موسيقى الحضارة المصرية القديمة
إن اعتدال المناخ في مصر وخصب تربتها على امتداد النيل كان عاملاً أساسياً في أن هذه المنطقة كانت آهلة بالسكان من أقدم العصور على ضفاف النيل المليء بالخيرات, وجد الإنسان مكاناً آمناً للعيش والإقامة والاستيطان وإن كان من الصعب وضع تاريخ دقيق لبدء العمران في مصر.
وقد كان للمدنية المصرية القديمة دوراً هاماً في العناية بالموسيقى وأغراضها وفي تطور الآلات الموسيقية والسلم الموسيقي, رغم أنه يحيط بذلك كثير من الغموض حتى قيل أن البحث فيه غير مثير وتعب بلا فائدة. ثم كان تقدم علم الآثار والاكتشافات الآثارية التي أصبحت الآن بالنسبة لنا مرجعاً هاماًَ في النقوش والرسوم بل والآلات الموسيقية التي عثر عليها أثناء الحفر مما صحح كثير من التاريخيات والحقائق التي كانت غامضة قبل ذلك وبذلك أصبحت المعلومات عن الفراعنة وكل ما يتصل بحياتهم شيئاً ثابتاً مؤكداً يؤيده العلم والتاريخ منها أبدته تلك الصور والنقوش. ويقسم تاريخ مصر القديم إلى (30) أسرة تبدأ من الأسرة الأولى سنة (3400) ق.م والتي أسسها الملك مينا, ولكن لا بد ألا يفهم من ذلك أنه تحديد لبداية المدنية المصرية, أو بداية ظهور الآلات الموسيقية مثلاً ولكن من المعروف أن الباحثين كشفوا عن أنه كانت على أرض مصر حضارة وافرة كاملة من حوالي (8000) سنة ق.م. وأنه هناك صوراً لآلات مكتملة الصناعة خطت خطوات واسعة من التطور ما يستلزم وجود هذه الآلات على الصورة التي عثر عليها.
موسيقى الدولة القديمة
وهي تشمل من الأسرة الأولى حتى الحادية عشرة وقد كانت فيها مدنية موسيقية مهذبة, فنرى أنه كانت توجد فرقاً موسيقية منظمة ثابتة التكوين ولها ثلاث عناصر أساسية هي:-
1) المغني
2) العازف بالصنج أو الجنك
3) لاعبوا الناي
وأن العثور على صور لآلة وترية أو الناي في آثار الأسرة الأولى يدل على رقي الموسيقى بدليل أنه في كل الحضارات القديمة كان آخر المطاف عندهم هو الآلة الوترية التي تتطلب معرفة واسعة وخبرة طويلة لتركيب وتجهيز الصندوق المصوت للآلة وكذلك طول الوتر ونوعه ثم كيفية العزف عليه وضبطه.
وكان المغني له دور أساسي لهذه الفرق, والتي ربما من تعدد أفراد كل مجموعة منها.
أما الآلات الموسيقية بشكل عام كانت:-
الآلات الإيقاعية:-
المصفقات بأنواعها (قضبان- أورغ – أرجل – ألواح – رؤوس مصفقة- أجراس- جلاجل- شخاليل...الخ).
آلات النفخ:-
الناي بأنواعه (طويل – قصير) المزمار المزدوج.
الآلات الوترية:-
لم تكشف النقوش سوى عن آلة واحدة هي الجنك المنحني أو المقوس.
موسيقى الدولة الوسطى
من الأسرة (12-17) لم تخرج في شكلها العام عن موسيقى الأسرة القديمة وإن زادت عليها في بعض الآلات الإيقاعية مثل الطبول وآلات السستروم (صلاصل) بنوعيها المنحني والناقوس كما ظهر في عهدها لأول مرة في مصر الكنارة وإن كانت لم تنتشر إلا في العصر الحديث, كما كانت الألحان في موسيقى الدولتين القديمة والوسطى مناسبة لآلاتها البسيطة هادئة ومعتدلة, كآلة الصنج ضعيفة خافتة وكان الناي أقل الآلات قوة وكان المغني خفيض الصوت أما حركات الرقص كما في النقوش دليل على ذلك فهي حركات بطيئة هادئة ليس فيها حركات سريعة. كما أن أسلوب النقش يدل على أن أصحابه كانوا في حالة من الطمأنينة والهدوء تبدو واضحة في رسومهم وفي خطوطهم الواضحة الثابتة. أي أن الموسيقى كانت ملائمة لشعب معتدل يعمل ويتسلى في هدوء وسكينة.وبما أنها كانت في الدرجة الأولى موسيقى دينية تتم في المعابد وذلك حسب طقوس معينة تقتضي الخشوع والهدوء والجد بعيده عن الإسراف , بل كانت الموسيقى والموسيقيين لهم تقديرهم الخاص من الملوك والحكام.أما عن السلم الموسيقي فكان هو السلم الخماسي الخالي من أنصاف الأنوان ولذلك يلاحظ أن آلات النفخ ذات الثقوب من(4:2) أما آلة الصنج و الجنك فمن النادر أن لا تزيد أوتارها على خمسة وإن زادت على ذلك كانت وتراً أو اثنين غير رئيسيين. وحين انتهت الأسرة الثالثة عشرة وجاءت الأسرة الرابعة عشرة تخاصم وتنازع الأمراء مما أدى إلى ضعفهم وكان أن احتل الهكسوس مصر قرناً كاملاً من الزمان وكانت هذه الفترة من أهلك تاريخ مصر, ولذلك تجاهلها المصريون ولم يكتبوا عن هذه الفترة أي شيء حتى تمكنوا من طردهم بظهور الأسرة الثامنة عشرة.
موسيقى الدولة الحديثة
من الأسرة الثامنة عشرة حتى الثلاثين, وفيها توغل المصريون إلى ارض الجزيرة في ظل حكام أقوياء, وامتدت أملاكهم إلى قلب آسيا الصغرى واتصلوا بالمدينة الآسيوية. وآثر ذلك بالطبع على الموسيقى, حتى أصبح في بلاط الملك فرقتان أحدهما مصرية وأخرى آسيوية.
وقد تغيرت الموسيقى المصرية الحديثة عن القديمة والوسطى فالهدوء والاعتدال والبطء والبساطة أصبح محلها موسيقى على نقيض هذه الصفات, وذلك لأن الآلات قد تبدلت وكثرت أنواعها فتعددت آلات الصنج وكبر حجمها وزادت عدد أوتارها, وعم انتشار آلة الكنارة وجاء المزمار المزدوج الحاد الصوت محل الناي الطويل الهادئ وكثرت أنواع الطبول والصنوج والصاجات والدفوف وبذلك أصبحت الموسيقى حادة صاخبة نسبياً.
ويبدو ذلك واضحاً من النقوش وقد تطور السلم الموسيقي, فبعد أن كان خماسياً فقط صار يوجد أيضاً إلى جانبه سلم سباعي فيه أبعاد وأنصاف أبعاد وهذه قمة تطور الأساليب التونالية.
الآلات الموسيقية في الدولة الحديثة
1) الآلات الوترية:-
أ - العود ذو الرقبة القصيرة والطويلة.
ب - الكنارة (القيثارة) آلة وترية من الخشب مثبت في إطارها المتوازي الأضلاع أوتار وهي شبه تماماً الطنبورة أو السمسمية المعروفة حالياً.
ج - الصنج أو الجنك تعددت أنواعه فمنه المنحني وذو الحامل الزاوي والكتفي وقد كبر حجم الصندوق المصوت وازداد تعدد الأوتار حتى وصلت إلى عشرين وتر.
2) آلات النفخ:-
أ - المزمار المزدوج.
ب - النفير أو البوق.
أما الناي والأرغون فقد استعمل في نهاية الأسرة وذلك في الإسكندرية.
3) الآلات الإيقاعية:-
والصاجات – الكاسات – المقارع – الدفوف المستديرة والمربعة – الطبول – الصلاصل (سستروم).
وقد كبرت أعداد الفرق الموسيقية وتوسعت وكثرت أعداد الصنوج والعيدان والنايات والمزامير.
الموسيقى والكهنة
يرجع الفضل للكهنة على العناية بالموسيقى والحفاظ عليها بعيداً عن التأثيرات الخارجية الوافدة وأخضعوها إلى سيطرتهم ولذلك كانت الموسيقى المصرية القديمة المثل الأعلى لموسيقات العالم القديم كما سنرى فيما بعد وعندما ناءت مصر بغزوات أمم أجنبية خشي الكهنة أن تؤثر هذه المدنيات المختلفة على الموسيقى المصرية وطالبوا الشعب التمسك بمدنيته وتقاليده وبفضل نفوذهم وسيطرتهم ومكانتهم الخاصة منعوا ممارسة العقائد والتقاليد الدخيلة كما حافظ الكهنة فيما بينهم على أسرار وقوانين ودقائق الموسيقى يعلموها للرهبان والكهنة الصغار وللفرق الخاصة بالمعابد والبلاط الملكي من مغنيين وعازفين وراقصين. كما استبعدوا الكهنة استعمال أية آلة موسيقية أجنبية بينما أكدوا على استعمال الآلات المصرية البحتة.
أما خارج المعابد فقد سنوا قوانين تصونها ولم يتركوا مزاولتها حراً ولكن قيدوها بقواعد وحتموا ضرورة تدريسها للأطفال وعدم أداء أو غناء سوى ما ينتقيه له الكهنة من الموسيقى الجيدة والتي تطهر النفس وتحث على الفضيلة والأخلاق. ولذلك لم تستطع المدنيات الأجنبية أن تؤثر فيها بينما على العكس أثرت المدنية المصرية على من غزاها, مما سنرى من تأثير الموسيقى المصرية على الموسيقى اليونانية.
الأغاني المصرية القديمة
إن نصوص الأغاني التي وجدت على المعابد المصرية القديمة تدل على أن شعبها كان سليم التفكير, وأنها تميزت بجمعها بين الجد والعمل وبين اللهو والترف بشأن الشعوب التي كملت حضارتها, فقد كانت تتناول الأغاني مديح الآلهة وذكر الموتى والحض على عمل الخير والعناية بمسرات الحياة والعمل والقيام بالواجب أما الألحان والنغمات فلم يكن لها سوى أصابع العازفين وحناجر المغنيين وللأسف فإن النقوش الموجودة على معابدهم وعلى أوراق البردى لم تدلنا رغم دقتها على كيفية أداء هذه النصوص أو إلى نوع ما من التدوين قد يساعد في كشف شكل هذه الأغاني. ومن يدري فربما يستكشف هذا يوماً ما مما يدلنا على حل رموز وطلاسم هذه النقوش مما قد يعرفنا على هذه الأغاني.وقد كان الشعر والموسيقى فن واحداً عندهم وكان الشعر الملحن هو مرشد الشعب ومعلمه, يرشد ويبث الروح الوطنية ويشرح ويفسر القوانين وأحكام الديانة والفلسفة والتاريخ والعلوم.
وبذلك كانت الأغنية هي سبيل النشر والإعلام لما لألحانها من انتشار وترديد بين طبقات الشعب المختلفة . لما كانت الموسيقى فناً مقدساً محترماً عند قدماء المصريين فقد كانوا يعتقدون اعتقاداً وثيقاً باتصالهم بالعلوم المقدسة الأخرى وخصوصاً الدين والفلك. ويدل ذلك على تدوينهم نغماتهم التي يتألف منها سلمهم السباعي بالرمز " الهيروغلين " الذي كانوا يرمزون به لمثيلها من الكواكب ولو أن ذلك لم يمكنهم من تدوين ألحانهم كما اهتدوا بمقارنه النغمات بالفلك إلى معرفه اتصال النغمات بعضها ببعض والعلاقة بينهم توافقاً وتنافراً أما ارتباطها بالدين فقد كان قوياً لأنهم نصبو أكثر معبودات قوه الهام للموسيقى فقد لقبو مخترعها " يا ابن الابديه " . وقد كانت دراستها والتبحر فيها قصراً على الكهنة وحدهم فهم رجالها وحفظتها وبهذا كان لهذا الفن الشأن العظيم في بلد كانت مهداً للحضارة التي تشع نورها على العالم بأسره .