لامعيارية
اللامعيارية أو الأنومي (بالإنجليزية: Anomie) هي غياب أو انهيار أو اختلاط أو صراع فى معايير المجتمع، وهي الحالة التي تقل فيها قدرة المجتمع على التوجيه الأخلاقي لأفراده. وينتشر مصطلح الأنوميا Anomia عبر الكتابات اليونانية الكلاسيكية حيث تشتق منه الصفة "أنوموس "Anomos" والتى تعنى "بدون قانون" ومنذ ذلك الحين اكتسب المفهوم معنى سلبياً، واتسع نطاق استخدامه للدلالة على الانهيار والكارثة. وفى علم الاجتماع يرتبط هذا المصطلح فى أغلب الأحوال بأعمال إميل دوركليم وروبرت ميرتون. استُخدم هذا المصطلح لأول مرة في علم الاجتماع من قبل إميل دوركايم، الذي وصف به تضاؤل التزام الناس بالمعايير إلى حدّ يتعطّل معه عملها؛ فتفضي بالمجتمع إلى الفوضى، والصراع التناحري، وارتفاع معدلات الجريمة والانحراف والانتحار، وقد تؤدّي إلى التفسّخ والانحلال.
إميل دوركايم
اللامعيارية هي حالة عرفها إميل دوركايم (1858-1917)، وترتبط ارتباطًا وثيقًا بفكرته عن الضمير الجمعي. يمثل الضمير الجماعي، بالنسبة لدوركايم، الأخلاق المشتركة، أو بشكل أكثر تحديدًا، التفاهمات والمعتقدات والمعايير والقيم المشتركة. وكان الضمير الجماعي راسخًا وقوة ملزمة فعالة على الناس في التضامن الميكانيكي، لكنه أصبح ضعيفًا مع الانتقال إلى التضامن العضوي.
عندما تضعف هذه الأخلاق المشتركة، فإن أحد الأشياء التي تحدث هو أن الناس يصبحون غير واضحين فيما يتعلق بالسلوك المناسب وغير المناسب؛ ويشعرون بحالة من انعدام المعايير أو الجذور. وبعبارة أخرى، فإن هذا الافتقار إلى المبادئ التوجيهية الأخلاقية الواضحة يترك الناس مع شعور باللامعيارية. وبالتالي، فإن اللامعيارية هو حالة ترتبط بالتضامن العضوي وتراجع قوة الضمير الجماعي.
وفى كتابات دوركايم يحتل المفهوم مكانة بارزة فى كتابيه "تقسيم العمل الاجتماعي" و"الاتتحار". ففى كتاب تقسيم العمل يرى دوركايم أن اللامعيارية تنشأ نتيجة لتحول المجتمع من حالة التضامن الآلى إلى التضامن العضوى وعادة ما يفضى تعاظم تقسيم العمل إلى تحقيق التضامن الاجتماعى عن طريق التضامن العضوي، ولكن حيث يكون معدل التغير الاقتصادى بالغ السرعة بما لا يسمح للنظام الأخلاقى أن يجارى التباين المتزايد ونمو التخصص، فإنه ينتج عن ذلك تقسيم غير طبيعى أو باثولوجى (مرضى) للعمل فى المجتمع.
ويمكن العثور على تطبيق دوركايم الأكثر عملية لمفهوم اللامعيارية في دراسته الكلاسيكية للانتحار، حيث تعد حالة اللامعيارية أحد الأسباب الأربعة للانتحار التى حددها دروكايم فى دراسته الكلاسيكية، وهي - الأناني والإيثاري واللامعياري والقدري - والتي تتحدد على حسب مستوى اندماج الفرد في المجتمع وما يخضع له من تنظيم من قبل المجتمع.
يحدث الاتتحار الأنومى أو اللامعيارى في الغالب فى مجتمعات التضامن العضوى عندما تتعطل القدرة التنظيمية للمجتمع مع انخفاض أو تراجع مستوى تنظيم المجتمع للفرد.، وبخاصة فى أوقات الكساد أو الرواج الاقتصادى، حيث يسود نوع من الاسترخاء فى القواعد الاقتصادية (ومن المحتمل أن يحدث هذا الاسترخاء فى المعايير أيضا). وفى مثل هذه الفترات يكون الناس أقل ارتباطا بالنظام المجتمعى، ويضعف خلال مثل هذه الأوقات الضمير الجماعي، أو مستوى الانضباط الأخلاقي الجماعي، ويُسمح لعواطف الفرد ببساطة أن تنطلق بحرية دون قيود تذكر. ثم تأتي هذه المشاعر الفردية لتتحكم في حياة الأفراد، مما يؤدي بهم إلى مجموعة واسعة من الأفعال المدمرة، بما في ذلك الانتحار، والتي ما كان لهم أن يرتكبونها في ظروف أخرى.
عند هذه اللحظة تكاد تصبح اللامعيارية حالة نفسية لعدم النظام وفقدان المعنى، أكثر منها تعبيرا عن الخصائص البنائية للمجتمع والتظام الاجتماعى اللذين قصدها دوركايم فى الأصل. ومع ذلك، يمكن القول، بأنه لما كان النموذج الأساس للرغبات الإنسانية عند دوركايم يختلف عن غريزة الحيوان، نجده يذهب إلى القول بأن الرغبات الأساسية لا تنطوى على ألية للتقييد الذاتى، ومن ثم فإنها لا يمكن أن تقيد إلا من خلال تنظيمها اجتماعيا، وهو ما يتسق مع القول بان الحالة النفسية ترتبط بالخصائص البنائية ومن ثم فهى متميزة عنها وعادة ما تتم المقابلة بين مفهوم اللامعيارية وفكرة ماركس عن الاغتراب.
يمكن أن يؤدي حدث سلبي، مثل الكساد الاقتصادي، إلى ارتفاع مستويات اللامعيارية. فعلى سبيل المثال، من الواضح أن فقدان المرء لوظيفته لفترة طويلة من الزمن، في ظل وجود احتمال ضئيل لاستعادتها أو الالتحاق بوظيفة مثلها، يمكن أن يؤدي إلى اللامعيارية. ومع ذلك، من المهم ملاحظة أن اللامعيارية لا تتسبب بها الأحداث السلبية فقط، بل يمكن أن تؤدي الأحداث "الإيجابية" أيضًا إلى شعور الأفراد الذين يختبرونها بانعدام المعايير. على سبيل المثال، يمكن للطفرة الاقتصادية أيضًا أن تغير بشكل جذري إحساس المرء بما هو طبيعي، وبالتالي تترك المرء يكافح للتكيف مع نمط حياة جديد ومجموعة جديدة من المعايير. وبالتالي، نظرًا لأن هذه الأوقات تكون جيدة للغاية، فقد يغير المرء مكان عمله أو الوظيفة التي عمل بها أو حتى مساره المهني بالكامل، ويمكن أن تؤدي هذه التغييرات أيضًا إلى اللامعيارية.
نظر دوركايم إلى اللامعيارية، والمشاكل الأخرى في العالم الحديث، على أنها أمراض ليست دائمة، بل تشوهات مؤقتة في العالم الاجتماعي. وعلى عكس الموقف الثوري الذي اتخذه العديد من المنظرين الأكثر راديكالية مثل ماركس، كان دوركايم الأكثر الأكثر محافظة مهتمًا ب "علاج" المجتمع أكثر من اهتمامه بإحداث ثورة فيه. ودفع هذا الدور كمصلح اجتماعي دوركايم إلى اقتراح عدد من الحلول المحتملة للامعيارية بوصفها حالة اجتماعية مرضية. وأعرب عن اعتقاده بأن أهم هذه الحلول يرتبط بالدور الذي ينبغي أن تؤديه الرابطات المهنية، حيث رأى أن هذه الرابطات قادرة على جمع العمال والمديرين والملاك معًا في مجموعة واحدة موحدة، وبالتالي المساعدة في استعادة الحس الجماعي بالأخلاق المشتركة. وهذا التعزيز للضمير الجماعي من شأنه أن يؤدي إلى تراجع حالة اللامعيارية وبالتالي توفير "علاج" محتمل.
روبرت ميرتون
من بين المنظرين الاجتماعيين البارزين الآخرين الذين استخدموا مفهوم اللامعيارية وطوره كان روبرت ميرتون (1910-2003)، الذي قدم مساهمة كبيرة في النهج الوظيفي البنيوي الذي التزم به من خلال توسيع فكرة الوظائف لتشمل أيضًا الاختلالات الوظيفية (العواقب السلبية). وأكتسبت فكرة الاختلالات الوظيفية أهمية خاصة بالنسبة لميرتون في تحليله للعلاقة بين الثقافة والبنية واللامعيارية، حيث عرف ميرتون الثقافة بنفس الطريقة التي عرف بها دوركايم الضمير الجماعي، على أنها نظام من المعايير والقيم الموجودة في المجتمع والمشتركة بين أعضائه وتحكم سلوكهم. وعرف البنية الاجتماعية بأنها النظام المنسق للعلاقات الاجتماعية في اللامعيارية التي يشارك فيها أعضاء مجتمع معين. بالإضافة إلى ذلك، كان ميرتون مهتمًا بالعلاقة بين الغايات المحددة ثقافيًا والوسائل المحددة بنيويًا لتلك الغايات. بالنسبة لميرتون، تظهر اللامعيارية عندما تجعل الوسائل المتاحة للناس من الصعب أو المستحيل عليهم تحقيق الأهداف الثقافية التي حددها المجتمع. وغالبًا ما يؤدي ذلك إلى مستوى أعلى من الانحراف بين الأعضاء لأنهم يضطرون إلى إيجاد وسائل بديلة (غير قانونية في بعض الأحيان) لتحقيق الأهداف المحددة ثقافيًا. وبهذه الطريقة، فإن اللامعيارية، التي يمثله الانفصال بين البنيات الاجتماعية والأهداف الثقافية، تمثل اختلالاً وظيفيًا بالنسبة للمجتمع.
استطاعت أعمال روبرت ميرتون أن تغير من معنى المفهوم إلى حد ما. فقد أراد ميرتون أن يقدم تفسيراً سوسيولوجيا للانحراف بتوضيح الكيفية التى يمارس بها كل من البناء الاجتماعى والقيم الثقافية ضغوطاً محددة لفرض الالتزام على الأفراد، فى ذات الوقت الذى يخلقان فيه انفصالاً وتناقضاً مما يجعل الانحراف نتيجة لازمة. وفى مقاله الكلاسيكى حول "البناء الاجتماعي واللامعيارية" المنشور فى مؤلفه "النظرية الاجتماعية والبناء الاجتماعي" (الصادر عام 1957)، يناقش ميرتون الحلم الأمربكى بالانتقال من "الكوخ إلى البيت الأبيض" والمجتمع المفتوح بحق، حيث تسود فرص هائلة للحراك الاجتماعى الى أعلى وإمكانية تحقيق الثراء المالي، ويميز هذه الأهداف الئقافية للنجاح الاقتصادي عن الوسائل البنائية المشروعة (الإنجاز التعليمى والعمل الدءوب) التى يمكن من خلالها تحقيق هذه الأهداف. وقى رأى ميرتون أن نسق القيم الأمريكي يكاد يخلق لدى الناس سعياً عاماً حثيثاً للنجاح، ويحدد عدداً من الوسائل المقبولة معيارياً لضمان الوصول إليه، و لكن بنية الموارد الاقتصادية فى هذا المجتمع تمكن جماعات وطبقات محددة ومتميزة من النجاح. ويفضى هذا إلى خلق شعور بالحرمان بين كثرة من الأفراد المحرومين، الذين يلجأون نتيجة لذلك إلى العديد من أشكال الانحراف الفردية، حيث تتيح هذه الأشكال وسائل بديلة لتحقيق ذات الأهداف المرغوبة. بعبارة أخرى، فاللامعيارية تنشأ نتيجة لفقدان الترابط بين الوسائل والغايات. والشخص المتوافق حقاً هو ذلك الذى يمكنه النفاذ إلى كل من الوسائل المشروعة والأهداف المقبولة. ومع ذلك، فإن ميرتون فى تنميطه الذائع الصيت لأنماط التوافق الفردى مع اللامعيارية، يناقش عمليات التجديد (التمسك بالأهداف مع رفض الوسائل المشروعة، كما هو الحال فى السرقة)؛ والنزعة الإنسحابية Retreatism (رفض الغايات والوسائل أو الانسحاب من المجتمع، كما هو الحال فى حالة تعاطى المخدرات)، والطقوسية حيث يصبح الالتزام بالوسائل المشروعة غاية فى حد ذاته كما هو شان البيروقراطى الملتزم حرفيا بالقواعد (عبد الروتين)؛ وأخيرا التمرد (حيث يتم رفض كل من الوسائل والغايات واستبدالهما بوسائل وغايات جديدة، كما هو الحال فى الراديكالية السياسية).
وقد لقيت نظرية ميرتون الكثير من النقد لأنها افترضت وجود قدر كبير من الامتثال أو الإجماع، وضخمت من درجة التكامل الاجتماعى، كما ضخمت من درجة الالتزام الاجتماعى للأشخاص. ومع ذلك، فقد مارست نظريته تأثيرا واسعا وبخاصة على النظريات اللاحقة فى الانحراف. ففى نظرية ألبرت كوهن Cohen عن الإحباط الناجم عن الإخفاق فى إحراز المكانة التى عرضها فى كتابه "أولاد منحرفون" (الصادر عام 1956)؛ ونظرية كلاورد أوهلين حول بناء الفرص المتفاوتة التى عرضاها فى مؤلفهما "الانحراف والفرص" (عام 1961)، حيث اعتبر الانحراف نتاجاً لمواقف العناء أو اللامعيارية فى البناء الاجتماعى. وقد طبق مفهوم اللامعيارية فى عدد من المجالات الأخرى ونوقش نقدياً فى كتاب حرره مارشال كلينارد بعنوان اللامعيارية والسلوك المنحرف (الصادر عام 1964)؛ وأخيراً فى كتاب ماركو أورو "اللا معيارية: التاريخ والمعنى" (الصادر عام 1987).