علم الاجتماع التأويلي
التفسير أو التأويل (بالإنجليزية: Interpretation) يعنى هذا المصطلح في أحد معانيه أن أى قول يعد تفسيرا: فإذا ماقلت -مثلا- أن هذاالشى الموجود أمامى هو مكتب (وليس "تسريحة") فأنا بذلك أفسر مجموعة من الانطباعات الحسية؛ وإذا ما قلت أننى أشعر بالسعادة (ولست ثملا، مثلاً)، فأنا بذلك أفسر مشاعر جسمية وحالة ذهنية معينة. لكن لا يدرك معظم علماء الاجتماع هذا المعنى الواسع للمصطلح. فبعضهم يستخدمه بمعناه الضيق، بمعنى تفسير البيانات الإحصائية مثلا.
أما مصطلح علم الاجتماع التأويلي (بالإنجليزية: Interpretative Sociology) فيقصر عادة على الاتجاهات السوسيولوجية التى تنظر إلى الفعل والمعنى بوصفهما الموضوعات ذات الأهمية الأولى لعلم الاجتماع. لكن هذه الاتجاهات تختلف فيما بينهافى مدى رؤيتها للتأويل بوصفه موضوعاً إشكالياً. وتميل التفاعلية الرمزية وعلم الاجتماع عند فيبر، على سبيل المثال، إلى تفسير المعنى على المستوى الفطرى (أو الباده). وبمتلك علم الاجتماع الظاهراتى (الفينومينولوجى) نظرية واضحة فى التفسير، والأمر نفسه ينطبق على الإتنوميثودولوجيا (منهجية الجماعة) والهرمينوطيقا (التأويل) والبنائية. وتختلف نظريات التفسير فى درجة تجاوز ها لفهم الفاعل ذاته لما يفعله. كذلك تختلف نظريات التأويل فى درجة نفاذها إلى ماوراء إدراك الفاعل الفرد لما يفعله.
ويرى ماكس فيبر فى كتابه: "منهجية العلوم الاجتماعية"، الذى صدر فى الفترة من 1904 حتى 1917، أن فهم (تأويل) Verstehen أفعال الأفراد هو المنهج السوسيولوجى بمعنى الكلمة. وثمة رابطة وثيقة بين الفهم و التفسير، ويدرك معظم علماءالاجتماع اليوم أن كافة عمليات الفهم تنطوى بالضرورة على قدر من التفسير، على الرغم من أن بعضهم مازال يتمسك برؤية ساذجة ترى أن المعانى داخل الواقع الاجتماعى معان غير إشكالية يمكن فهمها بشكل مباشردون عناء. ويميز فيبر بين الفهم الوصفى (من هذا مثلا: سار جون عبر الحجرة وفتح الشباك) و الفهم التفسيرى (فتح جون الشباك لكى يجدد الهواء فى هذه الحجرة سيئة التهوية). والواقع أن كل قول من هذين القولين يقتضى تفسيرالما حدث، لكن القول الثانى يذهب إلى مدى أوسع من الأول. ويعتقد البعض أنه كلما كان فهمنا أو تفسيرنا أكثر اكتمالا، كلما كنا أكثر اقترابا من الفهم الكامل للفعل الذى نتناوله. و استطاع ألفرد شوتز فى كتابه: "فينومينولوجيا العالم الاجتماعى"، 1932، أن يطور تصورا أكثر دقة وتحديدا عبر توسيع رأى فيبر وتوضيح تشكل الأهداف عبر مجرى الخبرة. وأفضى به ذلك إلى التفرقة بين البواعث "السببية" (المتى تقع داخل الخبرة الماضية) والبواعث الغائية "التى تشير إلى الوضع المستقبلى الذى يرغب الفاعل فى الوصول إليه.
وتدرك معظم التصورات الحديثة المرتبطة بالفهم فى علم الاجتماع أن الفهم هو أيضا، عملية تفسير. غير أن بعض هذه الاتجاهات حاول الهروب من ذلك من خلال القول بأننا يجب أن نبحث عن القواعد الحاكمة لفهمنا وتفسيرنا، لأن هذه القواعد تظل ثابتة مهما اختلف مضمون التفسيرات. ويكمن هذا التصور وراء فكرة بيتر وينش Peter Winch التى ترى أن الفعل الاجتماعى بطبيعته يخضع دائما لقانون؛ أضف إلى ذلك التركيز الإلنوميثودولوجى على قواعد التخاطب؛ واهتمام البنيوية بالقواعد التى تمكننا من إنتاج المعنى من بناء أساسى؛ واهتمام ما بعد البنيوية بعملية اللعب المستمر و المتغير بالمعانى. ويرى أنطونى جيدنز (فى كتابه تكوين المجتمع، 1984، أن القواعد المصاغة بوضوح تصبح هى الأساس فى التفسير، وأن القواعد الأكثر جوهرية للفعل و التفاعل الإنسانى لاتجرى صياغتها، بل هى، على العكس سابقة للوعى، شأنها فى ذلك شأن الفعل. من هنا تشبه هذه القواعد القوانين التى تحكم المتواليات الرياضية، وتسير بالطريقة نفسها. لذا فإذابدأنابالمتوالية (2-4-6-8 مثلاً) فنحن نعلم أنها تستمر هكذا (10-12-14 ...) دون أن نعلم بالضرورة القانون الذى يحكم هذه المتوالية.
والهرمينوطيقا هى علم التأويل، الذى يتمسك بالتركيز على مضمون -وكذلك على شكل- موضوع التأويل. وقد تبلور المصطلح من خلال ممارسة تأويل النصوص المقدسة. وتقوم على مبداً أساسى مفاده أننا لا نستطيع أن نفهم معتى القول إلافى ضوء علاقته بالخطاب الكلى أو رؤيه العالم التى يمثل هذا الخطاب جزءا منها: فنحن على سبيل المثال لانستطيع فهم قواعد الاقتصاد النقدى (مثلا) إلا فى سياق الظواهر التقافية المعاصرة الأخرى التىيرتبط بها هذا الاقتصاد. أى أننا يجب أن نرجع إلى الكل كى نفهم الجزء، كما يجب أن نرجع إلى الأجزاءكى نفهم الكل. ومعنى ذلك أننا يجب أن نسير فيما يسمى بدائرة التأويل. وهذا يعنى بدوره أننا نضع أنفسنا مكان مؤلف النص، ونبحث عن المعنى الذى تم انتاجه من خلال ارتباطه بالسياق. وإذا كان تفسير الإنجيل يسعى إلى الوصول للمعنى الصحيح (الحقيقى)، فثمة اتفاق عام الآن بأنه لايوجد مثل هذا المعنى (الحقيقى)، هذا على الرغم من أن كثيرا من الفلاسفة يرون أن بلوغ المحقيقة أمر ممكن. ويرى فيلسوف الهرمينوطيقا الألمانى هانز جورج جادامر، على سبيل المثال، أن بلوغ ذلك المعنى (الحقيقى) ممكن عبر وجود تراث مشترك (انظر كتابه الحقيقة والمنهج، الصادر عام
وهكذا يكون قد اتضح لنا بكل جلاء أن الدراسة المنظمة للتفسير تشكل فى معظمها موضوعاً من موضوعات فلسفة العلوم الاجتماعية، ولاشك أن تأثيرها على البحث السوسيولوجى كان متنوعا. وربما كان من أهم اسهاماتها خدمة قضية فهم الثقافات الأخرى، من خلال الإفادة من إمكانيات النسبية الثقافية. فإذا ماانطلقنا من رؤية وينش، على سبيل المثال، فيجب علينا أن نفهم الثقافة فى ضوء معانيها الخاصة، وعن طريق قوانينها الذاتية، ودون أن نفرض عليها الإطار المرجعى لثقافتنا الخاصة. وفى مقالة من مقالاته الكلاسيكية (حول فهم مجتمع بدائى)، (نشرت فى كتاب ويلسون، الرشد)، عام 1970؛ يرى وينش أننا لا نستطيع أن نصل إلى حكم حول حقيقة أو طبيعة المعتقدات المرتبطة بالسحر داخل مجتمع الأزاندى، بينما يوجد العلم والعلماء داخل مجتمعنا. والأمر لايعدو كونه اختلافا بين المجتمعين، وهو اختلاف لايعنى أفضلية أحدهما على الآخر: فالعلم أفضل بالنسبة لمجتمعنا، كما أن السحر أفضل فى نظر مجتمع الأزاندى. وكل ما نستطيع فعله هو الفهم، وهو أمر لايتحقق إلا مسن خلال الاشتراك فى الظرف الإنسانى العام، لأن كل مجتمع لابد أن يجد طريقة ما للتعامل مع الأعضاء الجدد للجماعة، وفى العلاقات الجنسية، وعند الموت.
أما الاتجاهات التى ترى أن البناء الاجتماعى يوجد بشكل مستقل عن تصور الأفراد لعالمهم الاجتماعى، فإن المشكلة المرتبطة بطبيعة الفهم لاتحتل مكانة مهمة، داخل هذه الاتجاهات.