جون لوك

جون لوك (29 أغسطس 1632 - 28 أكتوبر 1704) (بالإنجليزية: John Locke) هو فيلسوف تجريبي ومفكر ومنظر سياسي إنجليزي. أثَّرت كتاباته في علم السياسة والفسلفة. وجدت فيه ثورة العلوم الطبيعية فى القرن السابع عشر أحد الفلاسفة الأساسيين المدعمين لها.

ولد في عام 1632 في رنجتون في إقليم سومرست وتعلم في مدرسة وستمنستر، ثم في كلية كنيسة المسيح في جامعة أوكسفورد، حيث انتخب طالباً مدى الحياة، لكن هذا اللقب سحب منه في عام 1684 بأمر من الملك. وبسبب كراهيته لعدم التسامح البيورتياني عند اللاهوتيين في هذه الكلية، لم ينخرط في سلك رجال الدين. وبدلاً من ذلك أخذ في دراسة الطب ومارس التجريب العلمي، حتى عرف باسم (دكتور لوك).

درس جون لوك في كرايست تشيرش في أكسفورد وأصبح طبيباً ومستشاراً للايرال أوف شافتسبري. ثم تحّول إلى الفلسفة، فأنتج طوال فترة عملية غير قصيرة مؤلفاً قيِّماً في موضوع المشكلات التي يستطيع الفهم البشري التعاطي بها.

وقد تولى لوك عدداً من المناصب الحكومية، ولكنه فقد حظوته لما نُفي شافتسبري عام 1683م، ولكن الملك ويليام الثالث ملك إنجلترا رحّب بعودته وعيّنه مستشاراً للحكومة في ميدان سكّ النقد.

في عام 1667 أصبح طبيباً خاصاً لأسرة أنتوني آشلي كوبر (1621-1683) الذي صار فيما بعد الإيرل الأول لشافتسبري، ووزيراً للعدل، ولعب دوراً خطيراً في الأحداث السياسية العظيمة التي وقعت في إنجلترا ما بين سنة 1660 وسنة 1680. لعبت علاقة لوك باللورد آشلي دوراً كبيراً في نظرياته السياسية الليبرالية. وكان اللورد آشلي يتمتع بنفوذ كبير في إنجلترا إذ كان يمثل المصالح السياسية لرؤوس الأموال التجارية في لندن، وتحت تأثير اللورد آشلي كتب لوك في (1689–1692) مقالاً خاصاً بالتسامح (On Toleration) راجع فيه أفكاره القديمة الخاصة بإمكانية تنظيم الدولة لكل شؤون الكنيسة.

اعتقد الكثيرون لمدة طويلة ان لوك كتب أشهر مقالتين سياسيتين نشرتا في عام 1690 بعنوان "مقالتان عن الحكومة" (Two Treatises on Government) تأييداً لثورة 1688 الكبرى. وهناك وجهة نظر تقول إن المقالتين موجهتان ضد فيلمر (Filmer) وليس ضد هوبز كما كان يظن البعض.

وفي عام 1679م تورط الإيرل في مؤامرات ضد الملك، وثارت الشكوك حول لوك أيضاً، فقرر الفيلسوف أن يرحل عن إنجلترا، وانتقل إلى هولندا عام 1683م، بسبب ملاحقة الشرطة له، وذلك لاتصالاته الوثيقة باللورد آشلي، الذي كان معارضاً للقصر. وفي هولندا التقى بالأمير وليم والأميرة ماري، أميرة أورانج، وكتب عدة مقالات منها: مقال خاص بالفهم البشري (Essay Concerning Human Understanding) وبعض الأفكار عن التربية وأخرى عن التسامح. وعندما جاءت الثورة الكبرى عام 1689، صار وليم وماري حاكمي إنجلترا، فاستطاع لوك العودة إلى إنجلترا بوصفه أحد المقربين إلى البلاط الملكي. وقد ظل لوك حتى وفاته يكتب بقدرٍ كبير من الحرية في موضوعات مثل الإصلاح التعليمي، وحرية الصحافة، والتسامح الديني. وقد رفضت الجامعات القديمة فلسفته الحسية وآراءَه الليبرالية. ومع ذلك فقد عاصر شهرته الكبرى التي انتشرت في أنحاء العالم. وتوفي عام 1704.

كان لجون لوك دور كبير غير مباشر في الثورة الأمريكية إذ أن كتابه ((رسالتان في الحكم)) (1690م) كان محط إعجاب الأمريكيين، وكان لهذا الكتاب تأثير قويّ على توماس جيفرسون وهو يكتب إعلان استقلال أمريكا. وكانت من ضمن آرائه في الكتاب أن الوظيفة العليا للدولة هي حماية الثروة والحرية ويجب على الشعب تغيير الحكومة أو تبديلها في حالة عدم حفظها لحقوق الشعب وحريته، وقد ساهمت آرائه في زيادة وعي الأمريكيين الذين اعتنقوا آرائه وقرروا تنفيذها.ومن أشهر عباراته الفلسفية"الأفكار الجديدة هي موضع شك دائماً.... وتتم مقاومتها غالباً... لسبب أنها لم تصبح شائعة بعد."

نشأته

ولد جون لوك في رنجتون بالقرب من برستول بمقاطعة سومرست بإنجلترا، في 29 أغسطس عام 1632 وهو نفس العام الذي ولد فيه سبينوزا. ونشأ وترعرع في إنجلترا التي قامت فيها ثورة دامية وقتلت مليكها، وأصبح الصوت المنادي بثورة سلمية وعصر يسوده الاعتدال والتسامح، ومثل التسوية الإنجليزية في أحكم صورة وأفضلها. كان أبوه محامياً بيوريتانياً ناصر مع شيء من التضحية قضية البرلمان، وشرح لابنه نظريتي سيادة الشعب والحكومة النيابية، وبقي لوك مخلصاً لهذه الدروس مؤمناً بها، شاكراً معترفاً بفضل أبيه في تعويده على الرصانة، تقول ليدي ماشام عن والد لوك أنه:- سلك معه في صغره نهجاً تحدث عنها الابن فيما بعد في استحسان بالغ. ذلك أنه كان قاسياً عليه بإبقائه في رعب شديد منه، وعلى أبعد منه، حين كان صبياً. ولكنه كان يخفف من هذه القسوة شيئاً فشيئاً حتى استوى جون رجلاً، آنس منه رشداً ومقدرة فعاش مع صديقاً حميماً.

تعلم جون لوك في مدرسة وستمنستر، حيث أرهق باللاتينية واليونانية والعبرية والعربية، ومن الجائز أنه لم يسمح له بشهود إعدام تشارلز الأول ملك إنجلترا (1649) في ساحة قصر هويتهول القريب من المدرسة، ولكن هذه الحادثة تركت أثراً في فلسفته. وعوقت اضطرابات الحرب الأهلية التحاقه بكلية كريست في أكسفورد حتى بلغ العشرين من عمره. وقد انتخب فيها طاباً مدى الحياة، لكن هذا اللقب سحب منه في سنة 1684 بأمر من الملك. وبسبب كراهيته لعدم التسامح البيوريتاني عند اللاهونيين في هذه الكلية، لم ينخرط في سلك رجال الدين. وبدلاً من ذلك اخذ في دراسة الطب ومارس التجريب العلمي، حتى عرف باسم "دكتور لوك".

درس جون لوك بجامعة أكسفورد الأرسطوطاليسية مصوغة في قوالب سكولاسية باللاتينية، لكنه لفظ معظمها فيما بعد، على أنها عتيقة مهجورة موضوعاً، غير مستساغة ولا مقبولة شكلاً. كما درس مزيداً من اليونانية وبعض الهندسة والبلاغة وكثيراً من المنطق وعلم الأخلاق. وجدير بالذكر كانت هناك في ذلك الوقت منافسة كبيرة بين أكسفورد وكمبردج. كان يسيطر على أكسفورد أتباع أرسطو، بينما أتباع أفلاطون كانوا يسيطرون على كمبردج، مع العلم أن الصراع بين الأرسطوطاليسية والأفلاطونية اخترق كل تاريخ الفلسفة. لكن البروفيسور روجيه وولهاوس، أحد كبار المختصين بالفكر الحديث عموما وفلسفة جون لوك على وجه الخصوص، يرى أن الفلسفة الحديثة أي فلسفة فرانسيس بيكون وتوماس هوبز ورينيه ديكارت كانت قد نقدت بشدة فلسفة أرسطو وأفلاطون وفتحت مجالاً جديداً كلياً للمعرفة. وبالتالي فقد استفاد من ذلك كله جون لوك وبنى عليه نظرياته الفلسفية والسياسية.

ثم أصبح محامياً في مدينة أكسفورد. وبعد حصوله على درجة الماجستير (1658) بقي بكليته باحثاً في الدراسة العليا، يدرس ويحاضر. ووقع لبعض الوقت في غرام "سلبني عقلي"، ثم استرد عقله وخسر عشيقته. ولم يتزوج لوك قط، مثله في ذلك مثل كل فلاسفة هذا العصر تقريباً- مالبرانش، بل، فونتنل، هوبز، سبينوزا، ليبتنز. ونصحوه بالالتحاق بإحدى وظائف الكنيسة، ولكنه تردد وقال: "إذا رقيت إلى مكان قد لا أستطيع أن أملأ فراغه فإن الهبوط منه لن يكون إلا سقوطاً مروعاً يسمع له دوي شديد".

وفي 1661 مات والده بالسل، تاركاً له ثروة ضئيلة ورئتين ضعيفتين. ودرس الطب ولكنه لم يحصل على درجة فيه إلا في 1674. وفي الوقت نفسه قرأ ديكارت، وولع بالفلسفة وأحس بسحرها، حين تحدثت في جلاء ووضوح. وساعد روبرت بويل في تجاربه المعملية، وملأه الإعجاب بالمنهج العلمي. وفي عام 1666م التقى بأنطوني أشلي كُوبر الذي صار فيما بعد الإيرل الأول لشافتسبري ووزيراً للعدل أيام شارل الثاني ولعب دوراً خطيراً في الأحداث السياسية العظيمة التي وقعت في إنجلترا ما بين سنة 1660 وسنة 1680. وربطت بين الرجلين صداقة حميمة. وفي 1667 تلقى دعوة للحضور والإقامة في قصر إكستر ليكون طبيباً خاصاً لأسرة أنطوني آشيلي كوبر، لكنه حافظ في نفس الوقت على منصبه كباحث ومدرس ومحاضر في أكسفورد ولكن مع ذلك وجد نفسه غارقا في خضم السياسة الإنكليزية.

ويروي ول ديورانت أن الطبيب لوك أنقذ حياة شافتسبري حيث نجح في اجراء عملية جراحية له في سنة 1668 بعدما أصيب بدمل في الصدر؛ ونتيجة لهذ النجاح صار ناصحاً اميناً لآشلي في الأمور السياسية والعلمية. وساعد في المفاوضات لإتمام زواج ابن شافتسبري، وسهر على زوجة ابنه أثناء الوضع، وأشرف على تعليم حفيده، خليفته في الفلسفة. ويذكر هذا الحفيد، أرل شافتسبري الثالث أن:

"مستر لوك حظي بتقدير كبير لدى جدي، حتى وأنه وقد عرف بالتجربة أنه عظيم في الطب، رأى أن هذا جانب صغير من جوانب عظمته، وشجعه على الاتجاه بأفكاره إلى منحى آخر، ولم يسمح له بمزاولة الطب إلا في أسرته أو من قبيل العطف أو الرحمة بصديق حميم. وهيأه لدراسة المسائل الدينية والمدنية التي تهم البلاد، وكل ما يتصل بمهمة الوزير في الدولة. وقد أحرز في هذا نجاحاً كبيراً حدا بجدي إلى أن يتخذ منه صديقاً يسأله المشورة في أية قضية من هذا النوع."

تجارته للعبيد

في عام 1671، كان أكبر المستثمرين في تجارة العبيد الإنجليزية في " الشركة الأفريقية الملكية " التي كانت تتاجر في العبيد من غرب أفريقيا وكانت تهجر بين 90000 - 100000 أفريقى كعبد. و يقول مارتن كوهين: كان لوك رجل من ستة رجال مسئولين عن ايجاد وحكم المستعمرات الجديدة في أمريكا وقوانينها الجائرة والعبودية الظالمة فيها. لذا يرى البعض كلماته عن الملكية غير المحدودة كمسوغ لإحلال السكان الأصليين لأمريكا. و يرى مفكرون أن معارضته للأرستقراطية والعبودية في أشهر كتاباته تتعارض مع سيرته الذاتية وتجارته الواسعة في العبيد واستعبادهم وأنها محض نفاق.

الاضطرابات السياسية

انتخب لوك عضواً في الجمعية الملكية. ووجهته هذه العضوية نوحو الاهتمام بالفلسفة. وأسس لوك نادياً للمناقشات الفلسفية والدينية. وفي سنة 1672 صار آشلي أول ايرل لشافتسبري ووزيراً للعدل Lord Chancellor، ولمدة عامين (1673- 1675) اشتغل لوك سكرتيراً لمجلس التجارة والزراعة (المستعمرات) الذي كان يرأسه شافتسبري. وساعده على وضع دستور لكارولينا التي أسسها شافتسبري وكان أكبر ملاك الأرض فيها. ولم تطبق هذه "النظم الأساسية" في المستعمرة بصفة عامة، ولكن حرية الضمير التي تضمنتها هذه النظم لقيت قبولاً حسناً إلى حد كبير لدى المستوطنين الجدد. وفي سنة 1675 حصل على البكالوريوس في الطب ولم يكن قد حصل عليها بعد.

بين عامي 1975 و1679، وقعت العديد الاضطرابات السياسية في إنجلترا، حيث تخلى شافتسبري عن مهامه السياسية سنة 1675، وأحس جون لوك بالخطر، لما أثارته قصة القبض على صاحبه شافتسبري وسجنه لمدة قصيرة في برج لندن، وهربه من السجن ثم فراره إلى هولندا من شبهات الملكيين حول أصدقائه. فأقام لوك في مونبلييه (جنوبي فرنسا) وباريس، حيث التقى هناك بفرانسوا برنييه الذي أظهره على فلسفة جاسندي التي وجد فيها رفضاً معقولاً "للأفكار الفطرية" وهي مقارنة عقل الطفل الذي لم يولد باللوح النظيف الخالي من أي شيء، والجملة المأثورة التي نقلت فيما بعد عبر القنال الإنجليزي: "ليس ثمة شيء موجود في العقل إلا كان موجوداً أولاً في الحواس".

وفي 1679 عاد لوك إلى إنجلترا وإلى شافتسبري، ولكن الأرل زج بنفسه أكثر فأكثر في غمار الثورة، وأعيد إلى السجن في يوليو سنة 1681 بتهمة الخيانة العظمي، ثم أفرج عنه، وفر إلى هولندا في ديسمبر سنة 1682 (وقد توفى بعد شهر في 22 يناير سنة 1683 في امستردام)، بينما آوى لوك إلى أكسفورد حيث أستأنف الدرس والبحث. وأثار القبض على شافتسبري وهربه من السجن ثم فراره إلى هولندا شبهات الملكيين حول أصدقائه. وانبث الجواسيس في أكسفورد للقبض على لوك متلبساً بما يمكن أن يكون أساساً لتقديمه إلى المحاكمة. فلما أحس بالخطر وتنبأ باعتلاء عدوه جيمس الثاني عرش إنجلترا، رأي من الحكمة أن يرحل هو الآخر إلى هولندا لاخقاً بولي نعمته (1683). على أن ثورة دوق مونموث القصيرة الأجل التي ماتت في مهدها (1681) استنفرت الملك جيمس الثاني إلى أن يطلب من الحكومة الهولندية تسليم خمسة وثمانين لاجئاً إنجليزياً بتهمة اشتراكهم في المؤامرة لقلب عرش الملك الجديد. وكان من بينهم لوك، فاختبأ في امستردام تحت اسم مستعار هو Dr. Vanden Linden. وبعد سنة أرسل إليه جيمس عرضاً بالعفو عنه ولكنه آثر البقاء في هولندا. وأقام في أمستردام وروتردام وأوترخت ست سنوات، حيث لم يستمتع بصداقة الإنجليز اللاجئين فحسب، بل سعد كذلك بصداقة العلماء الهولنديين مثل جين لي كلرك وفيليب فان لمبروخ، وكلاهما من زعماء اللاهوت الإرميني المتحرر. وفي هذا الوسط وجد لوك كل تشجيع وترحيب لآرائه في سيادة الشعب والحرية الدينية. وهناك كتب "بحث في العقل الإنساني"، والمسودات الأولى لأبحاثه في التعليم والتسامح الديني.

وفي عام 1687، انتقل إلى روتردام، وانضم إلى أنصار وليم أورانج الإنجليزي، واشترك في مؤامرة لإحلال وليم الثالث محل جيمس الثاني على عرش إنجلترا. فلما نجحت حملة نائب الملك في هذه المغامرة أبحر لوك إلى إنجلترا (1689) على نفس السفينة التي أقلت الملكة المقبلة ماري. وقبل مغادرة هولندا كتب باللاتينية إلى لمبروخ رسالة تفيض بأحر العواطف. مما يدحض أو يصبح ما ظن من أن اعتداله المألوف نبع من برودة طبعه:

إني إذا أرحل عنكم، أكاد أشعر إني أفارق بلادي وعشيرتي وأهلي فإن كل شيء يتعلق بالقرابة والسنة الحسنة والحب والشفقة- كل ما يربط الناس بعضهم ببعض بوشائج قوى من رابطة الدم- وجدته بينكم موفوراً. إني أترك ورائي أصدقاء لا سبيل إلى نسيانهم أبداً. ولن أودع الرغبة في سنوح الفرصة لأستمتع ثانية بالرفقة الحقه لأصدقاء، لم اشعر وأنا بينهم بأي حنين أو رغبة، حيث كنت بعيداً عن ارتباطاتي الخاصة، وأعاني من أشياء كثيرة، أما أنت يا أفضل الرجال وأعزهم وأنبلهم، فإني حين أفكر في علمك وحكمتك وشفقتك وصراحتك وإخلاصك ورقتك ودماثة خلقك، يتضح لي إني وجدت في صداقتك أنت وحدك ما يجعلني أبتهج دوماً لأني أرغمت على قضاء هذا العديد من السنين في رحابك. --- لوك

عندما عاد لوك من منفاه في هولندا كان يناهز السادسة والخمسين من العمر. ولم يكن قد نشر سوى بعض مقالات قليلة الشأن، وخلاصة بالفرنسية "للمقال" في المكتبة العالمية التي كان يصدرها لي كلارك ولم يكن يعرف عن اشتغاله بالفلسفة إلا نفر قليل من أصدقائه. وما هي إلا سنة واحدة، هي "سنة العجائب"، حتى دفع إلى المطبعة ثلاثة كتب سمت به إلى مصاف الشخصيات البارزة الكبرى في عالم الفكر في أوروبا. وظهرت "رسالة عن التسامح" في مارس 1689، في هولندا، ثم ترجمت إلى الإنجليزية في الخريف. وأعقبتها في 1690 "رسالة ثانية عن التسامح". وفي فبراير 1690 أصدر مقاليه عن "الحكم المدني"، وهما حجر الزاوية في النظرية الحديثة للديمقراطية في إنكلترا وأمريكا، وبعد شهر واحد أخرج كتابه "بحث في العقل الإنساني"، وهو أعظم المؤلفات أثراً في علم النفس الحديث. وعلى الرغم من إتمامه هذا الكتاب الأخير قبل مغادرته هولندا فإنه عجل بطبع مقالي "الحكم المدني" قبله، لأنه كان تواقا إلى تزويد الثورة الجليلة بأساس فلسفي.

وفي إنجلترا التي تولى فيها أصدقاء لوك مقاليد الحكم، عرض عليه أن يكون سفيراً فلم يقبل، لكنه تقلد عدة مناصب رسمية. ففي 1690 كان مفوض الاستئناف، وفيما بين 1696- 1700 كان مفوض التجارة والزراعة، وكان صديقاً حميماً لجون سومرز النائب العام، وشارل مونتاگو إرل هاليفاكس الأول، واسحاق نيوتن الذي ساعده لوك في إصلاح العملة. وبعد 1691 قضى معظم وقته في أوتس مور في أسكس في منزل سير فرانسيس ماشام وقرينته ليدي داماريس ماشام إحدى بنات رالف كودورث. وظل في هذا الركن الهادئ يكتب وينقح ما كتب حتى وافته المنية في 28 أكتوبر سنة 1704.

فلسفته

دمج لوك باتساق محكم بين الاتجاهات الأساسية فى نظرية المعرفة الإمبيريقية (والتى تعنى أنه لا توجد "أفكار فطرية"، وأن كل معارفنا الواقعية مستمدة من الخبرة) وبين الالتزام بوجهة النظر الميكانيكية السائدة عن طبيعة الحقيقة وتصورنا عنها. فبعض الصفات أو الخصائص (كالألوان و المذاق على سبيل المثال) ينظر إليها باعتبارها "ثانوية" وأنها نتائج لتأثيرات أشياء خارجية على حواسنا، بينما الصفات أو الخصائص الأخرى، وهى "الخصائص الأولية" (كالصلابة والشكل وحالة الحركة وغيرها) ينظر إليها باعتبارها خواص "حقيقية" فى الأشياء نفسها. وعلى أية حال فإن لوك رأى فى نفس الوقت أيضاً أن كل ما نتعرف عليه مباشرة بإدراكنا ليس سوى أفكارنا، ومن هنا فمن الصعب أن نرى كيف يمكن الدفاع عن هذا التمييز. ومع ذلك فإن لوك يظل مهما باعتباره من الشخصيات البارزة التى لعبت دورا مهما فى تحقيق التحالف المتصل بين العلم الحديث وبين التراث الإمبيريقى فى المعرفة.

لقد كان لوك فيلسوفاً تجريبياً حسياً، ومن أكبر أعمال لوك مقال عن الفهم الإنساني الذي يشرح فيه نظريته حول الوظائف التي يؤديها العقل (الذهن) عند التعرف على العالم. وقد اعترض لوك على مذهب الأفكار التي تتم بالفطرة والتلقائية، والذي كان يقول بأن الأفكار تكون جزءاً من العقل عند الميلاد، ولا يتم تعلمها أو اكتسابها فيما بعد من المصادر الخارجية. وكان لوك يرى أن الأفكار جميعها تأخذ مكانها في العقل من خلال الخبرة. وأعلن أن هناك نوعين من الخبرة: الخبرة الخارجية، والخبرة الداخلية. تُكتسب الخبرة الخارجية من حواس البصر والتذوق والسمع والشم واللمس، وهي الحواس التي تمد المرء بمعلومات عن العالم الخارجي. أما الخبرة الداخلية، فتُكتسب من خلال التفكير في العمليات العقلية التي تتم لتمحيص هذه البيانات، وهي التي تمد المرء بمعلومات حول العقل.

اشتهر جون لوك زعيم الحسيين بعبارته المشهورة:"إذا سألك سائل: متى بدأت تفكر؟ فيجب أن تكون الإجابة: عندما بدأت أحس".لقد سلم لوك بعجز العقل البشري وقصوره عن معالجة ما يتجاوز حدوده وإمكانياته وقد وضح ذلك في معظم كتبه ولا سيما كتابه (مقال في الفهم الإنساني) وكتابه (عن العقل البشري)وخلاصتهما أن العقيدة السائدة قبل لوك هي أن العقل البشري يشتمل على بعض الأفكار الفطرية الموروثة منذ الولادة دون أن يكتسبها العقل من التجارب التي تمر به أثناء الحياة ولقد بلغ من رسوخ هذا المذهب في نفوس أنه لم يكن يستهدف حتى لمجرد البحث والجدل.وكان ديكارت من أشد المدافعيين عن صحته وتبوته، أما لوك فيقابل هذا التسليم الأعمى بوجود الآراء الفطرية بأشد الإنكار.ويقول في ذلك "انها ((أي الأفكار الفطرية))ليست مطبوعة على العقل بطبيعتها، لأنها ليست معرفة بالنسبة للأطفال والبلهاء وغيرهم.

وكان لوك يؤمن بأن في الكون ثلاثة أنواع من الأشياء: العقول، وأنماط مختلفة من الأجساد، والإله. وللأجساد نوعان من الخواص: نوع يمكن قياسه حسابياً مثل: الطول والوزن، وهي أشياء توجد في الأجساد ذاتها؛ ونوع آخر كيفي مثل الصوت واللون، لا يوجد في الأجساد ذاتها ولكنه، باختصار، قوى تمتلكها الأجساد لتعريف العقل بمفاهيم الألوان والأصوات.

والحياة الصالحة في رأي لوك هي حياة المتعة. والمتعة والألم مفهومان مجردان يصاحبان تقريباً كل التجارب الإنسانية. ويستلزم التصرف على نحو أخلاقي تحديد أي الأفعال يمكن أن يؤدي إلى أكبر قدر من المتعة في موقف معين، وذلك قبل ممارسته. وكان لوك يؤمن أيضاً بأن الله قد وضع قانوناً إلهياً، يمكن التعرف عليه بالعقل، يكون الخروج عليه خطأ أخلاقياً. وكان لوك يرى أن هناك توافقاً بين القانون الإلهي ومبدأ المتعة.

كان لوك يعتقد أن للناس بطبيعتهم حقوقاً وواجبات معينة، مثل: الحرية والحياة وحق الملكية. وكان لوك يقصد بالحرية المساواة السياسية. وهو يرى أن مهمة أي دولة حماية حقوق الناس وأن مبرر وجود أي دولة يجب أن يتمثل في قدرتها على حماية حقوق الإنسان أكثر من قدرة الأفراد على حمايتها بأنفسهم.

كذلك تعتبر الفلسفة السياسية الخاصة بجون لوك ذات أهمية مستمرة باعتبارها واحدة من التبريرات العقلانية المبكرة للنظام الملكى الدستورى الحديث. لقد انطلقت وجهة نظر لوك، مثلما كان سائداً فى زمنه، من افتراض حالة طبيعية سابقة كان الناس يعيشون فيها معاً دون وجود قانون أو قوة مسيطرة. وعلى الرغم من أن سلبيات تلك الحالة لم تبلغ فى رأى لوك التصور الدامى الذى وصفه توماس هوبز، إلا أنها كانت كافية لتبرر للأفراد الدخول فى علاقة اختيارية طوعية تعاقدية لوضع أنفسهم تحت حكم دولة وقانون: على أن تلك الحالة المطبيعية لم تكن من القسوة بحيث تجعل القوة المطلقة وغير المحدودة من جانب الدولة أو الحكومة أمراً يمكن تحمله. فالمواطنون يضعون قوتهم فى الشخص الحاكم ثقة منهم أنها ستستخدم لصالحهم، وبالتالى يحتفظون بحقهم فى التمرد. ويعتبر تحليل لوك لمصادر وحدود حقوق الملكية الفردية فى ظل عالم نشأ بالتشارك بين كل البشر، من الأجزاء ذات الأهمية الخاصة فى فلسفته السياسية. فبما أن كل الأفراد فى الأصل يمتلكون أنفسهم، فإن مزجهم لقوة عملهم مع أى جزء من العالم المادى، يعطيهم الحق فى امتلاك ما ينتج عن هذا المزيج. و لكن ذلك يكون فقط فى حالة عدم إتلافهم لما سياخذون، وبشرط أن يتبقى مقدار كاف للآخرين. والمؤسسة النقدية (التى اعتبرها لوك منشأة طوعية قامت بالاتفاق بين الناس على غرار نشأة الدولة والحكومة) تسمح بانتقال حقوق الملكية وبتراكم الثروة بلا حدود.

ظهرت فلسفة لوك في عصر الحرب الأهلية الإنجليزية، بين الملك والبرلمان، وكان الملك يمثل الطبقة الأرستقراطية التي كانت تهدف المحافظة على مكتسباتها الوراثية ووضعها المتميز داخل المجتمع والدولة، والبرلمان يمثل البرجوازية الصاعدة، أي طبقة التجار ورجال المال والأعمال والصناعة. انتهت هذه الحرب بانتصار البرلمان، وبتقييد سلطات الملك حتى أصبح يملك وحسب ولا يحكم. وقد اتصف ذلك العصر بالاضطراب والفوضى في كل النواحى الاجتماعية والثقافية والسياسية، وما يميز كل مرحلة انتقالية بين نظام قديم ونظام جديد. أراد لوك أن يحافظ على ثبات واستقرار المجتمع الإنجليزي، وأراد كذلك المحافظة على النتائج التي أسفرت عنها الثورة، أي الجمع بين النظام الملكي والنظام البرلماني في نفس الوقت(3)، والمحافظة على التوازن بينهما، وبالتالى التوازن بين الأرستقراطية والبورجوازية.

ولذلك اشتهر لوك بنظريته السياسية التي تجمع في نفس الوقت بين حق الملكية الذي يحافظ على الحقوق المتوارثة للأرستقراطية والحقوق المكتسبة حديثاً للبورجوازية، وبين مفهوم الحكومة المدنية التي تعتمد على توازن القوى وتوزيع السلطات. والحق أن هذا كان مفهوم الإنجليز عن الاستقرار، فهو توازن ومحافظة على أملاك كل الطبقات. ومن الناحية الفكرية أراد لوك مواجهة الحماس الزائد الذي يصل إلى حد التهور والملازم لصعود أي طبقة جديدة. وكان يمكن أن تؤدى مواجهة البرجوازية للسلطات الكهنوتية للكنيسة أن تعصف بالدين، ولذلك أراد لوك أن يحافظ على الإيمان وفي نفس الوقت يعبر عن نظرة البورجوازية الفكرية والمتمثلة في اعتماد العقل حكماً في كل شئون الحياة والخبرة التجريبية التي وضعها أساساً لفلسفته. وكان يمكن لتجريبية لوك أن تذهب به إلى حد الإطاحة بالأديان من جراء عداء كل مذهب تجريبى للأفكار المسبقة واعتماده على الخبرة التجريبية التي تكبح جماح العاطفة، وأولها العاطفة الإيمانية؛ لكن تتميز تجريبية لوك بأنها جمعت بين عمل العقل والتجربة من جهة، وعلى الإيمان والوحي من جهة أخرى. وهذا هو جوهر الفرق بينه وبين هيوم، الذي سار على المنهج التجريبى إلى نهاياته المنطقية حيث وضع الإيمان والوحي والمعجزات تحت محكمة العقل ورفض الميتافيزيقا وقيد من سعى العقل المستمر نحو تجاوز الخبرة التجريبية في اتجاه المثاليات. وهكذا ظهرت فلسفة لوك على أنها تضع للعقل حدوداً مزدوجة، من الخبرة التجريبية ومن الإيمان والوحى.

ومذهب لوك تجريبى لا لأنه يرفض العقل، إذ هو يضع للعقل مكاناً مركزياً في المعرفة، بل لأنه يقيد العقل بالتجربة، وذلك عكس فلاسفة التيار العقلانى: ديكارت ولايبنتز وسبينوزا، الذي تحرر العقل عندهم من أي تجربة ووصل إلى المثالية. والحقيقة أن لوك عندما يضع الخبرة التجريبية باعتبارها المصدر الأساسى للمعرفة والضابط الأول للعقل فإنما يعبر بذلك عن الخبرة العملية للبرجوازية، ذلك لأن هذه الطبقة هي طبقة رجال التجارة والمال والأعمال والصناعة، الطبقة التي صنعت نفسها وثروتها بالانشغال في العمليات الاقتصادية الجزئية واليومية، وهي كلها عمليات تنظر إلى العمل وإنتاج هذا العمل على أنه دعامتها الأساسية. إن الخبرة التجريبية في فلسفة لوك هي التعبير الفلسفى والإبستمولوجى عن الخبرة العملية للبورجوازية، ورفضه للأفكار الفطرية تعبير عن رفضه الاجتماعى والاقتصادى لكل حق موروث لم يأت نتيجة للعمل وبذل الجهد والانغماس في تفاصيل الحياة اليومية. ولذلك نرى أن وراء نظرية لوك في المعرفة، ووراء عناصر فلسفته، يكمن موقف اجتماعى معين يعبر عن طبقة صاعدة، البورجوازية، في مواجهة طبقة أخرى ذات حقوق موروثة، أو فطرية، وهي الأرستقراطية، وهذا هو مغزى تجريبيته ورفضه للأفكار الفطرية.

إنكار الأفكار الفطرية

الأفكار الفطرية هي تلك التي يولد الانسان مزوداً بها، في رأي من يقولون بها. وممن قال بها في العصر اليوناني الرواقيون الذين قرروا أنها تولد في العقل الإنساني منذ الولادة ويشترك كل الناس في الإقرار بها: وفي أوائل العصر الحديث قال بها ديكارت، حين قرر أن الأفكار السرمدية الضرورية فطرية، أي أنها تولد مع ميلادنا ولسنا في حاجة إلى تحصيلها. لكنه يقرر مع ذلك أن هذه الأفكار، قبل التجربة، إنما توجد ضمنياً وعلى هيئة إمكان. ومن هنا يرى أن التجربة ضرورية لتحصيل هذه الأفكار. ومن بين هذه الأفكار الفطرية مبدأ الهوية ( ماهو هو) ومبدأ عدم التناقض (لا يمكن الشيء الواحد أن يكون وألا يكون في آن واحد ومن جهة واحدة)، والضمير الأخلاقي، وفكرة الله. وكان الغرض من القول بفطرية بعض الأفكار الاساسية هو تأمين اليقين والثبات لحقائق الدين والأخلاق والعلم، نظراً لأن معطيات الحس غير مأمونة ومتغيرة وغير يقينية.

لكن جاء لوك وأنكر نظرية الأفكار الفطرية، وقال إن عقل الطفل يولد صفحة بيضاء Tabula rasa لم ينقش عليها من قبل شيء. والدليل على ذلك أن الأطفال لا يعون مبادئ المنطق (الهوية وعدم التناقض). والبدائيون يعيشون دون أن يصوغوا مباديء المنطق. وشاهد آخر هو أن الناس يختلفون اختلافاً شديداً في تقرير ما هو خير وما هو شر، ما هو صواب وما هو خطأ، ولو كانت هناك أفكار فطرية لما وجد هذا الاختلاف في المبادىء الأساسية في المنطق والأخلاق والدين والعلم بين مختلف الشعوب. وهنا يذكر لوك أن هناك شعوباً ليست لديها أية فكرة عن الله وعن العقائد الدينية الأساسية بوجه عام. فلو كان الله قد أعطى أفكاراً فطرية لكان قد أعطى الناس فكرة عن ذاته، لكنه لم يفعل ذلك.

ولا يستطيع المدافع عن الأفكار الفطرية أن يجيب قائلاً إن بعض الأفكار فطرية بمعنى أن في الناس استعداداً فطرياً لاكتسابها حالما يجربون ويتعلمون استخدام عقولهم. إذ بهذا المعنى كل فكرة هي فطرية، ولا محل للتمييز حينئذ بين أفكار فطرية عالية اليقين وبين أفكار غير فطرية أقل مرتبة في اليقين.

لكن الغريب هو أن لوك في هجومه على مذهب الأفكار الفطرية لا يذكر ديكارت، مع أن ديكارت هو أعظم فلاسفة القرن السابع عشر، بينما يذكر رجالاً اقل قيمة كانوا مثل ديكارت من القائلين بنظرية الأفكار الفطرية، مثل هربرت أوف تشربري ( 1583 - 1648) Herbert of Cherbury؛ ذكره لوك بالاسم. ويفسر البعض هذه الواقعة بكون إحياء بعض المتفلسفة البريطانيين لرأي الرواقية كان في تعارض مباشر مع تجريبية لوك، لأنه إذا كانت كل معرفة تستمد من التجربة كما يرى لوك، فإنه لا توجد معرفة فطرية في العقل يؤيد وجودها ما زعموه من إقرار كل الناس بها، ولما كان هؤلاء المتفلسفة البريطانيون قد أحيوا من جديد مذهب الرواقية في هذا الموضوع، فقد كان على لوك أن يهاجمهم دفاعاً عن مذهبه هو التجريبي. ومن ناحية اخرى يمكن أن نتصور أن مذهب الأفكار الفطرية لم يكن في مذهب ديكارت جزءاً أساسياً في فلسفة ديكارت كما تصورها لوك ولوك يوافق ديكارت في قوله إن بعض الأفكار يعرف صدقها عن طريق العيان العقلي المباشر، والبعض الآخر يمكن ان يستنبط منها. وعلى هذا الأساس رأى لوك أن من الممكن إثبات صحة الرياضيات والأخلاق وكذلك صحة وجودنا وصحة وجود الله. ومعنى هذا أن لوك كان يرى أن ديكارت كان على حق في اعتقاده أن بعض الأفكار يُعرف بالعيان العقلي المباشر أنها واضحة متميزة، وبالتالي صحيحة، وأن غلط ديكارت الوحيد هو في ظنه أن مثل هذه الأفكار فطرية ولا ترجع إلى التجربة.

وبعد أن فند لوك مذهب القائلين بالأفكار الفطرية في القسم الأول (الكتاب الأول) من كتابه "بحث يتعلق بالعقل الإنساني" (1690)، أخذ في الكتاب الثاني منه (القسم الثاني) في عرض رأيه وهو أن التجربة هي مصدر ما لدينا من أفكار. إن لدينا أفكاراً - والفكرة Idea أي شيء هو موضوع للتعقل حين نفكر - هذا أمر لا شك فيه. فمن أين تأتي أفكارنا، مادامت ليست فطرية؟

لنفرض، هكذا يقول لوك، ان العقل كان في البداية لوحة بيضاء Tabula rasa فمن أين يحصل إذن على أفكاره؟ والجواب: من التجربة، هكذا يقول لوك. والتجربة تشتمل على مصدرين للأفكار، هما: الأحساس، والتأمل reflection. فنحن نتلقى الكثير، إن لم تكن الغالبية، من أفكارنا حين تتأثر حواسنا بموضوعات خارجية. ونتلقى أفكاراً أخرى بواسطة التأمل حينما ندرك عمليات عقولنا في الأفكار التي حصلناها من قبل. إن الإحساس يزودنا بالأفكار المتعلقة بالكيفيات، مثل فكرة اللون الأصفر، أو الحرارة، الخ. والتأمل يزودنا بأفكار تتعلق بالتفكير والإرادة، مباشرة، وما أشبه ذلك. وهذان المصدران - الإحساس والتأمل - يعطياننا كل ما لدينا من أفكار. فإن شك أحد في هذا، فما عليه إلا أن يفحص عن افكاره وينظر هل هناك أفكار لم تأته إما من الإحساس وإما من التأمل. ونمو الأطفال يعطينا المزيد من التأييد لهذه النظرية التجريبية الخاصة بمصدر المعرفة الانسانية: فكلما تلقى الطفل المزيد من الأفكار من الإحساس وتأمل فيها، زادت معرفته بالتدريج.

الأفكار البسيطة والمركبة

وبعد أن فرغ لوك من بيان مصدر معرفتنا أخذ في البحث عن طبيعة ما لدينا من أفكار. إن أفكارنا كلها إما بسيطة وإما مركبة. والفكرة البسيطة هي غير المؤلفة من عدة أفكار؛ إنها لا تحتوي إلا على مظهر واحد أحد، مثال ذلك: رائحة وردة. أما الفكرة المركبة فهي المؤلفة من فكرتين او أكثر بسيطة، مثل فكرة: أصفر زكي الرائحة. والأفكار البسيطة لا يمكن ان يخلقها العقل ولا أن يدمرها.

لكن العقل يقدر على تكرار الأفكار البسيطة أو مقارنتها بعضها ببعض أو تأليفها بعضها مع بعض. ولا يستطيع العقل أن يخترع أفكاراً بسيطة لم يعرفها في التجربة. والأفكار البسيطة هي الأحجار التي بها تبنى كل أفكارنا المركبة، وبها تُفسر.

وكثير من الأفكار البسيطة يحملها حس واحد، مثل أفكار: الألوان، الأصوات، الأذواق، الروائح والملموسات. ويزعم لوك أن فكرة الصلابة فكرة بسيطة نتلقاها بواسطة حس اللمس. وفكرة الصلابة ليست فكرة المكان الذي تشغله الأجسام، ولا هي التجربة الذاتية للخشونة التي نحس بها حين نشعر بالأشياء. وإنما الصلابة solidity شبيهة بفكرة الكتلة mass في فزياء نيوتن، وهي التي تصنع الأجسام. وإذا شك إنسان في هذه الفكرة فما عليه إلا أن يضع بين يديه شيئاً مادياً، وليكن كرة، وليحاول بعد ذلك أن يضم يديه. فهذه التجربة تعطي الإنسان معرفة تامة وملائمة بالصلابة.

وبعض أفكارنا ينقلها حسان أو أكثر. ويدخل في هذا النوع أفكار: المكان أو الامتداد، الشكل، السكون، الحركة - إذ نحن نتلقى هذه الأفكار بواسطة البصر واللمس. وهناك أفكار أخرى تأتي من التأمل reflection. وثم أفكار ثالثة هي نتيجة التأمل والإحساس كليهما. ويدخل في هذا النوع الأخير أفكار: اللذة والألم، فكرة القوة وهي تتكون لدينا من التأمل في تجربتنا عن قدرتنا على تحريك أجزاء من أبداننا بحسب إرادتنا.

الكيفيات الأولية والثانوية

أما كيفيات الأشياء فيقسمها لوك إلى قسمين: كيفيات أولية، وكيفيات ثانوية. فالكيفيات الأولية هي التي لا تنفصل عن الأجسام مهما تكن الحالة التي توجد فيها هذه الأجسام. وهذه المجموعة تشمل الصلابة، الامتداد، الشكل، التحرك، والعدد. أما الكيفيات الثانوية «فليست قائمة في الموضوعات نفسها، بل هي القوى التي تنتج مختلف الإحساسات فينا بواسطة كيفياتها الأولية»، مثال ذلك: قوة الشيء، من خلال حركة أجزائه الصلبة الممتدة، على إحداث الأصوات، والأذواق والروائح فينا حين نتأئر بها.

وهكذا نجد أن لوك يقرر أن الموضوعات (الأشياء) لها كيفيات أولية، وهى العناصر الأساسية في فيزياء نيوتن، ولها أيضاً كيفيات ثانوية هي قوى الكيفيات الأولية التي تجعلنا ندرك الألوان والروائح الخ، وهي أمور ليست في الموضوعات نفسها. وبعبارة أخرى نستطيع أن نقول إن أفكارنا عن الكيفيات الأولية تشابه خواص الموضوعات الموجودة خارجاً عنا، بينما أفكارنا عن الكيفيات الثانوية ليست كذلك. إن الكيفيات الأولية للأشياء موجودة فعلا فيها، بينما الكيفيات الثانوية - كما تدركها الاحساسات - لا توجد إلا فيمن يشاهدها. فلو لم يوجد مشاهدون، لما وجد إلا الكيفيات الأولية وقواها. ولهذا فإن عالم التجربة الغني الحافل بالألوان والذوق والضجة والرائحة ماهو إلا الطريقة التي نتأثر بها نحن من جانب الأشياء، لا الطريقة التي عليها الأشياء موجودة بالفعل.

وهذا التمييز بين كيفيات أولية وكيفيات ثانوية دعا لوك إلى الزعم بأن بعض أفكارنا تعطينا معلومات صحيحة عن الواقع، بينما لا تعطينا أفكار أخرى معلومات صحيحة عنه.

معنى الجوهر

يبحث لوك في معنى الجوهر substance، فيقول إننا اعتدنا أن ننظر إلى الجوهر على أنه موضوع substratum تحل فيه الأفكار. فإذا تساءلنا؛ وما هو هذا الموضوع، لم نستطع أن نحير جواباً. مثلاً: إذا تساءلنا: اللون والوزن ينتسبان إلى ماذا؟ وكان الجواب: إلى الأجزاء الممتدة الصلبة - فعلينا أن نتساءل: وإلى أي شئ تنتسب هذه الأجزاء الممتدة الصلبة؟ وهنا لا نحير جواباً، وسيكون مثلنا مثل ذلك الفيلسوف الهندي الذي زعم أن العالم يحمله فيل كبير. فلما سئل؛ ومن يحمل الفيل؟ أجاب تحمله سلحفاة. فلما سئل: ومن يحمل السلحفاة؟ سلم بعجزه عن الجواب، وقال: لا أدري. ومثل هذا هو ما ينبغي أن نقوله عن طبيعة الجوهر substance: إنه شيء لا نعلمه، لكننا نفترض أنه الحامل للكيفيات التي ندركها أو نتأثر بها.

وكل مجموعة مجتمعة معاً دائماً من الكيفيات نحن نفترض أنها تنتسب إلى جوهر معين، نسميه: فرس، ذهب، إنسان، شجرة، المخ. إننا لا نملك فكرة واضحة عن الجوهر، سواء بالنسبة إلى الأشياء المادية والأشياء الروحية. لكننا مع ذلك لا نعتقد أن الكيفيات الفيزيائية أو العقلية التي ندركها في التجربة معاً يمكن ان توجد دون أن تنتسب إلى شيء ما. وهكذا، فإنه على الرغم من أنه ليست لدينا أفكار محددة عن الجواهر، فإننا نفترض مع ذلك أنه لا بد من وجود أجسام وأرواح تحمل الكيفيات التي تنشىء أفكارنا. لكن عجزنا من الحصول على أفكار واضحة عن الجواهر تمنعنا دائماً من تحصيل معرفة صحيحة عن الطبيعة الحقيقية للأشياء.

وبالجملة فإن أفكارنا تكون صحيحة إذا كان أساسها في الطبيعة وكانت تتفق مع الطابع الحقيقي للأشياء. وبهذا المعنى فإن كل الأفكار البسيطة صحيحة، لأنها ناتج أشياء واحداث حقيقية. لكن ليست كل الأفكار الحقيقية هي بالضرورة امتثالات مكافئة لما يوجد بالفعل. وأفكار الكيفيات الأولية حقيقية ومكافئة معاً. أما أفكار الكيفيات الثانوية فحقيقية، ولكنها لا تمثل ما هو خارج عنا إلا جزئياً: إنها تمثل قوى موجودة، لكنها لا تمثل صفات مناظرة لتلك الى ندركها. وأفكارنا عن الجواهر غير مكافئة وقاصرة جداً، لأننا لا نستطيع أن نتأكد أبداً أننا واعون بكل الكيفيات المجتمعة معاً في جوهر واحد، ولسنا متأكدين لماذا هي متجمعة هكذا. ومن هنا فإن بعض أفكارنا تخبرنا ما هو موجود فعلا خارجاً عنا، بينما هناك أفكار أخرى، ناتجة عما هو خارج عنا، أو عن تأملنا في افكارنا، وهي لا تمثل تمثيلاً مكافئاً موضوعات «حقيقية» real.

طبيعة الألفاظ واللغة

في الكتاب (الباب) الرابع من «بحث متعلق بالعقل الإنساني» يتناول لوك موضوعات تتعلق بطبيعة الألفاظ واللغة، ومن هنا اهتم به الباحثون في اللسانيات في العصر الحاضر. ومن أهم ما تعرض له لوك في هذا البحث معنى الحدود الكلية أو الكليات مثل "إنسان"، "مثلث"، الخ. يقول لوك إن كل الأشياء الموجودة هي جزئية، لكننا بتجريد أفكارنا عن الأشياء، وبفصلها عن القسمات الدقيقة والتفاصيل الجزئية فإننا نكون أفكاراً عامة. وبهذا الطريق نصل إلى تكوين الأفكار المجردة العامة التي نستخدمها في البرهنة العقلية.

ومن بين الحدود الكلية التي يقول لوك إنها اكتسبت بعض المعنى من عملية التجريد هذه - اللفظ: «جوهر» substance. وحين حلل معناه ميز بين ما سماه «الماهية الاسمية» nominal essence وبين «الماهية الواقعية» real essence للجوهر. أما الماهية الاسمية فهي الفكرة العامة المجردة للجوهر وقد تكونت بتجريد المجموعة الأساسية من السمات ( الصفات ) التي توجد دائماً معاً. وفي مقابل ذلك نجد أن الماهية الواقعية هي طبيعة الموضوع التي تفسر كونه يملك الصفات التي يملكها. إن الماهية الاسمية تصف الخواص التى للجوهر، بينما الماهية الواقعية تفسر لماذا هو يملك هذه الخواص. ويؤكد لوك أننا لن نستطيع أبداً معرفة الماهية الواقعية لشيء ما لأن معرفتنا التي نحصلها بالتجريد تتناول فقط الكيفيات التي نجربها، وليس أبداً العلل النهائية التى تفسر حدوث (وجود) هذه الخواص. ومن هنا تظل معرفتنا دائماً قاصرة لإننا لن نستطيع أبداً أن نعرف الأسباب التي من أجلها تملك الأشياء الخواص التي لها.

المعرفة واليقين

في الكتاب (الباب) الرابع والأخير من «بحث متعلق بالعقل الإنساني» يتناول لوك المعرفة بوجه عام ومداها، وإلى اي درجة من اليقين يمكن أن تصل. إن معرفتنا تتناول الأفكار فقط، لأن هذه هي الأمور التي يعرفها العقل مباشرة. وما يكون المعرفة في نظر لوك هو إدراك الاتفاق أو عدم الاتفاق بين فكرتين. والأفكار تتفق أو تختلف على أربعة أنحاء:

  1. إذ يمكن ان تكون هي هي، أو متباينة؛
  2. ويمكن أن تكون مرتبطة فيما بينها على نحو معين؛
  3. ويمكن أن تتفق في الوجود معاً في نفس الموضوع أو الجوهر؛
  4. ويمكن أن تتفق أو تختلف من حيث كونها ذات وجود واقعي خارج العقل.

وكل معارفنا تندرج تحت واحد من هذه الأبواب الأربعة. فنحن نعرف: إما أن بعض الأفكار واحدة أو مختلفة؛ وإما أنها ذات علاقة بعضها ببعض؛ وإما أنها توجد معاً دائماً ؛ وإما انها توجد فعلاً خارج عقولنا.

وإحدى وسائل المعرفة العيان intuition أعني الإدراك المباشر للاتفاق أو الاختلاف بين فكرتين. فالعقل «يرى» أن الأسود ليس هو الأبيض، وأن المثلث ليس هو الدائرة. وهذا النوع من المعرفة هو أوضح وأيقن أنواع المعرفة التي يقدر على بلوغها الضعف الانساني. وكل معرفة يقينية تتوقف على العيان مصدراً وضماناً.

لكننا نحصل على المعرفة أيضاً بواسطة البرهان demonstration. والمعرفة بالبرهان ليست رؤية مباشرة لكون فكرتين تتفقان أو تختلفان، وإنما بالبرهان نرى بطريق غير مباشر، وذلك بربط فكرتين بأفكار أخرى حتى نستطيع أن نربط كلتا الفكرتين بالأخرى. وهذه العملية هي سلسلة من العيانات، ولهذا فإن كل خطوة في البرهان يقينية. لكن لما كانت هذه الخطوات تحدث على التوالي في العقل - فإن الخطأ يمكن أن يقع إذا نسينا الخطوات السابقة، أو افترضنا أن خطوة حدثت من قبل دون أن تكون قد حدثت فعلا من قبل. والعيان والبرهان هما المصدران الوحيدان للمعرفة اليقينية.

ومع ذلك يوجد مصدر ثالث للمعرفة له درجة من اليقين تؤكد حقائق متعلقة بتجارب جزئية. وهذا النوع من المعرفة يذهب إلى أبعد من مجرد الاحتمال، لكنه لا يصل إلى اليقين الصحيح. وهذه المعرفة تسمى «المعرفة الحسية»، وهي ما نجده عند حدوث تجارب معينة من أن بعض الموضوعات الخارجية توجد فعلاً وتحدث أو تسبب هذه التجارب. ولا يحق لنا أن نقول إن كل تجاربنا خيالية أو هي جزء من الأحلام. فالمعرفة الحسية تعطينا درجة من التأكيد بأن شيئاً واقعياً يحدث خارج عقولنا.

وفي وسعنا الآن بعد هذه التحديدات لضروب المعرفة وأنواع مصادرها ودرجات يقينها أن نحدد المدى الذي تذهب إليه المعرفة الانسانية وأن نقوم ماذا نعرف فعلاً عن العالم الواقعي. لما كنا لا نستطيع أن نعرف بالعيان أو البرهان كل العلاقات التي يمكن أن تقوم بين الأفكار بعضها وبعض، فإن معرفتنا لا تمتد إلى ما تمتد إليه أفكارنا. وفي كل الأحوال تقريباً نستطيع أن نحدد بيقين ما إذا كانت أفكارنا متفقة أو متباينة بعضها عن بعض. لكننا لا نستطيع أن نخبر هل أفكارنا مرتبطة بعضها ببعض إلا إذا استطعنا أن نكتشف أفكاراً وسيطة كافية. وفي ميدان مثل الرياضيات نحن نتوسع في معرفتنا كلما ازدادت معرفتنا بالعلاقات بين الأفكار عن طريق العيان أو البرهان. أما المجالات التي يلوح أننا قاصرون فيها عن اكتساب المعرفة فهي تلك التي تتناول وجود الأفكار معاً ووجودها الفعلي. فما دمنا لن نستطيع معرفة الماهية الحقيقية لجوهر ما، فإننا لن نعرف أبداً هل توجد فكرتان معاً بالضرورة. ونحن ندرك أن بعض الأفكار تجتمع مرات ومرات، لكننا لا نستطيع أن نعرف السبب في اجتماعها هذا بعضها مع بعض. ولن نكتشف أبداً لماذا تحدث بعض الكيفيات الثانوية حين يوجد ترتيب معين لكيفيات أولية. وفيما يتصل بالوجود الواقعي يقرر لوك أننا متيقنون، بالعيان، بأننا موجودون، وبالبرهان أن الله موجود. لكننا لا نعرف إلا حسياً أن أشياء غير ذواتنا وغير الله موجودة ويقيننا في هذه الحالة محدود باللحظة التي فيها نحس بهذه الأشياء في التجربة. فإذا مضت التجربة، فلا يقين لدينا بأن الشيء الذي أحدث تجربتنا الحسية سيستمر في الوجود.

والخلاصة أنا لن نقدر أبداً على تحصيل معرفة كافية صحيحة بالأجسام أو بالأرواح، لأن معلوماتنا عن وجودها وطبائعها محدودة جداً. لكن ليس في هذا ما يدعونا إلى أن نصبح شكاكاً أو نكون يائسين.

فكره السياسي

يتجلى فكر لوك السياسي في «الرسالتين عن الحكومة» اللتين نشرهما في سنة 1690، وإن كان قد كتبهما إبان ما يسمى بأزمة الاستبعاد في 1679 - 1681، أي الفترة التي حاول فيها - دون جدوى - شيفتسبري أن يستبعد دوق يورك من ولاية عرش إنجلترا لأنه كان كاثوليكياً. وأهم هاتين الرسالتين: الرسالة الثانية، وإن كانت غير محكمة التحرير لأنها ناقصة، ولارتباطها بالحوادث المعاصرة لها، ولأن لوك لم يفلح في إعادة تحريرها حين أراد نشرها في سنة 1689 بعد كتابته لها قبل ذلك بعشر سنوات.

ويبدو أن لوك قد كتبها إبان أزمة استبعاد دوق يورك عن وراثة العرش، من أجل تبرير إمكان التغييرات الدستورية التي طالب بها حاميه شيفتسبري. وكان هدفه هو الحد من سلطان الملك المطلق. ومن أجل هذا افترض أن الأصل في المجتمع السياسي هو وجود علاقة مباشرة بين كل فرد وبين الله، دون أي وسيط سياسي. فافترض حالة للطبيعة تنظمها قوانين مستمدة من الله، وفي حالة الطبيعة هذه يكون الناس متساوين وأحراراً أمام الرب وتجاه بعضهم لبعض. وسلطان القانون ضروري لهذه الحرية، إذ بدون مثل هذا القانون الطبيعي لصارت «حرية» الإنسان فوضى. ومن هذه الحالة الطبيعية استنتج لوك «قانوناً عقلياً» law of reason، به يصل الناس إلى الاتفاق الاجتماعي وقبول هذا الاتفاق، وقوانين عملية ضرورية لضمان الحرية الفردية. وفي البداية، أعني في حالة الطبيعة، كانت السلطة التنفيذية للقانون الطبيعي قائمة في كل فرد، وبعد ذلك- إما فجأة أو تدريجياً - اتفق الناس على العيش في مجتمع مشترك تنظمه السلطة التنفيذية المشتركة القائمة على تنفيذ القانون الطبيعي. وهذه السلطة لمشتركة تنقسم إلى ثلاث سلطات: التشريعية والتنفيذية، والاتحادية federative.

ولتحقيق الانتقال من حالة الطبيعة إلى المجتمع المدني (السياسي)، صاغ لوك نظرية مهمة في الملكية، أدت بدورها إلى نظريته في العمل. وقد بدأ لوك من المصادرة القائمة في القانون الطبيعي والقائلة بأن الإنسان يملك حياته، واستنتج من ذلك أن للإنسان حق امتلاك الأشياء الضرورية للمحافظة على حياته، طالما كانت هذه الأشياء مملوكة له بطريقة شرعية (قانونية) أي مأخوذة من الثروة المثتركة بين الناس في الوقت الذي فيه كان الامتلاك الخاص لا يضر أحداً آخر ولا يجرده عما يملك.

وهكذا كان للإنسان الحق في حياته، وفي عمله. ومن ثم أيضاً صار له الحق فيما «مزج عمله به»، أي فيما يملك.

وكلازمة لهذه صاغ لوك نظريتة في القيمة، فقال إن قيمة السلع في أي مجتمع تعكس العمل الذي بذل في تحصيلها، أي أنه رد القيمة إلى العمل المبذول في ايجاد السلعة.

وثم نوعان من العلاقات بين الناس: الأول هو العقد الاجتماعي الطبيعي، الذي يتم بممارسة الاعتبارات العقلية للمحافظة على النفس؛ والثاني يتحدد بحقوق التملك (الحقوق في الملكية).

ووظيفة الحكومة وغايتها هما المحافظة على حياة المواطنين وعلى حريتهم وممتلكاتهم. ويلزم عن هذا أن الحقوق السياسية تستمد من الملكية، ومن لا ملكية لهم فهم إما عبيد وإما مجردون من الحقوق السياسية.

وهكذا نجد لوك يؤكد المصالح المشتركة كما يؤكد الملكية الخاصة، وهذه الأخيرة تتعلق خصوصاً في ذلك العصر بالأرض.

وإذن فحقوق الفرد السياسية نابعة عن ملكيته؛ وبكونه ذا حقوق سياسية يصير ملتزماً تجاه الحكومة التي تمثله. وفي مقابل ذلك لا يجوز للحكومة أن تمس ملكيته (بما في ذلك فرض الضرائب) بدون موافقته من خلال من يمثله في الحكومة. وينتج عن هذا مذهب لوك في مقاومة الحكومة أو الثورة عليها، كما عرضه في الفصل الأخير من «الرسالة الثانية في الحكومة»، وهو الفصل الذي عرض لوك لسخط الحكومة قبل ثورة سنة 1688، ولرضاها بعد ثورة سنة 1688. ولوك، في نظريته في الثورة على الحكومة، لا يتابع آراء أصحاب النظريات البروتستنت في المقاومة الذين ظهروا في القرن السادس عشر، والذين أقامو نظرياتهم على الدين أو جزاء الضمير. كذلك لم يذهب إلى ما ذهب إليه البرلمانيون الإنجليز في سنة 1640 وما حولها، الذين استندوا إلى سوابق في القانون الانجليزي. كذلك لم يقل مثل الجرنون سدني Algernon Sidney إن الحق في الثورة يقوم على الحق الطبيعي في الحرية. وإنما طالب لوك بثورة معتدلة واعية ضابطة لنفسها، من أجل استعادة التوازن في النظام السياسي.

وخلاصة رأي لوك في حق الثورة هو أن الحاكمين قد يستبدون بمن يلتزم هؤلاء الحاكمون بخدمتهم، سواء كان هؤلاء الحاكمون ملوكاً، أو جماعات، أو مغتصبين يطالبون بالسلطة المطلقة. ففي مثل هذه الأحوال، أي أحوال استبداد الحاكم بالمحكومين، فإن من حق الشعب أن يثور على الحاكم إذ لم يكن هناك سبيل آخر للإصلاح غير الثورة. لكن حق الثورة هذا ينبغي ألا يمارس إلا في الظروف القصوى جداً، اي حين تخفق كل الوسائل الأخرى تماماً. ويعتقد لوك أن الناس لن يلجأوا إلى استخدام حق الثورة بخفة ورعونة، لأنهم يدركون ما تجره الثورات من سفك للدماء وخراب للممتلكات، ولهذا سيتحملون العذاب ويصبرون طويلاً قبل أن يقدموا على القيام بالثورة.

والناس، بنقلهم إلى الحكومة الحق في وضع القوانين وتنفيذها وصنع الحرب والسلام، لا يتنازلون عن الاهتداء بنور العقل في الحكم على ما هو خير أوشر، ما هو عدل أو ظلم، ما هو صواب أوخطأ. صحيح أنه بالنسبة إلى بعض القوانين والقرارات التنفيذية يجب أن يترك الفصل في أمرها إلى السلطتين التشريعية والتنفيذية. لكن إذا تبين للناس أن سلسلة طويلة من الأفعال والقوانين والمراسيم تكشف عن اتجاه استبدادي، وحكموا حينئذ بأن الحاكم قد وضع نفسه في حالة حرب معهم، فإن من حقهم أن يخلعوا الحاكم المستبد عن عرشه ومن ناحية أخرى لا يجوز للسلطتين السشريعية والتنفيذية أن ترجع إلى الشعب إلا إذا حدث انتفاء للثقة بينهما.

وحل الحكومة ليس معناه حل المجتمع، إذ الغرض من الثورة الاتيان بحكومة جديدة، وليس العودة إلى حالة الطبيعة (الفوضى). وحل الحكومة يمكن أن يحدث في أحوال عديدة، أبرزها: حين تحلّ الإرادة الاستبدادية لشخص واحد أو أمير محل القانون؛ وحين يحول الحاكم بين الهيئة التشريعية وبين أن تجتمع اجتماعاً قانونياً؛ وحين يحدث تزييف في الانتخابات، وحين تقوم حكومة أجنبية بإخضاع الشعب، وحين تهمل السلطة التنفيذية في القيام بمهامها أو تتركها. ففي جميع هذه الأحوال تعود السيادة إلى المجتمع، ويكون من حق الشعب أن يتولى عمل السلطة العليا والتشريع لنفسه، أو أن يضع نظاماً جديداً، أو أن يضع السيادة في أيد جديدة تحت نفس النظام - حسبما يرى الشعب أنه الأحسن.

ولكن «السلطة التي اعطاها كل فرد للمجتمع لا يمكن أن تعود إلى الأفراد مرة أخرى، طالما ظل المجتمع باقياً» (الرسالة الثانية، ص 19 )

لكن المجتمع لا يستطيع أن يسير إلا وفقاً لحكم الأغلبية، وعلى كل فرد أن يلتزم بحكم الأغلبية، ذلك لأن الإجماع مستحيل. والشعب هو الذي يضع السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية. ولهذا فإنه لا يتفق مع طبيعة المجتمع السياسي أن يكون الحاكم مطلقاً ومستبداً بالسلطة كلها وحده.

وآراء لوك هذه يمكن أن تتفق مع الحكم الملكي، أو حكم القلة oligarchy، أو الحكم الديمقراطي، طالما كان مقرراً أن السيادة هي في النهاية للشعب. لكنه كان يرى أن أفضل نظم الحكم هو الملكية الدستورية، وفيها تكون السلطة التنفيذية والقضائية في يد الملك، وتكون السلطة التشريعية في يد الهيئة البرلمانية المنتخبة من الشعب.

وكان لوك يرى أن السلطة العليا هي السلطة التشريعية، لأنها هي التي تضع القوانين التي يجب على السلطة التنفيذية تنفيذها وفرضها بالقوة وإذا انتهكت السلطة التنفيذية الأمانة التي وضعت في عنقها، فلن يكون هناك التزام نحوها وبمكن عزلها. على أن الهيئة التشريعية هي الأخرى يمكن أن تنتهك الأمانة الموضوعة في عنقها، لكن لوك كان يعتقد أن هذا نادراً ما يحدث؛ وإذا حدث فمن حق الشعب أن يحل الهيئة التشريعية وأن يقيم غيرها محلها. ولهذا السبب فمن المرغوب فيه أن تنتخب الهيئة التشريعية لفترة محددة بعدها يتم انتخاب هيئة جديدة، وهكذا بانتظام.

آراؤه في التربية

وللوك آراء في التربية اودعها في كتابه «أفكار في التربية» ( سنة 1693). وثم ثلاث أفكار رئيسية تسيطر على اراثه في التربية هي:

  1. ينبغي أن تتحكم في ترية الطفل استعداداته الفردية وقدراته وميوله، وليس المناهج المفروضة أو التكرار والحفظ المفروضين بالعصا.
  2. يرى لوك أن صحة البدن وتنمية الأخلاق السليمة هما في المقام الأول، ويتلوهما التحصيل العقلي.
  3. كما يرى أن اللعب والنشاط الحيوي high spirits والمزاج اللاعب الطبيعي عند الأطفال يجب أن تتحكم في عملية التربية والتعليم كلما كان ذلك ممكناً. إذ التعليم الإجباري مرهق؛ لكن حين يكون في التعليم لعب، فسيكون فيه بهجة وسرور!

وكان لوك يؤكد في التربية أهمية القدوة الحسنة، والممارسة العملية بدلاً من اللجوء إلى التعليمات والنصائح والقواعد والعقاب. وتبدأ القدوة الحسنة مع الأبوين، وعلى الأبوين تجنب العقاب الشديد والضرب، وكذلك تجنب المكافات المصطنعة. ويجب أن يكون الأطفال في صحبة أبويهم أوقاتاً طويلة، وأن يتولى هؤلاء الآباء دراسة استعدادات أطفالهم وأن يستثمروا ميول أولادهم للحرية واللعب، حتى يجعلوا تعليمهم أقرب ما يكون إلى الترويح. وينبغي تشجيع حب الاستطلاع في الأطفال، وتوجيه نشاطهم الحيوي إلى أمور مفيدة خلاقة. ويجب التخلي عن معاملتهم بشدة كلما كان ذلك ممكناً.

وكلما نما الطفل، يجب أن ينموالاستنئناس بينه وبين أبويه، بحيث يجد الوالد في ولده الناضج مؤنساً له وصديقاً. وكان من رأي لوك أن الحنان والصداقة وسائل وغايات في آن معاً للتربية الحسنة.

أما التعليم فكان لوك يرى أنه ينبغي أن يبدأ بتعليم الطفل الكلام والقراءة للغته الخاصة وذلك عن طريق المثل والتمرين، لا بواسطة علم النحو. وفي دراسة اللغات كان يرى تأجيل تعلم النحو إلى أن يتعلم الانسان أن يتكلم اللغة جيداً. ومن رأيه وجوب تعلم لغة أجنبية حديثة في سن مبكرة وكان لا يميل كثيراً إلى إنفاق وقت طويل في تعلم اليونانية، أو العبرية أو العربية أو الخطابة أو المنطق - وهي المواد التي كانت في برامج الدراسة في الجامعات في أيامه؛ أما اللاتينية فكان كرهاً - لا يمانع في تعليمها لأبناء الطبقة الراقية. وبدلاً من ذلك كان يرى إنفاق وقت أطول في تعلم الجغرافيا والحساب والفلك والهندسة والتاريخ والأخلاق والقانون المدني. ومن الأمور اللافتة أنه حث على أن يتعلم كل إنسان مهنة يدوية واحدة على الأقل.

آراؤه في الدين

كتب لوك كثيراً في أمور الدين، وقبيل وفاته كان مشغولاً بكتابة شروح مسهبة على رسائل القديس بولس، وعلى تحرير مسودة رسالة رابعة عن «التسامح»، وكان قبل ذلك قد كتب ونشر ثلاث رسائل عن التسامح. وفي سنة 1695 نشر كتاباً بعنوان: «معقولية المسيحية»، كما نشر دفاعين عن هذا الكتاب في عامي 1695 و1697.

رأى لوك أن التسامح هو العلاقة الرئيسية المميزة للكنيسة الصادقة، لأن العقيدة الدينية هي في المقام الأول علاقة بين كل فرد من الناس وبين الله. والدين الصحيح ينظم حياة الناس وفقاً للفضيلة والتقوى؛ والدين الخالي من المحبة والاحسان هو دين زائف. والذين يضطهدون الأخرين باسم المسيح يتنكرون لتعاليم المسيح، ولا ينشدون إلا المظهر الخارجي، لا السلام ولا القداسة. ومن ذا الذي يعتقد أنه في التعذيب والقتل يسعى المتعصب إلى نجاة روح ضحيته؟! ثم إن الايمان لا يمكن أن يفرض بالقوة القاهرة، كما لا يمكن إرغام العقل على اعتفاد شيء لا يعتقده بنفسه. وكل المحاولات لفرض الايمان بالقوة لن تؤدي إلا إلى نشر النفاق والاستخفاف بالله. إن الإقناع بالحسى هو الشيء الوحيد الذي يمكن أن يحرك العقل.

ويفصل لوك بين الكنيسة والدولة فصلاً حاداً، لأن الكنيسة «جماعة من الناس التقوا بإرادتهم واتفاقهم من أجل العبادة العلنية لله على النحو الذي يرون فيه رضاه، ومن أجل نجاة ارواحهم». أما الدولة فلا شأن لها بهذا كله، وكل شأنها هو الصالح العام، والمحافظة على حياة المواطنين وحريتهم وممتلكاتهم؛ وليست للدولة أية سلطة في أمور الروح. «وما هو قانوني في الدولة لا يمكن للكنيسة أن تجعله محرماً وممنوعاً».

ومن المشكوك فيه - هكذا يقول لوك - أن يكون واحد أو جماعة من الناس هي وحدها التي تملك الحقيقة الخاصة بالطريق الصحيح المؤدي إلى النجاة. والناس المخلصون الأمناء يختلفون في أمور العقائد الدينية؛ ولهذا فإن التسامح وحده هو الذي يمكن أن يحقق السلام بين الناس. والمسيحيون، والمسلمون واليهود والوثنيون كلهم يؤمنون بسلامة أديانهم، ولهذا لا بد من التسامح الشامل، ما دام هذا الخلاف بين الناس في الأديان والمذاهب قائماً، ولهذا ينبغى أن تكون حرية العقيدة مكفولة لكل إنسان، ولا يحدها أبداً إلا الإضرار بالآخرين. لكنه مع ذلك رفض التسامح مع الملحدين بدعوى أن الوعود والمواثيق والأيمان لن تلزمهم، كما رفض التسامح مع أية كنيسة يكون تكوينها من شأنه «أن يجعل كل من ينتسبون إليها يسلمون بهذا انفسهم إلى حماية وخدمة أمير (حاكم) آخر».

وكان لوك مسيحياً مخلصاً في إيمانه، مع ذلك، وقد حاول التقليل من نشوء الفرق الدينية بالدعوة إلى العودة إلى الكتاب المقدس والبعد عن المنازعات الدينية العنيفة التي كانت قائمة في عصره. وكان يعتقد أن «الكتاب المقدس» Bible موحى به. لكنه مع ذلك كان يرى أن الوحي ينبغي أن يمتحن بواسطة العقل.

انظر أيضاً