فلسفة باروخ سبينوزا
تضم فلسفة باروخ سبينوزا جميع مجالات الخطاب الفلسفي تقريبًا، بما في ذلك الميتافيزيقيا والأبستمولوجيا والفلسفة السياسية والأخلاقيات وفلسفة العقل وفلسفة العلم. يُعرف سبينوزا بأنه أحد المفكرين المهمين والمبدعين في القرن السابع عشر.
لخص صموئيل شيرلي -مترجم أعمال سبينوزا الكاملة إلى اللغة الإنجليزية- أهمية فلسفة سبينوزا كما يلي:
«سبق سبينوزا داروين وفرويد وآينشتاين في حياته وأفكاره، وعاش قبل ظهور الآثار المذهلة لنظرية الكم، لكن رؤيته للحقيقة -برأيي- تجاوزت رؤى جميع البشر.»
تجسدت فلسفة سبينوزا في كتابين: رسالة في اللاهوت والسياسة، وأخلاقيات. نُشر الكتاب الأول في حياته، بينما لم يُنشر الكتاب الثاني -الذي نقل بدقة بالغة منهجه الفلسفي الشامل- حتى بعد وفاته عام 1677. تشمل قائمة أعمال سبينوزا الأخرى كتاباته الأقدم أو غير المكتملة، وهي الأعمال التي إما صورت أفكاره قبل تبلورها في كتابيه المذكورين أعلاه (على سبيل المثال، الرسالة القصيرة ورسالة حول انبعاث الفكر)، أو التي لم تُعن بفلسفة سبينوزا بشكل مباشر (كمبادئ الفلسفة الديكارتية والقواعد اللغوية العبرية مثلا). بالإضافة إلى ذلك، ترك سبينوزا مجموعةً من الرسائل التي ساعدت في إلقاء الضوء على أفكاره وساهمت في تقديم تصور حول الدوافع الكامنة وراء آرائه.
روافد فلسفته
روافد فلسفة اسبينوزا عديدة: منها روافد يهودية نابعة من الثقافة اليهودية والفلاسفة اليهود في العصور الوسطى، وخصوصاً موسى بن ميمون وابن جبرول، وهؤلاء بدورهم قد تأثروا بالفلاسفة الإسلاميين الذين جمعوا في تصوراتهم للخلق والكون والله بين الإسلام والافلاطونية المحدثة والفلسفة المشائية.
ومن هذه الروافد أيضاً فلسفة ديكارت، وقد اطلع عليها اسبينوزا اطلاعاً دقيقاً عميقاً وألف فيها كتاباً بعنوان: «مبادىء فلسفة ديكارت» نشر كما قلنا سنة ١٦٦٣. لكن اسبينوزا لم يأخذ بآراء ديكارت الفلسفية.
وفلسفة اسبينوزا تبدأ من الله ثم تنزل منه إلى سائر الموجودات، بعكس المألوف عند سائر الفلاسفة وهذا ما أخذه عليهم اسبينوزا فقال:
إنهم «لم يتبعوا الترتيب المطلوب من أجل التفلسف. لقد اعتقدوا أن الطبيعة الإلهية تعرف في آخر الأمر، وأن الأمور المحسوسة تأتي في أول الأمر - مع أنه كان ينبغي عليهم أن يبدأوا بتأمل الطبيعة الإلهية قبل غيرها لأنها هي الأولى سواء من وجهة نظر المعرفة ومن حيث الطبيعة. ثم إنهم لما عنوا بهذه الطبيعة الإلهية كان من المستحيل عليهم أن يفكروا في الأوهام الأولى التي أقاموا عليها معرفة الامور الطبيعية لأنها كانت بغير فائدة لمعرفة الطبيعة الإلهية» (« الأخلاق» ف٢)
ولهذا نجد اسبينوزا يبدأ كتابه في «الأخلاق » - وهو جماع فلسفته كلها - بالله.
الله
علينا أن نشير أولاً إلى طريقة اسبينوزا في عرض أفكاره في كتاب «الأخلاق». ذلك أنه اتبع «الطريقة الهندسية» more geometrico، أي المستخدمة في كتب الهندسة وهي أن يبداً بالتعريف، ثم يذكر النظرية، ثم يتلوها بالبرهان عليها، وبحيث تأتي القضية مستنبطة من القضية السابقة عليها استنباطاً محكماً دقيقاً، تماماً كما في كتاب « عناصر الهندسة» لاقليدس. وحتى التعبيرات المستخدمة في الهندسة مثل Q. E. D (وهو المطلوب) واللوازم Corollaires والبديهيات axiomes استخدمها اسبينوزا في عرضه لمذهبه الفلسفي هذا . ذلك أنه رأى أن هذه الطريقة في العرض هي الطريقة المثلى المعصومة عن الخطأ. ذلك أنه كان يعتقد « أن نظام الأفكار وارتباطها هو نفس نظام الأشياء وارتباطها ( «الأخلاق» ج ٢ قضية ٧ ) كما يرى أن «معرفة المعلول تتوقف على معرفة العلة» ( الموضع نفسه ) .
ومن هنا رأى اسبينوزا أن الترتيب السليم للتفكير الفلسفي يتطلب أن نبدأ بما هو أسبق انطولوجياً ومنطقياً، أي بالماهية الإلهية أو الطبيعية، ثم نستنتج استنباطاً ما تؤدي إليه تلك الماهية الإلهية أو الطبيعية. وبهذا يختلف اسبينوزا اختلافاً بيناً عن الاسكلائيين وعن ديكارت. فديكارت، مثلا يبداً من الكوجيتو ( أنا أفكر، فأنا إذن موجود)، ولا يبدأ من الله.
يبدأ اسبينوزا إذن من الله أو الطبيعة Deus sive Natura، وهو يعدهما شيئاً واحداً، بما سيؤدي إلى سوء فهم فلسفته لدى البعض ممن أرادوا ليّ فلسفة اسبينوزا إلى ماديتهم الخاصة بهم! (انظر كتاب: اسبينوزا في الاتحادالسوفييتي»).
حجة وجودية
كتب سبينوزا فصلاُ في كتابه أخلاقيات تحت عنوان «التعامل مع الله وما يتعلق به»، إذ ناقش فيه وجود الله وماهيته. يبدأ سبينوزا قائلًا: «يمكن إثبات ما إذا كان الله موجودًا». استند سبينوزا في دليله على وجود الله إلى حجة مشابهة لحجة ديكارت الأنطولوجية. حاول ديكارت إثبات وجود الله بقوله: «ينبغي أن يكون هناك شيئًا واحدًا خيرًا بامتياز، ومن خلاله تكتسب الأشياء الخيرة جوهرها الخير». تختلف حجة سبينوزا عن حجة ديكارت في كونها لا تنتقل مباشرةً من تصور وجود أعظم الكائنات إلى تصور وجود الله، إذ يستخدم سبينوزا حجةً استنتاجيةً من فكرة الله. يعتقد سبينوزا أن أفكار الإنسان ليست ذاتية، بل نابعة من أسباب خارجية. وبالتالي، تنبع الأشياء التي يعرف المرء خصائصها من مصدر آخر. وبعبارة أخرى، إذا امتلك الإنسان فكرة عن الله، فلا بد من وجود الله قبل هذه الفكرة، لإن الإنسان غير قادر على خلق فكرة باستخدام مخيلته وحدها.
جوهر الله
أوضح سبينوزا دليله حول وجود الله، ثم انتقل إلى تناول ماهية «الله».
ويبدأ اسبينوزا بحثه في الله، في مستهل كتاب «الأخلاق»، بالتعريفات الأساسية لفهم عرضه.
وأولها تعريف الجوهر Substance، قيقول:
«الجوهر هو ما هو في ذاته ويدرك بذاته وأعني بذلك أن تصوره لا يتوقف على تصور شيء آخر يتكون منه بالضرورة» («الأخلاق»، الجزء الأول، التعريف ٣).
لكن ما لا يدرك إلا بذاته لا يمكن أن تكون علته من خارجه. ومن هنا يستنتج اسبينوزا أن الجوهر هو علة ذاته، أنه مستقل تماماً بذاته، لا علة له من خارجه. وهذا يتضمن بدوره أن ماهيته تستلزم وجوده. يقول اسبينوزا : «أنا أفهم من كونه علة ذاته أن ماهيته تستلزم وجوده، وأن طبيعته لا يمكن أن تتصور إلا موجودة» («الأخلاق» ج ١ تعريف ١).
ولو كان الجوهر متناهياً، لكان محدودا بجوهر آخر من نفس الطبيعة أي له نفس الصفات، لكن لا يمكن وجود جوهرين أو أكثر لهما ( أولها ) نفس الصفة، لأنه لو وجد اثنان أو أكثر لكان من الضروري تمييز الواحد عن الآخر ( أو تميزها بعضها من بعض )، أي لا بد أن تكون لكل منهما ( منها ) صفة متميزة.
ويعرف اسبينوزا الصفة attribut بما يلي:
«أسمى صفة، ما يدركه العقل على أنه يكون ماهية الجوهر» («الأخلاق» ج ١ تعريف ٤ )
وبمقتضى هذا التعريف فإنه لو كان الجوهر من نفس الصفات، لكانت لهما نفس الماهية، وحينئذ لن يحق لنا أن نتحدث عن جوهرين اثنين. لأننا لن نستطيع التمييز بينهما. فإذا لم يكن من الممكن وجود جوهرين لهما نفس الصفات، فإن الجوهر لا يمكن أن يكون محدوداً أو متناهياً. إذن الجوهر لا متناه.
والجوهر اللامتناهي لا بد أن تكون له صفات لا متناهية. ذلك لأنه «كلما كان الشيء اكبر نصيبا من الحقيقة والوجود، كان اكبر نصيبا من الصفات» (« الاخلاق» ج١ ، القضية ٩ ) ولهذا فان الموجود اللامتناهي لا بد أن يتصف بما لا غهاية له من الصفات. وهذا الجوهر ا للامتناهي ذو الصفات اللامتناهية هوالله . يقول اسبينوزا « أنا افهم من الله انه موجود لا متناه مطلقا . اعني أنه جوهر ذو صفات لا متناهية ، كل واحدة منها تعبر عن ناحية لا متناهية أزلية أبدية » ( « الاخلاق » ج ١ ، تعريف ٦).
وهذا الجوهر اللامتناهي الالهي، لا يقبل القسمة، وهو واحد احد، أزلي ابدي. والوجود والماهية في الله أمر واحد .
وفي عملية الاستنباط هذه لا ينتقل اسبينوزا مباشرة من الجوهر اللامتناهي إلى الجواهر المتناهية، بل يتوسط بينهما الأحوال اللامتناهية الأزلية الأبدية، المباشرة وغير المباشرة، وهي أسبق منطقيا من الأحوال المتناهية .
وقبل ذلك ينبغي ان نورد ان اسبينوزا يقرر اننا ندرك من بين الصفات الباهية صفتين هما الفكر والامداد. أما -ائر الصفات الالهية فلا نستطيع ان نقول عنها شيئا لأننا ا نستطيع أن نعرفها. -كذلك ينبغي ان يلاحظ أننا حين ننتقلمن النظر
في الله بوصفه جوهرا لا متناهيا ذا صفات الهية الى النظر في أحوال الله فان العقل ينتقل من الطبيعة الطابعة Natura naturans الى الطبيعة المطبوعة natura naturata ، أي من الله في ذاته الى الخلق ، مع عدم التمييز بين الله والخلق .
والطبيعة الطابعة هي الجوهر، أعي صفاته اللامتناهية ، ومن بينهذه الصفات : الفكروالامتداد - أما لطبيعة المطبوعة فتشمل كل الأحوال ابتداء من تلك التي تستنبط مباشرة من الصفات ( الذهن اللامتناهي ، الحركة والسكون ) حتى تلك الأكز تحديدا مثل حبة الرمل,
ومن هذا يتبين ان اسبينوزا ينعت الله بأنه امتداد وفتحر معا ، انه نظام ممتد مكاني من الموضوعات الفيزيائية بقدر ما هو نظام لا مادي ولا متد من الفكر. وبعبارة أوجز : الله مادة وعقل معا . ولهذا فان كل تعبير عن طببعته لابدان يكون له مظهران ، بحيث لا يحدث حادث في الكون دون أن يكون له مضايف عقلي وهذان المتضايفان ليس أحدهما علة للأخر كما أن الجانب المقعر من قوس ليس هو علة الجانب المحدب منه . لكن كما ان المقعر والمحدب يصحب كلاهما الآخر دائما ، كذلك الفكر والامداد يصحب كلاهما الآخر ويتضمنه.
هكذا نجد عند اسبينوزا توازيا عقليا - فيزيائيا موجودا في كل الكون .
«والله ، أو الجوهر، له صفات لا متناهية ، كل واحدة منها تعبر عن ماهية لا متناهية ».
اعتقد سبينوزا أن الله «مجموعة من القوانين الطبيعية والفيزيائية للكون، فهو بالـتأكيد ليس كيانًا فرديًا أو خالقًا». سعى سبينوزا إلى إثبات كون الله جوهرًا للكون وحسب، وذلك من خلال قوله أولًا إن المواد لا تشترك في السمات أو الجواهر، وثم عن طريق إيضاحه لفكرة كون الله «جوهرًا» ذو عدد لا حصر له من الصفات، ما يعني أنه يجب أن يمتلك الله جميع السمات التي تمتلكها المواد الأخرى. وبالتالي، يُعتبر الله بمثابة مجموع كل مواد الكون. إن الله هو الجوهر الوحيد في الكون، وكل شيء جزء من الله. «كل ما هو موجود، يوجد في الله، ولا يمكن أن يوجد أو يُصور بدون الله». يتشابه هذا المفهوم حول الله مع مفهوم أدفايتا الهندوسي.
فعل الله
«ومن ضرورة الطبيعة الالهية ينتج بالضرورة عدد لا متناه من الأشياء بطرق لا نهائية، أعني كل الأشياء التي تدخل في نطاق العقل اللامتناهي.» وجود الله لايحده شيءسوى قانون عدم التناقض والامكان المنطقي.فاللههواذنعلةكل الاشياء .
لكن الأشياء لا تصدر عن الله كما لو كانت تصدر عن خالق موجود في الخارج سابق عليها .كما أنها ا توجد بأمر من رادته ، او لتحقيق غرض خاص به . لان اسناد غرض الى الله هو بمثابة اسناذ أغراضنا نحن اليههو، كما ان هذا يتنافى مع كماله لأنه يمثل الله وكأنه يسعى الى تحقيق غرض وسد حاجة يحتاج إليها. فنحن نقول مثلا ان الله خير، ونقصد بذلك أنه يحب ما نحب. ونقول إن ثم نظاما إخهيا، ونقصد بذلك ان الله خلق الأشياء على نحويجعل من الميسورعلى الانان تذكرها وتصورها . فكأننا نحن نريد أن نفرض على الطبيعة أهواءنا وأذواقنا ولكن التجربة والشواهد تدلنا على أن أمور العالم تجري دون ان تحسب حساب أهواثنا وأذواقنا وأغراضنا . ولهذا فان « كمال الأشياء يجب أن ينظر اليه فقط من حيث طبيعتها وقوتها «، لا من حيث توافقها او عدم ملاءمتها لبولنا ومصالحنا.
استبعاد الغائية في التفسير العلمي
ومن هنا نجد اسبينوزا يحمل على التفسير الغائى للحوادث والموجودات حملة عنيفة ، لأنم يرى فيه فراراً من النظر العلمي الصحيح ومن الأسباب الطبيعية الحقيقية ، ولجوء الى « مشيئة لله » أي الى المجهول. فمثلا يستخلص الناس من تركيب بية الانسان وأعضائه أنها لم تشكل اليا (ميكانبكياً)، بل بتدبير الهي بحيث لا يضر احد لأعضاء عضواً آخر، لكن هذا التفسيرمنهم سببه الجهل بأسباب هذا الجهازالغفي العظيم ، الذي هوجم الانسان. واسبينوزاكان ينظر الى الجم ، كما فعل ديكارت ، على أنه آلة محكمة الصنع .
العلاقة بين الله والكون
لكن اذا لم يكن اللههوالعلة الفاعلية ولا العلة الغائية للكون ، فكيف وجد الكون اذن ؟ يجيي اسبينوزا قائلا : ان وجود لكون ضرورة منطقية . فوجود الكون وطبيعته ناتجان عن طبيعة الله ، كما أن وجود الدائرة وتساوي أنصاف أقطارها ناتجان عن طبيعة الدائرة .
فاذا بحثنا في سبب أي حادث فيزيائي أوعقلي ، فسنجد أن السبب في حدوئه مزدوج : فالسبب المباشر موجود في حادث سابق أو مصاحب مقترن به ولكن البب في ان الأحداث الجزئية لها ما لها من أسباب ومعلولات، وليس غيرها ، يقوم فيطبيعة لكون ، الذي تزلف الأسباب والمسبباتجزءا مه . ان بناء الواقع هومن شأنه أن تكون الأسباب والمسببات على هذا النحو، وليس على نحوآخر.
ولهذا يجب لا محالة أن يكون الابق على هذا الحادث سيباً معيناً، وأن ينتج عنه ناتج معين، ولي غيره.
وفي مثل هذا النظام المتسلسل المحكم للكون لا مجال للحرية . وفي هذا يقول اسبينوزا :»ان الاشياء ما كان يمكن ان يوجدها الله على نحوأرنظام مختلف عن ذلك الذي اوجدها عليه». ودوافعنا تتولد بالضرورة عن شروط سابقة، وإراداتنا تنتج بالضرورة عن درافعنا كما تنتج المعلولات الفيزيائية عن العلل الفيزيائية. ومعى هذا أن اسبينوزا ينكر حرية الأغعال الانانية، أي أن لا تكون نواتج لدوافع سابقة.
الطبيعة المطبوعة
قلنا اذن ان الله والطبيعة شيء واحد اروجهان لثيء واحد: فاته هو الطبيعة الطابعة، والكون هو الطبيعة المطوعة.
والله يتجلى في الانان على أساسين أو نظامين متضايفين ( أي مترابطين على التبادل) : احدهما نظام الاحداث الفيزيائية المترابطة فيما بينها، والثافي نظام الأفكار المترابطة فيما بينها . وهذان التظامان يجب أن يكونا متوانقين ، لأنهما طريقان يعبران عن طبيعة واحدة . ولهذا فان كل تغير لتلك الطبيعة يسجل كاملا في الصفتين اللتين هما في متناول دراكنا : أعفي الامتداد ، والفكر . ولهذا يقرل اسبينوزا،«ان نظام الأفكار وترابطها هو بعينه نظام الأشياء وترابطها، .
ولم يحدد اسبينوزا ماذا يعنيه بهذه الأفكار ، خصوصا وهو يقرر ان ثم « أفكار » للأشباء الجمادية والحية على السواء .
الإنسان
لما كان الانسان أحد تغيرات الجوهر الالهي،فانه لا بد يشارك ليس فقط في صفتي الامتداد والفكر ، بل وأيضا في ما ا نهاية له من صفات الجوهر . وما عقوكا وأجسامنا الا شذرتين من وجودنا الهائل . وهما ليسا مظاهر سطحية ، لأغها تلتصق بمركزه،فنحن نحيا ونتحرك ونوجد اذن في عوالم أخرى لا حصر لهابالاضافة الىعالمنانحن، وكل فعل من أفعالناوكل فكرة من افكارنا تسجل - امتدادا ووعيا - تغيرا يحدث في نف الوقت خلال لعدد اللانهائي من الأشكال الأخرى لوجودنا.
و« الفكرة»المتضايفة مع الجم الانسافي هي العقل. وليس بين العقل والجم تفاعل متبادل، بل ثم تواز تام فيما بينهما: فلا يحدث شيء في العقل دون أن يسجل في الجسم، ولا يحدث شيء في الجم دون ان يسجل في العقل . وما يحدث في الجم من تغيرات هونتيجة أسباب فيزيائية عحضة ، والتغيرات في العقل تتم بواسطة تغيرات عقلية عحضة .
وو الفكرة » المتضايفة مع البدن الانسافي تتميزعن سائر الأفكار بانها لي فقط تعكس التغيرات في سائر الأحداث ، بل وأيضا تعكس نفسها ، أي تتأمل نفسها ، انها ليست فقط » فكرة جسم»،بلهي أيضا « فكرة فكرة جسم» ، أو « فكرة العقل » وبعبارة أخرى انها واعية بنفسها .
ان الانان لي جوهرا ، لأنه لي علة ذاته ، والجوهر - كما قلنا -هوما هوعلة ذاته . ومن هنا يرفض اسبينوزا نظرية ديكارت القائلة بأن النفس جوهر .
وجانبا الإنسان هماالفكر والجسم . يقول اسبينوزا: «الانسان يفكر» ، ويقول أيضا : «نحن نحس بان ثم جسما يتغير تغيراتعديدة».
وأ الوعي)) و«الشخصية» هما لمضايفان العقليان للكائنات المحدودة المتناهية ويعبران عن انفصال الجزء عن الكل الذي هو الموجودان .
, واذا قورن العقل الانساني بالعقل الالهي، فان العقل الالهي غير « شخصي » لأنه غير مرتبط بجسم وغير محاط بأجام أخرى يكون هومضايفا لها «أي فكرة» . ولماكان عقل الله غيرمرتبط بجسم ولابمحيط، فانه لا يحس بأي انفعالان أو منافع أو اضرار أوحب أوكراهية كإ هوشأن العقل الانسافي ٠ وهذا منطقي، لأنه وهو الكل،أن له أن يؤثر جزء دون جزء ، أويتأثر بجزءمن أجزائه؟ ولهذا فانعقل للهحر من كل شهوة أو انفعال .
المعرفة
أول سؤ ل يطرح بالنسبة الى المعرفة عند سبينوزا هو : كيف يتسفى للعقل أن يعرف العالم الخارجي ، مع انه مرتبط بجسم مضايف له ؟ كيف يعرف شيئا اخر غير جسمه هو وما يرتبط به من « أفكار » ؟ والجواب عن ذلك هو ن حالته النفسية الفيزيائية في أية لحظة معلومة هي دائما مؤلفة من طبيعة جسمه الخاص به وعقله الخاص به ، ومن حالة البيئة المحيطة التي بها يتأنر ويتغير. ومن هنا فانه حين يعرف نفسه فانه سيسجل أيضا «أفكار الموضوعات» التي بهايتأثر. ثم ان تجرته تشرى من اتصالات جسمه بالبيئة المحيطة .
أماكيف بميز بين الأفكار الخاطئة والأفكار الصحيحة فرأي اسبينوزا في هذا الأمر هو نف رأي ديكارت وهو أل لأفكار بعضها أوضح وأكثر تميز من بعض , والفكرة لأوضح والاكثر تميزا هي تسجيل لموضوعها أصدق من الفكرة الغامضة المشوشة . ولين علينا أن نقارن بموضوعها لنعرف ذلك . وما دام نظام الأفكار وارتباطها هنانفس نظام الأشياء وارتباطها، فاننا نستطيع أن نكون متأكدين ان الفكرة الواضحة تماما والمتميزة في ذاتها هي متضايفة في عقولنا مع ما يناظرها بين الاحداث فقط في صفة الامتداد ، وبأنها تتضايف تماما مع هذا الحادث . ومثل هذه الفكرة تشغل مكانها المناسب في سلسلة النظام الضروري للأفكار الذي يكون حقيقة نظام الكون .
وعلينا ان نتوقع من العقل أن يميز أفكاره بوضوح بعضها من بعض وأن يربط كل فكرة بمناظرها في العالم الفيزيائي ، وأن يضعها في مكانها الذي يناسبها في صفة الفكر . ولهذا فان مصدر الخطأ لي هو العقل . وانما مصدره تدخل من خارج في العملية الطبيعية العادية للعقل .
ما هو اذن مصدر هذا التدخل ؟ لقد أجاب ديكارت بأنه الارادة ، لكن اسبينوزا يرفض ذلك ، لأنه يرى أن الارادة والفهم ليسا ملكتين مستقلتين الواحدة عن الأخرى ، ذلك لأن اعتماد فكرة في الذهن معناه قبولها .
وانما مصدر الخطأ هوأن تج بتنا الحسية - أوكمايسميها اسبينوزا :خيالنا -تسجل طبيعة جسمنا كما تتغير بواسطة البيئة ا احيطة ، وطبيعة سائر الأجسام بحسب ما تغيرطبيعتنا نحن . ومن هنا فانها لا تستطيع أن تأتي بصورة شاملة ومطابقة لجهازها العضوي كما هو بمعزل عن التغيرات الناجمة عن الأجسام الخارجية ، أو صورة الأجام الخارجية بمعزل عن تأثيراتها فينا ٠ ولهذا السبب فان الصور الحسية، اياً كانت المهبجات الباعثة لها، تخفق لي فقط ي التصوير الواضح المتميز للعوامل الفاعلة في الجهاز العضوي الانساني ، بل وأيضا تخفق في التعبير عن الطبائع الشاملة لهذه العوامل .
واسبينوزا في رسالته «في اصلاح العقل» يميز أربعة مستويات للادراك : أدناها هو الادراك « بالسماع» . ويشرح هذا بالمثل التالي : « أنا أعرف بالسماع يوم ميلادي ، وأن شخصين معلومين كانا أبوي ، وما شابه ذلك من أمور لم يخطر ببالي أي شك فيها» ذلك أنني لا أعرف بالتجربة أنني ولدت في يوم كذا ، من أبوين هما فلان وفلانة ، وانما عرفت هذا كله بالسماع .
والمستوى الثاني الأعلى منه: هوالمعرفة ( أوالادراك ، على حد تعبيره ) الناجمة عن التجربة الغامضة ، يقول : » بالتجربة الغامضة أعرف أنني سأموت ذات يوم ، وأنا أؤكد هذا لأفي شاهدت أشباهي من الناس يعانون الموت وان لم يعيشوا جميعا نفس المقدار من العمر ولا يموتون بسبب نفس الامراض . كذلك أعرف بالتجربة الغامضة أن الزيت يزيد النار ايقادا ، وان الماء يطفئها. كذلك أعرف أن الكلب نابح ، وأن الانسان حيوان ناطق ، وعن هذا الطريق أعرف تقريبا كل الأشياء « المفيدة في الحياة» .
والمستوى الثالث هو الادراك الناجم عن كون ماهية شيء ما مستنتجة من ماهية شيء آخر ، ولكن بطريقة غير مكافئة، مثال ذلك : أنا أعرف أن حادثاً ما له علة؛ وان كنت لا أملك فكرة واضحة عن هذه العلة ولا عن الارتباط بين العلة والمعلول .
والمستوى الرابع والأعلى الذي فيه « يدرك الشيء من ماهيته وحدها ، أومن خلال معرفة علته القريبة » . مثال ذلك أن أعرف أن العقل متحد مع جسم . كذلك نجد هذا امستوى الرابع للمعرفة متوافراً في الرياضيات لكن- هكذا يقول اسبينوزا - « الأمور التي استطعت معرفتها على هذا المستوى فليلة جدا » .
بيد أن اسبينوزا في كتاب «الأخلاق» يذكر ثلاثة مستويات فقط، مسقطاً المستوى الأول الذي يتم بالسماع، واصبح النوع الثاني هو الأول ويسميه «المعرفة من الجنس الأول» c gnitio primi generis أو «الرأي» Opinio أو الخيال imaginatio والمؤرخون لفلسفة اسبينوزا يقتصرون عادة على هذا التقسيم الثلاثي الوارد في «الأخلاق».
ولشرح النوع الأول وهو «الرأي» أو «الحيال» نقول ان الجم يتأثر بأجام اخرى، وكل تغير له حالة ناشئة عن هذا التأثر ينعكس في فكرة . والأفكار التي من هذا النوع متكافئة - بدرجات متفاوتة- مع أفكارمأخوذة من الاحاس ، واسبينوزا يسميها أفكارالخيال انها ليست مستنبطة منطقيا من أفكار اخرى ، والعقل من حيث هو مؤلف من مثل هذه الأفكار فانه يكون منفعلا ، لا فاعلا ، لان هذه الأفكار لا تنبثق من قوة العقل الفعالة ، بل تعكس تغيرات في الجسم واحوالا تحدثها أجسام اخرى .
والمعرفة من النوع الثاني تتضمن أفكارا مكافئة adéquates وهي معرفة علمية. واسبينوزا يسمي هذا المستوى باسم مستوى « العقل» ratio لتمييزه من مستوى و الخيال» الذي هو النوع الأول ، لكن ليس معى هذا أنها غير ميمورة الآ للعلماء ذلك لأن الناس جميعا عندهم أفكار مكافئة وكل الأجسام الانسانية هي احوال للامتداد ، وكل العقول هي أفكار لاجام . ولهذا فان كل العفول تعكس بعض خواص الأجام ، أي بعض الخواص السائدة في الطبيعة الممتدة. والمعرفة التي من النوع الثاني صحيحة بالضرورة ، لأنها تقوم على أفكار مكافئة، والفكرة المكافئة هي التي تملك كل خصائص الفكرة الصحيحة.
والنوع الثالث من المعرفة يسميه اسبينوزا باسم « المعرفه العياتية» Scientia intuitiva لكن ينبغي أن يلاحظ أن هذه المعرفة لا تنبثق عن وجدان صوفي 'و وثبة عقلية، بل هي مستمدة من المعرفة التي وصلنا اليها في النوع الثاني . يقول اسبينوزا : « هذا النوع( الثالث ) من المعرفة يصدرعن فكرة مكافئة للماهية الصورية لبعض صفات الله وينتقل الى المعرفة المكافئة لماهية الأشياء» («الأخلاق» ج٢ ، قضية ٤٠ تعليق ٢ ) .
الحب العقلي لله
وأعلى وظائف العقل هي معرفة الته. «وأعظم خيرات العقل هومعرفة الله ، وأكبر فضيلة للعقل هي معرفة الله» ( « الاخلاق» جهقضية٣)وذلك لأن الانسان لايستطيع أن يعقل شيئا أعظم من اللامتناهي . وكلما عقل الله ، ازدادحبه له.
ولما كان الله والطبيعة شيئا واحدا ، فاننا بقدر ما نتصور جميع الأشياء صادرة عن طبيعة الله فاننا نتصورها مندرجة تحت نوع الأبدية subspecie aeternitatis . اننا نتصورها جزءا من النظام اللامتناهي المترابط منطقياً. وبقدرما نتصورأنفسنا وساثر الأشياء على هذا النحو، فاننا نعرف الله . ومن هذه المعرفة تنبثق لذة العقل ورضاه واللذة المصحوبة بفكرة الله بوصفه علة سرمدية هي ٠ الحب العقلي لله» (« الاخلاق» ج ٥ فضية ٣٢، لازمة). وهذا الحب العقلي هوا نفس الحب الذي به يحب الله نفسه ، لا من حيث أنه لا متناه ، لكن من حيث انه يمكن التعبيرعنه بواسطة ماهية العقل الانساني منظورا اليه مندرجا تحت نوع الأبدية» ( الموضع نفسه قضية ٣٦ ) . وبالجملة « فان حب الله للناس والحب العقلي لله هما شيء واحد» ( الموضع نفسم ، اللازمة ) .
ويقرر اسبينوزا أن هذا الحب العقلي لله هو نجانا وسعادتنا وحريتنا ( الموضع نفسه ) . لكن ينبغي ألا نفهم هذا الحب بالمعنى الصوفي ، ولا بمعى أنه محبة لشخص . واستخدام اسبينوزا لهذا التعبير الصوفي اغما يرجع الى نشأته الدينية .
الأخلاق
مذ هب اسبينوزا في الأخلاق ذو مشابه عديدة مع مذهب الرواقية في الأخلاق.فمثلهااعلىللحكيموتوكيدهضرورة أن يعرف الانسان مكانته في الكون، واعتقاده أن المعرفة تحمي الانسان من اضطراب النفس تجاه مصائب الحياة وضربات القدر، والحاحه على جعل الحياة تسير بمقتضى العقل، وطلب الفضائل من أجل الفضائل نفسها-كل هذه الملامح نجدها في المذهب الأخلاقي الرواقي . كذلك يشتركان في تقرير الجبرية وانكارالحرية الانسانية . والمشكلة بالنبة الى كليهماهي في معرفة كيف يمكن قيام أخلاق بدون افتراض حرية الانسان ؟ ان الاخلاق أمر بواجبات، والمجبر لا يؤمر لأنه مجبور على فعله لاخيارله فيه وقد شعر اسبينوزا بهذه الصعوبة، ومن هنا نجده أحيانا - وبتحفظ - يقر بأن الانسان يشعر أحيانا كأنه حر ومسؤول عن فعله. لكنجوابه هذا غيرمقنع .
وحين يريد التمييز بين الخير والشر يقتصر الأمر على المعرفة: فما يقوي المعرفة يعد خيرا، وما يضعفها - مثل الانفعالات والشهوات - يعد شرا.
فلسفة الدين
وردت العديد من أفكار سبينوزا الدينية في رسالة في اللاهوت والسياسة. ناقش سبينوزا في هذا العمل فكرة وجوب تفسير النصوص المقدسة في حد ذاتها وفقًا لشروطه الخاصة ومن خلال دراستها بعناية، دون التأثر بأي مفاهيم أو عقائد لا ينص عليها الكتاب المقدس. اعتقد سبينوزا أن تحقيق هذا الأمر سيسفر عن إثبات خطأ العديد من الأمور التي نؤمن بها أو الأشياء التي تخبرنا بها السلطات الدينية عن الله (كالمعجزات مثلًا). تتجسد وجهة نظر سبينوزا في الجملة التالية الواردة في مقدمة رسالة في اللاهوت والسياسة:
«ويتضح ذلك أيضًا من أن معظمهم يفترض ابتداء صحة الكتاب ومصدره الإلهي، مع أن هذا الفرض يجب أن يكون نتيجة فحص دقيق لا يترك المجال لأي التباس، فهم يفترضون سلفًا، كقاعدة للتفسير ما تكشفه لنا الدراسة المباشرة على نحو أفضل دون الالتجاء إلى أي وهم إنساني.»
فلسفة سياسية
تأثرت فلسفة سبينوزا السياسية إلى حد كبير بالفترة الزمنية المضطربة التي عاصرها وبحياته في أوروبا في مكان ليبرالي نسبيًا، الأمر الذي لعب دورًا في حصوله على الحريات التي آمن بها ودافع عنها. يقول سبينوزا في مقدمة رسالة في اللاهوت والسياسة:
«ولما قدر لنا أن نحظى بهذه السعادة النادرة، وهي أن نعيش في جمهورية يمارس فيها كل فرد حرية التعبير وعبادة الله كما يشاء، ويعد الجميع الحرية أغلى النعم وأحلاها، فقد رأيت أنني لن أكون قد قمت بعمل جاحد أو عقيم إذا ما بينت أن هذه الحرية لا تمثل خطرًا على التقوى أو على سلامة الدولة، بل القضاء عليها يؤدي إلى ضياعهما معًا.»
تتجسد فلسفة سبينوزا السياسية في ثلاثة كتب، رسالة في اللاهوت والسياسة، وأخلاقيات، ورسالة في السياسة. قد يعتقد القارئ غير المطلع عند إلقاءه نظرةً أوليةً على مبادئ هذه الأعمال الأساسية أنها مماثلة لمبادئ هوبز، في حين تختلف كلا النظريتين في استنتاجاتهما. يُمكن اعتبار فلسفة سبينوزا السياسية فلسفة جهد (كونيتس)، أي الميل الفردي إلى الوجود، الذي لا يمكن القضاء عليه حتى في ظل أقوى الأنظمة الطاغية وأسوأ الأنظمة الاستبدادية. اعتقد سبينوزا أن لكل فرد حق طبيعي، يضم كل ما يرغب به الفرد ويستطيع الحصول عليه. ونتيجةً لذلك، يعادل حق المرء الطبيعي قوته أو سلطته الفردية. وبالتالي، لا تقوم الحقوق الذاتية (مثل حقوق الإنسان) في حد ذاتها في فلسفة سبينوزا السياسية، فهي مؤسسة من مؤسسات المجتمع، ولا وجود لها إلا في الدولة المدنية. علاوةً على ذلك، يؤمن سبينوزا أنه لا معنى لمفاهيم الصواب والخطأ في المجتمع، ويعود السبب في ذلك برأيه إلى غياب المعايير المشتركة في الحالة الطبيعية، فلا وجود إلا للرغبات الفردية (أي الرغبات التي يمكن أن تدفع الناس إلى السيطرة على الأشخاص الآخرين الأضعف منهم).
كيف يمكن بناء مجتمع مدني إن لم يشغل الناس سوى دافع البقاء؟ يُمكن بناءه من خلال عدة طرق. أولًا، من خلال فعل العواطف التي يصفها سبينوزا في كتابه أخلاقيات. تدفعنا هذه المشاعر إلى التجمع والالتقاء بأشخاص مشابهين لنا، فيعزز هذا التشابه الشعور أو التمثيل الوجودي. وبالتالي، ستلعب الاحتياجات البشرية أيضًا دورها الخاص، إذ يتمكن المجتمع من توفير سلع أكثر من التي نستطيع توفيرها بأنفسنا وبمجهود أقل، وذلك من خلال التوزيع والتخصص في كل مهمة. يفسر هذا الأمر حقيقة عدم تطور العلوم والفنون خارج نطاق المجتمعات، إذ تتيح لنا المجتمعات وقتًا للاهتمام بأشياء أخرى بعيدًا عن بقاءنا. يُعتبر هذا الخوف -أو الحاجة إلى الانتباه للخطر والتهديدات بشكل دائم بينما نعيش في توتر دائم- بمثابة الأساس أو السبب الثالث وراء وجود ظاهرة المجتمع، إذ يؤمن لنا المجتمع الحماية والأمن. وبذلك، نرى أن سبينوزا لا يستند إلى حجج هوبز (حجة الخوف) وحسب، بل يطرح تحليلًا متميزًا من شأنه أن يفضي إلى استنتاجات مختلفة: الحاجة إلى مجتمع حر.
الدولة
تأثر اسبينوزا في ارائه في الدولة والياسة بهوبز، وهو قد قرأ كتابي هوبز: «في رجل المدينة» و«لوياتان». فكلاهما يعتقد أن كل انسان مقدر عليه بطبيعته أن يسعى لتحقيق مصلحته وكلاهما حاول أن يبين أن تكوين المجتمع الياسي، بما ينطوي عليه ذلك من قيود على الحرية الفردية للانسان، يمكن تبريره لاسباب مصلحية عقلية . فلقدرأى الانسان ان ايجاد مجتمع سياسي هو أنجح وسيلة لحمايته من الفوضى والأضرار الناجمة عن تزاحم بني الانسان على مصالحهم الذاتية، على الرغم مما يجره هذا الى وضع قيود على حرياتهم .
واسبينوزا، مثل هوبز، يتحدث عن ٠ القانون الطبيعي ٠ و ا الحق الطبيعي» ويقصد بالقانون الطبيعي: المجرى الذي حددته الطبيعة كي يسيرفيه الانسان . ويقصد بالحق الطبيعي ٠ تلك القوانين الطبيعية التي بها نتصور كل فرد على أنه مقدر عليه بالطبيعة أن يعيث على نحومعين» ( , الرسالة اللاهوتية الياسية»،١٦ ) . فالطبيعة قدرت مثلا أن«تأكلالاسماك لكبيرة الأسماك الصغيرة بحق طبيعي لا نزاع فيه»( الموضع نفسه ) ذلك لأن للطبيعة الحق المطلق في ان تفعل ما تستطيع، أي أن حقها على مقدار قدرتها .
ولهذا فان حقوق الفرد لا تحد الا بحدود قدرته. وحدود قدرته تتحدد بواسطة طبيعته. « ولهذا فانه لما كان من حق الانسان الحكيم أن يعيث وفقا لقوانين العقل، فكذلك الانسان الجاهل والأحمق له مطلق الحق في أن يعيش وفقا لقوانين الشهوة» ( الكتاب نفه،١٦) فالجاهل أو الأحمق ليس ملزما بأن يسيروفقا لما يأمر به العقل المستنير، « كما ان القط ليس ملزما بأن يعيث وفقا لقوانين طبيعة الأسد» ( الموضع نفسه) . ان للانسان، سواء بمقتضى عقلم أو بمقتضى اهوائه وشهواته، أن يسعى لتحقيق مصلحته بحسب ما يعتقده أنه مصلحته، « سواء كان ذلك بالقوة، أو الدهاء والحيلة، أو التملق والخدعة، أو اية وسيلة أخرى»( الموضع نفسه) .والبب في ذلك أن الطبيعة ليت ملزمة بقوانين العقل الانساني. وأغراض الطبيعة، ان كان للطبيعة أغراض، انما تتعلق بنظام الطبيعة ولي للانسان في هذا النظام الا مكان ضئيل تافه. وإذا بدا لنا في الطبيعة شيء غير معقول أو شر، فما ذلك إلا بسبب جهلنا بنظام الطبيعة وتوقف اعضاء هذا النظام بعضها على بعض، ولأننا نريد أن يحدث كل شيء وفقا لما يقتضيه عقلنا ومصلحتنا. ولو اننا افلحنا في التحررمن تصوراتنا التشبيهية بالانسان وطرائقنا الانسانية في النظر الى الطبيعة، لأدركنا أن الحق الطبيعي لا تحده إلا الرغبة والقوة، وأن الرغبة والقوة تتوقفان على طبيعة الانسان الفرد.
واسبينوزا يكرر هذه الآراء نفها في « الرسالة السياسية». وهنا يؤكد أننا لو بحثنا في القوة الكونية أو حق الطبيعة، فعلينا أن نقر بأنه لا يوجد تمييز بين الرغبات المتولدة عن العقل والرغبات الناتجة عن أسباب أخرى.
ولما كان لدى الانسان دافع طبيعي للمحافظة على نفسه، فان من حقه أن يتخذ كل وسيلة تحقق له هذا الغرض، وأن يعد عدواً له كل من يحول بينه وبين المحافظة على نفسه ٠ ومن هنا يود كل انسان أن يعيث آمنا على حياته، متحررا من الخوف. لكن من المستحيل تحقيق ذلك ذا فعل كل انسان ما يريد ه. ولهذا البب كان لا مفرلكل فرد أن يتعاون معغيرهمناجل تحقيق هذا الغرض،وهو الأمنعلى النفس. ومن هنا اتفق الناس على العيش معا في جماعة من أجل تحقيق الأمن للنفس والنهوض بالحياة وتثقيف الذهن . فالاجتماع البشري يقوم اذن على المصلحة الشخصية المستنيرة ، والقيود على حيأه الفرد في المجتمع يبررها هذ الاعتبار وهو أنها أقل ضررا من التهديد الجاثم على حياة الفرد بدون هذا الاجتماع .
والناس اذا اتفقوا على الاجتماع لتحقيق هذا الغرض-وهوالمحافظة على النفس - يضطرون الى أن يكلواأمرتحقيق هذا الأمن الى سلطة ذات سيادة ، وهذه السلطة لها الحق المطلق لفرض اية قوانين تشازها . صحيح أنه لا يمكن تفويض كل شيء الى هذه السلطة ، مثل الأمر بالطعام واللباس، والاستمتا ع ببعض اللذات . لك فيما عدا هذه الاحوال فان إلفردملزم باطاعة الأوامر الصادرة عن السلطة الحاكمة وبواسطة القوانين التي يفرضها الحاكم يقوم العدل أو الظلم. لكن ليس معفى هذا أن اسبينوزا يبرر استبداد لحاكم ، لأنه يرى مع سنكا أن» الطاغية لا يمكن أن يحتفظ بالحكم طويلا» («الرسالة اللاهوتية السياسية » ص ٧٦) ٠ أذا تصرف الحاكم بحسب أهوائه وشهواته واستبد بالمحكومين ، فلا رذ أن يثور عليه هزلاء ويعترضوا طريقه فينتهي الأمر بعزله ٠ ومن هنا فان من مصلحة الحاكم 1 لوكان عاقلا ان يحكم ياعتدال والا يتجاوز حدود العقل والعدالة في بمارسة الحكم .
واسبينوزا في « الرسالة السياسبة » يدرس ثلاثة أشكان من أشكال الحكم أو السيادة كما يسميه ، وهي : الملكية ، والارستقراطية ، والديمقراطية . . وخلاصة رأيه أن أحسن انواع الحكم هو : « ذلك الذي يتأس على العقل ويسترشد با نعقل » ( « الرسالة السياسية »٥ : ١ )
الحرية الدينية
ومن الأمور التي ألح اسبينوزا في توكبدها - وما عاناه في حياته يبررهذا الموقفخيرتبرير - التسامح في ل دولة . لقد كان يكره الحروب الدينية والخلافات المذهبية ، ويأو على لدولة أن تتخذ أي موقف في الأمور الدينية لصالح دين أو طائفة أو مذهب معين . ولا يحق لأي فرد أن يتنازل نلدولة أو السلطة عن حقه في اعتقادبما يشاء . ان حق الاعتقادحق لا يجوز مطلقا التنازل عنه لأية سلطة كاثنة ما كانت أو لاي فرد مهما يكن.
ولهذا دعا اسبينوزا الى توفير الحرية المطلقة للفد في اعتقاداته وآرائه في جميع الأمور . وليس لأية سلطة دينية أو سياسية أي سلطان على الفرد في هذا المجال ولتحقيق هذا الغرض ، يجب أن تتحرر الدولة من كل تأثيرللسلطة الدينية والا نسمح فا بأي تدخل في أمورها . وفي هذا السبيل ينقد اسبينوزا الدعوى القائلة بأن « الكتاب المقدس » من وحي الله ، ويتحدى صحة ودقة أسفار « العهد القديم»من « الكتاب المقدس » وصحة نسبها الى من تنسب اليه . ويرفض دعوى اليهود أنهم « شعب الله المختار».
ويطالب بعدم الخلط بين الدين وبين اللاهوت أو أي مؤسسة دينية . ويقرر أن المعجزات التي يستند انيها للاهوتيون في صحة لديانات تتناقض مع النظام الالهي - وبألتالي هي مناقضة لنفسها ٠ والعقيدة المسيحية في الفداء لا يمكن العقل أن يقبلها، لأن يسوع كان نسانا كسائ الناس، وكل ما هنالك ان عقله كان يساير نظام الكون، وكانت ارادته متجهة نحو الخير الأذى.