائاً بما يعوق سبيله إلى البقاء. فكل نزوع حيوي يصادف عائقا يحول بينه وبين أن يتحقق فيضطر إلى مصارعته، وقد يقهره وقد يتغلب هذ العائق عليه فيصرعه، والكفاح في الحياة أيضاً يصطدم بمنافسة لغير. وفي الكفاح من أجل البقاء في الوجود لا بد أن يصطدم كل موجود بخصم م ولن يقهره أحد، وهو الموت. وليس أمام مسألة الخلود غير ثلاثة حلول :
أولا : إما أن أعلم أنني سأموت كلية، فلا يبقى أمامي غيراليأس النهائي القاتل والاذعان الكظيم.
نانيا : أو اوفن انني لن أموت بكلي، بل سيبفى مني جزء خالدا، وبهذا تطمئن نفسي ولن يعود ثم إشكال،
ثالثاً : أو لا أعلم على وجه التعيين ما هو الحق في هذا الأمر، وفي هذه الحالة لن يكون لدي غير حل واحد، هو اسال.
واونامونو يستبعد الحلين الأولين، ولايبقي إلا على الثالث، وليس على الانسان إذن إلا أن يناضل في سبيل البقاء باستمرار («في المعنى الأسيان للحياة» ص ٣٧) .
ويتخذ أونامونورمزاً لهذا النضال شخصية دون كيخوته : فكفاحه تعبيرعن النزاع بين العالم كما هو، وكما يصوره لنا العقل والعلم، وبين العالم كما نريده أن يكون. فدون كيخوته لا يذعن للعالم ولا لحقيقته ولا للعلم ولا للمنطق، ولا للفن ولا لعلم الجمال، ولا للأخلاق، بل يثور على هذا كله، وينتهي إلى اليأس بعد أن رأى عبث النضال، ومن هذا اليأس يولد الأمل البطولي، الأمل اللامعقول، الأمل الجنوفي، ولسانحاله يقول كما قال بصورة أخرى ترتليانوس : آمل لأنه غيرمعقول - بدلا من قول ترتليانوس : أؤمن لأنه غير معقول. لقد كان دون كيخوته وحيداً مع سائسه المطيع الاذج سنتشو، وحيداً إذن مع وحدته.
ودون كيخوته ترك للعالم الشيء الكثير؛ لقد ترك الدون كيخوتية، وهي نهج ومذهب في المعرفة، ومنطق خاص، وعلم جمال من نوع فريد، وأخلاق نسيج وحدها؛ إنها أمل في أمر غير معقول.
والعظيم فيه أنه كان موضوعاً للهزء والسخرية، وأنه انبزم ؛ لأنه بانبزامه قد انتصر؛ ولقد ساد الدنيا بأن منحها ما تسخر به منه. على أن دون كيخوته لم يكن يائسا كل اليأس، أعني متشائماً، لأنه كافح واستمر يكافح برغم ما لقيهم من هزء وهزيمة، ولأن التشاؤم ابن للغرور، ومجردحذلقة، بينما دون كيخوته كان جادا ولم يكن مغروراً
إن الفلسفة - عند أونامونو- علم بمأساة الحياة، وتفكير في المعنى الأسيان للحياة إنها تنبثق من الايمان، وتستند إلى اللامعقول، وهي نتيجة عملية جراحية أجراها على نفه لم يستعمل إبانها بنجاً آخر غير الفعل الدائب في سبيل البقاء، ولكنه فعا جوهره النضال، ولا نتيجة لهذا النضال غير هزيمة لانسان، لكن هذه افزيمة نفسها هي أروع نتصار.
مقالات أونامونو
وميجيل دي أونامونو من أوائل الذين أسسوا أدب «المقالة» في اللغة الأسبانية، إلى جانب زميله المفكر الأكبر أورتيجا أي جاست ثم أثورين . وقد جمعت أشهر مقالاته في سبع مجلدات ونشرت ضمن «منشورات بيت الطلبة» في مدريد، وأهمها :
«حول الأصالة القومية» (٥ مقالات) - «الحياة حلم» -^الايمان»-»الكرامة الإنسانية^-«أزمةالوطنية»-»إلى الباطن!»-«الفردية الأسبانية« - «حول الفلانية« - «نفوس الشباب» -«النزعة العقلية والنزعة الروحية»- «الحضارة والمدنية«- «ملاء ١لملاآت، وكل شيء ملا،» - «الكبرياء» - «الوحدة»- «حول لمرتبة والاستحقاق» - «ما الحقيقة؟»- «سر الحياة» - «حول الاخلاص والنزاهة» - «المذهب والشخص» - «النزعة ال ربية«.
الحضارة والمدنية
ونبدأ بتحليل مقاله الممتاز عن «الحضارة والمدنية»،
يقول أونامونو أن ثمة وسطا خارجيا هو عالم الظواهر امحوسة، التي تحيط بنا وتسندنا، ووسطا باطنا او داخلياً هو شعورنا نحن، وهو عالم أفكارنا وتخيلاتنا وأمانينا وعواطفنا . لكن ليس من الممكن تحديد الفواصل بين كلا الوسطين، ، إذ لا يستطيع أحد أن يخبر أين يبدأ الواحد أ وينتهي الآخر، ولا أن يرسم خط تقسيم بينهما، ولا إلى أي حد نحن ننتسب إلى العالم الخارجي، أو إلى أي حد هذ العالم ينتسب إلينا، فأنا أقول : «أفكاري، إحساساقي»كما أقول: «كتبي، ساعتي، حذائي»، وأقول: «أمتي ، وطفي» وأقول أيضا: «شخصي»! وكم نقول: «ملكي»، عن أمور أنا التي أنتب اليها!
و«ملكي» يسبق « الأنا»، فالأنا يتجل أنه مالك، أولا، ثم منتج، وينتهي بأن يظهر الأنا الحقيقي، حينما يصل إلى مطابقة إنتاجه مع استهلاكه.
والوسط الباطن أو الداخلي يتكون عن الوسط الخارجي بنوع من التكاثف العضوي، وعالم الشعور ينشأ عن عالم الظواهر ويؤ ثر فيه وفيه ينتشر. فثم مد وجزر وانتشار وانكماش مستمر بين الشعور وبين الطبيعة لتي تحيط به، وبقدرما تطبع النفس وذلك بالتثبع بالواقع الخارجي، فإفي أضفي روحية على الطبيعة باشباعها بالفاعلية الباطنة فأنا والعالم كلانا يصنع الآخر على لتبادل. ومن هذا الفعل ورد الفعل المتبادلين ينشأ في داخلي الشعور باناي، اناي قبل أن يصبح «أنا محضا». والشعور بالذات هو نواة الفعل المتبادل بين عالمي الخارجي وعالمي الداخلي. ولا حاجة إلى التوسع في القول بلن الانسان يؤثر في الوسط وأن الوسط يؤ ثر في الانسان، وأن الوسط يؤ ثر في نفسه بفضل الانسان، والانسان يؤثر في نفسه بفضل الوسط فنحن بأيدينا نصنع الأدوات في العالم الخارجي، ونصنع استعمال هذه الأدوات في عالمنا الداخلي: والأدوات واستعمالها أغنيا عقولنا، وعقولنا وقد غنيت عن هذ الطريق تغني بدورها العالم الذي منه استخرجنا هذه الأدوات. فالأدوات هي إذن عالمان في وقت واحد: عالم الداخل، وعالم الخارج، إن ثم مشاركة هائلة بين لشعوروبين الطبيعة. وكل شيء يحيا في الشعور، في شعوري، نعم كل شيء حتى شعوري بذاقي، وحتى ذاق أنا وذوات سائر الناس . ومن امهم جدا أن نشعر شعورا عميقا حادا بهذه المشاركة بين شعورنا وبين العالم، وكيف أن هذا الأخير من عملنا كما أننا نحن من عمله، لأن عدم إدراك هذه المشاركة يفضي إلى نظرات جزئية، «مثل تلك التي تسمى باسم «التصور المادي للتاريخ»، القائل بأن ,الاضان مجرد لعبة في أيدي القوة الاقتصادية».
وهنا يتساءل أونامونو: هل الوسط الاجتماعي هوالذي يتقدم، أو الفرد؟ ويجيب قائلا:
إنه منذ اليونان وما تقدم هو العلوم والفنون والصناعات والنظم الاجتماعية والوساثل والآلات، لا القدرة الانسانية الفردية، إن الذي تقدم هو المجتمع أحرى من أن يكون الفرد هو الذي تقدم، المدنية أحرى من أن تكون الحضارة هي التي تقدمت، ويمكن أيضاً أن يقال اننا حين نولد لا نكون مزودين بأي كمال أكثر من اليونان القدماء، واننا نرث العمل المتراكم للقرون في وسطنا الاجتماعى، لا في تركيبنا الباطن أوتركيبنا العقلي. ويمكن، على العكس من ذلك، ، أن يقال أيضاً ان تفدم الملكات الفطرية للفرد تسير بنفس الخطوات، المتفاوتة في السرعة، التي يسير بها الوسط الاجتماعي، وان المدنية والحضارة يتقدمان معا، وبنفس الدرجة، بفضل أفعالهما وردود أفعالهما المتبادلة .
أونامونو
ولا يشكن أحد في أنه حتى لو حطمت كل الآلات الميكانيكية لظل العلم الذي أبدعها والمكتنز في العقول الانسانية، نقول لظل هذا العلم كاملا حيا قابلا للانتقال من عقول إلى عقول . إذ ينبغي التمييز تماما بين انتقال المزيد من القدرة العقلية بواسطة جهاز عضوي جسماني، وبين هذه الواقعة وهي أن الحضارة (أو الثقافة) الباطنة تظل حية قابلة للانتقال رغم تحطيم أجهزة المدنية.
إن من الحبة تثمر الشجرة، وهذه تعطى حبة أخرى، في نفس اوقت الذي فيه تمهد الأرض حولها لتلقيها. والحبة تحتوي في ذاتها على الشجرة الماضية والشجرة المقبلة، ، إنها أبدية الشجرة. ونحن بني الانسان نحن حبوب شجرة الانسانية والانسان، الانسان حقا، الانسان الذي هو إنسان بكل معاني هذه الكلمة، يحمل في داخله كل العالم المحيط به، ويمدن كل ما يعالجه بثقاخته .
وهنا قد يعترض بفكرة «العود» التي قال جها فيكووالقائلة بأن في التقدم مصاعد ومهابط، وأدوار نزول بعد أدوار صعود، وأطوار انحلال بعد أطوار ازدهار. ولكن هذه الفكرة إنما أوحى يها تصورخاطى للتقدم، وذلك بتصررهعلى أنه يسير في خط مستقيم مؤلف من سلسلة من التموجات الصاعدة أبدا،
لا ليس الأمر هكذا، في نظر أونامونو إنما التقدم سلسلة من الانتشارات والتكاثفات الكيفية، إنه إثراء الوسط الاجتماعي بمركب يتكاثف ويتركز فيما بعدعن طريق التنظيم والنزول إلى الأعماق السرمدية للانسانية، والتمهيد بذلك لتقدم جديد . نعم، إن التقدم توال من البذور والأشجار، وكل بذرة أحسن من السابقة عليها، وكل شجرة أغنى من سالفتها. والطبيعة، بسلسلة من الانتشارات والتكاثفات، والتفاضلات والتكاملات، تنفذ في الروح، كما تنفذ الروح في الطبيعة. والمدنيات أرحام لدنيات مقبلة تتكون فيها كالأجنة ثم تولد كمدنيات جددة -
ومن المدنية تتركز الحضارة، والنظم الاجتماعية تهى، تقدم المجتمع، لكن هذا التعقيد الخارجي المتزايد ينتهي بأن يكون هو نفسه جرثومة ومبدأ فناء. فالحرف، الذي يحمي الروح الوليدة ويتجسدها، يقتلها حينما تصبح ناضجة . والأمر نفسه ينطبق على لكلام، الذي يلد الفكر ويخلقه، ولكنه في النهاية يخنقه : فيموت اللحم الحي بعد أن تحجر بسبب الغشاء الذي تحولت إليه الطبقة اللحمية التي خرج منها.
وإها للحظة رهيبة حافلة بالقلق والضيق - تلك التي نشعر فيها بضغط الرحم، وهكذا الحال في المدنيات: فحينما تغوص المدنيات الخارجية، وعالم النظم والأبنية الاجتماعية - في اسفلها الذاتي، تحرر الحضارات الباطنة التي كانت هي امهاتها والتي خنقتها في النهاية.
وكم هو منظر محزن في نظر الروح الرومنتيكية أن ترى انهيار مدنية! نعم ، هومحزن، لكنه جميل! فالمدنيات، شأنها شأن بني الانسان، تولد، وتعيش، وتموت وتتحلل كما تركبت. ولا مناص لها من ان تموت، من أجل أن تثمر الحضارة التي تركزت فيها، كما أننا معشر بفي الانسان لا بد أن نموت من أجل أن تثمر أعمالنا وبدون الموت تظل أعمالنا عقيمة، من الممكن أن تتزايد، لكنها لن تعطي ثمارا. إن المدنيةآتحلل. لكن: أولا تحمل عناصرها المنفصلة طاقة أغنى من تلك التي نجم عنها التحلل؟ أو لم يحمل رجال فجر العصر الوسيط، وأبناء انحلال الامبراطورية الرومانية، خلود روما في نفوسهم؟
ولي قليلا أن تزبد عناصر العالم عنصرا، ولوواحدا، أكثر من العناصر التي بدأ بها منذ أن انفصلت الأرض عن السديم! ذلك لأن العدد المتزايد من التراكيب التي يسمح بها هذا العنصر الجديد يمكن من إيجاد عالم أفضل، ولا سبيل إلى إيجاد تركيبات جديدة إلا بشرط تحطيم التركيبات القديمة ٠ بل هذه نظرة الية، وهناك ما هو أفضل منها : فإن العالم إذا ما حقق كل محتواه الممكن، واصبح تراباً فإن من الواجب أن نعتقد أن كلجزيء من هذا التراب، وكأنه ذرةآحادية كاملة، يحمل في داخله كل العالم القديم، والعالم الجديد.
ويا لها من ئمرة رائعة .لمدنية أن تظفر بهذا العنصر الجديد، بهذه الذرة الاجتماعية الجديدة، بهذا الانسان الجديد، بفكرة جديدة! إن نمطا إنسانيا جديدا، وفكرة حية جديدة لكفيلان بانشاء عالم جديد على أنقاض العالم القديم ٠
إنسان جديد! هل فكرنا جديا فيما تنطوي عليه هذه الكلمة من معان؟! إن الانسان الجديد حقا معناه التجديد الشامل للانسانية جمعاء، لأن الانسانية ستقتفي روحه، إن ذلك بمثابة درجة جديدة في السلم الشاق المؤدي بالانسانية الى ما فوق الانسانية. وكل المدنيات مهمتها أن تنشى ء حضارات، والحضارات مهمتها ان تنتج أناسا، وإيجاد الناس (بالمعى الكامل) هو الغاية من المدنية، والانسان هو النتاج الأعلى للانسانية، والواقعة السرمدية في التاريخ. وما أجمل ان ينبثق من بقايا المدنية إنسان جديد! إن الانسان الجديد معناه المدنية الجديدة.
ويقول أونامونو إنه لا معفى للسؤال: هل المجتمع صنع من أجل الفرد، أو الفرد من أجل المجتمع - لأفي أنا المجتمع، والمجتمع هو أنا . والذين يجعلون الواحد في مقال الآخر: المجتمع والفرد، الاجتماعية والفردية- هم أولئك الذين يأخذون مأخذ الجد هذا السؤال : ما الذي كان اولا : البيضة أو الدجاجة؟ إن كلمة «أولا» هذه دليل على الجهل.
ذلك أن «المن أجلية» هنا لامعنى لها إلا فيما يتعلق بالشعور والارادة و«من أجل» تتعلق بشعوري: فالعالم والمجتمع من أجلي أنا، لكفي أنا في نفس الوقت المجتمع والعالم، وفي داخل الأنا يوجد الآخرون، ويقيمون، وهناك يظلون باستمرار - فالمجتمع فيكل فرد، وكل فرد في المجتمع .
ولا ضيرمن تحلل المدنية، ففي ذلك تمهيد لايجادمدنية جديدة . وينبغي أن نساعد على هذا الافراز وتنشيط سيرهذا التحلل لعناصر المدنية، ولا بد من تحرير الحضارة من المدنية التي تخنقها.
وبنبرات حارة يدعونا أونامونو إلى هجر هذه التربة العتيقة التي حجرت روحنا، ولنحول المدنية إلى حضارة؛ ولنبحث عن جزر عذراء خاوية، حبلى بالمستقبل، وطاهرة طهارة صمت التاريخ، جزر الحرية، ابنة الطاقة الخلاقة، الطاقة المتجهة دائا نحو المستقبل.
نعم، المستقبل، هذا الملكوت الأوحد للمثال!
ذلك تحليل موسع لهذا الفصل الذي عقده أونامونو عن الحضارة والمدنية، وفيه نلمح تأثره بالتفرقة المشهورة في فلسفة الحضارة عند المفكرين الألمان بين الحضارة وبين المدنية، والتي ستجد تحليلها الأدق، الذي يبلغ مرتبة وضع قانون عام لتطور الحضارة، عند أوزفلد اشبنجلر.
ولتقدير قيمة أفكار أونامونو هنا ينبغي ألا ننسى أنه كتب ها. المقال في مطلع القرن، وأن فلسفة التطور كما وضعها دارون واسبنسر كانت هي السائدة في تلك الفترة، وأن الأمل في إحداث ثورة جذرية في الانسانية كان هو الرجاء الأكبر عند المفكرين في نهاية القرن الماضي حين سادت فلسفة نيتشه في الانسان الأعلى، وصنع ابسن شخصية «براند» وانتشرت المذاهب الاجتماعية الداعية إلى بناء مجتمع جديد على أنقاض
المجتمع البورجوازي المسيطر انذاك، وتنازع موقف الانان اتجاهان قويان متعارضان في إدراكهما لمعاني الحرية والتقدم والمستوى اواجب للانسانية.
وأونامونو كان من دعاة التغيير الجذري للمجتمع في سبيل العلاء يقيمة الانسان . وكان منالحماسةللتقدم الانساني بحيث طغت العاطفة المشبوبة على الرؤية العقلية الواضحة . ورغم ذلك فاراؤه موحية، تنضح بأنبل العواطف الانانية النزعة، بال معفى الديناميكي لهذه العبارة، لأن أونامونو كان من دعاة النضال العالي في سبيل تحقيق لقيم الانسانية الرفيعة، ولم يستسلم للعواطف الهينة الرخيصة المستسلمة، ولا للمعاني الجوفاء التي لاتقوم علىساقين، لأنه لايهتم إلابماهوعيني: فهولا يهمه الانسانية، وإنما يهمه «الانسان العيني، المكون من لحم وعظم، الانسان الذي يولد ويتألم ويموت ويأكل ويشرب ويلعب وينام ويفكر ويتمنى، الانسان الذي يرى ويسمع، أخونا، حقا» كما قال في كتابه الرئيسي عن «الشعور الأسيان بالحياة» ولا عجب في ذلك، فهومن المتأثرين بأبي الوجودية كيركجور، ويعد من رواد الوجودية الملهمين.
المذهب والشخص
وتحت عنوان «الفلانية» (وكلمة «فلان» العربية انتقلت إلى الاسبانية كما هي) كتب أونامونو بحثا طويلا يتناول فيه موضوع المذهب والشخص : لماذا يؤثر الناس أن يتحدثوا عن الأشخاص بدلا من المذاهب، وأن ينسبوا إلى الأشخاص بدلا من الآراء، فيقال «الكنتية» بدلا من «النقدية الجديدة»، و«الهيجلية» يدلا من لمثالية المتعالية، ألخ، ويقال الماركسية بدلا من الاشتراكية العلمية، الخ وهكذا نجد غالباً نسبة المذاهب إلى شخص بدلا من نسبته إلى معنى أو فكرة، وكأن المذهب الفلسفي يساوي بقدر ما يكشف عن شخصية واضعه.
ولتفير هذه النزعة عند الناس يقول أونامونوإنه لا شيء ارسخ في الانسان من ميله إلى تشبيه كل شيء بالانان. وحتى أشد الناس حماسة في مكافحة هذه النزعة لا يستطيعون التخلص منها. إذ نجد مثلا أن معظم الذين يصيحون ضد الأضرار الناجمة عن نزعة التشبيه بالانسان في العلم يتحدثون باستمرار عن الاطراد والثبات في قوانين الطبيعة، دون أن يدركوا أن مثل هذا المبدأ هو مصادرة لا تنشأ ولا تأتي من التجربة، بل تستنبط من طريقتنا في العمل ومن شعورنا ومن ضروراتنا العملية. وكم قالوا وكرروا أن فكرة القوة وما شابهها من أفكار إنما نستمدها من شعورنا، ومن الطريقة التي بها نشعر بما نبذل من مجهود. ونحن نشعر بأنا «واحد» من خلال تغيراتنا وتنوعاتنا، ومن هتا نستنتج صفة الوحدة، ونبسطها على كل العة.
والسبب في ذلك اننا فيحاجة إلى ان نشبه بأنفنا القوى الخارجية، وأن نجد في سلوكها بعضاً من سلوكنا. ومن هنا كان نطور فكرة الألوهية في الضمير الانساني. وكما قال أوغطين في «الاعترافات» وهو يتكلم عن اسه:
قال: «من ذا الذي يدرك الله ويعبر عن الله؟ وما ذلك الذي يلتمع احيانا في عيون نفسي ويجعل قلبي يخفق رهبة ومحبة؟ إنع شيء مختلف كل الاختلاف عفي، ولهذا أتجمد خونا، وهو شيء هو بعينه ذاتي، ولهذا أشتعل حبا».
ومهما يكن من راينا في تصوير الالوهية فثم اسقاط من أنفثا على هذا التصوير:
إننا نتصور الله كانه مثكنا، لأن طرقه وأعماله شبيهة بأعمالنا وطرقنا، ومع ذلك فهي تختلف عنا كل الاختلاف: كاختلاف اللامتناهي عن المتناهي.
وهكذا نرى الضرورة التي تلجئ الانسان إلى تشبيه القوى العليا بالانسان، بل والتصور الأعلى للالوهية وحتى الذين ينكرون الألوهية يشبهون -عنعلم اوغير علم - الطبيعة والقانون والمادة بالإنسان. «فاللامعلوم» عند هربرت اسبنسر، ووالصورة» عند هيجل كلاهما يشبه بالقوة الانسانية. إن «الصورة» الهيجلية قوة إنسانية الثبه، وتشخيص،
فالفكرة ليست شيئا ذا فوا م جوهري بحيث يمكن أن تقوم بذاتها، بل هي تفترض دائم عقلا يتصورها. وحين نريد أن نجسم الافكار ونعطيها قيمة موضوعية عالية، كما فعل افلاطون. فلا د من البحث عن عقل عال فيه تنعقد هذه الأفكار، وهو الذييتصورها. ومذهبالنماذج لأولى أو الأفكار السابقة على الظواهر لا بد أن يفضي إلى النف الالهية، وإلى الروح اللامتاهية السرمدية التي ولدتها. والسبب فيهذا هوأن الفكرة كما قلنا ليست ذات قوام جوهري يستقل بنفسه في الوجود، إنها لا توجد إلا في العقل الذي يتصورها. والفكرة في ذاتها، مجردة عن العقل الذي يؤديها ويهبها الحرارة في العاطفة والاهتزاز في الارادة، هذه الفكرة شيء بارد، متحجر، عقيم. والفعل العقلي لا يحدث في الانسان دون نصيب من العاطفة وقدر من الارادة مهما يكن هذا القدر ضئيلا. واسبنسر، ومعه بعض علماء النف والاجتماع، كان يرى أن الافكار لا تقود العالم، وإن تقدم الانسانية مرجعه إلى العواطف، لا إلى الا كار.
لكن أونامونو يرى، على العكس من ذلك، أن تقدم الجنس البشري إنما يرجع إلى الناس، ومن توالى من الناس بعضهم وراء بعض وبعضهم مختلف عن بعض، وأن العالم لا ينقاد بالافكار ولا بالعراطف بل بالناس، الناس بافكارهم وعواطفهم وافعالهم.
وقد يعترض على هذا فيقال إنه إذا كان من المؤكد أن الناس هم الذين يقودون العالم ويحددون تقدم النوع الانساني، فاهم إنما يفعلون ذلك بفضل أفكارهم، بل ومقودين بأفكارهم . ويجيب أونامونو عن هذا الاعتراض قائلا إن ثمة اعتباراً ينبغي ها هنا ألا نغفله وهو: الاختلاف الهائل بين ما يسمى عادة باسم الفكرة: أي شيء يمكن تسجيله على الورق والإيحاء به إلى شخص آخر بعيد، وبين الفكرة التي تحيا وتنمو في عقل إنسان غيرمتفصلة عن هذا العقل. وهذا العقل بدوره لا بد أن يحتويه فرد له جم ويسري فيه الدم والحياة.
إننا نعرف الناس اكثر بما نعرف الأفكار ولهذا نحن نثق فيهم اكثر من ثقتنابالأفكار. فالانان هو دائماً هو هو ، مع تغيرات ضنيلة جداً، أما الفكرة الواحدة فلا تظل داثماً هي هي. إنها ليست دائماً هيهي لأنه إذا كانت الحياةمعناها لفعل ٠ وإذا لم يوجد إلا ما يفعل، وما يوجد لا يحيا إلا بقدر ما يفعل، فإن الفكرة الواحدة، والتصور المحدد مرتين بنفس الطريقة يحدث في عقلين مختلفين نتائج مختلفة. ذلك لأن فردين، هما أ، ب، في ظروف متماثلة يفعلان بطريقة مختلفة، وكلاهما يفسر ويبرر لنفسه ولغيره افعالهما المختلفة بواسطة نفس الفكرة، ولتكن ج. فالفرد أ يند فعله إلى الفكرة ج، والفرد ب يند الفعل المضاد إلى نغس الفكرة ج، وكل منهما يتهم الأخر بعدم الاتساق المنطفي. وأكثر من هذ نجد أن الفرد «ا» يفر ويبرر سلوكه ايوم بالفكرة «أ» ولكنه غدا يفسر سلوكه ويبرره بالفكرة د. وهكذا نجد أن الفكرة ليست هي التي تقود الانان، بل الانان هو الذي يستعين بالفكرة ليبرر ملكه، وفي سبيل ذلك لا يتردد في أن يغير أفكاره لتتلاءم مع تغير أنواع سلوكه .
إن الأفكار، حتى أبعدها عن التجربة، لا تتبلرر إلا إذا تجسدت في هذا الانسان أوذاك . وبهذه المناسبة يذكر أ ونامونو مظاهر التقدي التي أحيط بها في ألمانيا تشييع جنازة فردينند لاسال (١٨٢٥ - ١٨٦٤) الزعيم الاشتراكي الشهير، الذي اشترك في ثورة سنة ١٨٤٨، وفيها التقى بكارل ماركس، وأنشا في سنة ١٨٦٣ الهيئة العامة للعمال الألمان التي عرفت فيما بعد باسم حزب الدبمقراطية الاشتراكية . وقد قتل في مبارزة سببها مسألة غرامية. يقول اونامونو انه من الغريب أن الفوضويين، بينما يحتجون ضد عبادة الأشخاص هذه، فاهم ينشرون على اوسع نطاق صور باكونين (١٨١٤ - ١٨٧٦) الفوضوي الروسي المعروف، وصور ا لامير كرو بوتكين (١٨٤٢-١٩٢) الزعيم الفوضوي الروسي الآخر، وغيرهما وأقاموا لهما نوعا من العبادة.
ولكن الأفكار لا تولد غير الافكار، والناس لا يولدون غير الناس، وإن كانت الافكار لا يمكن أن تولد الأفكار إلا بواسطة الناس، والناس لا يمكنهم أن يصنعوا أناسا بمعنى الكلمة إلا بواسطة الأفكار.
ولكن انامونو لا يريد أن يفرض هذا الرأي فرضاً، لأنه يرى أن للرأي المضاد القائل بأن الناس هم الذين ينبغي ان يكونوا في خدمة الأفكار- نقول انه يرى لهذا الرأي وجاهته أيضاً، فيقرر أنه ليس ثم خلاف حقيقي بين كلا الرأيين، وإنما يرجع مناط الخلاف إلى التفضيل بين قيمتين، وفي مثل هذه الأمور نجد العاطفة لا الاستدلال لمنطقي، هي التي تتحكم، وثم عوامل عملية هي التي تحمل على تفضيل اناس على الأفكار او العكس. فمن الناس من يعتقدون أنهم يفهمون الأفكار خيراً من الناس ويشعرون معها بطمأنينة الأشخاص الذين يعرفونهم، ويستريبون في كل مذهب. وأنصار تفضيل الأفكار يلومون أولئك الذين يفضلون الناس على قلة استعدادهم لفهم الأفكار وتقديرهم، ويستندون في هذا إلى القول بأن الانسان كائن لا يستحق إلا القليل من الثقة ومن المستحيل الاحاطة به وفهمه تماما. ولكن أونامونو يرى أن المعرفة التامة بمدى وقيمة المذهب أشد استحالة .
وهكذا ينتهي أونامونو إلى القول بأن الأشخاص لا الأفكار، هم الذين يقودون الناس والعالم. وهذا هو الذي يفسر نسبة المذاهب إلى أشخاص، لا إلى معان وأفكار.
ملاء الملاء
وننتقل إلى بحث اخر عنوانه يعارض العبارة المشهوزة الواردة في سفر «الجامعة» في الكتاب المقدس والتي تقول: «باطل الأباطيل وكل شيء باطل».
وأونامونويستبدل بها عبارة مضادة هي : «ملاء الملاءات وكل شيء ملاء».
وهو في هذا البحث يتناول روح اليأس التي تستولي على بعض الناس لخيبة آمالهم، عزاءوسلوىلأنفهم، وهم الذين يقولون : «لماذا تهتم بالسعي للظفر باسم ومكانة، ما دمت لن تعيش على الأرض غير بضعة أيام، والأرضنفها لن تعيش غير بضعة أيام من أيام الزمان الكلي؟ ستأقي لحظة يغطي النسيان فيها على اسم شكسبير واسم اخمل الناس ذكرا.
وهذه الرغبة في الشهرة وهذم النزعة إلى اليطرة إلى اي سعادة حقيقية تقودان؟ . .. »
مثل هذه العبارات تطن طوال التاريخ كطنين الجدجد في الليل ابان الصيف، أوهديرالأمواج على شاطئ البحر، بغير انقطاع. ورغم ان بعض الأصوات القوية العالية تخنق هذه الشكاة، المنبعثة من روح الانحلال، فإنها مستمرة ابدا، كضوضاء البحر وأمواجه تتكسر على الصخور
لكن إذا سمعت إنسانا يشكوهذه الشكاة فلا تشكن في انه حلم أحيانا بالمجد، وربما لا يزال يحلم به، المجد : هذا الظل للخلود. أما الناس البسطاء فلا تصدر منهم ابدا مثل هذه الشكاة.والثعراء وعشاق المجد هم الذين طالما تغنوا بعبث الحياة الدي.
وأونامونو ينصحنا إذا سمعنا هذه الشكاة أن نعارضها بهذه العبارة: «ملاء الملاءات، وكل شيء ملاء» نعم! ابحث عن روحك بذراعي الروح نفسها، وعانقها! وضمها إليك، واشعر بها جوهرية حارة، فإذا اشتعلت بلهيبها فقل وأنت ملي، بالايمان بالحياة التي لا تنتهي أبدا: ٠ ملاء املاءات، وكل شيء ملاءي.
وعلى المرء أن يسعى للائه، يسعى إلى القوة أو الظفر بالشهرة، فإن سمع أحد رفاقه إبان هذا السعي ينشده النشيد اليائعن باطل الأباطيل، فعليه أن يحس في نشيده أنه مجرد موجة عابرة زائلة، وأن هذا الرجل لم يمس روح نفسه ينفسه، وأنه لا يملك ذاته تمام الملك، ويعوره عيان جوهره.
نعم عيان الجوهر- هذه هي الكلمة التي ينبغي أن تكون شارة سعي الانسان. أي أن يسعى لإدراك جوهرذاته، يمتلك هذا الجوهر عن وعي بعد تحقيق ما تستطيع تحقيقه من ممتلكات يعج بها جوهره.
إن العبارة: ملاء الملاءات، وكل شيء ملاء» هي صيحةإلسرور،صيحة التحرروالاستمرار، ولا يمكن ال وصول إلى النطق بها إلا بعناف ذراع الروح لذراع الروح، أي بالشعور الروحي التام بجوهر الانسان، رمن خلال سخرية البعض، وحفد الآخربن، راحتقارهؤلاء وعدم اكتراث معظم الاس.
وعلينا أن تدرك ذوا تنا بأن نحب ذواتنا أولا، وحب ذواتنا هو الشرط لحب الآخرين، لأننا لا نعتقد في رجود الأخرين، إلا إذا اعتقدنا في وجود ذواتنا أولا إن الانسان الذي يؤمن حقا بوجوده الخاص لا بدساعإلى الايمان بالغير، لأنه مضطرإلى ربط ذاته بالآخرين، ووصلها بالغير، وتحقيق ذاته من تحلال الغ.
لكن روح الانحلال، وهي ترفع راية كتب عليها «باطل لاباطيل» تعود إلى الهجوم وتقول: «إذا كنت لا تموت كلية، وكنت تبقى جوهريا، ما دام هذا هوما تؤمن به، فلماذا تريد ان تترك بعد موتك اسما؟ إذا ارتحلت بجوهرك فلماذا تريد أن تترك ظلك من ورائك؟».
لكنماعلى الانسان إلا ان يتابع سيره،ولايلتفت، لأن هذه الرغبة في ترك أثر من بعده هي الازدهار الطبيعي للايمان بوجوده. وكل موجود بوجوده الخاص يؤمل في أن بترك أثره في الموجودات الأخرى. لقد وجد شكسبير (أو شخص الف المسرحيات التي تحمل اسمه) رقد عبر عن نفسه في مرحياته، ولا يزال يعيش فيها إلى الآن. وكل الذين يقرأونه، على مر العصرر وفي سائر أنحاءالأرض، يتلقون في نفوسهم روح شكسبير، حتى لوكان ذلك على هيئة بذرةغامضة. ولأن كل الناس الذين تلقوه وأولئك الذين لا يزالون يتلقونه ذابوا في روح واحدة، تبعث شكسبير الأمس فيهم ، وقد اكتمل وتجلى . وشكبير الجديد هذا الذي عاش بأعماله في مختلف البلدان سيغدو لبحيا ويملاً جوهر شكسبير الأمس واليوم . إن كلا منا ينتقل في أعماله وانتاجه.
صحيح ان الفرد الذي يؤمن بانحلال ذاته ولا يعتقد في رجوده الجوهري يمكنه أن بعيش، بل وأن ينتج اعمالا ذات قيمة، لكن لا يمكن تصور شعب بأكمله تسود فيه هذه الروح، شعب جدير بالحياة، إن مثل هذا الشعب سيكون شعبا من العبيد.
وهكذا يؤكد أونامونوروح الأمل المتواصل في الانسان، وفي عمله في الدنيا وفي جرهره المستمر في اعقاب ه او أعماله ونتاجه، ويحمل على صيحات اليأس والقنوط التي تشيح بوجهها عن العالم، مستسلمة للجانب السلبي من الوجود.
إن الحياة عنده أسيانة، ولكن اساها ينبغي الا يذفع بالمرء إلى إنكارها وإلى اليأس من قيمة استمرارها وعلى المرء، من خلال الآلام والمصاعب وألوان المرارة، ان يستثرف إلى تعميق الشعور بالذات، وأن يبلغ ملاء الملاءات، ويصلإلى الامتلاء الكامل حينما يرقد قلبه رقدته لسرمدية في الراحة اليمنى للألوهية.
أسلوبه الفكري
«أودعت في كتبي حرارة وحياة، حتى تقرأ. وأودعت فيها وجدانا: وجدان الكراهية، والازدرا، ووجدان التحقير مرات عديدة، هذا امر لا أنكره، لكن هل الحرارة لا تصدر !لا عما يمونه الحب، وفي معظم الأحوال هذا الحب ليس إ لا ثرثرة ورخاوة، أو ضعفاً في العقل؟ نعم لقد وضعت فيها ايضاً الوان حبى، حبى أنا، تلك الألوان من الحب التي تجعلني اغضب، وتجعلي حاداً ، قلباً، أميل إلى لازدراء. نعم، بالحب اجعل نفي غير محبوب، بحب اكبر وأصفى من ذلك الحب الذي يعى لقاطف خداع وبه ينصحني بعض الناس».
هكذا كانت كتابات اونامونو: مثيرة حافلة بالمثاعر، وذلك لأنه كان شديد الاهتمام، لا يعرف عدم الاكتراث إلى قلبه وعقله سيلا -
وهو يرى ان ثمة سندا ومستردعا من الحب في قاع كثبر من الوان الكراهية. وكثيرمن الناس يكره بعضهم بعضا، او بالأحرى يعتقدون ذلك لأنهم يحترم بعضهم بعفا، ويقدر بعضهم بعضا، بل ريحب بعضهم بعضا.
«ونحن لا نكره، ولا نحب إلا ما يشابهنا من بعض لنواحي، على نحو أو آخر، أما ما هو مضاد لنا تماما أو غتلف عنا اختلافا مطلقا فلا يستحق حبنا ولا كراهيتنا، بل عدم اكتراثنا. إذ جرت العادة بأن ما اكرهه لدى الغير، اكرهه لأفي شعرت به في نفي. أنه حدي، وكبرياثي، وتهيجي وجشعي هي التي تجعلني اكره الكبرياء، والحسد، والتهيج، والجشع عند الأخرين ٠ وهكذا مجدث أن ما يربط الحب يالمحب والمحبوب هو نفس الأمر الذي يربط الكره بالكاره والمكروه، وعلى نحو ليس أقل قوة ودواما» .
وإذن فما تنضح به كتاباته أحيانا من كراهية إنما تصدر عن حب. وما في كتاباته من حدة قد مارسه هوعلى نفسه , ولهذا يقول: «أنا السيف وحجر الطاحون، وأنا أرهف السيف في نفسي».
والحب العنيف مصدره ايضاً أنه ليس رسول سلام بين الناس . وفي هذا يقول لأحد اصدقائه : «يا صديقي، إن الله لم يبعثني في الدنيا رسولا للسلام ولا من أجل حصاد التعاطف، بل أرسلني لأبذرأنواع القلق والمضايقات، واحتمال الكراهية. وهذم الكراهية هي ثمن نجاتي». ذلك لأن السلام، السلام الروحي، هوفي العادة كذب وسبات، وهو لا يريد ان يعيش في سلام لا مع الناس ولا مع نفسه. إنه يطلب الحرب، الحرب في داخل نفسه. وشعاره هو: «الحقيقة قبل السلام!».
وقد ظل اونامونو في حرب مستمرة مع نفسه ومع خصومه : فكان كثير المساجلات مع الكتاب، وكان يرسل سهامه الحادة إلى كل مالا يرضى عنه، خصوصا وقد شهد مصرع الامبراطورية الاسبانية سنة ١٨٩٨ ، وهوحادث كان له أبلغ الأثر في نفوس كل الأسبان، والمفكرين الأسبان بخاصة فدفع إلى إراقة بحارمن المداد حول مصيرأسبانيا، وإمكانيات تجديدها، وأسباب انهيارها، وما يمكن اقتراحه في سبيل إعادة مكانتها، وماهو الأسبافي الأصيل، وماموضع أسبانيا ين أوربا وأفريقية لأغها معقد الصلة بينالاثنتين. وقددخلأونامونوحلبة هذه المعركة بجعبة حافلة بالسلاح والذخيرة، وراح يطلق الرصاص ذات اليمين وذات اليسار، في تناقض بارزحينا، ورغبة صريحة في المفارقة والادهاش حينا اخر. وحتى حين كان يسكت، لفترات قصيرة جداً ، كان يفكر بصوت عال كما قال : «إن من الناس من يفكرون بصوت عال، وأنا واحد من هؤلاء . وحين أسكت احلم، لكني لا أفكر وأقول باللسان ما أقوله باسم».
ولنأخذ مشكلة من هذه المشاكل التي صال فيها أونامونو كنموذج لطريقة تفكيره ومساجلاته، وهي مشكلة خطيرة في التاريخ الأسباني الحديث لأن أسبانيا، خصوصا في القرن السادس عشر، كانت في مواجهة أوربا كلها تقريبا. ومن هنا شاع القول بأن أفريقية تبدأ عند جبال البرانس (الفاصلة بين فرنسا وأسبانيا) وقامت امعركة بين دعاة الأوربية ودعاة الأسبانية، وكان الأولون يقولون: «ينبغي أن نكون - نحن الأسبان- أوربيين» و« ينبغي ان نكون حديثين» و«يجب أن نصبح عصريين»، و«لابد من مسايرة العصر» . والخلاصة أن دعواهم هي «الأوربية» و«العصرية».
ودخل أونامونو المعركة بمقال طويل نشره في ديمبر سنة ١٩٠٦ قال فيه إن كلمة «اوري» تعبر عن فكرة غامضة جداً ، غامضة كل الغموض. وأشد منها غموضا كلمة «عصري». وقد يبدوأننا لوجمعنا بين الكلمتين في العبارة «أوري عصري» لكان ذلك اوضح. ولكن الواقع ان ذلك سيزيد لامر غموضا على غموض.
وفي مناقشته لا يفزعه أن يقال عنه إنه لا يستخدم المنهج العلمي المستند إلى المنطق والبراهين العقلية والوثائق، ويقرر أنه لا يريد منهجا غير الانفعال الوجداني : «لا اريد منهجا اخر غيرمنهج الوجدان المنفعل، وإذا انتفض صدري من التقززأو الكراهية أو الرحمة أو الافتقار، فاض القلب وتكلم الفم وتدفقت الكلمات كيما تشاء» .
ثم يتساءل: «هل انا اوربي؟ هل انا عصري؟» فيجيب ضميره :
«كلا! لست أوربيا، أوربيا بمعنى الكلمة، كلا لست عصريا، عصريا بمعفى الكلمة». ويتابع فيقول:
«وعدم شعورك بأنك لست أوربيا ولا عصريا، أفلا يسلب منك صفة الأسباني؟ وهل نحن الأسبان لا نقبل الرد إلى الأوربية والعصرية؟ وفي هذه الحالة، أفلا نجاة لنا؟ الا توجد حياة غير الحياة العصرية والأوربية؟ وحضارة اخرى؟ ... أما عن نفسي (أي اونامونو) فيجب أن اعترف أنني كلما ازددت في الأمر تأملا، اكتشفت أن روحي تشعر بكراهية شديدة لكل ما يعد مبادى، موجهة للروح الأوربية الحديثة، وللسنة العلمية اليوم بمناهجها واتجاهاتبا. إن اناس يتحدثون كثيراً عن شيئين، هما : العلم والحياة. وكلاهما بغيض إلى نفسي - هكذا دفي أن أعترف».
ويصرح بأنه حين كان من انصار اسبنسر كان مولعا بالعلم. لكنه اكتشف فيما بعد أنه كان على خطأ في هذا الولع، كخطأ أولئك الذين يعتقدون أنهم سعداء، وهم في الواقع ليسوا كذلك. «كلا، لم أكن أدا عاشقا للعلم، ذلك لأفي كنت أبحث دائما عن شيء وراءه» فإن سأله سائل : وماذا تريد أن تضع في مقابلة العلم؟ اجاب: «الجهل، لكن هذا ليس بالأمر المزكد. إن في وسعي ان أقول مع الواعظ، ابن داود (سليمان)، ملك اورشليم، إن ما يزيد علماً يزيد الما، ونفس النهاية تنتظر العالم والجاهل، لكن لا، يى لأمر هكذا. ولت في حاجة إلى اختراع كلمة ,عبر بها عا يقابل العلم، لأن هذه الكلمة موجودة، ألا وهي : الحكمة. لكنك قد تتساءل: وهل الحكمة تتعارض مع العلم؟ وأنا-مقودا بمنهجي الخيالي، وبوجداي المفعل الروحي وبكراهباني العميقة وانجذاباقي الباطنة - اجيب فأقول: نعم، هناك تعارض: إن العلم ينتزع الحكمة من الناس ويحولهم عادة إلى أشباح عحملة بالمعلومات .
تلك هي الفكرة الأولى. العلم. والفكرة الثانية وهي الحياة لها ايضاً ما يقالها، وهو الموت. وهذا التقابل يفيد في ايضاح التقابل الأول. فإن نسبة الحكمة إلى العلم كنسبة الموت إلى الحياة، أو إذا شئنا قلنا إن الحكمة نسبتها إلى الموت كنسبة العلم إلى الحياة. فموضوع العلم هو الحياة، وموضوع الحكمة هو الموت. العلم يقول: «يجب أن نحيا» ويسعى باحثا عن الوسائل المؤدية إلى إطالة الحياة وتيسيرها، وتطويلها، وتوسيعها، وتخفيفها، وجعلها مقبولة حلوة. أما الحكمة فتقول: «يجب ان نموت» وتسعى باحثة عن الوسائل المؤدية إلى إعدادنا للمرت على خير نحو. ولقد قال اسبينوزا في القضية رقم ٦٧ من القم الرابع من كتاب «الأخلاق» : «إن الانسان الحر لا يفكر في الموت أبداً، وحكمته ليست في تأمل الموت بل في تأمل الحياة» . ولكن أونامونويرفض قول اسبينوزا هذا بكل شدة، لأن مثل هذه الحكمة لن تكون حكمة بعد، بل ستكون علما، ومثل هذا الرجل الحر من كل قلق، ومن الهم، ومن نظرة ابي الهول لن يكون رجلا ويمضي أونامونو ي مفارقاته هذه فيقول: «وها هي ذي فكرة أخرى لا أحبها مثل فكرقي الحياة والعلم، وهي فكرة الحرية فليس ثم حرية حقبقية إلا حرية الموت! » .
ويتساءل بعد هذا : لكن إلى ماذا يسعى أولثك الذين يتعلقون بالعلم والحياة والحرية، مديرين ظهورهم للحكمة والموت؟ إنهم يسعون إلى السعادة. فالأوربي العصري يأقي إلى ادنيا سعيا وراء السعادة لنفسه والأخرين، ويعتقد أن واجب الانان أن يسعى كي يكون سعيداً.
ولكن اونامونو لا يقر ابداً بهذاالمبداً: مبدأ السعادة والبحث عن السعادة وأن غاية الانسان العصري هي السعادة، ويوف في مقال ذلك محرجة اعتباطية كما سماها: اعتباطية لأنه، كما قال، ا يستطيع أن يبرهن عليها بالمنطق بل تمليها عليه العاطفة التي يفيض بها قلبه، لا عقله الذي في رأسه
وهذه المحرجة تقول: إما العادة، أو الحب. فإذا شئت الواحد فعليك أن تتخلى عن الآخر. إن الحب يقتل السعادة، والسعادة بدورها تقتل الحب. - وهذه معان طالما عبر عنها الصوفية الأسبان، الذين يرى فيهم أونامونو الفلاسفة الحقيقيين الوحيدين.
وهو يريد أن يخلص من هذا إلى القول بأن المثل الأعلى للأسباني يخالف هذا المبدأ الذي اتخذه الأوربي الحديث محور حياته. ومن هنا كان الأسبان متمردين على الثقافة الأوربية الحديثة، ولا يرى أونامونو في هذا الموفف أية غضاضة، وما على الأسبان من لوم إذا شاءوا أن يعيشوا وأن يموتوا خارج هذه الثقافة (أو الحضارة) الأوربية.
وهو لا يقصد من هذا إلى الدعوة إلى الجهل والهمجية وعدم الفعل. كلا، «فإن ثم طرقا لاغاء الروح، والسمويها، وتوسيع الآفاق أمامها، وإشاعة النبل فيه والالهية دون اللجوء إلى وساتل هذه الحضارة الأوربية . وأعتقد أن في استطاعتنا أن نمارس وننميحكمتنا دون أن ننظر إلى العلم إلا كوسيلة، مع اتخاذ الحيطة اللازمة حتى لا تفسد روحنا. وكما أن حب الموت والشعور بأن الموت هو مبدأ حياتنا الحقة يبغي اا يحملانا على التخلي العنيف عن الحياة، أي على الانتحار، - لأن الحياة إعداد للموت، والموت يكون أفضل بقدر ما يكون الاعداد له أحن - فكذلك حب الحكمة