غوتفريد لايبنتس
غوتفريد فيلهيلم لايبنتز (بالألمانية: Gottfried Wilhelm Leibniz) (لايبزغ 1 يوليو (21 يونيو أو. إس.)، 1646 - 14 نوفمبر 1716 في هانوفر). هو فيلسوف وعالم طبيعة وعالم رياضيات ودبلوماسي ومكتبي ومحام ألماني الجنسية.
يشغل لايبنتز موقعاً هاماً في تاريخ الرياضيات وتاريخ الفلسفة. أسس لايبنتز علم التفاضل والتكامل الرياضياتي بشكل مستقل عن إسحاق نيوتن، كما أن رموزه الرياضياتية ما زالت تستخدم بشكل شائع منذ أن تم نشرها والتعريف بها. قوانينه تلك كـ "قانون الاستمراية" و"قانون التجانس الفائق" كشفت بعد نظره ولم يتم العمل بها رياضياتيا حتى القرن العشرين. كما أنه كان أحد أكبر منتجي الآلات الحاسبة الميكانيكية، وبينما كان يعمل على إضافة عمليتي الضرب والقسمة لحسّابة باسكال، كان الأول في التعريف بآلة الحساب الدولابية الهوائية، كما أنه اخترع "عجلة لايبنتز" والتي استُخدمت في المتر الحسابي وهو أول آلة حاسبة تم صنعها وإنتاجها بشكل تجاري، كما أنه عدّل النظام الرقمي الثنائي وهو النظام التي تقوم عليه الحواسب الرقمية. أما في ما يخص الفلسفة، فقد عُرف عن لايبنتز "تفاؤله" كاستنتاجه بأن هذا الكون هو أكمل خلق لله بحيث لا يمكن أن يوجد أكمل منه. كما أنه كان، بالإضافة إلى رينيه ديكارت وباروخ سبينوزا، أحد أعمدة الفلسفة العقلانية خلال القرن السابع عشر الميلادي. عمله الفلسفي مهد الطريق للمنطق الحديث والفلسفة التحليلية، ولكنه كان أيضا متعلقاً بإرث الفلسفة المدرسية القروسطية والتي يقوم الاستنتاج -أو الاستنباط- فيها من خلال استعمال العقل والعمل به على المبادئ الأولية والبديهيات وليس على الدليل التجريبي. قام لايبنتز بمساهمات كبيرة في علم الفيزياء والتقنية كما أنه تنبأ بأفكار ظهرت لاحقاً على أسطح الفلسفة، نظرية الاحتمال، البيولوجيا، الطب، علم الأرض، علم النفس، اللغويات، وعلم المعلومات. ألف في الفلسفة، السياسة، القانون، الأخلاق، اللاهوت، التاريخ، وفلسفة اللغة. هذه المساهمات العريضة كانت منشورة ومتوزعة ما بين دوريات وعشرات الآلاف من الرسائل والمخطوطات. كتب بلغات عدة أهمها اللاتينية، الفرنسية، والألمانية.
كان هذا الرجل آخر العلماء المكتملين، أى الذي جمع بين مختلف العلوم وتفوق فيها كلها، فقد كان هذا الألمانى عالما في مجالات عدة مثل: الفلسفة، الرياضيات، العلوم الطبيعية، القانون، اللغويات، الكتب والمكتبات... ولم نجد من بعده في التاريخ مثل هذا النوع من العلماء الملمين بمختلف العلوم في آن واحد.
كان للايبنيتز نظريات في علم الرياضيات والطبيعة تفوق بعضها على نظريات نيوتن الذي اتهم أحيانا بسرقة أعمال الألمانى. كما أنه كان متبحرا في علوم الأديان، وإن لم يعرف إن كان فعلا بروتستانتى مثل أسرته أم كاثوليكي مثل أصدقائه. ومن جهة أخرى، وضع لايبنيتز عدة قواعد أساسية في العلوم الفلسفية لا تزال مرجعا للمتخصصين.
سيرته الذاتية
ولد جوتفريد ليبنيز في 1 يوليو 1646 ، في نهاية حرب الثلاثين عاما، في لايبزيغ، بولاية سكسونيا.
كان والد ليبنيز أستاذاً للفلسفة الأخلاقية في جامعة ليبزيج، ورث الصبي فيما بعد مكتبة والده الشخصية. تم منحه حرية الوصول إليه من سن السابعة. في حين أن العمل المدرسي في ليبنيز كان محصوراً إلى حد كبير في دراسة شريعة صغيرة من السلطات، فإن مكتبة والده مكنته من دراسة مجموعة واسعة من الأعمال الفلسفية واللاهوتية المتقدمة - تلك التي لم يكن ليتمكن من قراءتها حتى سنوات دراسته الجامعية. مكتبة والده مكتوبة إلى حد كبير باللغة اللاتينية، أدى أيضا إلى إتقانه في اللغة اللاتينية، والذي حققه في سن 12 عاما.
توفى عام 1716 في هانوفر.
في الفلسفة
يبدو تفكير ليبنيز الفلسفي مجزأ، لأن كتاباته الفلسفية تتكون بشكل رئيسي من العديد من القطع القصيرة: مقالات المجلات، والمخطوطات التي نشرت بعد وفاته بفترة طويلة، والعديد من الرسائل إلى العديد من المراسلين. وقد كتب أطروحتين فلسفيتين طويلتين فقط، نُشر منها فقط كتاب Théodicée عام 1710 في حياته.
يؤرخ لايبنتز في بدايته كفيلسوف في خطابه حول الميتافيزيقيا، الذي ألفه عام 1686 كتعليق على نزاع جار بين نيكولاس ماليبرانش وأنطوان أرنولد. أدى هذا إلى مراسلات واسعة وقيمة مع أرنولد ؛ ولم ينشر الخطاب حتى القرن التاسع عشر. في عام 1695 ، قام ليبنيز بدخوله العام في الفلسفة الأوروبية مع مقال صحفي بعنوان "النظام الجديد لطبيعة وتوصيل المواد". بين 1695 و 1705 ، قام بتأليف مقالاته الجديدة عن التفاهم الإنساني، وهو تعليق مطول على مقالة جون لوك 1690 حول فهم الإنسان، ولكن عند معرفة وفاة لوك في 1704 ، فقد الرغبة في نشرها، بحيث لم يتم نشر المقالات الجديدة حتى عام 1765. يتكون( Monadologie) ، الذي تألف في 1714 ونُشر بعد وفاته، من 90 قول مأثور.
التقى لايبنيز مع سبينوزا في عام 1676 ، وقرأ بعض كتاباته غير المنشورة، ومنذ ذلك الحين يشتبه في الاستيلاء على بعض أفكار سبينوزا. في حين كان لايبنتز معجبًا بعقل سبينوزا القوي، فقد كان مستاءًا من استنتاجات سبينوزا، خاصةً عندما كانت هذه لا تتفق مع العقيدة المسيحية.
على عكس ديكارت وسبينوزا، كان ليبنيز لديه تعليم جامعي شامل في الفلسفة. تأثر بأستاذه في لايبزغ جاكوب توماسوس، الذي أشرف أيضا على أطروحته الجامعية في الفلسفة. كما قرأ ليبنيز بفارغ الصبر فرانسيسكو سواريز، وهو يهودي إسباني يحترم حتى في الجامعات اللوثرية. اهتم لايبنتز بعمق بالوسائل والنتائج الجديدة لكل من ديكارت وهويجنس ونيوتن وبويل، لكنه نظر إلى عمله من خلال عدسة ملطخة بالمفاهيم المدرسية. ومع ذلك ؛ لا تزال الحالة هي أن أساليب ومخاوف ليبنيز غالبا ما تتنبأ بالمنطق، والفلسفة التحليلية واللغوية للقرن العشرين.
فلسفة التفاؤل
- مقالة مفصلة: أفضل العوالم الممكنة
- مقالة مفصلة: تفاؤل
في الرياضيات
يرتبط اسم لايبنتز بالتعبير "دالة رياضية "(1694)، التي كان يصف بها كل كمية مُتَعَلّقة ب منحنى، مثل ميل المنحنى أَو نقطة معينة على المنحنى.
يعتبر لايبنتز مع نيوتن أحد مؤسسي علم التفاضل والتكامل وبخاصة تطوير مفهوم التكامل وقاعدة الجداء، كما طور المفهوم الحديث لمبدأ حفظ الطاقة.
في السياسة
كانت ألمانيا في هذا العصر تمثل قوة أوروبية لا يستهان بها، انما كانت تعانى من صولات وجولات الجيوش الفرنسية عبر أراضيها... فمن جانبها كانت فرنسا تعيش أزهى عصور مجدها تحت حكم مستقر لأشهر ملوكها "لويس الرابع عشر". وفي عام 1672، تم إرسال لايبنيتز بصفته ديبلوماسي وعالم اشتهر رغم صغر سنه عبر القارة الأوروبية، للقاء الملك الفرنسى لمحاولة اقناعه بالعدول عن إرسال جيوشه لألمانيا. وقد مكث الرجل أربعة سنوات كاملة في فرنسا لمحاولة أداء هذه المهمة.
بدأ لايبنيتز محادثاته مع لويس الرابع عشر بإرسال وصيته الشهيرة للملك الفرنسي، فيقول في رسالته:
يجب على فرنسا الإعداد لغزو مصر، حيث أن موقعها الجغرافى متميز للسيطرة من خلاله على بحار العالم. إن مصر كانت في الماضى أم العلوم، وقد صارت الآن أرضا لمجتمع الخيانات المحمدية (المسلمين). إن حفر قناة بين البحرين، سيسمح لفرنسا من خلال الموقع الجغرافى لمصر تثبيت وسائل الاتصال بدول الشرق الثرية، وستربط التجارة بين الهند وفرنسا.
ومع أن لويس الرابع عشر كانت له اهتمامات أخرى في ذلك الوقت، إلا أنه احتفظ بنصائح لايبنيتز في أرشيفه الديبلوماسي إلى أن يحين الوقت الملائم. وظل التطلع لاحتلال مصر قائما في الأذهان لسنوات طويلة حتى جاءت الثورة الفرنسية. وفي محاولة لتقوية موقف فرنسا من إنجلترا، تم إرسال حملة نابليون إلى مصر لتحقيق ما أوصى به لايبنيتز الألمانى.
كمحامي وأخلاقي
أهمل الباحثون الناطقون بالإنجليزية كتابات لايبنتس حول القانون والأخلاق والسياسة لفترة طويلة من الزمن، ولكنها أصبحت مؤخرًا موضع اهتمام.
لم يكن لايبنتس مدافعًا عن الملكية المطلقة -مثل هوبز- أو عن الاستبداد والبطش بأي شكل من الأشكال، لكنه لم يقلد الآراء السياسية والدستورية لمعاصره جون لوك. قدم لايبنتس آراء دعمت الليبرالية في أمريكا القرن الثامن عشر ولاحقًا في أماكن أخرى. اقتبس المقتطف التالي من رسالة لايبنتس إلى فيليب نجل البارون يوهان كريستيان فون بوينبورغ عام 1695. توضح الرسالة آراء لايبنتس السياسية بشكل كبير:
بالنسبة إلى ... تعتبر سلطة الملوك والطاعة التي تدين بها شعوبهم لهم مسألة كبيرة. لطالما صرحت بصحة إقناع الأمراء بامتلاك الشعوب حق المقاومة، وإقناع الشعب -من ناحية أخرى- بطاعة الأمراء بشكل سلبي. أؤيد تمامًا رأي غروتيوس الذي يحث المرء على التحمل والطاعة إجمالًا؛ فالشرور التي تسببها الثورات أكبر بكثير من الشرور التي تشعلها. مع ذلك، أدرك احتمال تفريط بعض الأمراء برفاهية الشعب، ما قد يصل لدرجة تلغي الالتزام بالطاعة. يبقى ذلك نادر الحدوث، وعلى اللاهوتي الذي يصرح بالعنف تحت هذه الذريعة أن يحذر من الانغماس في ذلك؛ فالإفراط في العنف أخطر بكثير من العجز.
دعا لايبنتس في عام 1677 إلى تشكيل اتحاد أوروبي كونفدرالي يحكمه مجلس شورى أو شيوخ؛ على أن يمثل أعضاؤه دولًا بأكملها وأن يكونوا أحرارًا في التصويت. يعتبر البعض ذلك الرؤية الممهدة للاتحاد الأوروبي الحالي. اعتقد لايبنتس أن أوروبا ستتبنى ديانة موحدة، وأعاد التصريح بذلك في عام 1715.
دعا لايبنتس في الوقت نفسه إلى مشروع متعدد الأديان والثقافات لإنشاء نظام عدالة عالمي، وهذا تطلب منه منظور واسع متعدد التخصصات. جمع لايبنتس لتقديم هذا الاقتراح بين علم اللغة (خاصةً علم الحضارة الصينية) والفلسفة الأخلاقية والقانونية والإدارة والاقتصاد والسياسة.
المسكونية
كرس لايبنتس جهودًا فكرية ودبلوماسية كبيرة لما يُطلق عليه الآن المسعى المسكوني. عمل لايبنتس في البداية على مصالحة الكنائس الرومانية الكاثوليكية واللوثرية، ثم الكنائس اللوثرية والإصلاحية. سار لايبنتس في هذا الصدد على خطى مناصريه الأوائل البارون فون بوينبورغ والدوق جون فريدريك الذين حاولوا توحيد الديانتين ورحبوا بالمساعي المشابهة بحرارة. كان البارون فون بوينبورغ والدوق جون فريديريك تابعين للكنيسة اللوثرية منذ الولادة، ولكنهما انتقلا للكنيسة الكاثوليكية لاحقًا (لم يتبع أبناء الدوق والدهم، ولهذا بقي بيت براونشفايغ لوثريًا). تواصل لايبنتس -لتحقيق مساعيه- مع الأسقف الفرنسي جاك بينين بوسويه، وشارك في بعض المناقشات اللاهوتية. اعتقد لايبنتس أن اتباع المنطق سيصلح الشرخ الناجم عن الإصلاح البروتستانتي.
كعالم لغوي
كان لايبنتس -اللغوي الفقيه- طالب شغوف باللغات ومتابع متلهف لأي معلومة تتعلق بالمفردات والقواعد. اعتقد العلماء المسيحيين في عصره أن العبرية هي اللغة البدائية للجنس البشري، وهذا ما أنكره لايبنتس وفنده. كذلك الأمر، ادعى بعض العلماء السويديين أن اللغات الجرمانية منحدرة من أحد أشكال اللغة السويدية البدائية، ولكن لايبنتس ناهض هذا الادعاء ودحضه. حيرت أصول اللغات السلافية لايبنتس، وفتنته الصينية الكلاسيكية. كان لايبنتس أيضًا خبيرًا في اللغة السنسكريتية.
نشر لايبنتس الطبعة الأساسية (الطبعة الحديثة الأولى) من تاريخ هولشتاين في أواخر القرون الوسطى، وهو تأريخ زمني لاتيني لمقاطعة هولشتاين.
الكتابات والنشر
استخدم لايبنتس في كتاباته ثلاث لغات بصورة رئيسية هي: اللاتينية المدرسية والفرنسية والألمانية. نشر خلال حياته العديد من الكتيبات والمقالات العلمية، لكنه لم ينشر سوى كتابين فلسفيين هما: الفن الاندماجي والثيوديسيا. نشر لايبنتس العديد من الكتيبات -دون اسم في معظم الأحيان- نيابةً عن بيت براونشفايغ- لونيبورغ، وأبرزها كتيب بعنوان «عن حق السيادة» الذي بحث في طبيعة السيادة. ظهر كتاب مهم بعنوان «مقالات جديدة حول إدراك الإنسان» بعد وفاة لايبنتس لأنه أوقف عملية نشره بعد وفاة جون لوك. أكمل بودمان في عام 1895 لائحة ضمت جميع مخطوطات ومراسلات لايبنتس، وحينها أصبح المدى الهائل لإرثه واضحًا؛ فقد ضمت اللائحة نحو 15000 رسالة إلى أكثر من 1000 مستلم بالإضافة إلى أكثر من 40000 عنصر آخر، وقد قارب عدد لا بأس به من الرسائل طول المقال. بقيت الكثير من مراسلاته -خاصةً الرسائل المؤرخة بعد عام 1700- غير منشورة، ولم تظهر الكثير من المنشورات إلا في العقود الأخيرة. يعتبر مقدار وتنوع واضطراب كتابات لايبنتس نتيجة متوقعة لحالة وصفها في أحد رسائله على النحو التالي:
لا أستطيع أن أخبرك كم أنا مشتت ومرتبك على نحو غير عادي. أحاول أن أجد أشياء مختلفة في الأرشيف. أنظر إلى الأوراق القديمة وأبحث عن وثائق غير منشورة كي ألقي بعض الضوء على تاريخ عائلة براونشفايغ. أتلقى وأجيب على عدد كبير من الرسائل. في الوقت نفسه، لدي الكثير من النتائج الرياضية والأفكار الفلسفية وغيرها من الابتكارات الأدبية التي لا ينبغي السماح لها بالتلاشي. تراني أقف في غالب الأحيان مكتوفًا لا أعرف من أين أبدأ.
نظمت الأجزاء المتبقية من الطبعة النقدية من كتابات لايبنتس على النحو التالي:
- السلسلة 1. المراسلات السياسية والتاريخية والعامة ضمن 25 مجلد في الأعوام 1666- 1706.
- السلسلة 2. المراسلات الفلسفية ضمن 3 مجلدات في الأعوام 1663- 1700.
- السلسلة 3. المراسلات الرياضية والعلمية والتقنية ضمن 8 مجلدات في الأعوام 1672– 1698.
- السلسلة 4. كتابات سياسية ضمن 7 مجلدات في الأعوام 1667- 1699.
- السلسلة 5. كتابات تاريخية ولغوية.
- السلسلة 6. كتابات فلسفية ضمن 7 مجلدات في الأعوام 1663– 1690، ومقالات جديدة حول إدراك الإنسان.
- السلسلة 7. كتابات رياضية ضمن 6 مجلدات في الأعوام 1672– 1676.
- السلسلة 8. الكتابات العلمية والطبية والتقنية ضمن مجلد واحد في الأعوام 1668–1676.
بدأت الفهرسة المنهجية لإرث لايبنتس في عام 1901، ولكنها تعرقلت بسبب مرور العالم بحربين عالميتين ثم عقود من الانقسام الألماني إلى دولتين مرورًا بالستار الحديدي للحرب الباردة بينهما، وهذا أدى إلى تشتيت العلماء وتلاشي أجزاء من إرثه الأدبي. كان على المشروع الطموح أن يتعامل مع كتابات بسبع لغات ضمن نحو 200,000 صفحة مكتوبة ومطبوعة. أعيد تنظيم المشروع في عام 1985 ليدرج ضمن برنامج مشترك بين الأكاديميات الفيدرالية والحكومية الألمانية. نشرت فروع بوتسدام ومونستر وهانوفر وبرلين بشكل مشترك 57 مجلد من الطبعات النقدي بمتوسط 870 صفحة مع إعدادهم قائمة وفهرس بذلك.
علاقة العالم ليبنتز بالعالم نيوتن
تأثرت حياة العالم الألماني العبقري جوتفرید ليبنتز بحياة العالم الإنجليزي الشهير إسحاق نيوتن عدة مرات. فمنذ البداية، قام كل منهما على حدة بابتكار الفرع الجديد والفعال من علم الرياضيات الذي نطلق عليه الآن اسم حساب التفاضل والتكامل على الرغم من تناولهما لهذا الفرع بطرق ومناهج مختلفة. ولقد استمر الخلاف - حول من قام باكتشاف هذا العلم ومتی - حتى وفاة ليبنتز في عام 1716.
بالإضافة إلى ذلك ، عارض ليبنتز نظرية نيوتن الكبرى حول النظام الكوني التي فسرها في كتابه Principia (۱۹۸۹ - ۱۹۸۷). فمن منظور نیوتن، كان العالم ما هو إلا آلة كبيرة تخضع فقط لقوى معينة مثل قوة الجاذبية. كما اعتقد نیوتن أن مثل هذا النظام الكونی متغير؛ فهو عرضة للانهيار أو التلاشی لحين التدخل المباشر من خالقه الذي أبدعه. ولقد رفض ليبنتز هذا التصور الخاطئ وغير السليم عن الكون. واعتقد ليبنتز أنه إذا اعتقدنا أن الكون كامل، فسنرى أنه لن يحتاج إلى تعديل دائم من قبل خالقه ومبدعه. ولقد استغرق الأمر ما يزيد عن قرن بالنسبة للعالم الفرنسي العبقري جوتفرید ليبنتز (1796) ليوضح أن النظام الشمسي ثابت حقا على مر الزمن.
أما التحدي الآخر الذي واجهه ليبنتز فيتمثل في إصرار نیوتن على فكرة الفضاء والزمان المطلقين اللذين يوجدان سواء أكانت هناك أية مادة في الفضاء أم أي أحداث تحدد بدورها مرور الزمن. ولقد صرح نيوتن أن هناك علاقة بين حركة كل الكائنات وبين هذا النظام الشمسي الثابت ؛ حتى وإن كانت الشمس دائمة الحركة فيه. وهنا نلمح بعض الإشارات الدينية ، حيث أشار نیوتن لفكرة الفضاء والزمان المطلقين على اعتبار أنها مركز من مراكز الإحساس في الكون.
لم يجد ليبنتز وآخرون غيره مثل الفيلسوف الإنجليزي جورج باركلي سببا لأهمية هذه الفكرة؛ فقد رأوا أن الأمر ليس بالضرورة أن يكون كذلك. وبالنسبة لهم، كانت المسافة هي ببساطة مقياس البعد بين الأجسام، أما الزمن فهو مقياس ترتیب ومباعدة الأحداث مثل الدقات المتتابعة للساعة أو أوقات شروق الشمس. وفي هذا الشأن، كانت الحركة النسبية فقط هي القابلة للقياس؛ ونعني بهذه الحركة النسبية حركة جسم واحد مقارنة بجسم آخر. هذا وقد استمر الجدل حول فكرة المسافة والزمن حتى القرن العشرين ضمن أفكار أخرى للعالم ألبرت آینشتاین ونظرية النسبية الخاصة به (1904).
حياته
ولد في أول يوليه سنة 1946 في مدينة ليپتسلك Leipzig وتوفي في 14 نوفمبر سنة ۱۷۱۹ في مدينة هانوفر Hanover.
كان أبوه من رجال القانون ، وكان يلقي محاضرات في جامعة ليپتسك في علم الأخلاق . ويقتني مكتبة حافلة أفاد منها ابنه أكثر مما أفاد من دراسته في المدارس التي تعلم فيها . وفي سن صغيرة أتقن ليبنتس اللاتينية واليونانية ، وراح يقرأ مؤلفات أفلاطون وأرسطوطاليس في نصوصها اليونانية ، وأشعار فرجيل في نصها اللاتيني . وسيكون شعاره هو : أن ينشد في أقاويل النفوس العظيمة : الوضوح ، وفي الأشياء : الاستعمال. ثم درس الفلسفة واللاهوت الاسكلائيين، ووجد الذهب مختفية في التراب الاسكلائي المتبربر .
وفي سنة ۱۹۶۱ دخل جامعة ليپتسك، حيث اختار دراسة الفلسفة ، وتتلمذ على يعقوب توماسيوس Thomasius وبدا قراءة مؤلفات المفكرين والعلماء المحدثين : مثل فرانسس بیکون ، ودیکارت ، وكبلر Kepler ، وجليو ، وهوبز ، وجندي ، فوجد لديهم فلسفة وعلما أفضل من فلسفة أرسطو وعلمه . ويقول في ذكرياته إنه كان يجادل نفسه وهو في نزهائه الخلوية أي مذهب ينبع : مذهب أرسطو في الشكول الجوهرية والعلل الغائية ، أو مذهب هؤلاء القائل بالألية ( الميكانيكية ) والذي بدأ يسود الفكر في منتصف القرن السابع عشر .
وفي سنة 1963 قدم رسالة للحصول على البكالوريوس موضوعها هو : « مبدأ الفردانية »
وعقب ذلك ترك ليبنتساك وانتقل إلى جامعة بينا Jena في سنة ۱۹۹۳ ليدرس على يدي ارهرد فايجل Erhard Weigel الرياضيات. وأفكر أنذاك في أن يوجد للتفكير الفلسفي فنا ترکيبيا art combinatoire مثل ذلك المستعمل في الرياضيات. وكانت ثمرة هذا التفكير رسالته التي قدمها في سنة ۱۹۹۹ بعنوان de arte combinatoria التي تعد ارهاصا بالمنطق الرياضي .
وارتحل بعد ذلك إلى التدورف Altdorf ( بالقرب من نورمبرج ) حيث حصل على اجازة الدكتوراه في القانون سنة ۱۹۹۷، لأنه لم يستطع الحصول عليها من جامعة بينا الأسباب غير معروفة لنا.
وفي ذلك الوقت انضم في نورمبرج إلى جمعية سرية ثيوصوفية سحرية لها في الوقت نفسه مطامح سياسية ، وتدعي جمعية « الوردة - الصليبة » Rosen kreuz( راجع ماقلناه عنها في كتابنا : « امانویل کنت » ج1 ): وبتأثير هذه الجمعية أولع بالكيمياء الصنعوية alchimie وبالكيمياء بوجه عام ، کا أولع بالتدبيرات السياسية .
وفي نورمبرج أيضا تعرف إلى البارون فون بوینبرج Boinburg وهو مستشار خاص سابق لناخب ماینتس وسياسي واسع التأثير ؛ وسرعان ما جمعت بينهما صداقة حميمة ، وهو الذي لقن ليبنتس أساليب السياسة وبث فيه روح الاهتمام بالأحداث السياسية الجارية ، فبدا يكتبه رسائل عن الأمن الداخلي والخارجي لألمانيا .
ولهذا عين مستشارة في الديوان العالي لناخبية ماینتس في سنة ۱۹۷۰ وكان قد رفض منصبة تعليمية في جامعة ألتدورف غرض عليه في سنة ۱۹۹۷ غداة حصوله على الدكتوراه في القانون .
وبوصفه مستشارا في ديوان ناخبية ماينتس كلف القيام مهمة لدى لويس الرابع عشر ملك فرنسا ، فسافر إلى باريس في ۱۹۷۲، وأراد أن يقنع ملك فرنسا ، لويس الرابع عشر ، بالقيام بغزو مصر ، والقضاء على الدولة العثمانية في تركيا ) ابتغاء حماية أوروبا من غزوات الأتراك . لكنه كان يرمي من وراء هذه المغامرة إلى شيء آخر، هو صرف لويس الرابع عشر الطامع في غزو ألمانيا عن محاولة غزو ألمانيا .
وعرض ليبنتس مشروعه هذا في مذكرة طويلة جدا ، حافلة بالوثائق ، وفيها بين الأسباب الموجبة لغزو مصر وما هي الشروط التي ينبغي توافرها لنجاح هذه الحملة .
ورفض لويس الرابع عشر القيام بهذه المغامرة ، وعاد ليبنتس إلى ألمانيا صفر اليدين من الناحية السياسية ، لكنه أفاد كثيرا من إقامته بباريس من الناحية العلمية. فقد تعرف إلى أرنو ، کبیر رهبان يوررويال ، وجرت بينهما محادثات فلسفية ولاهوتية أفاد منها ليبنتس كثيرا. وتعرف إلى هويجانس Huyghens الفزيائي الهولندي الكبير ، وأجرى أبحاثا معه ، وقرأ مؤلفات بسكال. كما انه اتقن اللغة الفرنسية اتقانا جعله يكتب الكثير من مؤلفاته - وأكثرها رواجا بين الناس - باللغة الفرنسية. وقد استمرت إقامته في باريس ثلاث سنوات .(۱۹۷۰ - ۱۹۷۲)
وفي السنة التالية لعودته من باريس - اعني في سنة ۱۷۷۹. نام باكتشاف رياضي عظيم جعله من أعظم الرياضيين قاطبة ، وهو اكتشافه لحساب التفاضل وند انطلق ليبنت من فكرة ميتافيزيقية هي فكرة الكميات اللامتناهية في الغر وكان نیوتن قد بدأ في سنة 1995 في اكتشاف مائل لاكتشاف ليبنتس هذا . ومن هنا قامت مجادلات طويلة حول من هو صاحب الفضل الأول في اكتشاف هذا العلم . والراجح هو أن كليهما قام باكتشافه مستقلا تماما عن الآخر ، ودون علم بما يفعله الآخر . ( راجع في هذا : I.T. More 1934 ,Isaac Neewton, P. 565 et sq. New York )، وأية ذلك اختلاف طريقتي کليها في وضع مسائل هذا العلم. ولايضاح الفارق بين طريقتيهما نقول إن ادخال فكرة السرعات المختلفة قد احتاج إلى طريقة للتعامل مع نسب تغير الكميات المتغيرة ، فإذا كانت السرعة مطردة ( ثابتة ) فإنها تقاس في المكان ( م ) الموجود في الزمن (ز)، وستظل الكمية زام هي هي مهما صغرت أو كبرت موز. لكن إذا كانت السرعة متغيرة ، فإن القيمة في أية لحظة لا يمكن أن تستخلص إلا باتخاذ زمن يكون من الصغر بحيث لا تتغير السرعة بشكل محسوس ، وبقياس المكان الموصوف في زا في زمن قصير ، وحينها تقلل موز بدون حذ فيصبحان لا نهائيين فإن خارج القسمة يعطي السرعة في اللحظة . وقد دون هذا ليبنتس هكذا ؟ ( حيث ت هي التفاضل ) ds/dt وهو ما يسمى المعامل التفاضلي ل م ، بالنسبة إلى «زه. - أما نبوتن فإنه في طريقته المسماة بطريقة. التقلبات fluxions فإنه دون نفس الكمية هكذا و وهو تدوين ما لبث أن اطرحه الرياضيون وأخذوا بتدوين ليبنتس الذي لا يزال مستعملا حتى اليوم .
وتوفي البارون فرن بوينبورج وكذلك توفي ناخب ماینتس وهو يوحنا فيليب ، وذلك في عام سنة ۱۹۷۰ . فشعر ليبنتس بأنه صار حرا تجاه ناخبية ماینتس ، فقبل عرضا جاءه من دون براونشفيح في هانوفر بتولي منصب محافظ مكتبته في هانوفر . لكنه قبل أن يعود إلى ألمانيا ، ارتحل من باريس قاصدا انجلتره ، فوصل إلى لندن وتعرف إلى عالم الهندسة کولنز Collins الذي كان صديقا لنيوتن؛ وعاد إلى ألمانيا مارا بأمستردام حيث التقى باسبينوزا وجرت بينها مطارحات عديدة في الميتافيزيقا .
وكلفه دوق براونشفيج- لونبورج بكتابة تاريخ أسرة هذا الدون . نتجول ليبنتس في أنحاء ألمانيا وايطاليا للاطلاع على الوثائق والمحفوظات التي تتعلق بتاريخ هذه الأسرة . لكنه لم يبدأ في نشر هذه الوثائق إلا في سنة ۱۷۰۱ واستمر في نشرها حتى سنة ۱۷۱۱. وشرع في كتابة تاريخ الأسرة على أساس هذه الوثائق ، لكنه توفي في سنة ۱۷۱۹ قبل أن ينجز هذا العمل .
وفي سنة ۱۷۱۱ سافر إلى روسيا ليعرض على قيصرها بطرس الكبير خطة لتنظيم روسيا مدنيا ومعنويا . ولم ينشر ما كتبه ليبنتس عن تاريخ اسرة هانوفر إلا في عام 1843- 45.
وبعد ذلك سافر إلى فينا تلبية لدعوة من امبراطور النمسا ، وفي بلاد هذا الامبراطور التقي بالأمير يوجين Eugen أمير سافويا الذي كتب ليبنتس من أجله کتاب , المونادولوجيا، Monadologie
وفي السنوات الخمس عشرة الأخيرة من عمره كزس جهوده للفلسفة خصوصأ ، وفي هذه الفترة أيضا ألف مؤلفاته الرئيسية في الفلسفة .
كذلك كان له دور في رفع دوقية هانوفر إلى ناخبية ( أي أن يكون دونها من بين من ينتخبون الامبراطور في المانيا). وهو صاحب الفضل في اصدار فريدرش الأول ، ملك بروسيا ، قرارا بإنشاء أكاديمية العلوم في برلين .
وعمل بكل جهوده في سبيل الوحدة المعنوية لكل ألمانيا .
وكانت ترعاه حتى ذلك الحين الأميرة صوفيا في بلاط هانوفر . لكنها توفيت في سنة ۱۷۱4 كذلك صار الأمير الناخب جورج ، أمير هانوفر ، ملكا على انجلتره في سنة ۱۷۱4 ، وسافر إلى لندن لتولي العرش مبتدئا ملكية بيت هانوفر على انجلتره ، التي لا تزال مستمرة حتى اليوم . وأراد ليبنتس مرافقته لكن الوزير Bernstorf رفض الإذن له بذلك . وكانت ثالثة الأثافي أن بلاط هانوفر وبعض الأعيان أبدوا دعوی ادعاها کاهن بروتستنتي زعم فيها أن ليبنتس د کافر ، ! فتوالت على ليبنتس المحن .
ومن ناحية أخرى كان داء النقرس قد استفحل في جسم ليبتس ، حتي امتد إلى الكتفين ، وصار غير قادر على الحركة وهو جالس على كرسيه . وفي أزمة حادة ، توفي ليبنتس في الرابع عشر من شهر نوفمبر سنة ۱۷۱۹ ( ألف وسبعمائة وست عشرة )؛ ودفن دون احتفال كأنه واحد من عامة الناس ، هذا العالم الرياضي العظيم والفيلسوف الكبير وصاحب الفضل العميم في ايجاد الوحدة الروحية لألمانيا في العصر الحديث ! فيا أشد سفالة الناس ، في كل زمان ومكان ! وحتى اكاديمية برلين التي أنشئت بفضل مساعيه لم تحفل بمونه ، ولم تقم بتأبينه ، وإنما فعلت ذلك الأكاديمية الفرنسية في باريس ، حيث ألقى كلمة تأبينة فيها سكرتيرها الدائم فونتنل Fontnelle ! فيا للعار على ( علياء ، أكاديمية برلين !!
فلسفته
فن التركيب
الفكرة السائدة في تفكير ليبنتس هي : الانسجام الكلي في الكون . فالكون كله يؤلف انسجاما ، وفيه وحدة وتعدد في آن معا ، ولهذا سادت لدى ليبنت فكرة التناسق والتفاضل . والطبيعة هي ( ساعة الله ، Horlogium Dei ( « مؤلفات ليبنتس الفلسفية ، ج۱ ص۲۰، نشرة Gerhardt).
وفي رسالة عن « فن التركيب و de arte combinatoria نمي ليبنتس فكرة اقترحها ريمون لول - Raimondo Lull وقال بها رياضيون محدثون ، وهي فكرة تحليل المعاني أو الحدود . فهو يريد أولا أن يحلل الحدود إلى العناصر المؤلفة منها . د ويجري التحليل کہا بلي : دع أي حد معلوم ينحل إلى أجزائه الصورية ، أي : ضع له تعريفا. ثم حلل هذه الأجزاء ، أو ضع تعريفات لحدود التعريف الأول ، حتى تصل إلى أجزاء بسيطة أو إلى حدود غير قابلة للتعريف، » | ( فن التركيب » 14، نشرة جبهرت ج4 ص 14- 65) وهذه الحدود البسيطة غير القابلة للتعريف ستؤلف أبجدية الأفكار الانسانية . فكما أن الكلمات والجمل في اللغة مؤلفة من الحروف الأبجدية ، فكذلك الفكر الإنساني مؤلف من حدود بسيطة غير قابلة للتعريف .
والخطوة الثانية هي تمثيل هذه الحدود البسيطة برموز رياضية . فلو استطاع الانسان اکتشاف وسيلة لتركيبة هذه الرموز ، فإنه سيظفر حینئذ بمنطق استنباطي للاكتشاف ، يصلح ليس فقط للبرهنة على الحقائق التي سبق اكتشافها ، بل وأيضا لاكتشاف حقائق جديدة .
و لكن ليبنتس لم يتصور أن كل الحقائق يمكن اكتشافها بالاستنباط القبلى a priori ، لأن ثم صنفا من الحقائق يؤخذ من واقع حوادث التاريخ ، ولا يستنبط قبليا، مثل کون اوغسطس كان امبراطورة رومانيا ، أو كون المسيح ولد في بيت لحم. كذلك توجد قضايا كلية لا يعرف صدقها إلا بالملاحظة والاستقراء .
وهكذا طمح ليبنتس إلى ايجاد علم كلي ، من فروعه المنطق والرياضيات . وما النظام الاستنباطي في المنطق والرياضيات إلا شاهد على الانسجام الكلي في الكون ، إذ هو الذي يسمح بالقيام بهذا الاستنباط المتحقق في المنطق وفي الرياضيات .
ونظرته إلى تاريخ الفلسفة متأثرة بفكرة الانسجام الكلي . إذ هو يرى أن المذاهب الفلسفية على مدى تاريخ الفلسفة تؤلف وحدة منسجمة ، كل ما هنالك أن بعضا منها يؤكد جانبا دون سائر الجوانب. لكن كل المذاهب الفلسفية تحتوي على جانب من الحقيقة . هذا كان يعتقد أن المذاهب الفلسفية على صواب في غالبية ما تؤكده ، وعلى خطأ في معظم ما تنفيه. ويضرب شاهدا على ذلك مذهب الميكانيكيين : فإنهم مصيبون في قولهم بوجود علل فاعلية ميكانيكية ، لكنهم مخطئون في إنكارهم لكون هذه العلل الميكانيكية تخدم أعراض ومقاصد معلومة ، أي غايات. فثم حقيقة إذن في المذهب الميكانيكي والمذهب الغائي على السواء .
الأحادات أو الذرات اللامادية
تدل التجربة على أن هاهنا مركبات . وما دام هاهنا مرکبات ، فهاهنا بسائط. لأنه لو كانت المركبات مؤلفات من مركبات مهما مضينا في التحليل ، لما أمكن تفسير أي مركب . فلا بد إذن من وجود عناصر أولية بسيطة منها تتألف المركبات . وهذه البسائط ليست مؤلفة من أجزاء ، بل هي جواهر فردة. وهذا ما أدركه الذريون اليونانيون القدماء : ديمقريطس ، وليونس، وأبيقور ، وهذا هو الجانب الصحيح في مذهبهم .
لكنهم أخطأوا حين ظنوا أن هذه الذرات ممتدة ، لأن كل ممتد قابل بالضرورة للتقسيم . فالقول بذرات ممتدة - أي مادية - متناقض في ذاته ، لأن الذرة لا تقبل القسمة ، ولكن أي امتداد يقبل القسمة .
ومن هنا انتهى ليبنتس إلى القول بأن الذرات لا بد أن تكون لا مادية . لكن هل توجد ، وكيف نوجد، ذرات غير مادية ؟.
وجد ليبنتس الشاهد على هذا النوع من الذرات اللامادية في النفس الإنسانية فهي بسيطة وغير قابلة للقسمة وغير مادية . إن الأنا الذي يفكر ويشعر ويريد هو جوهر بسيط لا ينقسم ، وهو روحي .
وبعد أن قدم ليبت هذا الشاهد ، عممه على كل الكون ، فقال إن الكون كله مؤلف من جواهر فردة روحية ، سماها « الأحادات » Monades ( من الكلمة اليونانية monas = وحدة ).
فإذا نحصنا عن هذا والأحاد ، الذي هو نفسنا الانسانية ، وجدنا فيه خاصتين بارزتين هما : الادراك ، والا شتهاء. Perception et Appetition
فالأحاد إدراك ، إنه يدرك نفسه ويدرك الكون كله . إن الكل في ترابط بعض مع بعض ولهذا فإن كل شيء يمتثل هو في ارتباط مع سائر الأشياء في الكون ؛ إما مباشرة أو على نحو غير مباشر ، الحاضرة منها والماضية . ولهذا فإن الأحاد و نظرة إلى العالم ، وهو عالم أصغر microcosmne ينطوي على العالم الأكبر macrocosme وبالجملة فإن الأحاد و إله صغيره . ومن ناحية أخرى فإن الأحاد اشتهاء appetition أعني أن في الأحاد نزوعا إلى الانتقال من الادراكات التي حصلها إلى الإدراكات التي لم يحصلها بعد. وهذا النزوع يسود كل الحساسية . ووجود هذا الانتهاء هو الذي يفسر اللذات والآلام ، والشهوات والوجدانات . وهذا أيضا المحرك الأول للإرادة ، لأن الارادة هي الشهوة مستضيئة بالعقل .
على أن الانتهاء مشمول في الإدراك، ذلك لأن الاشتهاء ما هو إلا الجهد الذي تبذله الادراكات الغامضة المختلطة كيما تصير واضحة متميزة . إنه المجهود الذي يبذله د الإله الصغير ، ( = الذرة ) كي يقترب من « الإله الكبير ..
تلك هي نظرية ليبنت المشهورة في الأحادات -mon ades . لكن ما تلبث الاعتراضات أن تثور ضدها
وأولها هو : إذا أمكن تصور أن الإنسان أحاد مزود بالادراك والاشتهاء ، فكيف يمكن تصور ذلك بالنسبة إلى الحيوان والنبات والمعادن ؟! وهل يمكن أن نتصور الحجر مؤلفة من أحادات تدرك وتشتهی ؟!
وللجواب عن هذا الاعتراض يسوق ليبنتس الشواهد التالية : إذا شاهدنا غابة في بداية الربيع فإننا نجدها جرداء تماما ، لكننا لو شاهدناها بعد شهر وجدناها خضراء تماما ، مع أنه لا بد أن يكون هناك بضع ورقات قد نبتت في أوائل الربيع لكننا لم نشاهدها ، فلا نبتت كل الأوراق بعد شهر استطعنا مشاهدة الغابة خضراء .. ومثل آخر : الأمواج حين ترتطم بالشاطىء تحدث ضوضاء ، لكننا لا ندرك صوت قطرتين من الماء تلتقيان ، مع أنها لا بد قد نجم عن اصطدامها صوت مهما يكن خفيا فهو صوت على كل حال . ومعنى هذين المثلين أن كل جزء في علة كبيرة يشارك في إحداث المعلول . وهذا يفضي بليبنتس إلى تقرير وجود و إدراكات صغيرة ، إلى جانب الادراكات الكبيرة، وتبعا لذلك يضع ليبنتس ترتیبا تصاعدية في الأحادات : من أدناها إلى أعلاها ، أعني أن للأحادات درجات متصاعدة من أدناها إلى أعلاها .
والأحادات الدنيا مزودة بإدراك وأشنهاء مثلما نحن مزودون بها. لكن إدراكاتها واشتهاءاتها هي « إدراكات صغيرة » و « اشتهاءات صغيرة . إن حال هذه الأحادات الدنيا شبيهة بحال انسان نائم نوم عميقا ، أو حال انسان دائخ بسبب دورانه حول نفسه لمدة طويلة وبشدة . إن هذه الأحادات الدنيا هي مجرد و نقط قوی ، Points de force ، و قوی نشطة متجهة ؛ وكلها تنفد وتموت ، ولكن على نحو غامض . ويسميها ليبنتس : وانطلاشيات ( = كمالات) أولية ، entelechies premieres وهي تناظر ما نسميه باسم المواد اللاعضوية.
وأعلى منها الأحادات الخاصة بالنبات . وأعلى من هذه تلك الخاصة بالحيوان . وفي أحادات الحيوان تبدأ الادراكات في الوعي بذاتها ؛ ومعها الذاكرة . والذاكرة تمكن من استنتاج شبيه باستنتاج العقل ، مثال ذلك : حين نلوح للكلب بعصا فإنه ينبح ويهرب ، وليس ذلك لأن لديه عقلا ، وإنما لأن منظر العصا ذكره بالضربات التي تلقاها من قبل . وليبنتس يقول عن أحادات الحيوان إنها « نفوس ، ames .
وفوق هذه النفوس توجد الأرواح Esprits . وفي الروح يوجد : ادراك لا واع، وشعور واع ، وذاكرة. كذلك يوجد في كل روح - على هيئة كمون . عقل. والعقل فينا هو في البداية استعداد لا شعوري للتفكير كما لو كنا نقر بمبدأ ( عدم التناقض وبمبدأ العلة الكافية وكما لو كانا كليين وضروريين .
نظرية المعرفة
وهنا نصل إلى نظرية المعرفة عند ليبنتس . يرى ليبنتس أن المعرفة الصحيحة يجب أن تتصف بصفتين : الضرورة ، والكلية . والغرض من معرفتنا هو الوصول إلى مذهب شامل لكل العلوم ، محكم الترابط ، برهاني ، مؤلف من حقائق ضرورية وكلية ، لكن التجربة الحسية لا يمكنها أن تزودنا بحقائق كلية وضرورية ، لأنها لا تقدم إلينا غير معارف مختلطة من ناحية ، وجزئية من ناحية أخرى لأنها تتعلق بأحوال مفردة جزئية . والاستقراء الكامل غير ممكن . لهذا ليس لدينا غير التجربة الباطنة ، والذهن ، والعقل. ثم إن مبادىء المعرفة فطرية فينا ، أي موجودة على سبيل الإمكان . virtuel لا بالفعل .
ولقد فرق ليبنتس بوضوح بين الإمكان Moglichkeit وبين الواقع wirklichkeit . فالممكن هو التصور الخالي من التناقض، وله مكانة - بوصفه ماهية essentia - في روح الله . والعلاقات بين التصورات الممكنة تتحدد بمبدأ ( أو قانون ) عدم التناقض ، ويعبر عنها في أحكام ضرورية ضرورة مطلقة ، وهذه الأحكام يسميها ليبنتس باسم «حقائق العقل» vérités de raison والرياضيات والميتافيزيقا والمنطق والأخلاق حافلة بهذا النوع من الحقائق . وأعلى هذه الأحكام وأولها هي الأحكام التي تتجلى حقيقتها مباشرة بالعيان دون برهان . وإليها ترد كل الأحكام الأخرى الضرورية ، عن طريق مبدأ عدم التناقض. وكل هذه الحقائق تتعلق بارتباطات بين التصورات والماهيات essentiae لا بالموجودات existentiae على أنه ليس كل تصور خال من التناقض شيئا واقعية بالضرورة . والماهيات تتجه نحو مزيد من الوجود وفقا الواقعنها وكمالها ، والله يختار من بين عدد من العوالم الممكنة أحسنها، ويبرز إلى الوجود . من بين مجموع الماهيات التي توجد في روحه على شكل تصورات غير متناقضة - تلك التي تكون مكنة في خير عالم ، والمبدا الذي يعمل الله بمقتضاه هو مبدأ الأحسن principe de meilleur أو مبدأ الملاءمة principe de Convenance
وصورة هذا المبدأ في عقلنا مي مبدأ العلة الكافية principium rationis sufficientis وهذا المبدأ الأخير له بالنسبة إلى مملكة الواقع نفس الأهمية التي لمبدا ( عدم ) التناقض بالنسبة إلى مملكة الممكن ، إنه الأساس في أحكامنا الصادرة عن العقل قبلية على الوقائع . وهذه الأحكام لا تنصف بصفة الضرورة المطلقة . وافتراض عدم وجود اية واقعة هو أمر لا يتضمن في داخله أي تناقض. بيد أن كل واقعة هي ضرورية شرطيا أو فزيائية ، أي أنها ضرورية في ارتباط نظام العالم ، ومشروطة بعلة كانية هي السبب في وجودها ، والأحكام التي تعبر عن هذا الارتباط ويمكن استنباطها بعضها من بعض وفقا المد العلة الكافية يسميها ليبنتس باسم ( حقائق الواقع ، verites de fait ، او حقانق فزيائية ، أو - لأنها ليست ضرورية ضرورة مطلقة - حقائق ممكنة .
ولم يميز ليبنتس بين العلة الفاعلية والعلة الغائية . فالسؤال عن العلة الكافية لحادث ما معناه البحث عن العلة السابقة في ارتباطها بالغاية من العالم ، تلك الغاية التي من أجلها أخرج الله الشيء من حيز الممكن إلى حيز الواقع . صحيح أنه في تفسيره للأحداث الجزئية يلجا إلى التفسير الميكانيكي، لكن هذا التفسير الميكانيكي نفسه مشبع بروح الغائية ، لأن قوانين الحركة الميكانيكية متصورة هي الأخرى بحسب امبدأ الأحسن ، ومستنبطة منه .
المكان والزمان والعالم المادي
الكون إذن - في نظر ليبنتس - مؤلف من أحادات لا مادية . فكيف نتصور إنن المكان والزمان والمادة والحركات فيه ؟.
أما المكان فيقول عنه ليبنتس إنه و ترتيب الظواهر الموجودة معا ، فنحن ندرك كمية من الموضوعات التي نحس انها ممتدة ، ويحد بعضها بعضا وتنغير أماكنها بعضها بالنسبة إلى بعض، منصرف النظر عن هذه الموضوعات ولا نفكر إلا في الموضع الذي تشغله والذي يسمح لها بالنقلة . حينئذ تحصل على فكرة نظام مجرد . وهذه الفكرة هي عينها فكرة المكان المحض لكن هذا المكان المحض ليس معطى في أية تجربة وإنما فقط بمناسبة التجربة نحن نصنع نكرته .. وبعد صنع هذه الفكرة نحدد خصائصه.والعالم الممتد ، على نحو ما ندركه ، يختلف تماما عن هذا المكان الهندسي المجرد .
والشيء نفسه يقال عن الزمان، فإنه د ترتيب الظواهر المتوالية . ونحن لا ندرك أبدا زمانا خالية خلو؛ تاما ، وتوالية اللحظات متجانسة وانما ندرك سلسلة من الأحداث العينية التي تتوالى دون انقطاع. ولا يمكننا أن نتصور زمانة محضة إلا استبعدنا - بالتجرید . ما فيها من عينية ، قاصرين النظر على مجرد نواليها .
وحركة المتحرك الهندسي في المكان والزمان ليست أكثر حقيقة من المكان المجرد أو الزمان المحض ، ذلك أن ما يعطى لنا في التجربة هو فقط الموضوع العيني الكائن بين موضوعات أخرى في مدة محدودة وعينية .
اما إدراكنا للعالم الخارجي فليس إلا ليا محكم الترابط، راسخ الأساس. وخاصية الحلم هي أنه مجموع من الصور الذائية التي لا توجد إلا في عقلنا وبواسطة عقلنا ومن أجل عقلنا . لكن صور الأحلام يعوزها القوام ، فهي مهلهلة مشتة ممزقة غير مترابطة . بيد أن إدراكنا للعالم الخارجي لا يتألف من مادة تختلف عن مادة الأحلام، إنه مؤلف من احساسات وصور نخطىء فنظنها حقائق . وإنما ما يميز ادراك العالم الخارجي عن الحلم هو أن صور إدراك العالم الخارجي مترابطة بعضها مع بعض .
وهي ليست مترابطة فقط ، بل ومؤسسة أيضا ، بمعنى أن لها مناظرة حقيقية بالفعل .
وإدراكاتنا ترينا عالما ماديا ممتدة ، مكسوة بكيفيات متعددة : من الوان، وروائح ، الخ ، وهو عالم قائم في مکان وجار في زمان . لكننا قلنا إنه لا يوجد غير أحادات لا مادية لا توجد في مكان ولا في زمان فکیف نوفق بين هذين التصورين ؟.
بقول ليبنتس إنه يوجد توافق تام بين هذين العالمين : العالم المادي الممتد ، وعالم الأحادات اللامادية ؛ وما اولهما إلا رمز للثاني وظل له .
وثم مشكلة أخرى هي : كيف يحدث اتصال بين الجواهر الفردة هذه بعضها وبعض ؟
نحن هنا بإزاء مشكلة قديمة قدم الفلسفة المثنوية ، أي القائلة بجوهر مادي واخر روحي. وقد زادها حدة موقف دیکارت حين رد الجوهر المادي إلى مجرد الامتداد ، ونعت الجوهر الروحي بأنه لا مادي محض . لكنه لاحظ أن الجسم يفعل في النفس عند الاحساس ، والنفس تفعل في الجسم عند الفعل الإرادي . ولتفسير هذا جعل مركز النفس هو في الغدة الصنوبرية التي كانها معلقة في وسط المخ ، وحركاتها تترجم في النفس إلى إدراكات ، وتترجم في الجسم إلى انقباضات عضلية . لكن بقي على دیكارت أن يفسر كيف أن حركة الغدة الصنوبرية تظهر في الشعور إدراکات ، وكيف أن قرار الإرادة يستثير حركات الغدة الصنوبرية ، وما يتلو ذلك من أفعال. لكن دیکارت لم يفلح في ذلك .
فجاء مالبرانش وفسر ذلك مما سماه العلل الافتراصية ( انظر مادة : مالبرانش ).
واتخذ اسپینوز موقفا جذرية بأن ألغي المثنوية ، وقال بجوهر واحد له مفتان : الامتداد والفكر ،
ولم يرض ليبنتس عن كلا التفسيرين . ونظر إلى الأمر نظرة مختلفة تماما : إن كل أحاد وحدة بسيطة كل البساطة ، ولا توجد فيه أية أجزاء . فمن المستحيل إذن أن تفعل الأحادات من الخارج بعضها في بعض، لأن الفعل من خارج
لا يمكن أن يقوم إلا في الجمع ، أو الطرح أو الانتقال بین أجزاء ، لكن لا توجد - كما قلنا . في الأحادات أية أجزاء . إذن لا يمكن أي أحد أن يفعل من خارج في أحاد آخر . « إن الأحادات ليس لها نوافد يمكن منها أن يدخل أي شيء أو أن يخرج 4.
ومع ذلك يبدو أن الأحادات يفعل بعضها في البعض الأخر ، كما يشاهد مثلا في ظاهرة الادراك . فكل أحاد يبدو أنه بدرك ليس فقط بعض الأحادات الأخرى ، بل يدرك كل الأحادات ، بل يدرك الكون كله ، کا قلنا من قبل . وفي جسم الحيوان وفي جسم الانسان توجد أحادات دنيا تؤلف الجسم ، وأحادات عليا تؤلف النفس ، وأحادات أعلى من كلتيهها تؤلف الروح . ومن الواضح أن ثم تأثيرا من النفس في الجسم ومن الجسم في النفس ، ومن الروح في النفس ، الخ .
فكيف يفسر ليبنتس هذه الظاهرة ؟.
الانسجام الأزلي
إنه يفسرها بما يسميه باسم « الانسجام الأزلي ،، وهي نظرية كان فخورة بها إلى درجة أنه كان يوقع على مؤلفاته هكذا و مؤلف الانسجام الأزلي ..
إن الله ليس ساعانية رديئة، كما تخيل ذلك مالبرانش ، بل هو ساعاتي حصيف ماهر . وثم طريقة لصنع ساعتين يدلان على الزمن في وقت واحد معا . وتلك الطريقة هي إجادة صنعها ، وإطلاتها في نفس الآن ، وترك جهازهما يعملان وحدها بعد ذلك . وتلك الطريقة هي التي اتبعها الله - هذا الفنان المنقطع النظير. ابتغاء مجده :
فمنذ اللحظة الأولى للخلق وضع في كل احاد - على سبيل الإمكان. كل الادراكات التي سيقوم بها كل أحاد . لكنه خلق كل أحاد بحيث يكون نمو كل أحاد - على الرغم من أنه يتم مستقلا عن غو غيره - مناظرة تماما لنمو الآخر في كل لحظة . فإدراكاتنا لا تأتي إذن من خارج ، بل تنبثق كالينبوع الحي الافق ، من باطنا، لكن كل حالة : أ، ب، ج، د، الخ خاصة بأي أحاد قد هیئت وقدرت لتمثل الأحوال : ا، ب، ج، د، الخ الخاصة بسائر الأحادات كلها، ومن هنا جاء الانسجام الكامل بين كل الادراکات. فمثلا هذه منضدة أمامي أراها کہا تراها أنت تماما . لكن اتفاق رؤية كلينا لم يجيء - في نظر ليبنتس - من كوننا نشاهد نفس المنضدة، وإنما : ۱) اولا لأنني منذ بداية الكون قد میشت کیا أرى هذه المنضدة في هذه اللحظة على هذا الشكل الذي أراها عليه الآن ؛ ۲) وثانيا لأنك كنت قد هيئت منذ بداية الكون أن ترى نفس المنضدة في نفس اللحظة على هذا الشكل نفسه. ومن هنا جاء الاتفاق بين رؤية كل واحد منا .
وهذا هو الذي يفسر ما يبدو لنا من أن الأحادات بفعل بعضها في بعض ، وإن كانت في الواقع لا تستطيع ذلك . وهذا أيضا هو ما يفر ما يبدو من تأثير للنفس في الجسم أو للجسم في النشر. إن تفسير ذلك هو:
1 ) أن ها هنا انسجاما أزلية بين الأحادات التي تؤلف الجسم - وهي أحادات من الدرجة الدنيا - وبيز الأحادات التي تؤلف النفس ، وهي أحادات من درجة أعلى .
۲) ولأن هذا الانسجام برمز إليه بالتحولات التي تحدث في كل لحظة في المظهر الذي يتجلى عليه جسمي في الإدراك .
وعلى هذا النحو تصور ليبنتس أنه حل ، على نحو رائع ، تلك المشكلة القديمة ، مشكلة امكان الاتصال بين النفس والجسم ، ومشكلته هو في كيفية الاتصال بين الأحادات وهي عنده تؤلف عوالم مستقلة تماما بعضها عن بعض .
الحرية والشر في الكون
لكن ألا تؤدي نظرية الانسجام الأزلي هذه إلى إنكار الحرية ، وبالتالي المسؤولية؟ وكيف نفسر وجود الشر في العالم ؟ السنا مضطرين إلى نسبته إلى الله ؟.
إن عقل الله ينصور منذ الأزل عددا من الأشياء: أولا كل أنماط الأشياء الممكنة التي تتحقق أو يمكن أن تتحقق ، تلك الأنماط التي سماها أفلاطون باسم ، الصور ، وثانيا كل الأفراد التي يمكن أن تخلق دون أن ينجم عن هذا تناقض ؛ وثالثا كل مجموعات الأفراد التي هي عوالم ممكنة ، ورابعا واخيرا سلسلة الحقائق السرمدية ، والحقائق النظرية والعلمية والعملية . فهذه كلها هي موضوع تصور العقل الإلهي منذ الأزل.
إرادة الله نمر بحالتين لا يمكن تمييزهما إلا بالتجريد ، وهما : 1) الارادة السابقة ، و۲) الارادة التالية . وإرادة الله السابقة متجهة نحو الخير المطلق وهذا الخبر كان الله سيحققه لو لم يكن قد تحقق بمجرد كون الله موجودا . لكن لما كان الله لا ممكن أن يريد أن يوجد نفسه من جديد لأنه موجود بالضرورة بحكم طبيعته ، فإن قرارا واحدا هو الذي يليق بالله الا وهو : أن يختار ، من بين العوالم الممكنة التي يتصورها عقله ، أحسنها .
وهذا هو ما يفعله الله بإرادته التالية . إن كل الممكنات تطمح إلى الوجود نظرا لما فيها من كمال . إن الله يسمح الأحسن هذه العوالم الممكنة بالانتقال من الامكان إلى الوجود ، كما يسمح الهويس للماء بالجريان . وفي هذا يقوم مبدا التفاؤل عند ليبنتس .
لكن إذا كان هذا العالم هو أحسن عالم ممكن ، فكيف نفسر إذن وجود الشر وهو سائد فيه ؟.
ويجيب ليبنتس عن هذا السؤال العويص الذي طالما ساقه الملحدون في وجه اللاهوتيين، بأن يقرر أن الشر بتجلى على ثلاثة أوجه : الشر الميتافيزيقي ، والشر الفزيائي ، والشر الأخلاقي .
أما الشر الميتافيزيقي فهو النقص الفزيائي والعقلي والأخلاقي الملازم لكل ما هو مخلوق . إنه شر لم يكن في وسع الله أن يتلافاه ، لأنه نتيجة لازمة عن كونه هو الخالق الكامل، فلا يمكن أن تكون مخلوقاته كاملة مثله ، وإلا لانتفى التمييز والفارق بين المخلوق والخالق . إن خاصية المخلوق هي أنه ليس الله فيكف يطلب من الله أن يجعل مخلوقاته كاملة مثله !! وعلى هذا فلا يجوز لنا أن نلوم الله على ما في مخلوقاته من نقص .
أما الشر الفزيائي فهو الألم بكل أشكاله . ويفسر ليبنتس وجوده بأن الله لم يرده ، ولكنه وجد نتيجة لتحقيقه خيرات . فإن الارتباط بين الموضوعات والأحدات وثيق إلى درجة أن بعضها لا يمكن أن يتحقق إلا إذا تحقق البعض الأخر. ومن هنا كان من الضروري ، في بعض الأحوال ، من أجل ايجاد خير أكبر أن يسمح ببعض الشرور بوصفها شرطا لتحقيق هذه الحيرات الأكبر . فمثلا : كيف نحصل على الثمار المفيدة للأعمال إن لم نتحمل بعض المتاعب ؟ لهذا كان لا بد له من السماح بحدوث بعض الآلام ابتغاء تحقيق خيرات عظيمة . ثم إن الله عادل ، والعدل يقتضي عقاب الأشرار. ولهذا كانت الآلام في أحيان كثيرة نوعا من العقاب عن الخطايا والذنوب .
و بقي الشر الأخلاقي ، وهو الخطيئة بكل درجاتها . ولا يمكن أن ندعي أن الله أرادها ، لأن الله حرم ارتکاب الخطايا ، کہا لا يمكن أن نقول إن الله يسمح بها ، ذلك لأنه يجعل من الواجب علينا أن نتجنبها . فلم يبق غير تفسير وحید مکن هو أننا نجد أنفسنا في بعض الأحوال مقسورین على الاختيار بين خطيئتين : مثال ذلك : طبيب يجد نفسه مرغا إما على الكذب على المريض إنقاذا لحياته ، أو أن يصدقه القول فيكشف له عن خطورة مرضه مما قد يؤدي إلى موته . في مثل هذا الموقف لا يوجد غير قاعدة واحدة : اختر أهون الشرین . فلنقل أيضا إن الله كان بين شرین : أحدهما أن لا يخلق العالم ، والثاني أن يقبل بعض الخطايا الأخلاقية بوصفها شرطة لوجود أحسن عالم 'ممكن . ولقد اختار الله أهون الشرین : وهو أن يخلق العالم رغم ما ينطوي عليه من خطايا بالضرورة .
لكن ها هنا مشكلة أخرى هي نتيجة ضرورية لهذا التفسير الذي أدلى به ليبنتس . إنه بهذا بعزو حدوث الخطيئة إلى الله نفسه ، فكيف يعاقب الانسان إذن عليها ، وفاعلها هو الباري ؟.
و هنا وينبغي أن يلاحظ أن ليبنتس يرفض أن ينسب إلى الانسان وإلى الله صفة الحرية ، أي « القدرة على توكيد أو نفي شيء معين على السواء . لأن الإقرار بمثل هذه القدرة يؤدي إلى انكار المبدأين الرئيسيين للعقل وهما : مبدأ ( عدم ) التناقض ، ومبدأ العلة الكافية . فهذا المبدأ الثاني يقرر أنه لا يوجد شيء بدون علة وجود فاعلة وغائية . ولهذا لا يمكن أي فعل إنساني أو الهي ان يكون معينا بعلة ، وفيما يتعلق بالانسان بخاصة فإن أفعاله ، في بعض الظروف المعينة ، تتعين بخلقه ، والله قد وهبه هذا الخلق من أجل غاية معلومة . ولهذا فإن حرية الإرادة وهم .
لكن ليس معنى هذا أن نذهب إلى ما ذهب إليه اسپینوزا الذي أكد وجود ضرورة رياضية في كل ما يحدث في الكون .
أما موقف ليبنتس فيتلخص في هذه العبارة : وفي الفعل الارادي الدوافع ميل دون ضرورة .
أما قوله إن « الدوافع تميل : فمعناه أنه بقدر ما يمعن العقل في الفعل - الانساني أو الإلهي على السواء . ويتأمل في امكان تنفيذه والوسائل المؤدية إلى تنفيذه والنتائج القريبة والبعيدة الناجمة عنه : أقول : بهذا القدر فإن الإرادة تتجه إلى تنفيذه أو إلى الامتناع منه. فتميل إلى ما يجلب الخير أو المنفعة ، وتتجنب ما يؤدي إلى الشر أو الضر .
لكن إذا كانت الدوافع ميل الإرادة ، فإنها لا تفسرها بالضرورة على اتجاه بعينه . إنها لا تفسرها إلا في حالة واحدة وهي حينما يكون من المستحيل منطقيا أن تتخذ قرارا مختلفة عن قرارها . وهذا لا يحدث إلا إذا كان وجود عالم مختلف عن العالم الموجود يتضمن تناقضا . ولكن هذه القضية - ذات الطابع الأسپینوزي - لا يمكن قبولها . صحيح أن ثم نوعا من الضرورة في أن يكون هذا العالم كما هو عليه وان يفعل كل إنسان فيه ما يفعله كما يفعله وفقا لخلقه وبدافع من تأملاته . لكن هذه الضرورة ليست رياضية ولا ميتافيزيقية، بل أخلاقية فقط . وفقط بالقدر الذي هو به خير فإن العالم موما هو عليه . والله ، باختياره لعالم يرى فيه الخاطيء حرا في ارتكاب الخطيئة ، فإنه لا يغير حرية فعله . وهذا يبقى الخاطيء خاطئا أمام الله .
لكن هذا الحل الذي قدمه ليبنتس لمشكلة حرية الإرادة الانسانية لا تقنع أحدة. ذلك أنه حد الحرية حدا يجعلها تتكانا تقريبا مع التعين ، مع أن المعنى الصحيح للحرية هو ذلك الذي وضعه دیکارت وهو أنهار القدرة على فعل شيء أو عدم فعله على السواء . لكن ليبنتس لو كان قد ترن الحرية ، هذا التعريف ، الناقض نظريته الأساسية ، أعني الانسجام الأزلي ، وقد كان ، کا راينا ، معتز بها كل الاعتزاز . وهذا ينعي عليه برترند رسل هذا الموقف ويتهمه بترضي رجال الدين . لكن هذه التهمة ظالمة ، والأحرى أن نقول إنه لم يكن في وسعه أن يفعل غير ذلك ، وإلا لناقض نظريته هذه الأساسية .
۷- آراؤه في السياسة
عاش ليبنت في عصر مليء بالحروب في أوربا ، وقد شاهد عن قرب ما أدت إليه هذه الحروب من خراب وشقاء للفانين والمفتوحين على السواء . ولهذا نادی بوقف الحروب بين الدول ، خصوصأ دول أوربا المسيحية فقال : وإن الحروب بين المسيحيين ( أي في أوربا ) لا يمكن أن تؤدي إلا إلى اقتطاع أجزاء ضئيلة جدا من الأرض ... إذ التجربة تدل على أن كل زيادة في القدرة تزيد فورا في الخارج عدم الثقة والمؤامرات . ويلزم عن هذا أن كل ملك يطمح إلى عظائم الأمور ينبغي عليه أن يتجنبها قدر الامكان نوعا من زيادة قونه لأن التقدم على هذا النحو معناه أن يضع على نفسه حدودة ». ويقرر في موضع آخر : « إن الرغبة في أن يخضع المرء - بقوة السلاح . اما متحضرة وفي الوقت نفسه محاربة ومولعة بالحرية كما هو شأن معظم الأمم الأوربية . هذا الأمر هو ليس فقط کفر، بل وأيضا جنونا .
ويوجه أنظار الحكام في أوربا إلى أن الحروب البرية صارت عقيمة ، ويدعوهم إلى الالتفات إلى الحروب البحرية ، وهو يقصد الحروب فيها وراء البحار طمعا في الاستيلاء على مستعمرات خارج أوربا ! فهو إذن لا يدين الحرب بما هي حرب للغزو والتوسع ، بل الحرب بين المسيحيين في أوربا فقط ! ومن هنا رأيناه يقدم إلى لويس الرابع عشر مشروعة لغزو مصر والقضاء على الامبراطورية العثمانية ، وهو يرمي بهذا إلى صرف الحرب عن أوربا ، ووقف الحرب بين المسيحيين ، وتوجههم إلى محاربة غير المسيحيين .
لكن كان وراء هذا الموقف دافع قومي أيضا ربما كان هو الأقوى ، وذلك هو صرف لويس الرابع عشر عن الطمع في الأراضي الألمانية. وقد أوضح موقفه هذا في رسالة حررها في سمنة ۱۷۸۹ بعنوان : استشارة تتعلق بالحرب أو التفاهم مع فرنسا، وهو في هذه الاستشارة يميل إلى الحرب، وذلك ولأننا كلما تنازلنا وتساهلنا مع فرنسا ، ازدادت مطالبها منا ؛ إن طمعها لا يشبعه شيء، ووقاحتها تزداد كلها ظفرت بنجاحات. وإذا نجحت هذه المرة ، فإنها لن تبقي على شيء ، ولن تشعر باي اعتبار تجاه أي شيء ؛ ولن يكون أحد في أمان ، وبمناسبة أتفه الأمور ستثير ضجة لا تحتمل ومتاعب شديدة لجاراتها ، وستستولي على كل ما تشتهيهه.
وإذن كان ليبنتس وطنية متحمسا لبلاده ألمانيا ، وسياسية واقعية. ولهذا نراه يسخر سخرية مرة من الفرنسيين الذين يدعون في الظاهر والقول - إلى السلام ، فيقول : و حينها يعظ الفرنسيون بالسلام ، فإن موعظتهم تشبه موعظة الثعلب في جمع من الدجاج وهو في طريقه إلى الحج إلى شانت يعقوب وقد أعلن عفوا عاما بين كل الحيوان. وليتكلموا ما طاب لهم الكلام عن السلام الدائم وهم الذين لا يفهمون منه غير الاستعباد العام على طريقة الأتراك »
وتظهر نزعته السياسية الواقعية على نحو أوضح في المشروع الذي قام به في سنة ۱۹۹۲ لنشر د قانون دولي عام دبلوماسي ، Codex Juris gentium diplomaticus وهو مجموعة ضخمة تحتوي على نصوص أهم المعاهدات التي عقدت خلال القرون الخمسة السابقة ، وعلى كثير من الوثائق الدولية : مواثيق تتعلق بالحدود بين الدول أو المقاطعات، مواثيق تجارية ، عقود زواج بين الملوك والأمراء ، وصايا ، الخ. وكل هذه النصوص والاتفاقات والعقود والبروتوكولات تكشف عن : التاريخ الصغير، إلى جانب : التاريخ الكبير ، ويقصد بالتاريخ الصغير ، أخبار المطامح غير المعلنة ، والرشاوى التي دفعت للقائمين بالمفاوضات بين الدول، ودور النساء في عقد المواثيق أو الاتفاقات ، الخ . وفيها مشاهد الملوك والأمراء وهم يلعبون بالمعاهدات كما يلعب الاطفال بالجوز ، وكيف أن كل سلام هش ، وما هو إلا فترة استراحة قصيرة يتفق عليها المصارعون للراحة قليلا ابتغاء استئناف الصراع على نحو أشد وحشية.
انظر أيضًا
ليبنتس
فيلسوف وعالم رياضي المافي عظيم .
ولد في أول يوليه سنة ١٦٤٦ في مدينة ليبتسك Leipzig وتوفي في ١٤ نوفمبر سنة ١٧١٦ في مدينة هانوفر Hanover.
كان ابوه من رجال القانون ، وكان يلقي محاضرات في جامعة لييتسك في علم الأخلاق . ويقتفي مكتبة حافلة أفاد منها ابنه أكثر مما أفاد من دراسته في المدارس التي تعلم فيها . وفي سن صغيرة أتقن ليبنتس اللاتينية واليونانية ، وراح يقراً مؤلفات أفلاطون وأرسطوطاليس في نصوصها اليونانية ، وأشعار فرجيل في نصها اللاتيني . وسيكون شعاره هو : أن ينشد في أقاويل النفوس العظيمة : الوضوح ، وفي الأشياء : الاستعمال . ثم درس الفلسفة واللاهوت الاسكلاثيين، ووجد ، الذهب ختفياً في التراب الاسكلائي المتبربر» .
وفي سنة ١٦٦١ دخل جامعة ليبتسك، حيث اختار دراسة الفلسفة ، وتتلمذ على يعقوب توماسيوس Thomasius وبدأقراءة مزلفات المفكرين والعلماء المحدثين : مثل فرانسس بيكون ، وديكارت ، وكبلرKepler ، وجلليو ، وهوبز، وجندي ، فوجد لديهم فلسفة وعلماً أفضل من فلسفة أرسطو وعلمه . ويقول في ذكرياته إنه كان يجادل نفسه وهو في نزهاثه الخلوية أي مذهب يتبع : مذهب أرسطو في الثكول الجوهرية والعلل الغائية، أو مذهب هؤلاء القائل بالآلية ( الميكانيكية ) والذي بدأ يسود الفكر في منتصف القرن السابع عثر .
وفي سنة ١٦٦٣ قدم رسالة للحصرل على
٣٨٨
ليبتتس
البكالوريوس موضوعها هو : « مبدأ الفردانية » .
وعقب ذلك ترك ليينتسك وانتقل إلى جامعة يينا Jena في سنة ١٦٦٣ ليدرس على يدي ارهرد فايجل Erhard Weigel الرياضيات. وأفكر آنذاك في ان يوجد للتفكير الفلسفي فناً تركيبيا art combinatoire مثل ذلك المستعمل في الرياضيات. وكانت ثمرة هذا التفكير رسالته التي قدمها في سنة ١٦٦٦ بعنوان de arte combinatoria التي تعد ارهاصاً بالمنطق الرياض .
وارتحل بعد ذلك إلى التدورف Altdorf ( بالقرب من نورمبرج ) حيث حصل على اجازة الدكتوراه في القانون سنة ١٦٦٧، لأنه لم يستطع الحصول عليها من جامعة ينا لأسباب غير معروفة لنا .
وفي ذلك الوقت انضم في نورمبرج إلى جمعية سرية ثيوصوفية سحرية لها في الوقت نفسه مطامح سياسية ، وتدعى جمعية « الوردة- الصليب» Rosenkreuz( راجع ماقلناه عنها في كتابنا : « امانويل كنت» ج١ ): وبتأئير هذه الجمعية أولع بالكيمل، الصنعوية alchimie وبالكيمبام بوجه عام ، كما اولع بالتدبيرات السياسية .
وفي نورمبرج أيضاً تعرف إلى البارون فون بوينبرج Boinburg وهو متثار خاص سابق لناخب ماينتس وسياسي واسع التأثير؛ وسرعان ما جمعت بينهما صداقة حميمة ، وهو الذي لقن ليبنتس اساليب السياسة وبث فيه روح لاهتمام بالأحداث السياسية الجارية ، فبدأ يكتب رسائل عن الأمن الداخلي والخارجي لألمانيا .
ولهذا عين مستشاراً في الديوان العالي لناخبية ماينتت في سنة ١٦٧٠ وكان قد رفض منصبا تعليميا في جامعة ألتدورف عرض عليه في سنة ١٦٦٧ غداة حصوله على الدكتوراه في القانون .
وبوصفه متشاراً في ديوان ناخبية ماينتس كلف القيام بمهمة لدى لويس الرابع عثر ملك فرنسا ، فسافر إلى باريس في ١٦٧٢ ، وأراد أن يقنع ملك فرنسا ، لويس الرابع عثر، بالقيام بغزو مصر، والقضاء على الدولة العثمانية ( تركيا ) بتغاء حماية أوروبا من غزوات الأتراك- لكنه كان يرمي من وراء هذه المغامرة إلى شيء آخر، هو صرف لويس الرابع عثر الطامع في غزو ألمانيا عن محاولة غزو ألمانيا .
وعرض ليبنتس مثروعه هذا في مذكرة طويلة جدا ، حافلة بالوثاثق . وفيها بين الأسباب الموجبة لغزو مصر وما هي الشروط التي ينبغي توافرها لنجاح هذه الحملة .
ورفض لويس الرابع عثر القيام جهذه المغامرة، وعاد ليبنتس إلى ألمانيا صفر اليدين من الناحية السياسية ، لكنه أقاد كثيرا من إقامته بباريس من الناحية العلمية. فقد تعرف إلى ارنو ، كبير رهبان يوررويال ، وجرت بينهما محادثات فلسفية ولاهوتية أفاد منها ليبنتس كثيراً . وتعرف إلى هويجانس Huyghens الفزيائي الهولندي الكبير، واجرى أبحاثاًمعه ، وقراً مؤلفات يسكال. كما انه اتقن اللغة الفرنسية اتقاناً جعله يكتب الكثيرمن مؤلفاته - واكثرها رواجاً بين الناس - باللغة الفرنسية. وقد استمرت إقامته في باريس ثلاث سنوات (١٦٧٢-١٦٧٥).
وفي السنة التالية لعودته من باريس - اعني في سنة ١٧٧٦- قام باكتشاف رياضي عظيم جعله من أعظم الرياضيين قاطبة ، وهو اكتثافه لحساب التفاضل وقد انطلق ليبنتس من فكرة ميتافيزيقية هى فكرة الكميات ال لامتناهية في الصغر. وكان نيوتن قد بدا في سنة ١٦٦٥ في اكتشاف ماثل لاكتثاف ليبنتس هذا . ومن هنا قامت مجادلات طويلة حول من هو صاحب الفضل الأول في اكتشاف هذا العلم . والراجح هو أن كليهما قام باكتشافه مستقلا تماما عن الآخر ، ودون علم بما يفعلم الآخر . ( راجع في هذا :More ٦ .I 1934 ,]0-٦٢٤٧ .IsaacNeewton, P. 565 et sq)، واية ذلك اختلاف طريقتي كليهمافي وضع مسائل هذا العلم. ولايضاح الفارق بين طريقتيها نقول إن ادخال فكرة السرعات المختلفة قد احتاج إلى طريقة للتعامل مع نسب تغير الكميات المتغيرة . فإذا كانت الرعة مطردة ( ثابتة ) فإنها تقاس في المكان ( م ) الموجود في الزمن (ز)، وستظل الكمية ز/م هي هي مهما صغرت او كبرت م؟ ز. لكن إذا كانت السرعة متغيرة ، فإن القيمة في أية لحظة لا يمكن أن تستخلص إلا باتخاذ زمن يكون من الصغر بحيث لا تتغير السرعة بشكل محسوس ، وبقياس المكان الموصوف فيز/ في زمن قصبر. وحينما تقلل م؟ ز بدون حد فيصبحان لاهائيين فإن خارج القسمة يعطي السرعة في اللحظة - وقد دون هذا ليبنتس هكذا دم ( حيث ت هي التفاضل ) الل5ل وهوما يسمى المعامل التفاضلي ل «م» بالنسبة إلى « ز». - أما نيوتن فإنه في طريقته المسماة بطريقة. التقلبات fluxions فإنه دون
بتر
نفس الكمية هكذا ى وهو تدوين ما لبث أن اطرحه الرياضيون وأخذوا بتدوين ليبنتس الذي لا يزال مستعملا حتى اليوم.
وتوفى البارون فون بوينبورج وكذلك توفي ناخب ماينتس وهويوحنا فيليب ، وذلك في عام سنة ١٦٧٥ . فشعر ليبنتس بأنه صارحراً تجاه ناخبية ماينتس ، فقبل عرضاً جاءه من دوق براونشفيح في هانوفر بتولي منصب محافظ مكتبته في هانوفر. لكنه قبل ان يعود إلى ألمايا، ارتحل من باريس قاصدا انجلتره ، فوصل إلى لندن وتعرف إلى عالم الهندسة كولنز 05ناا0 الذي كان صديقاً لنيوتن؛ وعاد إلى ألمانيا ماراً بأمستردام حيث التقى باسبينوزا وجرت يينهما مطارحات عديدة في ال ميتافيزيقا .
وكلفه دوق براونشفيج-لونبورج بكتابة تاريخ اسرة هذا الدوق . فتجول ليبنتس في أنحاء ألمانيا وايطاليا للاطلاع على الوثائق والمحفوظات التي تتعلق بتاريخ هذه الأسرة . لكنه لم يبدأ في نشر هذه الوثائق إلآ في سنة ١٧٠١ واستمر في نشرها حتى سنة ١٧١١. وشرع في كتابة تاريخ الأسرة على اساس هذه الوثائق ، لكنه توفي في سنة ١٧١٦ قبل أن ينجز هذا العمل.
وفي سنة ١٧١١ سافر إلى روسيا ليعرض على قيصرها يطرس الكبير خطة لتنظيم روسيا مدنياً ومعنوناً , ولم ينشر ما كتبه ليبنتس عن تاريخ اسرة هانوفر إلا في عام ١٨٤٣-٤٥.
وبعد ذلك سافر إلى فينا تلبية لدعوة من امبراطور النمسا ، وفي بلاد هذا الامبراطور التقى بالامير يوجين 220ات أمير سافويا الذي كتب ليبنتس من أجله كتاب «ا لموناد ولوجيا» عذع140120010.
وفي السنوات الخمس عشرة الأخيرة من عمره كرس جهوده للفلسفة خصوصاً ، وفي هذه الفترة أيضاً ألف مؤلفاته الرئيسية في الفلسفة .
كذلك كان له دور في رفع دوقية هانوفر إلى ناخبية ( اي أن يكون دوقها من بين من ينتخبون الامبراطور في المانيا ) وهو صاحب الفضل في اصدار فريدرش الأول، ملك بروسيا ، قراراً بإنشاء أكاديمية العلوم في برلين .
وعمل بكل جهوده في سبيل الوحدة المعنوية لكل ألمانيا.
وكانت ترعاه حتى ذلك الحين الأميرة صوفيا في بلاط هانوفر. لكنها توفيت في سنة ١٧١٤ كذلك صار الأمير الناخب جورج ، امبر هانوفر ، ملكاً على انجلتره ني سنة ١٧١٤ ، وسافر إلى لندن لتولي العرش مبتدثا ملكية بيت هانوفر على انجلتره ، التي لا تزال مستمرة حتى اليوم . وأراد ليبنتس مرافقته لكن الوزير Bernstorf رفض الإذن له بذلك . وكانت ثالثة الأثافي أن بلاط هانوفر وبعض الأعيان أيدوا دعوى ادعاها كاهن بروتستنتي زعم فيها أن ليبنتس « كافر» ! فتوالت على ليبنتس المحن .
ومن ناحية أخرى كان داء النقرس قد استفحل في جسم ليبنتس ، حى امتد إلى الكتفين ، وصار غير قادر على الحركة وهو جالس على كرسيه . وفي أزمة حادة، توفي ليبنتس في الرابع عشر من شهر نوفمبر سنة ١٧١٦ ( الف وسبعمائة وست عشرة) ؛ ودفن دون احتفال كأنه واحد من عامة الناس ، هذا العالم الرياضي العظيم والفيلسوف الكبير وصاحب الفضل العميم في ايجاد الوحدة الروحية لألمانيا في العصر الحديث! فما أشد سفالة الناس، في كل زمان ومكان ! وحتى اكاديمية برلين التي أنشئت بفضل مساعيه لم تحفل بموته ، ولم تقم بتأينه ، وإنما فعلت ذلك الأكاديمية الفرنسية في باريس ، حيث ألقى كلمة تأبينة فيها سكرتيرها الدائم فونتنل Fontne le ! فيا للعار على , علماء » أكاديمية برلين !!
فلفته
١ - فن التركيب :
الفكرة الساثدة في تفكير ليبنتس هي : الانسجام الكلي في الكون.فالكون كله يؤلف انجاماً ، وفيه وحدة وتعدد في آن معاً ، ولهذا سادت لدى ليبنتس فكرة التناسق والتفاضل . والطبيعة هي «ساعة اله» Horlogium Dei ( امؤلفات ليبنتس الفلسفية» ج١ ص٢٥، ;؛Gerhardt).
وفي رسالة عن « فن التركيب،de arte combinatoria زليبتى فكرة اقترحها ريمون لول - Raimondo Lull وقال بها رياضيون محدثون ، وهي فكرة تحليل المعاني أو الحدود . فهو يريد أولاً ان يجلل الحدود إلى العناصر المؤلفة منها . ا ويجري التحليل كما يلي : دع أيحد معلوم ينحل إلى اجزائه الصورية ، أي : ضع له تعريفاً . ثم حلل هذه الأجزاء ، او ضع تعربفات لحدود التعريف الأول ، حتى
ليبنت
تصل إلى أجزاء بسيطة أو إلى حدود غير قابلة للتعريف » ( « فن التركيب »٦٤، نشرة جبهرت ج٤ ص٦٤- ه٦). وهذه الحدود البسيطة غير القابلة للتعريف ستؤلف أبجدية الأفكار الانسانية . فكما أن الكلمات والجمل في اللغة مؤلفة من الحروف الأبجدية، فكذلك الفكر الانساني مؤلف من حدود بسيطة غير قابلة للتعريف
والخطوة الثانية هي تمثيل هذه الحدود البسيطة برموز رياضية . فلو استطاع الانسان اكتشاف وسيلة لتركيب هذه الرموز ، فإنه سيظفر حينئذ بمنطق استنباطي للاكتشاف ، يصلح ليس فقط للبرهنة على الحقائق التي سبق اكتشافها ، بل وأيضاً لاكتشاف حقائق جديدة .
لكن ليبنتس لم يتصور أن كل الحقائق يمكن اكتشافها بالاستنباط القبلي priori ه ، لأن ثم صنفا من الحقائق يؤخذ من واقع حوادث التاريخ ، ولا يسننبط قبليا، مثل كون وغسطس كان امبراطورا رومانيا ، أو كون المسيح ولد في بيت لحم . كذلك توجد قضايا كلية لا يعرف صدقها إلا بالملاحظة والاستقراء .
وهكذا طمح ليبنتس إلى ايجاد علم كلي ، من فروعه المنطق والرايات . وما النظام الاستنباطي في المنطق والرياضيات إلا شاهد على الانسجام الكلي في الكون ، إذ هو الذي يسمح بالقيام بهذا الاستنباط المتحقق في المنطق وفي الرياضيات .
ونظرته إلى تاريخ الفلسفة متأثرة بفكرة الانسجام الكلي . إذ هو يرى أن المذاهب الفلسفية على مدى تاريخ الفلسفة تؤلف وحدة منسجمة ، كل ما هنالك أن بعضا منها يؤكد جانباً دون سائرالجوانب. لكن كل لمذاهب الفلسفية تحتوي على جانب من الحقيقة . لهذا كان يعتقد أن المذاهب الفلسفية على صواب في غالبية ما تؤكده ، وعلى خطأ في معظم ما تنفيه ويضرب شاهدا على ذلك مذهب الميكانيكيين : فإغهم مصيبون في قولهم بوجود علل فاعلية ميكانيكية ، لكنهم مخطئون في إنكارهم لكون هذه العلل الميكانيكية تخدم اعراضاً ومقاصد معلومة ، أيغايات, فئم حقيقة إذن في المذهب الميكانيكي والمذهب الغائي على السواء .
٢ - الأحادات أوالذرات اللامادية :
تدل التجربة على ان هاهنا مركبات . وما دام هاهنا
مركبات ، فهاهنا بسائط . لأنه لوكانت المركبات مؤلفات من مركبات مهما مضينا في التحليل ، لا أمكن تفسيرأي مركب . فلا بد إذن من وجود عناصر أولية بسيطة منها تتألف المركبات. وهذه البسائط ليست مؤلفة من أجزاء ، بل هي جواهر فردة. وهذا ما أدركه الذريون اليونانيون القدماء : ديمقريطس، وليوقب، وأبيقور. وهذا هو لجانب الصحيح في مذهبهم .
لكنهم أخطأوا حين ظنوا أن هذه الذرات ممتدة ، لأن كل ممتد قابل بالضرورة للتقسيم . فالقول بذرات ممتدة - أي مادية - متناقض في ذاته ، لأن الذرة لا تقبل القسمة ، ولكن أي امتداد يقبل القمة .
ومن هنا انتهى ليبنتس إلى القول بأن الذرات لا بد أن تكون لا مادية . لكن هل توجد ، وكيف نوجد ، ذرات غير ادية ؟ .
وجد ليبنتس الشاهد على هذا النوع من الذرات اللامادية في النفس الانسانية فهي بسيطة وغير قابلة للقسمة وغير مادية . إن الأنا الذي يفكر ويشعر ويريد هو جوهر بسيط لا ينقم ، وهو روحي .
وبعد ان قدم ليبنتس هذا الشاهد ، عممم على كل الكون ، فقال إن الكون كله مؤلف من جواهر فردة روحية ، سماها « الأحادات» 5عل4002 ( من الكلمة اليونانية5ه1000 • وحدة ) .
فإذا فحصنا عن هذا «الأحاد» الذي هو نفسنا الانسانية ، وجدنا فيه خاصتين بارزتين هما : الادراك، والاشتهاء. Perception et Appetition
فالأحاد إدراك ، إنه يدرك نفه ويدرك الكونكله. إن الكل في ترابط بعض مع بعض ولهذا فإنكل شيء يمتثل هو في ارتباط مع سائر الأشياء في الكون ؛ إما مباشرة أو على نحو غير مباشر، الحاضرة منها والماضية , ولهذا فإن الأحاد 9 نظرة إلى العالم» وهو عالم أصغر microcosme ينطوي على العالم الأكبر macrocosme والجملة فإن الأحاد « إله صغير». ومن ناحية أخرى فإن الأحاد اشتها، appétitionأعي أن في الأحاد نزوعا إلى الانتقال من الادراكات التي حصلها إلى الادراكات التي لم يحصلها بعد ٠ وهذا النزوع يسود كل الحساسية . ووجود هذا الاشتهاء هو الذي يفسر اللذات والآلام، والشهوات والوجدانات , وهذا أيضاً المحرك الأول للإرادة ،
ليبنت
لأن الارادة هي الثهوة مستضيئة بالعقل .
على أن الاشتهاء مشمول في الادراك ، ذلك لأن الاشتهاء م هو إلآ الجهد الذي تبذله الادراكات الغامضة امختلطة كيما تصير واضحة متميزة إنه المجهود الذي يبذله « الإله الصغير»(= الذرة ) كيما يقترب من « الإله الكبير» .
تلك هي نظرية ليبنتس المشهورة في الأحادات -mon 205 . لكن ما تلبث الاعتراضات أن تثور ضدها .
وأولها هو : إذا أمكن تصور أن الانسان أحاد مزود بالادراك والاشتهاء ، فكيف يمكن تصور ذلك بالنسبة إلى الحيوان والنبات والمعادن ؟! وهل يمكن أن نتصور الحجر مؤلفاً من أحادات تدرك وتشتهى ؟!
وللجواب عن هذا الاعتراض يسوق ليبنتس الشواهد التالية : إذا شاهدنا غابة في يداية الربيع فإننا نجدها جرداء تماماً ، لكننا لو شاهدناها بعد شهر وجدناها خضراء تماماً ، مع أنه لا بد أن يكون هناك بضع ورقات قد نبتت في أوائل الربيع لكننا لم نشاهدها ،فلما نبتت كل الأوراق بعد شهر استطعنا مشاهدة الغابة خضراء . - ومثل آخر : الأمواج حين ترتطم بالشاطى تحدث ضوضاء ، لكننا لا ندرك صوت قطرتين من لماء تلتقيان ، مع أنهما لا بد قد نجم عن اصطدامهما صوت مهما يكن خفياً فهو صوت على كل حال . ومعنى هذين المثلين أن كل جزء في علة كبيرة يشارك في إحداث المعلول . وهذا يفضي بليبنتس إلى تقرير وجود «إدراكات صغيرة» إلى جانب «الادراكات الكبيرة» وتبعا لذلك يضع ليبنتس ترتيباً تصاعدياً في لأحادات : من أدناها إلى اعلاها ، أعفي ان للأحادات درجات متصاعدة من أدناها إلى أعلاها .
والاحادات الدنيا مزودة بإدراك واشتهاء مثلما نحن مزودون بهيا. لكن إدراكاتها واشتهاءاتها هي«إدراكات صغيرة» و« اشتهاءات صغيرة» . إن حال هذه الأحادات الدنيا شبيهة بحال انسان نائم نوماً عميقاً ، اوحال انسان دائخ بسبب دورانه حول نفسه لمدة طويلة وبشدة ٠ إن هذه الأحادات الدنيا هي مجرد « نقط قوى» ع•٤0٣ عل Points ، وقوى نشطة متجهة ؛ وكلها تنفد وتموت ، ولكن على نحو غامض . ويسميها ليبنتس : «انطلاشيات (= كمالات) أولية» entélechies premières وهي تناظر ما نسميه باسم المواد اللاعضوية.
وأعلى منها الأحادات الخاصة بالنبات . وأعلى من هذه تلك الخاصة بالحيوان . وفي أحادات الحيوان تبدأ الادراكات في الوعي بذاتها ؛ ومعها الذاكرة . والذاكرة تمكن من استنتاج شبيه باستنتاج العقل ، مثال ذلك : حين نلوح للكلب بعصا فإنه ينبح ويهرب ، وليس ذلك لانلديه عقلاً ، وإنما لأن منظر العصا ذكره بالضربات التي تلقاها من قبل . وليبنتس يقول عن أحادات الحيوان إنها « نفوس» âmes .
وفوق هذه النفوس توجد الأرواح Esprits . وفي الروح يوجد : ادراك لا واع، وشعور واع،وذاكرة. كذلك يوجد في كل روح - على هيئة كمون - عقل . والعقل فيناهوفي البداية استعداد لا شعوري للتفكير كما لو كنا نقر بمبدأ ( عدم ) التناقض وبمبدأ العلة الكافية وكما لو كاناكليين وضروريين .
٣ - نظرية المعرفة :
وهنا نصل إلى نظرية المعرفة عند ليبنتس . يرى ليبنتس أن المعرفة الصحيحة يجب أن تتصف بصفتين : الضرورة ، والكلية . والغرض من معرفتنا هو الوصول إلى مذهب شامل لكل العلوم ، محكم الترابط ، برهاني ، مؤلف من حقائق ضرورية وكلية . لكن التجربة الحسية لا يمكنها أن تزودنا بحقائق كلية وضرورية ، لأنها لا تقدم إلينا غير معارف مختلطة من ناحية ، وجزئية من ناحية أخرى لأنها تتعلق بأحوال مفردة جزئية . والاستقراء الكامل غيرممكن . لهذا ليس لدينا غيرالتجربة الباطنة ، والذهن ، والعقل . ثم إن مبادىء المعرفة فطرية فينا ، أي موجودة على سبيل الإمكان . virtuel لا بالفعل .
ولقد فرق ليبنتس بوضوح بين الإمكان MOglichkeit وبين الواقع wirklichkeit .فاممكن هو التصور الخالي من التناقض، وله مكانة - بوصفه ماهية essentia- في روح الله . والعلاقات بين التصورات الممكنة تتحدد بمبدأ ( أوقانون ) عدم التناقض ، ويعبر عنها في أحكام ضرورية ضرورة مطلقة . وهذه الأحكام يسميها ليبنتس باسم « حقائق العقل» vérités de raison والرياضيات والميتافيزيقا والمنطق والأخلاق حافلة بهذا النوع من الحقائق . واعلى هذه الأحكام وأولها هي الأحكام التي تتجلى حقيقتها مباشرة بالعيان دون برهان . وإليها ترن كل لأحكام لأخرى الضرورية، عن طريق مبدأ عدم التناقض. وكل هذه الحقائق تتعلق بارتباطات ين
التصورات والماهيات essentiae لا بالموجودات existentiae على أنه ليس كل تصور خال من التناقض شيئا واقعيا بالضرورة ٠ والماهيات تتجه نحو مزيد من الوجود وفقاً لواقعتها وكمالها . وال يختار من بين عدد من العوالم الممكنة احسنها، ويبرز الى الوجود - من بين مجموع الماهيات التي توجد في روحه على شكل تصورات غير متناقضة - تلك التي تكون ممكنة في خير عالم ٠ والمبدأ الذي يعمل الله بمقتضاه هو مبدأ الأحسن principe de meilleur او مبداالملاءمة -principe de Convenance
وصورة هذا المبدأ في عقلنا هي مبدأ العلة الكافية principiumrationissufficientis,l٥ المبدأ الأخير له بالنسبة إلى ملكة الواقع نفس الأهمية التي لبداً (عدم) التناقض بالنسبة إلى مملكة الممكن ، إنه الأساس في أحكامنا الصادرة عن العقل قبلياً على الوقانع . وهذه الأحكام لا تنصف بصفة الضرورة المطلقة . وافتراض عدم وجود اية واقعة هو أمر لا يتضمن في داخله أي تناقض. بيد انكل واقعة هي ضرورية شرطياً او فزيائياً ، اي انا ضرورية في ارتباط نظام العالم ، ومشروطة بعلة كافية هي السبب في وجودها . والأحكام التي تعبرعن هذا الارتباط ويمكن استنباطها بعضها من بعض وفقاً لمدا العلة الكافية يسميها ليبنتس باسم « حقائق الواقع» vérités de fait ، أو حقائق فزيائية ، أو - لأنها ليست ضرورية ضرورة مطلقة - حقائق مكنة .
ولم يميز ليبنت بين العلة الفاعلية والعلة الغائية . فالسؤال عن العلة الكافية لحادث ما معناه البحث عن العلة السابقة في ارتباطها بالغاية من العالم ، تلك الغاية التي من أجلها أخرج الله الشيء من حيز الممكن الى حيز الواقع . صحيح انه في تفسيره للأحداث الجزئية يلجأ إلى التفير الميكانيكي، لكن هذا التفير الميكانيكي نفسه مشبع بروح الغائية ، لأن قوانين الحركة الميكانيكية متمورة هي الأخرى بحسب ٠ مبدا الأحسن , ومتنبطة منه .
٤ - المكان والزمان والعالم المادي :
الكون إذن - في نظر ليبنتس - مؤلف من احادات لا مادية . فكيف نتصور إنن المكان والزمان والمادة والحركات فيه؟.
أما المكان فيقول عنه ليبنت إنه 1 ترتيب الظواهر الموجودة معاً » فنحن ندرك كمية من الموضوعات التي نحس
انها عمتدة ، ويحد بعضها بعضاً وتتغيرأماكنها بعضها بالنسبة إلى بعض، تصرف النظر عن هذه اموضوعات ولا نفكر إلاً في الموضع الذي تشغله والذي يسمح لها بالنقلة . حينئذ نحصل على فكرة نظام مجرد . وهذه الفكرة هي عينهافكرة المكان المحض لكن هذا امكان المحض ليس معطى في اية تجربة وإنما فقط بناسبة التجربة نحن نصنع فكرته . . وبعد صنع هذه الفكرة نحدد خصائصه. والعالم الممتد ، على نحوما ندركه ، يختلف تماماً عن هذا المكان الهندسي المجرد ,
والشىء نفسه يقال عن الزمان، فإنه ا ترتيب الظواهر المتوالية » . ونحن لا ندرك ابداً زماناً خالياً خلواً تاماً ، وتوالياً للحظات متجانسة وإنما ندرك سللة من الأحداث العينية التي تتوالى دون انقطاع . ولا يمكننا ان نتصور زماناً مضاً إلأ استبعدنا - بالتجريد - ما فيها منعينية،قاصرين النظرعلى مجرد تواليها .
وحركة المتحرك الهندسي في المكان والزمان ليست اكث حقيقة من المكان المجرد أو الزمان المحض ، ذلك ان ما يعطى لنا في التجربة هو فقط الموضوع العيني الكاثن بين موضوعات اخرى في مدة محدودة وعينية.
اما إدراكنا للعالم الخارجي فليس إلآحلماً عكم الترابط، راسخ الاساس. وخاصية الحلم هي انه مجموع من الصور الذاتية التي لا توجد إلا في عقلنا وبواسطة عقلنا ومن أجل عقما.لكن صور الأحلام يعوزها القوام، فهي مهلهلة مشتتة مزقة غير مترابطة . بيد ان إدراكنا للعالم الخارجي لا يتألف من مادة تختلف عن مادة الأحلام ، إنه مؤلف من احاسات وصور نخطى ء فنظنها حقائق . وإنما ما يميز ادراك العالم الخارجي عن الحلم هران صور إدراك العالم الخارجي مترابطة بعضها مع بعض .
وهى ليست مترابطة فقط، بل ومؤسة ايضاً ، بمعنى ان لها مناظراً حقيقياً بالفعل .
وإدراكاتنا ترينا عال ماً مادياً عمتداً ، مكسواً بكيفيات متعددة : من الوان، وروائح ، الخ . ، وهو عالم قائم في مكان وجار في زمان . لكننا قلنا إنه لا يوجد غير أحادات لا مادية لا توجد في مكان ولا في زمان فكيف نوفق بين هذين ال تصورين؟.
يقول ليبنتس إنه يوجد توافق تام بين هذين العالمين :
ليبتتى
العالم لمادي اممتد، وعالم الأحادات اللامادية؛ ومااولهماإلآ رمز للثاني وظل له.
وثم مشكلة اخرى هي كيف يحدث اتصال بين الجواهر الفردة هذه بعضها وبعض ؟
نحن هنا بإزاء مشكلة قديمة قدم الفلسفة المثنوية ، أي القائلة بجوهر مادي وآخر روحي ، وقد زادها حدة موقف ديكارت حين رد الجوهر المادي إلى مجرد لامتداد ، ونعت الجوهر الروحي بأنه لا مادي محض . لكنه لاحظ ان الجم يفعل في النف عند الاحساس، والنفس تفعل في الجسم عند الفعل الإرادي .ولتفسيرهذا جعل مركز النفس هو في الغدة الصنوبربة التي كأنا معلقة في وسط المخ ، وحركاتها تترجم في النفس إلى إدراكات، وتترجم في الجسم إلى انقباضاتعضلية. لكن بقى على ديكارت أن يفسر كيف ان حركة الغدة الصنوبرية تظهر في الشعور إدراكات ، وكيف ان قرار الارادة يستثيرحركات الغدة الصنوبرية ، وما يتلو ذلك من افعال. لكن ديكارت لم يفلح في ذلك ٠
فجاء مالبرانث وفسر ذلك بما سماه العلل الافتراصية ( ائظر مادة : مالبرانث ) .
واتخذ اسبينوز موقفاً جذرياً بأن الغى المثنوية ، وقال بجوهر واحد لم صفتان : الامتداد والفكر .
ولم يرض ليبنتس عن كلا التفسيرين . ونظر إلى الأمر نظرة ختلفة تقماماً : إن كل احاد وحدة بسيطة كل البساطة ، ولا توجد فيه اية أجزاء . فمن المستحيل إذن اًن تفعل لأحادات من الخارج بعضها في بعض، لان الفعل من خارج لا يمكن ان يقوم إلا في الجمع، أو الطرح أو الانتفال بين أجزاء ، لكن لا توجد-كما قلنا - في الأحادات اية اجزاء . إذن لا يمكن أي احاد أن يفعل من خارج في احاد آخر. « إن الأحادات ليس لها نوافد يمكن منها ان يدخل أي شي، أو ان يخرج.
ومع ذلك يبدو ان الأحادات يفعل بعضها في البعض الأخر، كما يشاهد مثلاً في ظاهرةالادراك.فكل احاد يبدو انه يدرك ليس فقط بعض الأحادات الأخرى ، بل يدرك كل الأحادات، بل يدرك الكون كله،كما قلنا من قبل. وفي جم الحيوان وفي جم الانسان توجد أحادات دنيا تؤلف الجسم ، وأحادات عليا تؤلف النفس ، واحادات أعلى من كلتبهما تؤلف الروح . ومن الواضح ان ثم تاثيراً من النفس
في الجسم ومن الجسم في النفس، ومن الروح في النف، الخ.
فكيف يفسر ليبنتس هذه الظاهرة ؟ .
ه "الاسجام الأزلي :
إنه يفسرها بمايسميه باسم 1 الانسجام الأزلي»، وهي تظرية كان فخوراً بها إلى درجة انه كان يوقع على مؤلفانه هكذا « مؤلف الانسجام الأزلي».
إن الله ليس ساعاتياً رديثاً، كما تخيل ذلك مالبرانش، بل هو ساعاي حصيف ماهر. وثم لريقة لصنع ساعتين يدلان على الزمن في وقت واحد معاً . وتلك الطريقة هي إجادة صنعهما ، وإطلاقهما في نفس الآن ، وترك جهازهما يعملان وحدهما بعد ذلك . وتلك الطريقة هي التي اتبعها الله - هذا الفنان المنقطع النظير- ابتغاء مجده :
فمنذ اللحظة الأولى للخلق وضع في كل احاد- على سبيل الإمكان- كل الادراكات التي سيقوم بهاكلأحاد لكنه خلق كل أحاد بحيث يكون غو كل احاد - على الرغم من انه يتم مستقلا عن نمو غير. - مناظراً تماماً لنمو لآخر في كل لحظة . فإدراكاتنا لا تأتي إذن من خارج ، بل تنبثق كالينبوع الحي الدافق، منباطننا،لكن كلحالة : اً ، ب، ج ، د، لخ خاصة بأي احاد قد هيثت وقدرت لتمثل الأحوال : ا، ب، ج، د، الخ الخاصة بسانر الأحادات كلها. ومن هنا جاء الانسجام الكامل يين كل الادراكات. فمثلا هذه منضدة أمامي اراها كما تراها انت تماماً . لكن اتفاق رؤ ية كلينا لم يجى-فينظر ليبنتس - من كوننا نشاهد نفس المنضدة، وإنما : ١) أولاً لأنني منذ بداية الكون قد هيئت كبيا ارى هذه المنضدة في هذه اللحظة على هذ الثكل الذي أراها عليه الآن ؛ ٢) وثانيا لأنك كنت قد هيئت منذ بداية الكون ان ترى نفس المنضدة في نفس اللحظة على هذا الثكل نفسه . ومن هنا جاء الاتفاق بين رؤية كل واحل منا.
وهذا هو الذي يفر ما يبدو لنا من ان الأحادات يفعل بعضها في بعض . وإن كانت في الواقع لا تستطيع ذلك . وهذا ايضاً هو ما يفر ما يبدو من تأثير للنفس في الجم او للجسم في النف. إن تفسير ذلك هو:
١ ) أن ها هنا انجاماً ازلياً بين الأحادات التي تؤلف الجسم - وهي أحادات ص الدرجة الدنيا - وبين الأحادات التي تؤلف النفس، وهي 'حادات'من درجة اعلى.
٢ ) ولأن هذا الانسجام يرمز إليه بالتحولات التي تحدث في كل لحظة في المظهر الذي يتجلى عليه جسمي في الإدراك.
وعل هذا النحو تصور ليبنتس انه حل ، على نحو رائع ، تلك المشكلة القديمة ، مشكلة امكان الاتصال بين النفس والجسم ، ومشكلته هو في كيفية لاتصال بين الأحادات وهي عنده تؤلف عوالم مستقلة تماماً بعضها عن بعض.
٦ - الحرية والشر في الكون :
لكن الا تؤدي نظرية الانسجام الأزلي هذه إلى إنكار الحرية ، وبالتاليالمسؤولية؟ وكيف نفسروجود الشرفي العالم ؟ السنا مضطرين إلى نسبته إلى اله ؟.
إن عقل الله يتصور منذ الأزل عدداً من الأشياء : أولاً كل انماط الأشياء الممكنة التى تتحقق أو يمكن أن تتحقق، تلك الأنماط التي سماها افلاطون باسم 1 الصور»؛ وثانياً كل الأفراد التي يمكن أن تخلق دون ان ينجم عن هذا تناقض؛ وثالثاً كل مجموعات الأفراد التي هيعوالم ممكنة، ورابعاً واخيراً سلسلة الحقائق السسرمدية ، والحقائق النظرية والعلمية والعملية . فهذه كلها هي موضوع تصور العقل الإلهي منذ الأزل.
وإرادة اله تمر بحالتين لا يمكن تمييزهما إلا بالتجريد، وهما : ١) الارادة السابقة، و٢) الارادة التالية. وإرادة الله السابقة متجهة نحو الخير المطلق وهذا الخير كان الله سيحققه لو لم يكن قد تحقق بمجرد كون اللهموجوداً لكن لما كان الله لا يمكن أن يريد أن يوجد نفسه من جديد لأنه موجود بالضرورة بحكم طبيعته ، فإن قراراً واحداً هو الذي يليق بالله الا وهو : ان يختار ، من بين العوالم الممكنة التي يتصورها عقله ، أحسنها .
وهذا هو ما يفعله الله بإرادته التالية . إن كل الممكنات تطمح إلى الوجود نظراً لما فيها من كمال . إن الله يسمح لأحسن هذه العوالم الممكنة بالانتقال من الامكان إلى الوجود، كما يسمح الهويس للماء بالجريان . وفي هذا يقوم مبدا التفاؤل عند ليبنتس .
لكن إذا كان هذا العالم هو احسن عالم مكن ، فكيف
نفسر إذن وجود الشر وهو سائد فيه ؟ .
ويجيب ليبنتس عن هذا السؤال العويص الذي طالما ساقه الملحدون في وجه اللاهوتيين، بأن يقرر ان الشر يتجلى على ثلاثة أوجه : الشر اميتافيزيقي ، والشر الفزيائي ، والشر الأخلاقي.
اما الشر الميتافيزيقي فهو النقص الفزيائي والعقلي والأخلاقي الملازم لكل ما هو خلوق .إنه شر م يكن في وسع الله أن يتلافاه ، لأنه نتيجة لازمة عن كونه هوالخالق لكامل، فلا يمكن أن تكون مخلوقاته كاملة مثله، وإلا لانتفى التمييز والفارق بين المخلوق والخالق. إنخاصية المخلوق هي انه ليس الله فيكف يطلب من الله أن يجعل مخلوقاته كاملة مثله ! ! وعلى هذا فلا يجوز لنا أن نلوم الله على ما في مخلوقاته من نقص.
أما الشر الفزيائي فهو الألم بكل اشكاله. ويفسر ليبنتس وجوده بأن الله لم يرده ، ولكنه وجدنتيجة لتحقيقه خيرات . فإن الارتباط بين الموضوعات والأحدات وثيق إلى درجة أن بعضها لا يمكن أن يتحقق إلآ إذا تحقق البعض الآخر. ومن هنا كان من الضروري ، في بعض الأحوال، من أجل ايجاد خير اكبر ان يسمح يبعض الشرور بوصفها شرطا لتحقيق هذه الخيرات الأكبر . فمثلا : كيف نحصل على الثمار المفيدة للأعمال إن لم نتحمل بعض المتاعب ؟ لهذا كان لابدله من السماح بحدوث بعض الآلام ابتغاء تحقيق خيرات عظيمة. ثم إن الله عادل ، والعدل يقتضي عقاب الأشرارولهذا كانت الآلام في أحيان كثيرة نوعا من العقاب عن الخطايا والذنوب .
بقي الشرالأخلاقي ، وهوالخطيئة بكل درجاتها . ولا يمكن أن ندعي أن الله أرادها ، لأن الته حرم ارتكاب الخطايا . كما لا يمكن أن نقول إن الله يسمح بها ، ذلك لأنه يجعل من الواجب علينا أن نتجنبها . فلم يبق غير تفسير وحيد بمكن هو اننا نجد أنفسنا في بعض الأحوال مقسورين على الاختيار بين خطيثتين : مثال ذلك : طبيب يجد نفسه مرغاً إما على الكذب على المريض إنفاذاً لحياته ، او ان يصدقه القول فيكشف له عن خطورة مرضه مما قد يؤدي إلى موته . في مثل هذا الموقف لا يوجد غير قاعدة واحدة : اختر اهون الشرين . فلنقل أيضاً إن الله كان بين شرين : أحدهما أن لايخلق العالم، والثاني أن يقبل بعض الخطايا الأخلاقية
يتس
بوصفها شرطاً لوجود أحسن عالم مكن . ولقد اختار الله أهون ا لشرين : وهو ان يخلق العالم رغم ما ينطوي عليه من خطايا يالضرورة .
لكن ها هنا مشكلة اخرى هي نتيجة ضرورية لهذا التفسيرالذي أدلى به ليبنتس . إنه بهذا يعزوحدوث الخطيثة إلى الله نفسه . فكيف يعاقب الانسان إذن عليها ، وفاعلها هو الباري ؟ .
هنا وينبغي أن يلاحظ أن ليبنتس يرفض أن ينسب إلى الانسان وإلى اله صفة الحرية ، أي « القدرة على توكيد أو نفي شيء معين على السواء ». لأن الاقرار بمشل هذه القدرة يؤدي الى انكار المبدأين الرئيسيين للعقل وهما : مبدأ ( عدم ) التناقض، ومبدأ العلة الكافية. فهذا المبدأ الثاني يقررأنه لا يوجد شىء بدون علة وجود فاعلة وغائية . ولهذا لا يمكن أي فعل إنساني او إلي ان يكون معيناً بعلة . وفيما يتعلق بالانسان بخاصة فإن أفعاله ، في بعض الظروف المعينة ، تتعين بخلقه ، واله قد وهبه هذا الخلق من أجل غاية معلومة . ولهذا فإن حرية الإرادة وهم .
لكن ليس معنى هذا أن نذهب إلى ما ذهب إليه اسبينوزا الذي اكد وجود ضرورة رياضية فيكلما يجدث في الكون.
اما موقف ليبنتس فيتلخص في هذه العبارة : « في الفعل الارادي الدوافع ثميل دون ضرورة».
أما قوله إن « الدوافع تميل 8 فمعناه ٢ نه بقدر ما يمعن العقل في لفعل- الانساني او الإلهي على السواء - ويتامل في امكان تنفيذه والوسائل المؤدية إلى تنفيذه والنتائج القريبة والبعيدة الناجمة عنه : أقول : بهذا القدر فإن الإرادة تتجه إلى تنفيذه او إلى الامتناع منه . فتميل إلى ما يجلب الخير او المنفعة ، وتتجنب ما يؤدي إلى الشر أو الضر .
لكن إذا كانت الدوافع تميل لإرادة، فإنها لا تقسرها بالضرورة على اتجاه بعينه . إنها لا تقسرها إلآ في حالة واحدة وهي حينيما يكون من المستحيل منطقياً أن تتخذ قراراً ختلفاً عن قرارها . وهذا لا يحدث إلا إذا كان وجود عالم مختلف عن العالم الموجود يتضمن تناقضاً . ولكن هذه القضية - ذات الطاع الاسيينوزي - لا يمكن قبولها - صحيح ان ثم نوعاً من الضرورة في أن يكون هذا العالم كما هو عليه وان يفعل كل
إنسان فيه ما يفعله كما يفعله وفقاً لخلقه وبدافع من تأملاته . لكن هذه الضرورة ليست رياضية ولا ميتافيزيقية، بل أخلاقية فقط . وفقط بالقدر الذي هو به خير فإن العالم هوما هو عليه . والله ، باختياره لعالم يرى فيه الخاطى، حراً في ارتكاب الخطيئة ، فإنه لا يغير حرية فعله . ولهذا يبقى الخاطى، خاطئاً أمام الله .
لكن هذا الحل الذي قدمه ليبنتس لمشكلة حرية لإرادة الانسانية لا تقنع احداً . ذلك أنه حد الحرية حداً يجعلها تتكافاً تقريباً مع التعين ، مع ان امعفى الصحيح للحرية هو ذلك الذي وضعه ديكارت وهو انها « القدرة على فعل شيء او عدم فعله على السواء ». لكن ليبنتس لو كان قد ترن الحرية ، هذا التعريف ، لناقض نظريته الأساسية ، اعني الانسجام الأزلي، وقد كان، كما راينا، معتزاً بها كل الاعتزاز . ولهذا ينعي عليه برترند رسل هذا الموقف ويتهمه بترضى رجال الدين . لكن هذه التهمه ظالمة ، والأحرى أن نقول إنه لم يكن في وسعه ان يفعل غير ذلك ، وإلآ لناقض نظريته هذه الأساسية .
٧ - آراؤه في السياسة :
عاش ليبنتس في عصر مليء بالحروب في أوربا، وقد شاهد عن قرب ما أدت إليه هذه الحروب من خراب وشقاء للفاتحين والمفتوحين على السواء . ولهذا نادى بوقف الحروب بين الدول ، خصوصاً دول اوربا المسيحية فقال : , إن الحروب بين المسيحيين ( أي ي أوربا ) لا يمكن ان تؤدي إلا إلى اقتطاع اجزاء ضئيلة جداً من الأرض.. . إذ التجربة تدل على أن كل زيادة في القدرة تزيد فوراً في الخارج عدم الثقة والمؤامرات. ويلزم عن هذا ان كل ملك يطمح إلى عظائم الأمور ينبغي عليه أن يتجنب قدر الامكان نوعا من زيادة قوته لأن التقدم على هذا النحو معناه أن يضع على نفسه حدوداً، . ويقررفي موضع آخر : اإن الرغبة في ان مخضع امرء - بقوة السلاح - اماً متحضرة وفي الوقت نفسه محاربة ومولعة بالحرية كا هو شان معظم الأمم الأوربية - هذا الأمر هو ليس فقط كفراً بل وأيضاً جنونا».
ويوجه أنظارالحكام في أورباإلى ان الحروب البرية صارت عقيمة ، ويدعوهم الى الالتفات إلى الحروب البحرية ، وهو يقصد الحروب فيما وراء البحار طمعاً في الاستيلاء على مستعمرات خارج أوربا ! فهو إذن لا يدين
٣٩٦
ليبنتس
الحرب بما هي حرب للغزو والتوسع، بل الحرب بين المسيحيين في اوربا فقط ا ومن هنا رأيناه يقدم إلى لويس الرابع عشر مشروعاً لغزو مصر والقضاء على الامبراطورية العثمانية،وهو يرمي بهذا إلىصرف لحرب عن اوربا، ووقف الحرب بين المسيحيين، وتوجههم إلى محاربة غير المسيحيين.
لكن كان وراء هذا الموقف دافع قومي ايضاربماكان هو الأقوى ، وذلك هو صرف لويس الرابع عشر عن الطمع في الأراضي الألمانية. وقد أوضح موقفه هذا في رسالة حررها في سنة ١٧٨٤ يعنوان: «استشارة تتعلق بالحرب و التفاهم مع فرنسا». وهو في هذه الاستشارة يميل إلى الحرب، وذلك
٠ لأننا كلما تنازلنا وتساهلنا مع فرنسا ، ازدادت مطالبها منا ؛ إن طمعها لا يشبعه شىء ، ووقاحتها تزداد كلما ظفرت بنجاحات. وإذا نجحت هذه المرة ، فإنها لن تبقي على شيء ، ولن تشعر بأي اعتبار تجاه أي شيء ؛ ولن يكون احد في أمان ، وبمناصبة أتفه الأمور ستثيرضجة لا تحتمل ومتاعب شديدة لجاراتها ، وستستولي على كل ما تثتهيه».
وإذن كان ليبنتس وطنياً متحمساً لبلاده المانيا ، وسياسياً واقعياً. ولهذا نراه يسخر سخرية مرة من الفرنسيين الذين يدعون- في الظاهر والقول - إلى السلام ، فيقول :
٠ حينما يعظ الفرنسيون بالسلام ، فإن موعظتهم تشبه موعظة الثعلب فيجمع من الدجاج وهو في طريقه إلى الحج إلى شانت يعقوب وقد أعلن عفواً عاماً بين كل الحيوان . وليتكلموا ما طاب لهم الكلام عن السلام الدائم وهم الذين لا يفهمون منه غيرالاستعباد العام على طريقة الأتراك».
وتظهر نزعتم السياسية الواقعية على نحو اوضح في المشروع الذي قام به في سنة ١٦٩٢ لنشر«قانون دولي عام دبلوماسي» Codex Juris gentium diplomatics وهو مجموعة ضخمة تحتوي على نصوص اهم المعاهدات التي عقدت خلال القرون الخمسة السابقة ، وعلى كثير من الوثائق الدولية : مواثيق تتعلق بالحدود بين الدول أوالمقاطعات، مواثيق تجارية ، عقود زواج بين الملوك والأمراء ، وصايا ، الخ . وكل هذه النصوص والاتفاقات والعقود والبروكوكولات تكشف عن ا التاريخ الصغير» إلى جانب
٠ التاريخ الكبير»، ويقصد « بالتاريخ الصغير» أخبار المطامح غير المعلنة ، والرشاوى التي دفعت للقائمين بالمفاوضات بين الدول ، ودور النساء في عقد المواثيق أو الاتفاقات ، الخ . وفيها شاهد الملوك والأمراء وهم يلعبون
بالمعاهدات كما يلعب الاطفال بالجرز، وكيف أن كل سلام هش ، وما هو إلآ فترة استراحة قصيرة يتفق عليها المصارعون للراحة قليلاً بتغاء استثناف الصراع على نحو أشد وحشية.
ثبت مؤلفاته بحسب الترتيب التاريخي
1684: Meditationes de c٥gniti٥ne, veritate 1ع ideis.
1686 - 90: 10ع vera 11121000 00110500121 ع theologiae.
- 1691: Si !'essence des corps consiste das !'étendue.
1693: 10ع notionibus 15 لا ل et )ustitiae
1694:DePrimaephilosophiaeemendatione et de notione substantiae.
1696: Système nouveau de la nature et 0 la com-munication 5حل substances.
1696: Von 1221 لالا derVernunftkunst oder Logik." ٧01 der Gluckseligkit.
1698: Historia et Commendatio linguae Charactericae.
- 10ع ipsa natura sive عل vi insita actionsbus ٩ue creaturarum
1704: Nouveaux Essais sur !'entendement humain.
!?(Considérationsur 1ع principe de vie.
1706- 16: Lettres au .5حل Bosses.
1710: Commentatio de anima brutarum
1710: 10ع libertate.- 10ه1 ع Sagesse.- 55215ت de Theodi-
خع
17 14: 1ه Monadologie- 1011 25م1ع de 1ه nature et de 1ه grâce.
1716: Correspondance avec Clarke