فيلهلم دلتاي

فيلهلم دلتاي (بالألمانية: Wilhelm Dilthey) (1911-1833)، فيلسوف تاريخ وحضارة ومؤرخ للفلسفة وطبيب نفسي وعالم اجتماع ألماني، يعتبر الممثل الرئيسي للفلسفة بوست-هيغلية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وأوائل القرن 20. سعى إلى استخدام فئات كانط التصاعدية في ميادين علوم الروح، أي العلوم الإنسانية إلا وهي، جيستيسويسينشافتين، وفي العلوم التاريخية من خلال نقد العقل التاريخي، فاتحا بهذا الطريق أمام «فلسفة رؤى العالم» ويلتانشاوونجسفيلوسوفي، أي نقد تاريخي للعقل.

دلتاي يعتبر من الفلاسفة الأكثر نفوذا في فلسفة الحياة. وقد ارتبط ارتباطا وثيقا بالحركة التاريخية أو بفلسفة التاريخ، التي اعتبرها فلسفة للفهم.التي هي أداة للكشف عن الحياة في الحياة. تفكير دلتاي يرتكز أساسيا على ما يلي: - قبوله للنظرية القائلة بأن الفلسفة تنشأ من مشكلة الحياة اليومية.- قبوله بأن الفلسفة يجب أن ترتبط ارتباطا وثيقا بمعرفة الحياة.

أحد ثوابت فكر دلتاي: الوعي بتاريخية الموجود البشري، إذ الإنسان تاريخي لأنه يعيش في الزمان ولا يتحدد وجوده، في نهاية المطاف، إلا بالميلاد والموت، ويتألف من سلسلة حلقاتها «ماض وحاضر ومستقبل». والعلاقة بين الأفراد تاريخية أيضا، ومن هنا فإن عالم الإنسان هو عالم التاريخ.

حياته

ولد دلتاي في بيبرش Biebrich في 19 نوفمبر سنة 1833، وتوفي في Seis am Schiern في أول أكتوبر سنة 1911.

كان أبوه قسيساً على مذهب الكنيسة البروتستانتية. وتعلم في المدارس الثانوية في فيزبادن. ثم دخل جامعة هيدلبرج لدراسة اللاهوت، وبعد أن قضى فيها عاماً انتقل إلى جامعة برلين حيث اهتم بالتاريخ والفلسفة. وفي سنة 1864 حصل على الدكتوراه المؤهلة للتدريس في الجامعة. وفي سنة 1866 عين أستاذاً في جامعة بازل (سويسرا) . وفي سنة 1868 انتقل إلى جامعة كيل Kiel (ألمانيا) . وفي سنة 1871 انتقل الى جامعة برسلاو. وفي سنة 1882 خلف الأستاذ لوتسه Lotze في كرسي الفلسفة بجامعة برلين، وظل في هذا المنصب حتى سنة 1905.

أسهاماته في علم النفس

كان دلتاي مهتماً بعلم النفس. في كتابه أفكار تهتم بعلم النفس الوصفي والتحليلي المنشور عام 1894، وصف الفرق بين علم النفس التفسيري وعلم النفس الوصفي (المعروف أيضاً علم النفس التحليلي): باستخدام مصطلحاته، علم النفس التفسيري هو دراسة الظواهر النفسية من وجهة نظر الشخص الثالث (أي شخص حيادي)، والتي تتضمن الخضوع لنظام قائم على السببية، في حين يُعتبر علم النفس الوصفي منهجاً يحاول تفسير الآلية التي تجتمع فيها عمليات ذهنية مختلفة في «الشبكة البنيوية للوعي».

يعتمد هذا التفريق على الفرق الأكثر عمومية بين العلوم التفسيرية من جهة، والعلوم الوصفية المعتمدة على مبدأ  الفهم الفلسفي من جهة أخرى.

في كتابه اللاحق بناء العالم التاريخي في علم الاجتماع الصادر عام 1910، استخدم مصطلحاً بديلاً هو علم النفس البنيوي للإشارة إلى علم النفس الوصفي.

أسهاماته في علم الاجتماع

كان دلتاي مهتماً أيضاً بالمجال الذي يُعرف في القرن الحادي والعشرين باسم علم الاجتماع، على الرغم من معارضته لهذه التسمية، إذ كان علم الاجتماع في ذلك الوقت مقتصراً على أفكار أوغست كونت وهربرت سبنسر. اعترض على افتراضاتهما الجدلية/التطورية حول التغيرات الضرورية التي يجب أن تمر بها جميع البنى الاجتماعية، بالإضافة إلى منهجيتهما العلمية الطبيعية الضيقة. كانت فكرة الوضعية لكومت -وفق رأي دلتاي- وحيدة الجانب ومغالطة.

من جهة أخرى، كان لدى دلتاي آراء إيجابية حول مذهب الكانطية الجديدة في علم الاجتماع متمثلاً بجورج سيمل، والذي كان زميله عندما درسا في جامعة برلين. أصبح سيمل بحد ذاته فيما بعد زميلاً لماكس فيبر، وهو المؤسس الأول لمعاداة الوضعية في علم الاجتماع. يرى الكاتب جيه. آي. هانز باكر أن دلتاي يجب أن يُصنف ضمن مفكري علم الاجتماع الكلاسيكي نظراً لتأثيره على تأسيس علم الاجتماع المعادي للوضعية المعتمد على مبدأ الفهم وطريقة الفهم الفلسفية.

كان دلتاي من أعظم رواد التراث التفسيرى فى علم الاجتماع، حيث تمثل الشغل الشاغل لدلتاي فى إرساء أساس راسخ - يتسم بالكفاءة - للمعرفة فى العلوم الإنسانية أو التاريخية. وكان يرى أن عالم التاريخ الإنسانى والثقافة الإنسانية يتكون من "صور التعيير" عن الخبرة الإتسانية فى الحياة (أى الخبرات المعاشة) التى يتعين فهمها وتأويلها بطرق تختلف تمام الاختلاف عن مناهج العلوم الطبيعية وطرائقها، وغير قابلة للاختزال إلى تلك المناهج العلمية الطبيعية. وقد تخلى عن رأى كان أبداه فى بادى الأمر يؤمن بأن علم النفس يمكن أن يلعب دور العلم التأسيسى للعلوم الإنسانية، وتبنى عوضا عنه اتجاها تأويليا (هرمنيوطيقيا) فى فهم النظم، والديانات، والمنشآت وغير ذلك من ظواهر تتعدد بتعدد الخبرات الإنسانية المعاشة.

فلسفته

سعى دلتاي إلى ايجاد ثورة «كوبرنيكية» في علوم الروح (ما يسمى الآن العلوم الإنسانية)، وذلك بتأسيس «علم تجريبي بالظواهر الروحية» (= العقلية).

لقد بدأ من التجربة التاريخية وتأثر بهيجل وكنت، فأنشأ فلسفة كان يرجو منها «أن تفعل في العالم المعنوي بعد أن تستخرج قوانين».

وكانت لأبحاثه التاريخية عن عصر النهضة والإصلاح الديني وعصر التنوير تأئيرات عظيمة في فهم وضع الإنسان في العالم وتنوع تجاربه واتساع معنى الحياة لتشمل كل ما يصدر عن الانسان من نظم وقوانين وإنتاج عقلي.

وفيما يلي نلقي نظرة على آرائه الرئيسية:

نقد العقل التاريخي في العلوم الروحية

أراد دلتاي أن يقوم بالنسبة إلى التاريخ بما قام به كنت بالنسبة إلى العقل المحض، وذلك بـ «نقد العقل التاريخي»، فابتدأ من هذه الحقيقة وهي ضرورة «فهم الإنسان بوصفه موجوداً تاريخياً في جوهره، وأن وجوده لا يتحقق إلا في جماعة»(«هيجل الشاب»،ص 124). وراح يدرس «علوم الروح» على أسس تاريخية الوجود الإنساني، بمعنى أن للإنسان بعداً أساسياً هو التاريخ. فينبغي دراسة العقل الإنساني من زاوية التاريخ. فالطبيعة غريبة عن الإنسان، ويستطيع المرء إدراكها بواسطة الملاحظة الحسية. أما العالم التاريخي الاجتماعي فهو عالم الإنسان. ولا يمكنه ادراكه إلا من الداخل. ولهذا فإن العلاقة بين الإنسان والموضوع، في العلوم الروحية، علاقة مباشرة، لأن هذا الموضوع هو التجربة الإنسانية الحية - ومن هنا فإن الأساس في العلوم الروحية هو التجربة الحية Erlebnis ويقصد بها الأحوال والعمليات والنشاطات الباطنة كما نستشعرها ونحياها ونعيها.

ويعرف دلتاي العلوم الروحية Die Geisteswissenschaften بأنها «مجموع الدراسات التي موضوعها هو حقيقة التاريخ والمجتمع» («مجموع مؤلفاته» جـ 1 ص 36-37).

وعلى الرغم من أن العلوم الروحية قد تتناول بعض الأشياء والعمليات الفيزيائية، فإنها إنما تتناولها من حيث هي آثار، أو من حيث أن لها علاقة بتحقيق الأغراض الإنسانية، أو تفيد في التعبير عن الأفكار والمشاعر الإنسانية. وإذن لا تهتم العلوم الروحية بالظواهر الفيزيائية إلا من حيث صلتها بالوعي الانساني، وخصوصاً من حيث هي تعبيرات من خلالها يمكن فهم هذا الوعي. وهذه العلوم الروحية متنوعة جداً اذ تشمل علوماً فنية مثل النحو والخطابة، وعلوماً معيارية مثل الأخلاق والنظريات السياسية والنقد الأدبي، وعلوماً تعميمية مثل علم النفس وعلم الاجتماع وعلم الاقتصاد، وعلوماً تاريخية بالمعنى الضيق مثل التراجم والتراجم الذاتية والتواريخ.

والدراسات الإنسانية تجمع بين ثلاثة أصناف متباينة من التقريرات: فصنف منها يقرر حقائق موجودة في الإدراك الحسي - وهذا يؤلف العنصر التاريخي في المعرفة، وصنف يوضح العلاقات المطردة بين أجزاء من هذه الحقيقة، يميزها بالتجريد - وهذا يؤلف العنصر النظري، والصنف الثالث يعبر عن الأحكام التقويمية والقواعد المفروضة، ويتضمن العنصر العملي في الدراسات الإنسانية. وعلى هذا فإن العلوم الروحية (=لدراسات الإنسانية ) تتألف من أقوال تعبر عن وقائع ونظريات وأحكام تقويمية وقواعد.

وملكة المعرفة في الدراسات الانسانية هي الإنسان كله. والأعمال العظيمة التي نمت فيها لم تنشأ عن العمليات العقلية وحدها، بل عن قوة الحياة الشخصية.

تاريخية الانسان:

الإنسان الفرد تاريخي في جوهره، لأنه يعيش في الزمان، ويتحدد بأحوال وظروف معينة، ووجوده عملية زمنية تتحدد بالميلاد والموت، وتتألف من سلسلة متصلة الحلقات تتألف من ماض وحاضر ومستقبل. وتجري هذه العملية في إطار علاقاته ع الآخرين وعلاقاته مع الطبيعة. ولما كان الفرد كذلك، فإن العلاقات بين الأفراد هي أيضاً علاقات تاريخية، وحياة الانسان حياة تاريخية، وعالم الإنسان إذن هو عالم التاريخ.

واتساقاً مع هذه التاريخية، يرفض دلتاي المبادئ المطلقة والقيم المطلقة، وينكر النظرية التي «ترى مهمة التاريخ في التقدم من قيم والتزامات ومعايير وخبرات نسبية إلى قيم والتزامات ومعايير مطلقة . . . صحيح أن التاريخ يعرف أقوالاً مفادها وجود قيمة أو معيار أو خير مطلق. وهذه الأقوال تظهر في كل مكان في التاريخ - مرة على أن ذلك صادر عن إرادة إلهية، ومرة أخرى بالاستناد إلى نظرة عقلية في الكمال، أو إلى نظام غذائي للعالم، أو إلى معيار - مقبولاً قبولاً كلياً - لسلوكنا القائم على أساس عالٍ على الوجود. بيد أن التجربة التاريخية تعرف العملية فقط، عملية إصدار هذه الأقوال، ولكنها لا تعرف شيئاً عن صحتها المطلقة (المزعومة). ولما كانت تتابع عملية تشكل مثل هذه القيم المطلقة والخبرات والمعايير، فإنها تلاحظ، بالنسبة إلى كثير منها، كيف أنتجتها الحياة وكيف أن التقدير المطلق أصبح هو نفسه ممكناً بفضل تحديد أفق العصر. ومن هناك ننظر إلى جماع الحياة في ملء تحقيقاته التاريخية، ونلاحظ الكفاح السجّال بين هذه الأقوال المطلقة بين بعضها وبعض. والسؤال عما إذا كان يمكن أن يوضح ببينة منطقية، اندراج التجربة تحت أمثال هذه المبادىء المطلقة - وهي من غير شك حقيقة تاريخية - يجب أن يرد إلى عامل في الإنسان كلي وغير محدود زمانياً - هذا السؤال يفضي إلى الأعماق النهائية للفلسفة المتعالية، التي تقوم وراء الدائرة التجريبية للتاريخ، مما لا تستطيع حتى الفلسفة نفسها أن تنتزع فيه جواباً أكيداً» («بناء العالم التاريخي في العلوم الروحية»، مجموع مؤلفاته، جـ 7 ص 173).

ولهذا نرى دلتاي يرفض كل محاولة لتفسير التاريخية بواسطة اللجوء إلى أي مبدأ غير مشروط، سواء كان ذلك بمعنى عالٍ أو بمعنى محايث، لأن عالم الإنسان هو من عمل الإنسان أي من عمل الأفراد، في علاقاتهم بعضهم مع بعض. والتاريخية تنتسب الى العالم الإنساني وحده، ومجرى التاريخ يرجع إلى النشاط الإنساني، فلا مجال إذن للاهابة بمبدأ فوق إنساني.

ومن نتائج هذه النسبية المنبثقة من التاريخية أن قرر دلتاي أن الفلسفة مشروطة تاريخياَ، وأن ماهية الفلسفة لا تتحدد بطريقة قبلية، بل تتحدد على أساس تحليل الطرق المختلفة التي تجلت عليها الفلسفة في التاريخ. ومعنى هذا أن وحدة الفلسفة لا تقوم في وحدة الموضوع أو المنهج، بل في وحدة الموقف الذي يفسر مختلف ١لأشكال التاريخية للفلسفة. وكل حل للمشاكل الفلسفية ينتسب - من الناحية التاريخية - إلى زمان معين وإلى موقف معين في ذلك الزمان.

فلسفة الحياة

فلسفة دلتاي هي جوهرياً فلسفة حياة. والحياة - عنده - ليست الوظائف الحيوية التي يشارك الحيوان فيها الإنسان بل هي أساساً جماع الحيوات لانسانية الفردية التي تؤلف الواقع الاجتماعي والتاريخي لحياة الإنسانية كلها. فالنظم التي خلقها الإنسان، والقوانين، والاعمال الفنية والأدبية والمذاهب الفلسفية، بل والنظريات العلمية كلها عناصر في هذه الحياة والحياة، بهذا المعنى، كانت ليس فقط الموضوع الرئيسي، بل والموضوع الوحيد للفلسفة. ذلك أنه لا شيء وراء الحياة، مثل الشيء في ذاته، أو الصور الأفلاطونية، أو المعاني الميتافيزيقية. والفيلسوف جزء من الحياة، ولا يمكنه أن يفهمها إلا من الداخل. والقيم هي الأخرى صادرة عن الإنسان العيني الحي الذي يعيش في زمان ومكان معينين.

وكل ما نعانيه هو الحياة بكل ثرائها وتنوعها. وكما أخذ على الفعليين تجريداتهم الشبحية، كذلك يأخذ على التجريبيين قصرهم المعرفة على الادراك الحسي، لأن في هذا إفقاراً لمضمون الحياة. إن كل تجربة نعانيها تدخل ضمن الحياة، حتى لو لم تكن مستمدة من الاحساس.

المقولات

يضع دلتاي لوحة جديدة للمقولات عارض بها لوحة كنت، سماها مقولات الحياة وهذه المقولات هي:

  1. مقولة الباطن والظاهر الداخلي والخارجي. ويقصد يها المضمون العقلي (الباطن) والتعبير الفيزيائي (في الخارج).
  2. مقولة الكل والجزء.
  3. مقولة الغاية والوسيلة.
  4. مقولة النمو والتطور.
  5. مقولة القيمة - ومن خلالها نجرّب الحاضر.
  6. مقولة الهدف (الغرض) - ومن خلالها نستبق (نتكهن) المستقبل .
  7. مقولة المعنى، وبها نستعيد ذكرى الماضي. وقد اهتم دلتاي بمقولة «المعنى» اهتماماً خاصاً، وكان سؤاله المفضل هو: «كيف يمكن أن تكون التجربة حافلة بالمعنى»؟

النظرات في العالم Weltanshauungen

إن الإنسان يريد دائماً الحصول على نظرة شاملة في العالم، نظرة تجمع بين وصف حال العالم وتقويمه وتفهم معناه، وهذه النظرات ذاتية ونسبية.

وقد استقرى دلتاي هذه النظرات كما تتجلى في الفلسفة، وفي الدين، وفي الأدب. وانتهى إلى تصنيفها إلى ثلاثةأنماط.

  1. الوضعية (كما نجدها عند هوبز مثلاً)
  2. مثالية الحرية ، (كما هي عند كنت مثلاً).
  3. المثالية الموضوعية (كما هي عند هيجل مثلاً) .

انظر أيضاً