علة (فلسفة)
العلة أو السبب (بالإنجليزية: Cause) هو العلاقة بين حدث وآخر، أو هو الشيء أو الشخص الذي يجعل شيئًا ما يحدث أو يوجد. على سبيل المثال، يمكن أن تتسبب الشرارة في نشوب حريق، أو يمكن أن يتسبب الفيروس في حدوث مرض. التفسير العلّي أو السببي (بالإنجليزية: Causal Explanation) هو إجابة سؤال سبب حدوث شيء ما أو سبب حدوث شيء ما على ما هو عليه. على سبيل المثال، يمكن أن يكون التفسير العلّي لسبب هطول الأمطار اليوم هو انخفاض الضغط الجوي والرطوبة العالية.
فى إطار دوائر غير المتخصصين، يعنى التساؤل عن علة واقعة بعينها السؤال عما جعلها تحدث أو عما أحدثها. وتقديم تفسير علّى معناه الإجابة عن مثل هذه الأسئلة، ويتم هذا عادة من خلال تحديد واقعة أو ظرف أو حالة سابقة ما كان يمكن للواقعة محل البحث أن تحدث بدونها. أما فى دوائر المتخصصين، العلمية والفلسفية، فقد احتلت مفاهيم العلّة والتفسير العلّى دانما بؤرة الاهتمام للتوصل إلى تحليل دقيق لها. وخضع الفكر الأوروبى فى العصور الوسطى حول هذا الموضوع للمذهب الأرسطى الذى كان يقول "بالعلل الأربعة". وقد كانت تشمل : العلة الفاعلة (تقابل تقريبا وجهة نظر الفهم البدهى العام التى لخصناها أعلا ه)؛ والعلة المادية (طبيعة أو تكوين موجود ما)؛ والعلة الصورية (صورته أو بناؤه)؛ وأخيرا، العلة النهائية (هدفه أو قصده).
النزعة الإمبيريقية
ولقد كان أنصار الثورة العلمية التى حدثت قى القرنين السادس عشر والسابع عشر ذوى توجهات معادية للطرح الأرسطوطالى للإشكالية. ففى إطار التفسير الميكانيكى الذائع للطبيعة - والذى كان يحقق نجاحا مضطردا آنذاك — لم يكن هناك مجال للتفسيرات التى تؤكد على الهدف أو القصد، اللهم إلا فى مجال الأنشطة الإنسانية القصدية. والواقع أن بعض أنصار التفسير الميكانيكى من ذوى التوجهات الراديكالية (توماس هوبز مثلا)، كانوا يوستعون من نطاق تطبيقه ليغطى مجال الأنشطة الإنسانية القصدية. وكان أصحاب النزعة الإمبيريقية على وجه الخصوص معادين لكافة المحاولات التفسيرية فى ضوء وحدات أو خصائص غير قابلة للملاحظة أو الحسم التجريبى. ومن هنا فإن البحث ليس فقط عن علل نهائية، بل أيضا عن علل مادية وصورية، وفقا للفهم الشاتع لهذه الأنماط من العلل آنذاك، ينبغى هجره فى سبيل التوصل إلى تفسيرات تستند الى العلية الفاعلة.
وقد أضحت النزعة الإمبيريقية هى الفلسفة المهيمنة على المنهج العلمى، ومارست تأثيرها على وجه الخصوص فى تشكيل الرؤى الشائعة آنذاك لطبيعة العلم. وتنسب النزعة الإمبيريقية القائلة بالعلية الفاعلة، باعتبارها ارتباطا منتظما أو "علاقة ثابتة" بين الظواهر فى خبراتنا بصفة عامة، تنسب إلى الفيلسوف دافيد هيوم المذى عاش فى القرن المثامن عشر. فإذا ما كانت الوقائع من النمط "ب" مسبوقة بصورة منتظمة بالوقائع من نمط آخر "أ"، إذن يمكننا أن نعد ا علة لوجود "ب". و لكن هذا التضييق المتعنت للتفسير العلى باختزاله إلى ما يمكن أن تنهض عليه أدلة حسية فقط، عمل على لفت الأنظار إلى الهوة بين الادعاءات المعلمية وأسسها التى تثبتها الشواهد. وقد طرح هيوم مشكلة المنهج الاستقرائى الشهيرة والمعقدة والتى تتساءل بصفة أساسية عن الكيفية التى يمكن لنا بها أن نعرف أن الانتظامات التى نخبرها حتى الآن سوف تظل على حالها فى المستقبل؟ أو بصفة أعم، كيف يمكننا أن نتوصل إلى استنتاجات مبررة من واقع الأدلة المحددة المتاحة لنا بخصوص الادعاءات العمومية التى تنطوى عليها القوانين العلية؟ ويبدو أن هيوم كان مقتنعا كل الاقتناع بالتسليم بأنه لا يمكن التوصل إلى تبرير رشيد على هذا النحو، غير أن الفلسفة الإمبيريقية عرفت امنذ هيوم - عديدامن المحاولات الفاشلة للتوصل إلى حل لهذه المشكلة. وينبغى أن نلاحظ أنه فى ظل غياب حل لهذه المشكلة، فإنه ليس بوسع الفلسفة الإمبيريقية أن تقدم تبريرا رشيدا للتنبؤات العلمية باستخدام التحليل بافتراض اختلاف الظروف، أو لتطبيق المعرفة العلمية فى مجال التكنولوجيات الجديدة.
غير ان وجهة نظر النزعة الإمبيريقية فى العلية تواجه صعوبات من نوع آخر، يشار إليها الآن -عادة-بتعبير تبرير "القانون الشامل أو الأعم" (أى أن الواقعة المراد تفسيرها تبدو خاضعة لقانون يربط وقائع من هذا النمط بوقائع من نمط آخر). وأبرز هذه الموقاتع وضوحا تلك التى قد تبدو ذات علاقه منتظمة ببعضها البعض، دون أن تكون أحدها سببا للأخرى (بمعنى أنها تفضى إلى وجودها أو تؤدى إلى حدوثها). فالاقتران قد يكون مصادفة أو أن الأمر الأكثر احتمالا أنه قد يكون هناكبعض الارتباطات لسببية الأكثر تعقيدا بين هذه الوقانع (كأن يكزر كلاهما نتاجا لسبب مشترك لم يتم المكشف عنه بعد). وثمة مشكلة مرتبطة بذلك مؤداها أنه حتى فى الحالات التى تشير فيها الشواهد إلى وجود علاقه علية مباشرة بين ظاهرتين، فإنه قد يكون من غير الممكن أن نقررأيهما العلة و أيهما المعلول.
أما المشكلة الأخرى التى تواجهها رؤية النزعة الإمبيريقية للعلية فتتمثل فى أن العلاقة الثابتة فى تدفق معرفتنا بالطبيعة تعد فى المواقع أمرا غير عادى. من هذا مثلا أن البذور تبدأ فى التحول إلى نباتات مع ارتفاع درجة الحرارة فى فصل الربيع. ومع ذلك، فإن هذا لا يحدث دائما. ويرد فلاسفة النزعة الإمبيريقية على ذلك النوع من المشكلات من خلال جعل التفسير أكثر تعقيدا: هناك شروط عدة (مثل الرطوبة الطاغية، والتغير فى طول النهار، وتعرض الحبوب المسبق لدرجات حرارة أقل من الصفر وهكذا دواليك) ينبغى أن نحددها أولا لكى يتسنى لنا صياغة هذه العلاقه المثابتة فى صورة قانون عام. وتعتمد إمكانية إطلاق وصف سبب على أى من هذه الشروط، تعتمد على الإطار الذى يجرى فيه البحث، شانه فى ذلك شان تلك التى قد نعتبرها معطيات مسبقة أو شروطا أولية. وينبغى أن سلاحظ مع ذلك، أن عملية تحديد المشروط الضرورية بذاتها والكافية تتطلب استخدام المناهج التجريبية، وهى مناهج غير قابلة للتطبيق فى العديد من مجالات البحث، بما فى ذلك (كما يذهب الكثيرون) قطاعات كبيرة من العلوم الاجتماعية. وقد صاغ العلماء المتأثرون بالفلسفة الإمبيريقية المعاملون فى مجال هذه العلوم بدانل للتجريب، تنطوى عادة على تحليل العلافات الإحصائية.
وثمة صعوب أخرى تواجه رؤية أصحاب النزعة الإمبيريقية للعلية، وهى أنهالا تمثل بصورة مناسبة جزء كبيرا ومهما مما يعتقد العلماء أنهم فاعلون إبان بحثهم عن تفسيرات. فعلى سبيل المثال، فإن الانتظامات التى بتم ملاحظتها بوصفها العوامل الحاكمة لعملية إنبات الحبوب، قد تكون مجرد نقطة بدء لبحث علمى حول تحديد المتغيرات المسئولة عن نمو البذور. وقد يأخذنا مثل هذا البحث، على سبيل المثال، إلى البحث فى البنية الداخلية للبذرة، وأنسجتها وبناء خلاياها والميكانيزمات الوراثيسة التى تنظم إفراز هرمونات المنمو والكيمياء الحيوية لتفاعلها فى نواة الخلية. وقد نتجت معظم التجديدات فى الصياغات المفاهيمية العظيمة فى العلم الحديث -كالجاذبية، والنظرية الذرية، والانتخابات المطبيعى، وميكانيكا المكم وغيرها - نتجت عن افتراض وجود آليات أساسية قادرة على تفسير الانتظامات التى تتم ملاحظتها. وعلى عكس ما يدعيه أصحاب النزعة الإمبيريقية، فإن العوامل المادية والصورية ما تزال تلعب دورا هاما فى العلم. ويتفق معظم الفلاسفة المعارضين للنزعة الإمبيريقية على هذا “ على الرغم من أن أصحاب نزعتى الاتفاق والتقليدية يختلفون حول كيفية تفسير الموقفس. فالواقعيون يميلون إلى احترام منجزات العلم، بيد أنهم يحاولون أن يطوروا تبريرات أكثر قبولا لعقلانية التفسير العلى مقارنة بتلك التى يسوقها أصحاب النزعة الإمبيريقية. أما الاتفاقيون فإنهم يميلون إلى التركيز على الهوة بين الأسس التى تنهض عليها الشواهد من ناحية، والادعاءات التصورية والجريئة للعلم من ناحية أخرى، كأساس لتطوير رؤية أكثر اتساما بالشك فى ادعاءات المعرفة العلمية، معتبرين مثل هذه الادعاءات ذات نسبية اجتماعية - ثقافية، أو متشكلة نتيجة لمصالح مكتسبة.
و لقد كان التأثير الفلسفى للنزعة الإمبيريقية فى العلوم الإنسانية بالغ القوة، وبخاصة فى بريطانيا والولايات المتحدة. ففى الظروف التى يستحيل فيها استخدام المنهج التجريبى عموما، كان البحث عن تفسيرات عليه يميل إلى تبنى شكل التحليل الإحصانى لحزم من البيانات الكبيرة الحجم. وعلى الرغم من أن أساليب جمع وتحليل البيانات قد بلغت درجة كبيرة من الدقة والإحكام، فإنه من الممكن القول بأن مفاهيم العلية المستخدمة عادة ما تزال تعانى من أوجه القصور العامة المفروضة على النموذج الإمبيريقى للقانون "الشامل أو الأعم" ومع ذلك، فإن مثل هذه المناهج تنتقد من جانب بعض الانجاهات، باعتبارها غير مناسبة للموضوع المتميز الذى تدرسه العلوم الاجتماعية. فالفعل الاجتماعى الإنساتى، فعل قصدى وذو معنى رمزى. ويبقى هذاهو المجال المتبقى الوحيد الذى لم تستبعد منه فكرة العلة النهائية الأرسطية (ويذهب هؤلاء النقاد إلى أن هذا ينبغى ألا يحدث) بسبب التقدم فى مناهج البحث العلمى الحديث. وتستمد المعديد من مدارس علمى الاجتماع والأنثروبولوجيا ذات المنزعة التفسيرية التاريخية من المدرسة الكانطية الجديدة الألمانية آساس وجهة النظر المشار إليها أعلاه. وفى أكثر صورها تطرفا نتكر النزعة التفسيرية قابلية تطبيق التفسيرات السببية واستخدام المناهج الكمية فى العلوم الاجتماعية، مفضلة على ذلك المناهج الكيفية التى تهدف إلى التوصل إلى فهم تفسيرى للتفاعلات الإنسانية.