كتابات كليمنتية
الكتابات الكليمنتية هو الاسم الذي أطلق على عمل ديني روائي احتوى على سجل دوّنه كاتب يدعى كليمنت (وهو إما البابا كليمنت الأول (أو اقليمس أو اكليمنضس)، أو ابن عم الإمبراطور دوميتيان تيتوس فلافيوس كليمينس) لخطب بطرس، التي دوّنها كليمنت أثناء مرافقته لبطرس في رحلاته.
الكلمنسيات (المنحولة)
القديس كليمنس Clemens الذي من روما تحيط بحياته الأساطير من كل جانب:
١ - فمن حيث أسرته قيل إنه ينحدر من أسرة كان منها أعضاء في مجلس الشيوخ في روما، وتنتسب إلى أسرة فلاقيوس، الأباطرة الرومانيين، التي أسسها فسيسبان (كان أمبراطوراً منسنة ٦٩ إلى ٧٩ ميلادية) في سنة ٦٩م، وخلفه ولداه: تيتوس Titus (٧٩ - ٩١) ودومتيان (٨١ - ٩٦). وزعم بعض المؤرخين المحدثين أنه هو القنصل تيتوس فلافيوس كلمنس، ابن عم دومتيان، وقد قتله هذا بتهمة اعتناقه المسيحية. لكن الأرجح أن القديس كليمنس إنما كان مولى أو ابن مولى، أي عبداً محرراً من عبيد أسرة هذا القنصل ٠
٢ , أما من حيث ديانته، فمن المؤكد أنه اعتنق المسيحية، وصار أسقفاً على روما. لكن اختلف في تاريخ توليه منصب البابوية، أي خلافة القديس بطرس على كرسي البابوية. فترتليان وبعض المؤرخين اللاتين قالوا إنه أول خليفة مباشر لبطرس على كرسي روما، بينما نجد أن ايريتاوس ويوسابيوس، وجيروم وابيفانوس يقولون إنه ثالث خلفاء بطرس بعد لين Lin وأناكليت Aaclet . وحاول بعضهم في القرن الرابع التوفيق بين الرايين قائلاًإن لين وأناكليت قد رسما أساقفه في حياة بطرس وأن هذا الأخير بسبب مشاغله قد أنابهما في إدارة كنيسة روما، ويهذا الافتراض يمكن أن يعد لين وأنا كليت سلفين لكليمنس، لكن كليمنس كان هو الخليفة المباشر لبطرس على كرسي روما! رقد اختلف أيضاً في تاريخ توليه هذا المنصب, ويوسابيوس يضع خلافته في العشر سنين الأخيرة من القرن الأول للميلاد، ويجعل وفاته سنة ١٠٠م. لكن هرنك، أكبر مؤرخي المسيحية الأولى، يشك في هذا التاريخ. كذلك يدور الشك حول نهايته: فالبعض يقول إن الأمبراطور ترايان (٩٨ -١١٧) نفاه إلى شبه جزيرة القرم، ثم أمر بإلقائه في البحر الأسود، وبهذا مات شهيد الإيمان وعد من شهداء المسيحية الأولى.
وقد نسبت إليه مكتوبات، بعضها صحيح، والغالبية العظمى منها منحولة . والمكتوب الوحيد الصحيح النسبة إليه هو رسالة موجهة إلى أهل مدينة كورنثوس (مدينة وميناء على خليج كورنتوس الذي يربط بين البلويونيز ووسط بلاد اليونان) وهي رسالة طويلة (طبعت في مجموعة مينى اليونانية Patrologia Graeca ح١ عمود ٢٠١-٣٢٨) . وكانت بمناسبة الاضطرابات التي حدثت في كنيسة كورنتوس وأدت إلى خلع بعض رجال الدين. وفي القسم الأول من الرسالة يأمر كليمنس بالتوبة؛ ويوصي بالتواضع والطاعة وممارسة كل الفضائل
المسيحية وفي القسم الثاني (فصل ٣٧ إلى ٦١) يؤكد أن المراتب الكنسية من وضع آلهي، كما يؤكد الطاعة في الكنيسة، ويحض المؤمنين على المحبة فيما بينهم، ومثيري الشغب على التوبة والخضوع والطاعة ٠
وأما من حيث المضمون الديني فإن كليمنس يتحدث عن الله وصفاته ويبرز منها صفات الخير، والرحمة، والمقدرة الخالقة إن الله - هكذا يقول يفيض بالمحبة والنعم، وهو أب وسيد. ولم يكتف الش بالإحسان إلى الإنسان في الدنيا، بل هو يهيء للابرار الجزاء الأوفى في الآخرة وستبعث الأجسام في اليوم الأخير. والله - في هذه الرسالة، ليس اله المتوحد المجرد الذي عند الوحدانية الشعبية اليهودية. بل هو يتكلم، ويحمل الثالوث المسيحي؛ ويقر كليمنس صراحة بالأقانيم الثلاثة : فإلى جانب اشه يوجد يسوع المسيح والروح القدس، ويجعل الثلاثة في نفس المرتبة، وأن كان يرمىء إلى صدور الروح القدس عن الله وعن المسيح معاً' وبالجملة فهو يسلم بالتثليث تسليماً٠
لكن إلى جانب هذه الرسالة إلى أهل كوزنتوس، والتي تعد بوجه عام صحيحة النسبة إلى كليمنس، نسبت إليه الكتابات اناب..
١ - «المحاضرات» Homelies .
٢ - «التعرفات» Recognitions.
٣ - «المختصرات اليونانية».
ولكن هذه المكتوبات الثلاثة هي في الحقيقة مكتوب واحد بتحريرات ثلاثة تتفاوت في الاتساع وبعض التفاصيل الصغيرة. فهي كلها تروي قصة حياة كليمنس الذي من روما، وآراءه إبان شبابه، واعتناقه المسيحية بتأثير القديس بطرس ورحلاته بصحبة القديس بطرس، ثم تعرفه إلى أمه وأخويه - وفي ثنايا ذلك نجد: موجزاً لتاريخ المقدس منذ بدئ الخليقة («التعرفات فصل ١ ، البنود: ٢٢، ٢٦ - ٧٢؛ وعرضا لنظرته في التشليث («التعرفات» (فصل ٣، البنود ٢ - ١١)؛ وتفنيداً مسهباً لعلم النجوم (فصل ٩ البنود ٢، ١٢ - ٢٤)؛ ومحاولة للتقريب بين اليهودية والمسيحية («المحاضرات» الفصل الثاني بند١٩؛ الفصل الرابع، البنود ٧، ١٣، ٢٢؛ الفصل الخامس، بنود٢٦ -٢٨؛ الفصل الثامن، البند ٦
الكلمتسيات (المنحولة)
٢٢٧
-٧ ؛ الفصل العشرون، البند ٥٢)؛ القول بأن الشيطان قد دس في «الكتاب المقدس» نصوصاً لا تتفق مع الإيمان الصحيح («المحاضرات»، الفصل الثاني بنذ ٣٨ حتى الفصل الثالث بند ه ؛ النبى الحقيقي هو المعيار الوحيد للحقيقة («المحاضرات» فصل ١ بند ١٨ حتى الفصل الثاني بند ١٢؛ الفصل الثالث بنود ١٤٠١١؛ الفصل الحادي عشر بند ١٩؛ الخلق أزواجاً أزواجاً: الشر يسبق الخير، والنبي الشرير يسبق النبي الصالح («المحاضرات» الفصل الثاني بند١٥ - ١٧؛ الفصل الثالث بنود٢١،١٦-٥٩،٢٧؛ بحثاً طويلاً لتفنيد عبادة الأوثان («المحاضرات» الفصل الرابع بند ٨ حتى الفصل السادس بند ٢٥؛ نظرية في قدرة الجن وسبب الأمراض («المحاضرات» الفصل التاسع، البنود ٨ -٢٢).
النقد التاريخي لهذه المنحولات
وقد تاول الباحثون بالنقد التاريخي هذه المكتوبات المنحولة لكليمنس وأولهم هو كرستيان باور Baur (١٧٩٠ - ١٨٦٠) زعيم ما يعرف بمدرسة توبنجن في البحث النقدي التاريخي لأوليات الكنيسة المسيحية، وصاحب كتاب: «تاريخ الكنيسة في القرون الثلاثة الأولى (توبنجن، سنة ١٨٥٣) . فقد رأى هو ورجال مدرستة، ابتداء من سنة ه ١٨٣ ، أن الكتابات المنحولة لكليمانس تمثل المسيحية الأولى التي كانت وثيقة الارتباط جداً باليهودية؛ وأنها كتبت بأقلام الجماعة المسيحية في روما، وتدل على أن الديانة اليهودية كانت لا تزال مسيطرة سيطرة شبه تامة على العقيدة المسيحية آنذاك.
ثم جاء هلجنفلد Hilgenfeld في سنة ١٨٤٨ فقال إن «المحاضرات» اعتمدت على «التعرفات» ، وأن مصدرهما المشترك هو «كاروجما» (: بلاغ) بطرس وهو مكتوب كتب في وسط من أوساط روما اليهودية، حرر بعد تدمير أورشليم (في سنة ’ ٧م على يد تيتوس) بقليل، وابتداء منه وضعت تحريرات عديدة متوالية وصلت إلى تحرير «المحاضرات» في روما إبان بابوية أنيكت (١٥١-١٦١ م) وقال إن سيمون المذكور فيها هو شخصية خيالية، والمقصود به في الحقيقة هو القديس بولس.
في سنة ١٨٥٤ Ml G. Uhlhorn وجاء أولهورن
ودافع عن أسبقية "المحاضرات» على «التعرفات» مع الأعتراف بانه في بعض المواضع يلاحظ اسبقية «التعرفات»، . وتبعا لذلك قال إن مؤلف •التعرفات» كان أمامه في وقت واحد «المحاضرات» ، والمكتوب الأساسي معا. ورأي أن كل هذه المكتوبات الثلاثة مصدرها هو في سوريا في المدة ما بين سنة ١٥٠ إلى سنة ١٧٠ م باستثناء «التعرفات» فإنها كتبت في روما بعد سنة ١٧٠م بقليل، من أجل تقريب الكتاب من الديانة المسيحية.
وفي سنة ١٨٦٩ وقف ليهمان Lehmann موقفاً وسطاً بين هلجنفلد وأولهورن، وذلك بأن قم «التعرفات» في نصها الحالي إلى قسمين: الأول يشمل الفصول ١ إلى ٣، والثاني يشمل الفصول ٤إلى ١ وفيما يتصل بالقسم الثاني قال مع أولهورن إن «المحاضرات» هي الأسبق من «التعرفات»، أما القسم الأول فهو الأسبق وقد احتفظ، خيراً من «المحاضرات» بالمكتوب الأساسي الأصلي، وهو «بلاغ بطرس» ، وقال إن موجز هذا الأخير موجود في «التعرفات» (الفصل الثالث، بند ٧٥).
وجاء لانجن Langen في سنة ١٨٩٠ فرأى في الكتابات الكليمنسية محاولة يقصد بها إلى تأكيد رسولية وسيادة كنائس مختلفة. وقال إن «بلاغ بطرس» قد ألف في روما حوالي سنة ١٣٥ لإحلال روما محل أورشليم؛ وإنه غدل في نهاية القرن الثالث في مدينة قيساربة تعديلا يتمشى مع الاتجاه اليهودي ٠ المسيحي وبقصد جعل السيادة لمدينة أنطاكية، وهذا التعديل هو «التعرفات».
ورأى بج Bigg في سنة ١٨٩٠ أن المكتوب الأساسي لم يكن هرطيقاً بل كان كاثوليكي الاتجاه. وقد حرر حوالي سنة ٢٠٠م، لكن أحد الأبيونيين نقحه وغير فيه، أو أحد المسيحيين الذين كانوا على مذهب أريوس، وكان سورياً ربما كان ذا رأى في النزعة الأبيونية ومن رأيه أن «المحاضرات» لا يمكن أن يكون قد كتبها شخص يوناني خالص، ولا يوناني يقيم في روما، بل كاتبها يوناني شرقي
ثم جاء فايتس Hl Waitz فتوفر بعمق على دراسة الكتابات المنسوبة إلى كليمنس، وكانت ثمرة ذلك كتابه الرئيسي في هذا الباب بعنوان: «المحاضرات
الكلمنسيات (المنحولة)
و«التعرفات» المنحولة على كليمنس (ليبتسك، سنة ١٩٠٤ ). وقد رأى أن ثمت مكتوباً أساسياً لا يختلف عن الكليمنسيات، وكل ما هنالك هو أن تحريره أقدم منها؛ والاقتباسات التي أوردها آباء الكنيسة تدل على وجود هذا الأصل الأقدم، الذي كان دفاعاً عن المسيحية ورداً على الهرطقة والوثنيين؛ وكان على شكل قصة قصد منها إلى تنصير اليهود والوثنيين الأكابر والمثقفين، كما قصد منها تقوية إيمان حديثي الإيمان بالمسيحية. وكان تأليفه في روما في الفترة ما بين سنة ٢٢٠ وسنة ٢٢٢م وهذا المكتوب الأساسي، الذي هو أصل «المحاضرات» و«التعرفات» ، كان يقوم بدوره على مكتوبين أقدم منه هما: «بلاغات بطرس» ، و«أعمال بطرس«. . و« بلاغات بطرس» . . هي بدورها تحرير لكتاب أقدم ذي نزعة يهودية - مسيحية وغنوصية كتب حوالي سنة ١٣٥ م في مدينة قيسارية (في الشام) . ورسالة بطرس إلى يعقوب أخي يسوع المسيح إنما تتعلق بهذا الكتاب الأخير الذي كان كتابا سريا.
وإلى كتاب «أعمال بطرس» تنتسب حكاية سيمون الساحر والصراع بينه وبين بطرس
وإلى جانب هذين المصدرين الرئيسيين يمكن وضع مصدرين ثانويين على الأقل وهما: «حوار بطرس مع أبيون Appion» ، الذي ذكره يوسابيوس («التاريخ الكنسي» ف٣ بند ٣٨ = مجموعة الآباء اليونانيين ح٢٠ عمود ٢٠٦؛ و«حوار برديصا ن مع تلاميذه»، وقد ذكره يوسابيوس أيضاً •
وبمعظم النتائج التي وصل إليها فايتس أقر أدولف هرنك Harnack (١٨٥١- ١٩٣٠)، وذلك في كتابه «الترتيب التاريخي للمؤلفات المسيحية حتى يوسابيوس" (ليبتسك، سنة ١٩٠٤، ح٢ ، ص٥١٨ - ٥٤٠). فقد ميز بين ثلاث طبقات بعضها فوق بعض هي :
١ - مكتوب يهودي - مسيحي ذو طابع توفيقي، هو «بلاغات بطرس»؛ ومكتوب ضد الغنوصية يتناول بطرس وسيمون الساحر، وعنوانه] «أعمال بطرس».
٢ - ومجموع مؤلف من المصدرين السابقين، كتب على شكل قصة تدور حول كليمنس، وقد قصد منه إلى التقريب بين جماعة المسيحيين وبين العالم اليوناني،
وهذا المجموع هو المكتوب الأساسي.
٣ - تحريران استند كلاهما إلى المكتوب الأساسي، وواضعهما كأثوليكي، قصد منهما إلى الوعظ والتسلية معاً. وهذان التحريران هما: «المحاضرات» و«التعرفات» و«المحاضرات» أقرب انطباقاً على المكتوب اليهودي - المسيحي.
والمكتوب الأساسي (رقم ٢ فوق) قد حرر في روما حوالي سنة ٠ ٦ ٢م . أما «المحاضرات» و«التعرفات» فقد حررا - على الأقدم - في نهاية القرن الثالت الميلادي، ويمكن تقدير ذلك في الفترة ما بين سنة ٢٩٠ وسنة ٠ ٣٦ أما «بلاغات بطرس» ، وكان فايتس قد أرخه بحوالي سنة ١٣٥ م، فإن هرنك يرى أنه كتب في بداية القرن الثالث. ويرى هرنك أنه من المؤكد أنه كتب في قيسارية الشام. أما «أعمال بطرس» فكان كتاباً كاثوليكي النزعة، ومعادياً للغنوصية، وقد كتب في بداية القرن الثالث الميلادي.
الكليمنسيات المنحولة
في ترجمة سريانية و أخرى عربية
وهناك ترجمة سريانية لأقسام من هذه الكليمنسيات المنحولة. وهي محفوظة في بعض المخطوطات السريانية، وأهمها مخطوط في المتحف البريطاني بلندن تحت رقم ١٢١٥٠ .Add، وقد ورد فيه تاريخ نسخه: سنة ٧٢٣ من التقويم اليوناني (= ٤١٢ ميلادية)! وتشمل هذه الترجمة السريانية على:
١ - «التعرفات» من ١ إلى ٤.
٢ - «المحاضرات» أرقام ١٠، ١١، ١٢(١ -٢٤)،١٣، ٤.
وقد نشر يول دلاجارد Paul de Lagarde الترجمة السريانية ل «التعرفات» (ليبتسك، سنة ١٨٦١).
كما أن ثمت ترجمتين عربيتين «للمختصرات» ،
M. Dunlop شرتهما السيدة م ٠ دنلوب جبسون
Gibson في كتابها بعنوان] "دراسات سينائية Studia Sinaitica (لندن سنة ١٨٩٦ ، الجزء الخامس). والترجمة الأولى نشرتها عن مخطوط من دير طورسينا
الكلمنسيات (المنحولة)
٢٢٩
(في مصر، شبه جزيرة سينا)؛ والثانية عن مخطوط في المتحف البريطاني بلندن والترجمة الأولى عنوانها: «هذه حكاية كليمنس الذي تعرف أبويه بفضل بطرس» . وهي تلخص في صفحة واحدة الفصول الثلاثة الأولى من «التعرفات» ثم تورد بعد ذلك هذه التعرفات. أما الترجمة الثانية فهي ترجمة حديثة للنص اليوناني للمختصر الثاني ، أي «للمحاضرات» ، وقد قام بهذه الترجمة مكاريوس الأنطاكي في مدينة سينوب (على البحر لأسود) في سنة ١٦٥٩ م، أي في منتصف القرن السابع عشر الميلادي، فهي إذن حديثة جداً فلا تستحق أي اهتمام .
عقيدة بطرس
كما عرضها في «المحاضرات»
أما من حيث مضمون الكتابات الكليمنسية ، فإن العقيدة والتعليمات الواردة فيها تدور حول الموضوعات التالية: التوحيد، النبي الحق، الخلق أزواجاً، الكتاب المقدس والشريعة الموسوية الصحيحة، النفوس الإنسانية، الملائكة والجن والشيطان، المسيحية واليهودية . فلنتناول آراءه في هذه الموضوعات :
١ — التوحيد :
تؤكد الكليمنسيات التوحيد الإلهى فى كل صفحة تقريباً ولا غرو في ذلك فإن مقصودها الأساسي هو هداية الوثنيين المشركين من ناحية، وتوكيد التوحيد الذي دعت إليه اليهودية في مقابل التثليث الذي جنحت إليه المسيحية كما تصورها القديس بولس، وفي مقابل اللمحات الواردة في مواضع من الكتاب المقدس نفسه وتؤذن بالشرك. وذلك لأن الكتاب المقدس نقسه يذكر ملائكة ادعى الناس أنهم آلهة؛ ويذكر الإله الذي تكلم من العليقة المحترقة والإله الذي تصارع مع يعقوب، ويذكر عمانويل المولود (سفر أشعيا ٧: ٤ )، والإله القوي (اشعيا ٩: ٦)؛ وموسى نفسه كان إله فرعون بينما في الحقيقة كان مجرد إنسان . «أما في اعتقادنا نحن -هكذا يقول بطرس - لا يوجد إلا إلم واحد، وخالق واحد هو الذي صنع كل شيء ورتبه، وهو الذي المسيح هو ابنه؛ ونحن نؤمن به حسب عتقادنا في الكتب المقدسة،
وبهذا نتعرف ما هو باطل. ونحن نعلم أنه لا يوجد إلا خالق واحد أحد خلق السموات والأرض، وهو إله اليهود وكل من يعتقدون هذا الاعتقاد». («المحاضرات» ، المحاضرة رقم ١٦ بند ١٤ ).
ويهاجم الأوثان قائلاًإنها مجرد مادة جامدة لأولى بها أن تستخدم في صنع الأواني المفيدة («المحاضرات» رقم ١٠ بنود ٧ و٨) إن هذه الأوثان لا تستطيع أن تدافع عن نفسها («المحاضرات» رقم ١٠ بند ٢٢)
وفي مناقشاته مع أبيون، يهاجم بطرس الأساطير الدينية والتأويلات الرمزية التي ذهبت إليها بعض كهنة هذه لأديان الوثنية، («المحاضرات» رقم ٥،٤، ٦).
ويهاجم مذهب سيمون، الذي زعم أن «الإله الذي خلق السموات والأرض وكل ما يحتويان عليه ليس هو الإله لأعلى؛ وإنما الإله الأعلى إله آخر، غير معلوم ولا يمكن وصفه، ويمكن أن ينعت بأنه إله الآلهة؛ وهذا الإله الأعلى قد أرسل إلهين اثنين: أحدهما خلق العالم، والآخر خلق الشريعة» («المحاضرات»، المحاضرة الثالثة، بند ٢) ونعت سيمون الإله الذي خلق العالم بأنه كريم، والإله الذي خلق الشريعة بأنه عادل. ويتولى بطرس تفنيد الحجج التي ساقها سيمون لتأييد رأيه مستنداً إلى عبارات في الكتاب المقدس، وينتهي إلى توكيد أنه لا يوجد إلا إله واحد هو خالق السموات والأرض وخالق الشريعة، وهو كريم وعادل معاً
واللافت للنظر هنا هو أن بطرس يفيض في توكيد التوحيد المطلق، ولا يشير أدنى إشارة إلى التثليث. صحيح أنه يرد الصيغة: "باسم الآب والابن والروح القدس»، لكن ذلك لم يحدث إلا مرة واحدة فقط («المحاضرات» رقم ١١ بند ٢٦) وبطريقة عابرة تؤذن بأنها مقحمة على النص. وكما قال مترجم «المحاضرات الكليمنسية» إلى الفرنسية أندريه سيوفيل André Siouville في مقدمته (ص٣٦): «إنه من البين أن التثليث لا يشغل أي مكان في اهتمامات مؤلفي الكلمنسيات، وأنه ليس لديهم عن الحليث فكرة واضحة» ٠
وأكثر من هذا، يلاحظ أن بطرس يقرر أن يسوع المسيح ليس هو الله ٠ إذ يقول صراحة: «إن سيدنا لم يعلن أبداً أنه الله، وإنما قال إنه سعيد من قال عنه إنه ابن
الكلمنسيات (المنحولة)
الله الذي رتب الكون» («المحاضرات» ، رقم ١٦ بند ه ١ ) ٠ وأردف بطرس قائلاً إن هذا الوصف : ابن الله لا يعني أنه هو الله، ويقول؟ «إذا وصفت النفوس الإنسانية هي نفسها بأنها آلهة، فما العجب في أن يوصف يسوع المسيح بأنه إله؟ إنه ليس له إلا ما يملكه الآخرون» («المحاضرات» ١٦ :١٦).
ويتحدث بطرس أحياناً عن «الروح القدس» أو «الروح الإلهية» لكنه لا يقصد أبداً الأقنوم الثالث في ايثرث.
وفضلاً عن هذا كله فإن الفكرة التي لدى مؤلفي الكلمنسيات عن الله لا تتفق مطلقاً مع عقيدة التثليث . وذلك أنهم يؤكدون التشبيه (التجسيم) التام للألوهية بالإنسان، فيقولون إن الله، مهما يكن لامتناهياً، فإن له شكلاً وجسماً وأعضاء ، وأنه في مكان. وشكل الله هو شكل الإنسان، لأن الإنسان المرئي هو على صورة الله غير المرئي («المحاضرات» رقم ١٧ بند ٧) . والإنسان خلقه الله على صورته لا من حيث الروح، وإنما من حيث الجسم ٠ والسماء وكل النجوم وإن كانت أسمى من الإنسان، من حيث ماهيتها، فإنها وافقت على أن تخدم هذا الكائن الأدنى منها - وهو الإنسان - لأنه على صورة اله. («المحاضرات» ٣: ٧). ولو كان الله بغير شكل وا صورة «لما أمكن أن يراه أحد، وبالتالي، أن يثير رغبة أحد. ذلك لأن الروح، إذا لم تر ملامح الله، فإنها تكون خالية منه» («المحاضرات» ١٧م ١١) وبدون الشكل لما وجد جمال يجتذب الحب ولا يمكن رؤية إله خال من الشكل («المحاضرات» ١٧ : ١٠) «ولهذا فإنه من أجل الإنسان كان لله أجمل شكل، وحتى يستطيع ذوو القلوب الطاهرة أن يروا الله وينعمون بالنظر إليه تعويضاً عن الشرور التي عانوها في الحياة الدنيا» («المحاضرات» ١٧ : ٧). «إن اله له كل الأعضاء، لكن ليس ذلك من أجل أن يستخدمها: إن له عيوناً لكن ليس من أجل أن يرى بها، لأنه يبصر كل شيء وكل مكان، لأن جسمه أكبر نورانية من الروح التي نبصر نحن بها وهو أسطع من كل شيء، حتى إن نور الشمس يعد ظلاما بالمقارنة بنور الله,. (»المحاضرات» ١٧ : ٧). ويزعم بطرس أن الله في مكان، وهذا المكان «هو اللاوجود» («المحاضرات» ١٧ : ٨) . وإن إلهاً على
شكل الإنسان وله شكل وصورة وأعضاء وجسم كجسم الإنسان - لا يمكن أن يكون ثالوثا.
٢-النبي لحق:
ويتلو عقيدة التوحيد الكامل عقيدة «النبي الحق» . يقول بطرس : «ها هو الدين الذي حدده الله : ألا تعبد إلا إياه؛ وأن تؤمن بنبي الحقيقة الوحيد؛ وأن تتلقى التغطيس (التعميد)، من أجل غفران الخطايا والولادة من جديد بواسطة هذا التغطيس الطاهر جداً في الماء الذي ينجى؛ وألا تتناول طعاماً على مائدة الجن» ، أي : عليك أن تمتنع من تناول اللحوم التي قربت أضاحي الأوثان، أو أخذت من حيوان ميت أو منخنق أو قتله حيوان مفترس، وأن تمتنع من شرب الدم؛ وألا تعيش في النجاسة؛ وأن تغتسل حين تخرج من فراش امرأة؛ وعلى النساء بدورهن أن يلتزمن بالقواعد المتعلقة بدورة الحيض؛ وعلى الجميع أن يلتزمو العفة، والإحسان، والامتناع من ارتكاب الظلم، وأن ينتظروا من الله القادر على كل شيء أن يهبهم الحياة الخالدة، وأن يسألوه الحصول عليها بالصلوات والأدعية المتواصلة» («المحاضرات»، رقم ٧، ند جرا.
فمن هو «النبي الحق» أو «نبي الحقيقة»؟
يجب أن نستبعد منه كل وصف بالألوهية، لأن «النبي الحق» لا يتصف بالألوهية بأية درجة كانت. إنه إنسان مثل سائر الناس . وإنما يزيد على سائر الناس بكون الروح القدس تساعده . وبفضل هذه المساعدة يتصف بالصفات التالية التي يذكرها بطرس فيقول :
«إن نبي الحقيقة هو الذي يعلم كل الأشياء في كل الأزمان الأشياء الماضية كما حدثت، والأشياء الحاضرة كم تحدث، والأشياء المستقبلية كم ستحدث وهو معصوم من الخطأ، رحيم وهو وحده الذي كلف بمهمة الهداية إلى طريق الحق. اقرأ وشاهد أولئك الذين اعتقدوا أنهم كتشفوا بأنفسهم الحقيقة. إن خاصية النبي هي أن يكشف الحقيقة، كما أن خاصية الشمس هي أن تضيء وتجلب النور. ولهذا فإن أولنك الذين رغبوا في معرفة الحقيقة، لكن لم يكن من حظهم أن يتعلموها من هذا النبي، فإنهم لم يجدوها وماتوا وهم لا يزالون يبحثون عنها. وأنى للإنسان الذي يبحث عن الحقيقة أن
الكلمنسيات (المنحولة)
٣٣
يستخرجها من أعماق جهله؟! وحتى لو عثر عليها فإنه لن يتعرفها وسيمز إلى جانبها كما لو لم تكن عناك - كما أنه لن يستطيع الحصول عليها من شخص آخر يدعى أنه يملك العلم لكنه إنما استمده هو الآخر من جهله فلم يستطع أن يستولي على ناصية الحقيقة , * . وكل أولنك الذين بحثوا عن الحقيقة، غير معتمدين إلا على أنفسهم، قد وقعوا في فخ ٠ وهذا هو ما حدث لفلاسفة يونان ولحكماء البلاد المتبربرة. لقد اعتادوا أن يحكموا على الأمور بالظن، فحكموا على الأشياء المستورة بنفس الطريقة، حاسبين أن كل ما يخطر ببالهم هو الحقيقة. وبينما هم لا يزالوان يبحثون عن الحقيقة بعد فإنهم يزعمون أنهم يعرفونها ومن ثم يختاون بين الفروض التي تخطر بنفوسهم، رافضين البعض وآخذين بالبعض الآخر، كما لو كانوا يعلمون ما هو الصحيح منها وما هو الباطل، بينما هم في الواقع لا يعلمون شيئا. وهم يقررون ما يتصورون أنه الحقيقة بلهجة خاصة بينما هم لا يزالون يبحثون بعد، دون أن يدركوا أن الإنسان الذي يبحث عن الحقيقة لا يمكنه أن يعلم الحقيقة من مجرد جهله هو. وحتى لو ظهرت له الحقيقة فإنه عاجز، كما قلت، عن تعرفها لأنه لا يعرفها وإن ما يدعو الإنسان الباحث عن تعليم نفسه بنفسه، إلى الاقتناع ليس ما هو حقيقي، بل ما يستهويه ويتملق أهواءه. وكما أن هذا الإنسان يحب شيئاً، وذاك الإنان الآخر يحب شيئاً آخر، فإن كل واحد يعد حقاً ما لا يعده غيره كذلك. أما النبي فإنه يحكم بأن أمراً هو حق لأنه في الواقع كذلك، لا بحسب ما يستهوي كل إنسان إنسان. ذلك أنه لو كان اللذيذ هو الحق، فإن الوحدة ستصبح كثرة - وهذا محال. ولهذا السبب فإن محبي الأقوال - عند اليونان ' أولى من الحكمة، هعالجين الأمور بحسب الظنون - قد قالوا بمذاهب متعددة ومتنوعة. لقد اعتقدوا أن سحر الفروض التي تحيلوها ستنبشق عن الحقيقة، غير مدركين أنه لما كانت المبادى ء التي رصفوها هي مبادىء باطلة، فإن النتائج كان لا بد لها أن يكون شأنها شأن هذه المبادى ء (أي: باطلة هي الأخرى).
"لهذا ينبغي الرجوع إلى نبي الحقيقة وحده، واطراح كل من عداه» . فإن قيل : وكيف نعلم أن هذا الشخص هو نبي الحقيقة؟ فإن بطرس يجيب قائلاً: «إن
في استطاعتنا نحن جميعاً أن نحكم على من هو نبي الحقيقة، حتى لو لم نحظ بأي قدر من التعليم، وكنا جاهلين بعلم المنطق، وبالهندسة، وبالموسيقى . ذلك لأن الله، في رحمته وعنايته بالناس جميعاً قد يسر لهم جميعاً اكتشاف النبي الحق، ابتغاء ألا يكون المتبربرون في حال من العجز، وألا يكون اليونانيون في عجز عن العثور عليه ولهذا فإن من السهل إذن اكتشافه، وذلك على النحو التالي:
»إنه لو كان نبياً ، فإنه يستطيع أن يعرف أصل العالم، والأمور التي تجري فيه وتلك التي ستجري فيه إلى النهاية فإن تنبأ لنا بحادث وتحقق ذلك بالدقة، فبحق نحن نثق به في التنبوء بحوادث مقبلة، ليس فقط لأنه يعلم، بل هو يعلم ذلك مقدماً. فأي إنسان، مهما يكن من ضعف عقله لا يدرك بوضوح وثقة أنه، فيما يتعلق بما يقرره الله، ينبغي علينا أن نلجأ إلى النبي أولى من أسمى إنسان آخر، لأنه من ين الناس جميعاً هو الوحيد الذي يعلم الأمور حتى دون أن يتلقاها من أحد من قبل؟؟ ولهذا السبب فإنه إذا أنكر إنسان علىمثل هذا الإنسان (النبي)، أي الإنسان الذي أوتي العلم بالغيب بفضل الروح لإلهية التي تسكن فيه - معرفة الحقيقة، وينسب هذا العلم إلى إنسان آخر - ألي هذا المنكر محروماً من العقل لأنه ينسب إلى من ليس نبياً علماً لم يشأ أن يقز بوجوده لدى النبي؟
«ولهذا يجب إذن - وقبل كل شيء - إخضاع النبوءات إلى نقد دقيق والبحث بهذه الوسيلة عمن هو البي؛ وبعد أن نتعرفه يجب علينا - من دون أدنى تردد -أن نتبع تعاليمه الأخرى، وأن نلتزم في حياتنا بالحكم الذي أصدرناه، ونحن ممتلئون بالثقة في الآمال التي وعدنا بها، وواثقون بأن من قال لنا هذه الأمور لي بالرجل الذي يخدعنا. ولهذا فإنه إذا تبين لنا أن نقطة من بين النقط التي وردت في تعاليمه لا تبدو لنا صحيحة، فإن علينا أن نعلم أنه ليس التبي هو الذي أساء القول، بل نحن الذين لم نفهم ما قال. ذلك لأن الجهل ليس حاكماً صالحاً على العلم، كما أن العلم بطبعه ليس قادراً على إصدار حكم مستنير على التنبؤ؛ بل التنبؤ هو الذي يزود الجهلاء بالعلم. ٠
«فإن شنت إذن، يا عزيزي كليمنس، أن تعلم إرادة
٢٣٢
الكلمنسيات (المنحولة)
الله، فإنه من هذا النبي تستطيع أن تعرفها، لأنه هو وحده الذي يغلم الحقيقة. وإذا كان هناك من يعلم شيئاً فإنه إنما تلقى هذا العلم من هذا النبي أو من أحد تلاميذه , وهاك فكره وتنبؤه الحق: لا إلم إلا اللهم الواحد، والعالم هو من صنعه؛ ولما كان هذا الإله عادلا، فإنه سيجازي ذات يوم كل إنسان بحسب أعماله» . («المحاضرة» الثانية، البنود من ٦ إلى ١٢)
٢-خلود النفس:
وهنا يعرج المؤلف على مسألة خلود النفس، فيثبت خلود النفس بالحجة التي سنراها تتكرر مراراً فيما بعد، والتى على أساسها تبنى كنت Kant قوله بخلود النفس، وهي أنه لما كان الله عادلا حقاً، «فإن من الضروري ضرورة مطلقة أن نؤمن بخلود النفوس الإنسانية. وإا فأين ستكون عدالتة، إذا كان بعض الناس، يعد حياة حافلة بالبر والتقوى، يهلكون بموت عنيف أحياناً في العذابات، بينما آخرون، فاسقون فسقاً محققاً، ينتهون بالموت العادي للناس بعد حياة أمضوها في ملاذ الدنيا ومفاخرها؟ إنه لا جدال مطلقاً في أن الله المخين هو في الوقت نفسه عادل؛ لكن عدالته لن تتجلى للعيون إلآإذا كانت النفس، بعد انفصاله عن البدن، خالدة، بحيث أن الشرير بعد أن ينزل إلى الدرك الأسفل، وكان قد نال تصيبه من الخيرات في الدنيا، يجب أن يعاقب هناك جزاء وفاقاً على ما ارتكب من ذنوب، وأن الصالح وقد عوقب في هذه الدنيا على ما ارتكب من أخطاء، فإنه هناك (في العالم الآخر) وهو بين الأبرار يرث نصيبه من الخيرات إن اللهم عادل، ولهذا فإن من البين لنا أن ثمت حساباً وأن النفوس خالدة.
«وإن رفضنا أن نصف الله بالعدالة» كما يفعل سيمون السامري، فمن ذا الذي نصفه إذن بالعدالة أو بسإمكان أن يصير عادلا؟! لأنه إذا كان جذر كل الموجودات لا يملك هذه الصفة، فيجب أن نستنتج بالضرورة أن من المستحيل أن نجدها في الثمرة، أي في الطبيعة الإنسانية 1 لكن مادام من الممكن أن نجدها في بني الإنسان، فكم بالأحرى أن تكون موجودة في الله! وإذا لم يكن من الممكن أن نجد العدالة في أي مكان: لافيلله، ولا في الإنسان، فسيكون من المستحيل أيضاً
أن نجد الظلم. لكن العدالة موجودة. ذلك لأنه بسبب أن العدالة موجودة فإن من الممكن الكلام عن الظلم: لأنه بمقارنة الظلم بالعدالة يشاهد بأنه مضادها ويسمى ظلماً». («المحاضرة» الثانية، بنود ١٤٠١٣).
٣-الأزواج الأزواج:
واله خلق العالم أزواجاً أزواجاً السماء والأرض -النهار والليل - الضوء والنار - الشمس والقمر - الحياة والموت - الكبار والصغار - العالم الفاني والأبدية -الجهل والعلم
وترتيب الأزواج يتخذ طريقين متضادين : حينما نجد الأعمال الأولى التي حققها الله هي أسمى من الأعمال التالية عليها، نجد أن الأمر بالعكس عند بني الإنسان: الأشياء الأولى هي الدنيا، والأعمال الثانية هي العليا , فبعد خلق آدم، الذي صنع على صورة الله، نجد أن أول إنسان ولد هو قابيل الذي هو إنسان شرير، وتلاه هابيل الذي هو إنسان طيب . كذلك الحال بعد ذلك فيما يتعلق بالطيور التي أطلقها نوح (عند العبرانيين ويناظره دوكاليون لال٦ع1د٠ل٦علا عند اليونان). وكانت هذه الطيور هي على صورة لأرواح: أحدها على صورة الروح النجسة والآخر على صورة الروح الطاهرة : فكان أول الطيور التي أطلقت هو الغراب، والثاني الذي تلاه هو الحمامة البيضاء. وكذلك الحال بالنسبة إلى ولدي إبراهيم: فأول من ولد هو إسماعيل، والثاني هو إسحاق الذي باركه الله. ولإسحاق هذا ولد اثنان: الأول هو عيصو الفاسق، والثاني هو يعقوب التقي ’
ويسوق بطرس هذا الاحتجاج ليثبت أن سيمون السامري وقد جاء قبله هو الفاسق، بينما بطرس الذي جاء بعده هو التقي الصالح! وليبرهن على أنه جاء إنجيل أول وعظ به حواري نصاب - ويقصد به القديس بولس برسائله، وأتى بعده حواري تقي وعظ بإنجيل حقيقي صادق، وهو يقصد به إنجيله هو، إنجيل بطرس. وهذا الإنجيل «الصحيح، سيرسل سراً إلى كل ناحية لتصحيح البدع التي ستظهر مستقبلا " كذلك سيسبق مجيء المسيح الحقيقي قبل نهاية الدنيا مجيء مسيح دجال ’
٤ - نقد نص الكتب المقدس :
الكلمنسيات (المنحولة)
٢٣٣
ويخضع بطرس نص الكتاب المقدس لنقد صريح يبين مافيه من تناقضات وأغلاط . يقول بطرس:
«إن عدداً كبيراً من لأغلاط ضد الله قد أولجت في الكتاب المقدس. وهاك بيان ذلك : إن موسى - وفقاً لإرادة الله - قد أبلغ الشريعة وشروحها إلى سبعين رجلا مختاراً، من أجل أن يتولى هؤاء إفادة من يريد من الناس الاستفادة منها؛ وبعد ذلك بقليل، وبعد تحريرها بالكتابة أضيفت إليها إضافات تحتوي على أخطاء ضد الله الواحد خالق السماء والأرض وما يشتملان عليه. وكان «الشرير» («الشيطان») هو الذي أوحى بها بسبب عادل هو التمييز بين الناس الذين يجرؤون على أن يستمعوا بلذة إلى الأمور المكتوبة ضد لله، وبين أولئك الذين لا يعتقدون في صحة الأمور المقولة ضد لله لأنهم يحبون الله، حتى لو كانت هذه الأمور صحيحة، لأنهم رأوا أن الأضمن هو الإيمان بالأمور المقدسة والصالحة بدا من العيش بضمير سيء من جراء التأثر بالأقوال المحرفة على الله.
«وهذه المواضع التي ضد الله والتي أضيفت إلى الكتاب المقدس، من أجل امتحان الناس، قد جاء سيمون — فيما علمت — ليقرأها علناً أمام الناس من أجل أن يبعد عن الله أكبر عدد من الأشقياء« («المحاضرة الثانية، بند ١٨-١٩).
ويذكر بطرس الأغلاط التالية («المحاضرة الثالثة»، بند٤٣:
- «الله يفكر» - وكأنه مثله مثل إنسان يجهل ما هي الحقيقة، فيقلب الرأي ويبحث كي يصل إليها.
- «والرب امتحن إبراهيم» من أجل أن يعرف هل سيثابر ويصمد ٠
- «لينزل ولننظر هل يفعلون وفقاً للضجة التي وصلت إلي؛ على الأقل كي أعلم»
ويختم بطرس بقوله: «وحتى لا أسهب في إيراد هذه الأمثلة إلى غير نهاية، فإني أشير إلى كل الأقوال التي تتهم الله بالجهل أو بأي نقص، إذ يفندها أقوال أخرى تقرر عكس ذلك».
ثم نرى بطرس في «المحاضرة» رقم ٢ (البنود ٤٣ ، ٤٤، ٥٢) ينقد نقداً عنيفاً ساخراً مواضع عديدة
جداً في «الكتاب المقدس» نسبت إلى اللهما ا يجوز أبداً أن ينسب إليه. استمع إليه يقول :
«بعيد عنا أن نعتقد أن سيد الكون المطلق، خالق السماء والأرض وكل ما يحتويان عليه يشارك آخرين في السلطان، أو يكذب! لأنه إذا كان الله يكذب فمن إذن الذي يقول الحقيقة؟ ولا يقولن أحد إنه يمتحن ليعرف، وكأنه جاهل لا يعلم : وإلا فمن ذا الذي يعلم علماً سابقاً؟ وإذا كان يفكر ويغير رأيه، فمن ذا الذي يملك العقل الكامل والثبات في التقدير؟ وإذا كان غيوراً، فمن هو الذي فوق كل مقارنة؟ وإذا كان يقسي القلوب، فمن الذي يضيؤها؟ وإذا كان يغمي ويصم، فمن الذي وهب البصر والسمع؟ وإذا كان يدعو إلى النهب والسلب، فمن ذا الذي يحافظ على قواعد العدالة؟ وإذا كان يتلاعب (بالناس)، فمن هو المستقيم المخلص؟ وإذا كان عاجزاً، فمن هو القادر على كل شيء؟ وإذا كان ظالماً، فمن هو العادل؟ وإذا كان هو الذي يخلق الشرور، فمن هو فاعل الخير؟ - وإذا كان يكذب، فمن ذا الذي يقول الحقيقة؟ وإذا كان يسكن في خيمة، فمن يملك صفة السعة اللامتناهية؟ وإذا كان يشتاق إلى رائحة الدهن، وإلى الضحايا وإلى الرش - فمن هو الذي فوق كل حاجة؟ من هو القديس؟ من هو الطاهر؟ من هو الكامل؟ وإذا كان يسر بالمشاعل والشموع، فمن هو الذي رتب في السماء النجوم التي تضيء لنا؟ وإذا كان يحيا في الظلام والظلمات والعاصفة والدخان - فمن هو النور الذي يضيء كل الكون؟ وإذا كان يسير في وسط الأبواق، وبيسن صيحات الحرب، والسهام، فمن هو هدوء كل الأشياء الذي ننتظره؟ وإذا كان يحب الحروب، فمن ذا الذي يحب السلام؟.. . وإذا كان لا يحب، فمن الذي يحب الناس؟ وإذا كان لا يحفظ الوعود، فمن الذي يوثق به؟ وإذا كان يحب الأشرار والزناة والقتلة، فمن الذي سيكون حاكماً عادا؟ وإذا كان يغير رأيه، فمن هو الئابت؟ وإذا كان يفضل الأشرار، فمن غيره يجتذب الأخيار؟»
وكل النقائص المذكورة هاهنا تشير إلى نصوص صريحة في «الكتاب المقدس؛ ويستطيع المرء أن يعثر عليها بسهولة في معاجم ألفاظ الكتاب المقدس.
ويختم بطرس هذا النقد العنيف بقوله : «فلما كان
٢٣٤
الكدمنسيات (المتحولة)
يوجد إذن في الكتاب المقدس أمور صحيحة وأخرى باطلة ، فإن معلمنا (: المسيح) كان على حق حين قال : «كونوا صرافين حاذقين جدا» - مشيراً بذلك إلى أقوال الكتاب المقدس الذي بعضها عملة سليمة، وبعضها الآخر عملة زائفة كذلك بين السبب في ضلال أولنك الذين أضلتهم المواضع الباطلة في الكتاب المقدس وذلك حين قال لهم : «أنتم ضالون لأنكم لا تعلمون ما هو حق في الكتاب المقدس ولهذا السبب فإنكم تجهلون قدرة الله» .
ولما كانت هاتان العبارتان غير موجودتين في نص الأناجيل القانونية، فقد فترض الباحثون أنها إنما وجدت فيما يعرف باسم «إنجيل الاثني عشر"
وينكر بطرس (في البند رقم ٥٢ من المحاضرة الثانية) صحة ما نسب إلى الأنبياء من معاصي وذنوب في الكتاب المقدس فيقول : «أنا واثق أن آدم لم يرتكب أية معصية، وهو الذي خرج من بين يدي الله؛ ونوح لم يكن سكران، وهو الذي كان أعدل الناس في العالم كله؛ وإبراهيم لم تكن له ثلاث زوجات في وقت واحد، إذ كان عفيفاً واستحق أن يصير أباً لذرية عديدة؛ ويعقوب لم يباضع أربع زوجات، اثنتان منهما كانتا أختين، وهو الذي صار أباً لاثنتي عشرة قبيلة وأعلن مقدماً مجيء معلمنا (— المسيح). وموسى هو الآخر لم يكن قاتلاً، ولم يتعلم كيفية الحكم من كاهن أصنام، وهو الذي كان مبلغاً عن الله من أجل تبليغ الشريعة لكل العصور، وبسبب استقامة عواطفه استحق الشهادة بأنه كان حاكماً مخلصاً» .
٥ - النفوس الإنسانية، والملائكة والجن:
ولما كان لله جسم، فإن للملائكة والشياطين أجساماً لكن أجسامها ليست من لحم، بل من جوهر أشد لطافة. والنفوس الإنسانية هي قطرات من النور الخالص. والملائكة من نار؛ والجن (أو الشياطين) هي الأخرى من نار لكنها نار مخلوطة بمادة كثيفة.
وقد أشرنا من قبل إلى خلود النفس وتوكيد «الكليمنسيات» له على أساس أنه ضروري لينال الأبرار والأشرار كل واحد منهم جزاءه الذي يستحقه. لكننا نرى مع ذلك في بعض المواضع ما يؤذن بأن النفوس تفنى
بعد مدة تطول أو تقتصر. فقد ورد في المحاضرة الثالثة (بند ٦) ما يلي ن «إن الذين لا يتوبون سينتهون بواسطة عذاب النار. . . فبعد أن يعذبوا بالنار الأبدية لمدة معينة من الزمان طويلة جداً، سيفنون ويغدمون، لأنهم لا يمكن أن يوجدوا إلى الأبد بعد أن كفروا بالله الأبدي الوحيد» . أما نفوس الأبرار فستبقى أبداً في نعيم مقيم» .
من الذي يقوم بتعذيب الأشرار؟ يقول بطرس: «ليس الله هو الذي يعذب؛ بل الذنوب هي التي تحدث بنفسها هذه النتيجة» («المحاضرة» التاسعة، البند ١٩) وذلك بأن يدخل الشيطان في جسم الإنسان مع الطعام، خصوصاً حين يكون هذا الطعام مكرساً للأونان، أو يدخل مع تداوير الدخان التي تنبعث من نار الأضاحي (المحاضرة التاسعة بند ٩ والحادية عشرة بند ١٥) ومتى ما استقر الشيطان (أو الجن) في الجسم فإنه يلتحم بالنفس شيناً فشيئاً. وفي ساعة الموت، تنفصل النفس عن البدن، لكنها تبقى ملتحمة بالشيطان الذي سكن فيها منذ وقت طويل. وفي اليوم الآخر، حين يرسل الله الجن في ظلمات العالم السفلى وفي النار الأبدية، فإن النفس تتبع الجن الذي ارتبطت به ارتباطاً لا ينفصل أبداً. والنار تسر الجن لأنهم من نار؛ ولكنها تعذب النفوس عذاباً شديداً لأن النفوس هي في الأصل قطرات من النور الصافي فلا تحتمل شواظ النار («المحاضرة» التاسعة بند ٩، والعشرون بند ٩>.
والملائكة أرواح، لكنها أرواح جسمانية إن صح هذا التعبير ذلك لأن جسم الملك ليس من لحم ودم، بل هو من نار. وهو بطبعه خفى لا يرى، لكن الله يحوله فى بعض المناسبات إلى جسد: «فإن أرسل ملك إلى إنسان كي يراه، فإنه يتحول إلى جسد» («المحاضرة» رقم ١٧، بند١٦).
والجن ملائكة ساقطون أو من ذرية ملائكة ساقطين. وملائكة المنطقة السفلى من السماء إذا ما جاءوا إلى الأرض بإذن من الله فإنهم يتحولون إلى أشياء مختلفة م إلى أحجاركريمة، إلى ذهب، إلى فورفير، إلى حيوان من ذوات الأربع، إلى زواحف، وإلى بشر. وهم يجامعون النساء فيكون عنهم مردة يحدثون الخراب على لأرض ونفوس هؤلاء المردة إذا ماتوا هي الجن. واله بحكمته ولطفه أرسل إليهم التعليمات التالية، بواسطة
الكلمنسيات (المنحولة)
جني: «لا تستبدوا بإنسان ولا تعذبوه» إلا إذا صار بإرادته عبداً لكم بأن يعبدكم، ويقدم إليكم القراين، ويجلس إلى موائدكم، أو يرتكب أي فعل محرم مثل سفك الدماء، والأكل من لحم الميتة أو من البقايا التي تركها حيوان مفترس... أو من أي طعام نجس . أما أولنك الذين يستعيذون بشريعتي فإني آمركم بأا تمسوهم، بل عليكم أن توقروهم وتهربوا أمامهم» («المحاضرة» الثامنة، بند ١٩) لكن إذا ارتكب واحد من هؤلاء الأتقياء إثماً ، يباعد بينه وبين الته يتولى هؤلاء الجن تطهيره ببعض لآلام، بأمر من الله. وهكذا يصير الجن منفذين للعدالة الإلهية.
وللجن رئيس يدعى: «أمير الشر»، لملك الشرير، ملك الفاسقين، الشيطان، ملك العالم الحاضر، الملك الفاني ال. ار. والجزء الأول من «المحاضرة» التاسعة عشرة تبحث في الشر وأمير الشر. ويستأنف البحث في هذا الموضوع - لكن بإيجاز ووضوح أكبر - في البنود: ١، ٢، ٣، ٨، ٩منالمحاضرة« العشرين. وخلاصة هذا البحث أن الشيطان قد خلقه الله، ولكنه لم يخلة فيه المكر والشر يقول بطرس: «لما كانت كل الموجودات قد خلقها الله، فإن الشيطان ليس له خالق آخر، ولا يستمد خبثه من الله خالق كل الأشياء، لأن الخبث لا يمكن أن يوجد في الله» («المحاضرة» رقم ١٩، بند ١٢). ثم إن الشيطان ليس شريراً في ذاته وفيكل شيء إنما هو شرير بمعنى أنه يحب تعذيب الخطاة : «إن الشه العادل قد خلق الشيطان ليكون جلاداً للفاسقين . . . والشيطان لا يفعل أي شر بتنفيذه القانون الذي فرض عليها («المحاضرة» العشرون، بند ٩), «ولهذا السبب فإن الشيطان، في نهاية العالم الحاضر، إذا كان قد خدم الله على نحو لا تثريب عليه، فإن من الممكن أن يتحول بتركيب جديد إلى موجود طيب («المحاضرة» العشرين، بند٣).
والمادة التي صنع منها جسم الشيطان هي العناصر الأربعة (الماء والهواء والنار والتراب)، وكانت متميزة تماماً بعضها من بعض حينما بثها الله . وبعد أن بثها امتزجت خارج الله لكن وفقاً لإرادته، ومن هذا المزيج جاء ولوع الشيطان بالشر
أما «الخير» فقد تولذ من أجل العمليات التي
صنعها الله، ولم يحدث خارج اله «ولهذا فإنه «الابن" الحقيقي» («المحاضرة» العشرون، بند ٨)
و«الخير» سيكون ملك الحياة الآخرة، كما أن «الشرير» (الشيطان) هو ملك الحياة الدنيا «وإن اله، وقد حذد مملكتين قد وضع أيضاً عصرين وقرر أن يعطي «الشرير» العالم الحاضر لأنه صغير ويفنى سريعاً، ووعد بأن يخص «الخير» بالعالم الآتي لأنه كبير وأبدي» («المحاضرة» العشرون، بند ٢). «وكلا هذين الملكين يسعى إلى طرد الآخر، هكذا أراد الله» («المحاضرة» العشرون، بند ٣). والشرير يلذ له أن يعاقب الخطاة، وأما «الخير» فيطيب له أن ينجي أكبر عدد من الناس ممكن ٠ وكلاهما بهذا يحقق خطة الله . «إن هذين الأميرين هما اليدان الحاضرتان لله، وهما يستبقان لتنفيذ إرادته»، فأحدهما هو يده اليمنى، والآخر يده اليسرى «إن الله يستقبل بيده اليسرى، أي بواسطة الشرير» (الشيطان) الذي يلذ له بطبعه أن يعذب الفاسقين ٠ لكنه ينجي ويفعل الخير بيده اليمنى، أي بواسطة «الخير» الذي جبل على الاستمتاع بإسداء النعم إلى الأبرار ونجاتهم» (« ا لمحاضرة لعشرون" ، بند ٣) ٠
وفي استطاعة كل إنسان أن يطيع من يشاء من هذين الميكين : أي أن يصنع الشر، أو أن يصنع الخير. ومن يختار فعل الخير فإنه يصير ميكاً يملك العالم الآتي؛ ومن يفعل الشر يصبح في خدمة الملك الشرير ملك العالم الحاضر لكن في وسع كل فاسق أن يحصل على النجاة، وذلك بالتوبة؛ كما أن الإنسان الطيب يمكن أن يصير شريراً إذا أذنب وعصى *
لكن لماذا يفعل الإنسان الشر؛ يجيب بطرس: لأنه يجهل أنه سيعاقب لا محالة في يوم الحساب ٠ على أفعاله السيثة.
الهجوم على الديانة اليونانية
والثقافة اليونانية بعامة
لكن «المحاضرات» تشتمل على قسمين منفصلين: الأول يتمثل في المحاضرات الرابعة والخامسة والسادسة؛ والثاني يتمثل في باقي المحاضرات ويشمل سبع عشرة محاضرة ,
٢٣٦
الكلمنسيات (المنحولة)
والقسم الأول مستقل بنفسه عن القسم اكاني. وهو يسجل المجادلات التي دارت بين كليمنس وبين أبيون وقد استمرت هذه المجادلات ثلاثة أيام متوالية، وجرت في بستان يملكه ثري في نواحي مدينة صور (بلبنان الآن). وكليمنس في هذا القسم يختلف عن كليمنس الذي نجده في القسم الثاني : فهو في القسم الأول يهودي خالص يدافع عن الديانة اليهودية؛ أما في القسم الثاني فهو مسيحي متهود . وكليمنس في القسم الأول ولد في روما في وسط وثني وتثقف ثقافة يونانية في مطلع حياته، لكنه ما لبث أن انقلب عليها وصار من ألد أعدائها، واعتنق الديانة اليهودية وصار يدافع بحماسة عن مفهوماتها ومعتقداتها ضد الديانة الوثنية والفكر اليوناني .
أما خصمه الذي يجادله فهو أبيون Apion . وأبيون شخصية تاريخية نعرفها خصوصاً من كتاب يوسفوس اليهودي ضده، وعنوانه: «ضد أبيون». وقد ولد في الإسكندرية في القرن الأول الميلادي، وكان أديباً ونحوياً. وقام بالتدريس في الإسكندرية، ثم في روما في عهد حكم الأباطرة طيباريوس (١٤ - ٣٧) وكاليجولا (٣٧- ٤١) وكلوديوس (٤١- ٥٤). وقام بالدفاع عن الوثنيين في الاسكندرية وقضيتهم عند الأمبراطور كاليجولا. وألف كتاباً بعنوان، «المصريات» في خمس مقالات، وفيه هاجم اليهود واليهودية هجوماً عنيفاً. لكن لم يبق لنا من مؤلفاته العديدة إلا شذرات صغيرة هي التي وصلتنا في رد يوسفوس عليه في كتابه «ضد أبيون» Contra Apionem. وفي هذا الرد دافع يوسفوس عن بني جلدته من اليهود، وهو قد ولد في أورشليم القدس فيسنة ٣٧ ميلادية، وتوفي في روما حوالي سنة ١٠٠م؛ وكان من أسرة كهنة، وانضم إلى فريق الفريسيين، وفي سنة ٦٦م شارك في ثورة اليهود ضد الرومان في يوتانا؛ لكنه نجا من المذبحة التي أوقعها الرومان في اليهود بعد استيلائهم على أورشليم وتدمير هذه المدينة. وفي كتابه «ضد أبيون» حاول أن يثبت أولية اليهود ودافع عن تصور اليهود للتاريخ. وبهذا الكتاب صار اليهود يجسدون العداوة لليهودية في شخص أبيون. وهذا هو السبب في أن مؤلف (أو: مؤلفي) «المحاضرات الكليمنسية» قد استعاروا اسم أبيون للشخص المعادي لليهودية والممثل للثقافة اليونانية والديانة الوثنية. أما تصوير أبيون في هذه
المحاضرات بأنه تلميذ لسيمون الساحر فهو محض اختلاق إذ لم يقع أي اتصال بين أبيون وبين من يسمى في سفر «أعمال الرسل» من العهد الجديد باسم: سيمون الساحر (الأصحاح الثامن).
وفي هذه المجادات كان يصحب كلاً المتجادلين شخصان : فأبيون كان يصحبه أنوبيون وأثيودورس وأنوبيون شخص تاريخي،
وكان مصرياً من مدينة ديوسبولس (= مدينة الله) , وكان منجماً شهيراً، ومن المحتمل أن يكون قد عاش في عهد نيرون (٦٨٠٥٤م) وقد نظم قصيدة تعليمية في علم النجوم، ذكر هيفستيون ست مقطوعات
مثنوية منها هي التي وصلتنا من هذه القصيدة. أما أثينودوروس الآثيني فربما كان هو الآخر شخصية تاريخية، بيد أننا لا نعلم عنه شيناً غير ذلك في «المحاضرات» أما الشخصان اللذان كانا في صحبة كليمنس فهمام نيكيت وآكوا، ولا نعرف عنهما شيتاً ، صحيح أنه يوجد شخص تاريخي اسمه أكولا، كان يهودياً وأصله من مدينة بونط (على البحر الأسود)، ثم أقام في كورنشوس وعنده أقام القديس بولس في كورنثوس («أعمال الرسل» ١٨: ١ - ٣) وأبحر مع بولس إلى سوريا («أعمال الرسل» ١٨ :١٨) وبقي في أفسوس حيث راح يعلم أبولوس الطريق إلى الله (»أعمال الرسل» ١٨: ٢٦) وهو يذكر دائمامصحوباً بزوجته برسكلا («الرسالة إلى أهل روما» ٣:١٦-٤).لكنهلا يمكن أن يكون هو المقصود، لأنه كما رأينا كان من أنصار القديس بولس، بينما كليمنس كان من أنصار القديس بطرس الذي يظهر في «المحاضرات» على أنه الخصم اللدود للقديس بولس. وكليمتس قد جاء إلى صور بصحبة نيكيت وأكولا بناء على أمر من القديس يطرس ٠
وإليك خلاصة المناقشات التي جرت في الأيام الثلاثة بين كليمنس وبين أبيون -
اليوم الأول («المحاضرة» الرابعة : قال كليمنس موجهاً الخطاب إلى أبيون؟ «إني أؤكد أن كل الثقافة اليونانية هي وحي ضار جداً من لدن شيطان خبيث. فمن اليونانيين من قالوا بوجود عددكبير من الآلهة ومن الآلهة الأشرار المتبعين لأخس الشهوات - وقد قالوا ذلك حتى لا يخجل من أمثال أفعالهم أحد، فإن هذا من شيمة
الكلمنسيات (المنحولة)
٢٣٧
الإنسان مادام يأتسى في هذ بالأعمال الفاحشة الوثنية التي يعملها آلهة الأساطير. ولما كان هذا الإنسان لا يشعر بأي عار فلا أمل اطلاقاً في أن يتوب وتصلح حاله.
«وآخرون قد قالوا بفكرة القدر السابق الذي يخضع لتأثيره كل ما يشعر به الإنسان أو يفعله. وهذا الاعتقاد الثاني يرجع إلى لاعتقاد الأول، لأنه إذا آمن الإنسان باستحالة أن يشعر أو أن يفعل شيثاً لم يكن القدر قد قدره وهيأه من قبل، فإن من السهل عليه أن ينزلق إلى الخطيثة، وبعد أن يرتكب الخطيئة فإنه لا يندم ولا يتوب عن فسوقه، مبرراً ذلك بأن ما حدث إنما هو من فعل القدر السابق. ومادام مؤمناً بأنه لا يستطيع أن يصلح القدر المحتوم فإنه لا يخجل من الذنوب التي يرتكبها.
«وفريق ثالث يقول إن مجرى الأمور أعمى، وإن الكون يدور دوراته بدافع من ذاته، وليس هناك سيد يحكمه ووجهة النظر هذه هي أخطر الاعتقادات. والذين يؤمنون بها، لما كانوا لا يقرون بوجود موجود فوق العالم يعنى به ويجازي كل إنسان يحسب عمله -فإنهم لا يشعرون بأي خوف، ولهذا يستبيحون لأنفسهم فعل أي شيء يقدرون على فعله - ولهذا السبب فإنه ليس من الهل، بل ربما كان من المستحيل رد هؤاء إلى الصراط المستقيم لأنهم لا يبصرون بالخطر الذي يمكن أن يلهمهم الرجوع إلى جادة الصواب» . («المحاضرة» الرابعة، بند ١٢ ،١٣).
وهكذا نجد كليمنس ينعى على الثقافة اليونانية أنها تؤمن بثلاث عقائد تضر بالإنسان كل الضرر، وهي: الشرك بالآلهة، لأن الآلهة العديدين يقدمون بأفعالهم أسوأ الأمثلة؛ القدر المحتوم بالنجوم، لأنه يلغي حرية الإرادة الإنسانية، ويوفر الأعذار عن ارتكاب أية خطيئة؛ إنكار العناية الإلهية بدعوى أن كل الأحداث تجري بطريقة آلية، وا مدخل لقوة عليا في توجيهها، وهذا يؤدي إلى عدم الرهبة من الحساب
ثم يأخذ كليمنس في تفصيل مخازي هذه العقائد الثلاث تعدد الآلهة، والقدر المحتوم، وانعدام العناية الإلهية لكنه يتوسع في الكلام عن الأولى، ويوجز القول عن الثانية والثالثة.
ففي الكلام عن مخازي الآلهة اليونانيين المتعددين
يبدأ يذكر رب الأرباب زيوس Zeus فيقول إن أباه -خرونس - قد أكل أبناءه، وقطع بشفرة من الحديد الأعضاء التناسلية لأبيه أورانوس - فقدم بذلك أسوأ مثل للبر بالوالدين. وزيوس تفسه، قيد أباه في الأغلال، وسجنه في العالم السفلي وعامل سائر لآلهة بقسوة. ولما ولد متيس IMetis^ . ولكي يعطي عذراً للوطية اختطف جانيمد Ganymede. ولكي يساعد الزناة على الزنا، ارتكب الزنا عدة مرات. وهو يدعو الناس إلى الزنا بأخواتهم، لأنه زنا بإخواته هو: هيرا، وديميتر وأفروديت.
ويرد أبيون Appion على هذا الهجوم قائلاً: «غداً، إذا شثت سنجتمع مع نفس الأصحاب، وسأبرهن لكعلى أن الآلهة لم يكونوا زناة ولا قتلة، ولا مفسدين للأولاد، ولا عاشقين لأخواتهم أو بناتهم. لكن الأقدمين، وقد أرادوا ألا يعرف الأسرار إلا أولثك الراغبين في التعلم، فإنهم ستروا التعاليم بهذه الخرافات التي أتيت أنت على ذكرها. إنهم في تفسيراتهم للطبيعة قد سموا مادة الغليان باسم: زيوس، وسموا الزمان باسم: خرونوس وسموا عنصر الماء السائل باستمرار باسم: هريا. وسأفسر لك كل رمز من هذه الرموز وأكشف لك عن الحقائق التي تختفي تحتها» («المحاضرة» الرابعة، بند ٢٤).
وتأويلات أبيون لأسماء هذه الآلهة إنما تستند إلى اشتقاقات مفتعلة، فالاسم زيوس يشتق من الفعل «زيو» أي: «يغلى». والاسم: خرونوس يشتق من اللفظ: «خرونوس» أي: الزمان والاسم: هريا يشتق من الفعلم «هريو» أي يسيل
اليوم الثاني («المحاضرة» الخامسة): لكن أبيون يصاب بمرض يمنع من الحضور لاستثناف الجدال في اليوم الثاني - وبدا من ذلك يروي كليمنس للحاضرين الخدعة التي خدع بها أبيون في روما. فيقول إن حبه الحار للحقيقة قد أصابه بمرض . وبينما كان ملتزماً الفراش بسبب مرضه زاره أبيون، الذي ظن أن ما أمرص صديقه كليمنس هو الحب، فوعده بأن يشفيه من هذا المرض بوسائل سحرية في مدة سبعة أيام بعدها يتمكن من لقاء محبوبته . لكن كليمنس رفض استعمال السحر، وقبل فقط أن يتم تحقيق الوصال بالأقناع . وفي الليلة التالية نظم بيون قصيدة يتغزل فيها في محبوبة كليمنس المزعومة، وفيها مدح الزنا مستنداً إلى ما يفعله الآلهة أنفسهم . وحرر كليمنس هو نفسه الجواب عن هذه القصيدة، وفي هذا الجواب امتدح العفة وهاجم الزنا مستنداً في ذلك إلى ما ورد في الديانة اليهودية التي تدين بها هذه المحبوبة المزعومة , وهنالك اعترف كليمنس لأبيون بأنه خدعه حين زعم له أنه عاشق لامرأة، وقال له إن حبه إنما هو للحقيقة وليس لامرأة من النساء . ثم يذكر كليمنس للحاضرين أنه فتش عن الحقيقة قي مختلف المذاهب الفلسفية اليونانية فلم يعثر عليها؛ وإنما عثر عليها في الديانة اليهودية لما أخبره بها تاجر يهودي. فلما علم أبيون باعتناق كليمنس للديانة اليهودية، غادر روما . وقد قرأ كليمنس على الحاضرين في البستان الموجود في نواحي مدينة صور رسالة أبيون ورد كليمنس عليها ,
اليوم الثالث «(المحاضرة» السادسة : وحضر أبيون في اليوم التالي بعد أن شفي من مرضه الطارىء؛ وجرى النقاش الحاد بين كليمنس وأبيون، حول تأويل الأساطير اليونانية الخاصة بآلهة اليونان.
فبدأ أبيون الكلام بشرح نظريته في التأويل الرمزي لأساطير الآلهة عند اليونان فقال:
«إن أحكم الحكماء في العهد القديم قد اكتشفوا الحقيقة بالعمل الجاد، ثم صانوا معرفتها من غير المستحقين لها وعن غير المكترثين بالعلوم الإلهية إنه ليس صحيحاً أن «أورانوس» (السماء) وأمها «جيه» (الأرض) قد ولدوا اثني عشر ولداً-كما تدعى الخرافة -ستة منهم ذكور: أوقيانوس، وكوكوس، وكريوس، وهييريون، وبايت، وخرونوس؛ - وستة أناث هنم ثايا، وثميس، ومنيموسونه، وديميتر، وتثيس، وعريا. وليس صحيحاً أن خرونوس بتر، بشفرة من حديد، الأعضاء التناسلية لأبيه أورانوس - كما تقول أنت - وألقى بها في الهاوية . وليس صحيحاً أن أفروديت تولدت من قطرات الدم السائل من جرح أورانوس ذاك وليس صحيحاً أن خرونوس لما جامع هريا وأنجب منها بلوتون Pluton قد التهم هذا الابن لأن وحياً قد نزل عليه من برومثيوس يقول له إن ابنه سيصير أقوى منه، وسينتزع منه سلطانه. وليس صحيحاً أنه التهم فوسيدون Poseidon، ابنه الثاني، وا أن زيوس، الذي ولد بعدهما قد أخفته أمه
هريا Rhea، وأن هذه، حينما طالبها حرونوس بالابن كي يلتهمه أعطته حجراً بدا من أبيها٠ وليس صحيحاً أن هذا الحجر بعد أن التهمه زيوس قد ضغط عليه وجعله يخرج من بطن خرونوس الأولاد الذين سبق له التهامهم، فخرج بلوتون أولاً، وكان أول من التهمهم، وتلاه فوسيدون، ثم زيوس: وليس صحيحاً أن زيوس وقد نجا بفضل عناية أمه، وصعد إلى السماء - قد طرد أباه عن العرش الذي كان يجلس عليه - وهو - أي زيوس - لم يعاقب إخوة أبيه، ولم ينحط إلى درجة الجماع مع نساء فانيات. ولم يجامع أخواته أو بناته، ولا زوجات إخوته، ولا صبياناً ذكوراً. ولم يبتلع متيس Metis بعد أن أنجبها كيما يخرج الإلاهة، «أثينا» من محه بفضل متيس ولكي ينجب من فخذه ديومستيوس الذي يقال إن الطيطان قد فرقوه ولم يشترك في المأدبة التي أقيمت بمناسبة زفاف تتيس Tetis وبلا Pélée . ولم يطرد أريس Eris (= النزاع) من الزفاف. وليس صحيحاً أن أريس، وقد أهينت على هذا النحو، قد أرادت إشعال الحرب والنزاع بين المدعوين ٠ وهي ٠ أي: أريس Eris - لم تنقش هذه الكلمات على تفاحة من الذهب اقتطفت من بساتين الهسيريدس: «هدية إلى الجميلة». وتروي الخرافة بعد ذلك كيف أن هيرا Hera وأثينا وأفروديت، لما وجدن هذه التفاحة ودخلن فى منافسة، جثن إلى زيوس الذي بدلا من أن يفصل في الخلاف بينهن، أرسلهن مع هرمس إلى الراعي باريس Paris كي يحكم على جمالهن. لكن هؤلاء الآلهات الثلاث لم يحكم بينهن من حيث الجمال، كما أن باريس لم يحكم لأفروديت بأنها هي التي تستحق التفاحة وليس صحيحاً أن أفروديت، اعترافاً منها بالشرف الذي نالته، قد جلبت إلى باريس بعد هيلانة (أي مكنته من الحصول عليها). ذلك لأن هذا التشريف الذي زعم أن الإلاهة أفروديت قد هيأت له لم يعد الفرصة لحرب عامة بين كل الشعوب، وهذا من أجل هلاك من تلقاه والذي كان من أقرباء أسرة أفروديت.
«وإنما هذه الأساطير. . . لها أساس خاص بها، أساس قلسفي تفسره الأسطورة، حتى إنك لو سمعت هذا التفسير فإنك ستعجب به«. («المحاضرة» السادسة، يذد١-٢).
الكلمنيات (المنحولة)
٢٣٩
ويشرح أبيون كيف نشأ الكون بناء على تأويل الأساطير اليونانية، فيقول؟
«كان ثم زمان لم يكن فيه شيء، ما عدا الخاوس العمائى وخليطاً مشوشاً من العناصر التي تكدست دون ترتيب , وهذا هو ما تكشفه لنا الطبيعة نفسها، وهذا هو رأي كبار الرجال . وأستشهد لك على هذا بقول هوميروس، وهو أكبر الحكماء: هاك ما قاله عن الخليط الأول: «ولتصيروا جميعاً ماء وترابا» [«الإلياذة»، النشيد السابع، البيت رقم ٩٩] . ويعني بهذا أن كل شيء إنما استمد أصله منهما، وبعد انحلال المادة الرطبة والمادة الترابية، يرجع كل شيء إلى طبيعته الأولى التي هي الخاوس. وهزيود، من جانبه، يقول في «نسب الآلهة«: «في البدء أخدث الخاوس» [«نسب الآلهة» البيت رقم ١١٦) . وقوله: «أخدث» يعني بوضوح أنه كان له ابتداء، مثل الكائنات الحادثة. وأورفيوس 013^01 أيضاً يشبه «الخاوس» ببيضة اختلطت فيها العناصر الأولية و«الخاوس» الذي يتكلم عنه هسيود هو ما يسميه أورفيوس بالبيضة الحادثة التي صدرت عن الهيولي اللامتناهية. وهاك كيف أحدثت هذه البيضة:
«إن الهيولي الأولى المكؤنة من أربعة عناصر كانت حية ومتنفسة. وتدفق أوقيانوس لانهائي باستمرار، تدفعه حركة عمياء، فأحدث باضطرابه العارم تركيبات لا حصر لها لم تتم بل كانت في تغير مستمر، وهو نفسه قد دمرها بالاضطراب الذي ساد فيه. وكان مفتوحاً ولم يستطع أن يلتتم لإيجاد كائن حي . فحدث ذات يوم أن هذا الأوقيانوس اللانهائي، المتحرك في كل اتجاه بحركة طبيعية صادرة عن طبيعته، تدفق بنظام من نفس النقطة إلى نفس النقطة على شكل دوامة، ومزج المواد؛ وهكذا فإن ما كان في كل واحدة منها من خصوبة وبالتالي من قدرة على توليد كائن حي، وقد تدفق في وسط الكل كما يحدث في بوتقه - قد انجر إلى الأعماق بواسطة الدوامة التي حملت كل شيء واجتذبت إليها الروح المنتشرة من حولها، وكما لو كان قد حمل بواسطة الخصوبة الكبرى، فإنه رتب موجودات متميزة. فكما أن من المادة أن تتكون فقاعة في السائل، كذلك تكون جسم أجوف كروي كله وبعد أن تكون هذا الجنين في احضانه، ورفعه إلى أعلى الروح الإلهية التي استولت عليه، فإنه
استعد للظهور في النور، كعمل حي خارج من حفرة الهاوية اللانهاثية. وشابه البيض باستدارته 1 والطير
بسرعته ٠
«تصور إذن أن خرونوس هو الزمان، وأن هريا هي سيلان المادة السائلة : ذلك أنه بواسطة الزمان ولدت المادة المنجرة كلها: السماء التي تشمل وتحيط بكل شيء والتي هي كروية مثل البيضة . وهذه البيضة كانت في البدء مملوءة بنخاع خصب، لأنها كانت قادرة على إنجاب عناصر وألوان، من كل نوع، ومع ذلك فإنه ما من مادة واحدة ولون واحد جاءها هذا المظهر المتعدد الأشكال. وكما أنه في توليد الطاووس نجد أن البيضة لا تبدي للنظر غير لون واحد، وقع ذلك فهي تحتوي بالقوة على ألوان عديدة ستكون لهذا الحيوان حين يتم تكوين هذا الحيوان؛ فكذلك البيضة الحية الخارجة من حضن الهيولي ا للامتنا هية تحت وقع الهيولي التي تسيل باستمرار تبدي عن تغييرات من كل نوع ذلك لأنه في داخل الغلاف المحيط يتكون كائن حي، ذكر وأنثى معاً، بعناية الروح الإلهية التي تسكن فيه وهذا الكائن الحي يسميه أورفيوس باسم: فانس ةغ11قغ? (= الذي ظهر) لأنه حين ظهر أضاء الكون بتأثير دوانر، وبلغ فانس كماله في حضن العنصر السائل بواسطة لمعان النار، التي هي أجل العناصر وليس هذا بالأمر الذي لا يمكن تصديقه، لأنه في الدور المضيء، مثلا، أعطتنا الطبيعة صورة للنور الرطب .
«فلما سخنت البيضة التي هي أول موجود تكون، كسرها الكائن الحي الذي كان متضمناً فيها؛ ولما اتخذ هذا شكله خرج كما قال أورفيوس : «لما انكسرت محارة البيضة ذات القدرة الواسعة». وهكذا فإنه بواسطة القدرة الكبيرة لهذا الكائن الذي خرج من البيضة وتجلى، فإن الغلاف حصل على انسجامه وترتيبه المتنوع. أما الكائن الحي نفسه فإنه يهيمن على قمة السماء ويضيء بنور باهر العالم الشاسع. والمادة الخصبة التي بقيت في داخل الغلاف بقيت ممتدة هناك طوال وقت طويل جداً، إلى أن أحدثت فيها الحرارة غلياناً وحولتها إلى مواد مختلفة لكل الأشياء. والجزء الأسفل من هذه المادة انجر أولاً إلى أسفل مثل الثمالة بواسطة ثقله؛ ويسبب ثقله وكتلته المتكدسة ووفرة المادة التي تكون منها - فإنه سمي
الكلمنسيات (المنحولة)
بلوتون Pluton، وجعل منه ملك العالم السفلي والأموات.
«وهذه المادة الأولى» الخسيسة والغليظة، يقال إن خرونوس قد التهمها، خروتوس أي الزمان: وهذه رواية مطابقة للطبيعة، لأن هذه المادة غاصت في السفل, والماء الذي تدفق بعد هذا الترسيب الأول وغطى هذا الترسيب الأول: سموه باسم: فوسيدون ٠Poseidon والعنصر الآخر، الثالث، وهو الأصفى والأسمى، لأنه نار ساطعة، سموه باسم: زيوس، بسبب طبيعتة ذات الغليان. ذلك لأنه لما كانت النار تميل إلى الصعود، فإن خروتوس لم يلتهمها ولم يذق بها إلى أسفل، وإنما طارت الهيولي النارية، المليئة بالحياة المائلة إلى الصعود، طارت في الهواء الذي هو مزود بذكاء كير بسبب صفائه. إن زيوس إذن، أعني المادة التي في غليان، اجتذب إليه بحرارة الروح القوية جداً والإلهية التي بقيت في العنصر الرطب الذي في المناطق السفلى: وهذه الروح هي التي سموها متيس Métis .
«ولما وصلت الروح إلى ذروة الأثير وامتصها بوصفها عنصراً رطباً ممزوجاً بعنصر ساخن، فإنها أحدثت النبض المستمر وولدت العقل الذي سموه: بلأس Pallas بسبب هذاالنبض وهذا العقل عملي جداً وباستخدامه صنع الصانع الأثيري العالم بأسره. . ومن عند زيوس يتمدد الهواء الذي يسمى: هيرا Hera والأثير الأشد سخونة الذي ينفذ في كل شيء حتى يصل إلى الأماكن الموجودة هاهنا في أسفل. ولهذا فإن هيرا وقد هبطت من المادة الأصفى في الأثير، والتي تلت أنثى بسبب صفاثها بالمقارنة مع زيوس، الذي هو أقوى منها، فإنها عدت بمثابة أخت لزيوس عن وجه حق لأنها تولدت من نفس المادة التي تولد منها زيوس، كما عدت زوجة له لأنها بوصفها امرأة خاضعة له.
«وهم يؤكدون أن هيرا هي الحرارة الطيبة في الهواء؛ ولهذا فإنها خصبة« ولما كانت «أثيناس» Athenas، التي تسمى أيضا: بلآس Pallas، بسبب شدة الحرارة المفرطة» لم تستطع أن تولد شيئاً - فإنها عدت عذراء. ونفس التأويل ينطبق على أرتميس Artemis، التي ليست إلا القعر الأوطى للهواء: فإنها لما كانت عقيماً بسبب الافراط في شدة البرودة، فإنها سميت
أيضاً: عذراء. وديونوسوس Dionysos الذي يحدث الاضطراب في الروح، هو التجمع الهائج المضطرب الذي هو (بمثابة) سكران، وهو يخدث عن الأبخرة التي تصاعد وتهبط. والماء الذي تحت الأرض - وهو واحد بطبيعته - لما كان قد مر خلال قنوات الأرض الثابتة، وانقسم إلى عدد كبير من الأجزاء، كما لو كان قد فطع إلى قطع، سموه: أوزيريس. واعتبر أدونيس هو الفصول الجميلة، وأفروديت هي الجماع والولادة، وديميتر هي الأرض، وكوريه Koré هي البذور؛ والبعض يعد ديونوسوس هو لكزم
«وعليك ن ترسخ في ذهنك أن سائر الأشياء التي من هذا النوع لها هي الأخرى معان رمزية مماثلة. فعليك أن تعتبر أن أبولو هو مثل الشمس التي تدور دورتها والتي هي من نتاج زيوس. وقد سميت أيضاً: مترا Mithra لأنها تملأ الدورة السنوية كلها [على أساس أن حاصل جمع مقادير حروف Meithras بحساب الجمل يساوي ٣٦٥ وهو عدد أيام السنة، هكذا: m = ٤٠ ؛ e = ه ؛ i = ١٠؛0-٩؛7٣- ٥،١٠٠- ١؛5- ٢٠٠-فالمجموع هو = ٣٦٥]» . («المحاضرة» السادسة، البنود ٣- ١٠)
وبعد أن عرض أبيون هذا التأويل الذي فسر به أساطير الآلهة تفسيراً رمزياً خالصاً، انتدب كليمنس للرد عليه ٠ ولم يقتصر في رده على ما أورده أبيون، بل زاد عليه ما قاله آخرون مثل أييون من تأويلات للأساطير اليونانية مما لا تستطيع هنا إيراده تفصيلاً كما فعلنا مع تأويلات أبيون. وإنما نقتصر هاهنا على تلخيص رده ٠ إن كليمنس ينقد ما في هذه التأويلات من غموض وتعسف وانعدام للمنطق. ويحاول أن يبين أن هذه الأساطير حتى بتأويلاتها التي أوردها أبيون وأقرانه من نحويي الإسكندرية - تؤدي إلى نتائج ضارة فاسدة: منها أنها تلغي وجود الآلهة وتذيب شخصياتهم في عناصر الطبيعة والعالم .
ثم يعرض مذهبه هو في هذه الأساطير، وهو القول بما يعرف بالأفهميرية évhémérisme، وهو المذهب الذي يقول إن الآلهة كانوا كلهم في الأصل أبطالاً عاشوا بالفعل، ولكن الناس اخترعوا حولهم أساطير مبالغاً فيها بعد موتهم. وينسب هذا المذهب إلى
الكلمنسيات (المنحولة)
رجل من قورينا (- مدينة شحات الحالية في برقة شرقي ليبيا) الذي ازدهر حوالي سنة ٠ ٠ ٣ قبل الميلاد
وتاييداً لرأيه يعدد كليمنس الأماكن المختلفة التي يحدد الناس فيها قبورهم. «فمثلاً في جبال القوقاز يشير الناس إلى قبر إنسان اسمه : «خرونوس» كان طاغية متوحشاً وقتل أولاده. وابنه - واسمه زيوس - صار أسوأ من أبيه وبواسطة قوة السحر أعلن عن نفسه أنه سيد العالم، ونسخ الكثير من الزيجات، وبتر أباه وأعمامه، ثم مات، وأهل اقريطش يشيرون إلى قبره وفيما بين النهرين (دجلة والفرات) يرقد شخص يدعى هليوس (: الشمس) في بلدة أترا Atra، كما أن سيلينه (: القمر) ترقد في مدينة Karrhes وفي مصر رجل اسمه هرمس ٠ وفي تراقيا: آرس. وفي قبرص توجد أفروديت وفي ا لأبيد ور (باليونان) يوجد اسكلابيوس؛ كذلك يشار إلى قبور أخرى كثيرة (لآلهة مزعومة) من هذا القبيل. ولهذا فإن العاقلين من الناس متفقون على القول بأن هؤلاء الآلهة، لم يكونوا إلا بشراً. إن معاصريهم، وقد شاهدوا أنهم فانون، لم يهتموا بهم إلاً قليلا؛ لكن مرور الزمان الطويل قد أحاطهم بهالة الألوهية» («المحاضرة» السادسة بند ٢١ - ٢٢).
وبينما كان كليمنس يسترسل في شرح مذهبه هذا، وصل بطرس قادماً من قيسارية وتجمع الناس للاحتفاء به. هنالك انسحب أبيون وأنوبيون وأرثينادورس؛ بينما مضى كليمنس للقاء بطرس ٠ وهكذا انتهت هذه المجادات بين كليمنس وبين أبيون.
وكان من المنتظر أن يستأنف الجدال - في وقت لاحق - كيما تناقش النقطتان ا لأخريان، وهما م القدرية النجومية، وإنكار العناية الإلهية، فيقوم أنوبيون، المنجم بالدفاع عن القدرية وعلم النجوم، بينما يقوم أثينودورس، الفيلسوف الأبيقوري، بالهجوم على العناية الإلهية. لكنه لم يحدث شيء من هذا، بل نجد كليهما ينسحبان فجأة دون أن ينبسا بكلمة واحدة.
وإنما نجد بعد ذلك بسبع محاضرات كلاماً موجزاً وغامضا يتناول كلا الموضوعين : قدرية المنجمين، وإنكار الأبيقورية للعناية الإلهية، وذلك في المحاضرة رقم ١٤ (بنود ٣-٧، ١) والمحاضرة رقم ١٥ (البندان ٣، ٤) وهنا نجد محاوريسن آخرين هم: بطرس
وفاوستوس Faustus في جانب، وأنوبيون وأثينادورس في الجانب المضاد ٠ ومع ذلك نجد بطرس يعترف بأنه يجهل علم النجوم ويؤجل المناقشة إلى حين وصوله إلى أنطاكية؛ وهنالك ستجري المناقشة بين كليمنس من جانب، وأنوبيون من جانب آخر، إذا وجد هذا الأخير في أنطاكية؛ وهو أمر محتمل، لأن سيمون الساحر موجود في أنطاكية وأنوبيون هو رفيقه الذي لا يفترق عنه (المحاضرة رقم ١٤، بند ١٢) لكن مؤلف «المحاضرات» يترك بطرس وصحبه عند مدخل أنطاكية فلا تحدث المجادات المموعود بها أبداً.
بيد أننا نجد في «التعرفات» مناقشة مستفيضة لهذه المسائل الثلاث، ولكن بترتيب عكسي العناية الإلهية أولا (فصل ٨، البنود ٧ - ٥٧)، وتلتها مسألة القدرية النجومية (الفصل ٩، البنود ١٢ - ٣٢)، وأخيراً مسألة تعدد الآلهة (الفصل ’ ١ ، البنود ه ١ , ١ ه). غير أننا لا نجد أبيون، ولا أنوبيون ولا أثينودوروس في هذه المناقشات، وإنما جرت كلها برئاسة يطرس، بين فاوستوس وكليمنس، ونيكيت وأكولا
ويرى هاينتسه Heintze أن مصدر هذه المناقشات حول تعدد الآلهة، والقدرية النجومية، والعناية الإلهية-كان كتاباً يهودياً في الدفاع عن اليهودية ضد القائلين بتعدد الآلهة والقدرية النجومية والمنكرين للعناية الإلهية. كما رأى أن هذا الكتاب المصدر قد ألف في مصر وكانت مصر في القرون الثلاثة السابقة على الميلاد والقرنين التاليين للميلاد مسرحاً لمجادات عنيفة بين اليهودية من ناحية والوثنية اليونانية ثم الرومانية من ناحية أخرى ٠ واستشهد على ذلك بأن أنوبيون وأبيون كانا مصريين. لكن هاينتسه لم يستطع أن يحدد-ولو بطريقة تقريبية - من مؤلف هذا الكتاب المصدرم
وكان اليهود قد كتبوا الكثير من كتب الدفاع عن اليهودية، والهجوم على الوثنية اليونانية الرومانية، لكنه لم يصلنا من هذه الكتب غير نضين هما: شذرة من دفاع فيلون اليهودي (حوالى ١٣ق. م-٥٤م) في الدفاع عن اليهود، وكتاب يوسفوس (ولد سنة ٣٧ -٣٨ بعد الميلاد، وتوفي يعد سنة ٠٠ ١ م) بعنوان : «ضد أبيون» . وإلى جانب هذه الكتب المباشرة لجأ اليهود إلى حيلة شيطانية وهي أن يدسوا في داخل الكتب اليونانية أقوالاً وأشعاراً تمجد
كواريه
اليهود والنظم والعقائد اليهودية وينسبونها إلى كبار الشعراء اليونانيين! ! فمثلاً نجد في مؤلفات يوسايوس وكليمنس السكندري أشعاراً منسوبة إلى كبار الشعراء اليونانيين مثل : سوفقليس، وهوميروس وأورفيوس أشعاراً فيها تمجيد ومدح لليهود ونظمهم الدينية. ويرجع قسم من هذه التزييفات إلى هكاتيه الذي من أبديرا Hécatee d’abdere، وكان يهودياً معاصراً للاسكندر الأكبر المقدوني، وقد ألف كتاباً عن إبراهيم النبي
وفيلون له كتابان عن اليهود، الأول موضوعه الشريعة الموسوية، والثاني عن الذين اضطهدوا اليهود في زمانه والأول بقي لنا كله تقريباً، أما الثاني فلم تبق منه إلابعض الشذرات.
وقد بالغ كلاهما في ادعاء أن اليهودية قد اجتذبت الوثنيين اليونانيين فزعم فيلون في كتابه «حياة موسى» (فصل ٢٩ بند ٢٠) طبعة Mangey ح٢ ص١٣٧ ) : «أن الشريعة (الموسويه) تجتذب كل الناس وتجعلهم يعتنقون (اليهودية) م من يونانيين وغيريونانيين، ومن سكان القارة والجزر، ومن شعوب الشرق والغرب، وأوروبا وآسيا، وكل العالم المسكون من طرف إلى طرف"!! كما زعم يوسفوس: «أن الجماهير قد تحمست منذ زمان طويل لديانتنا... ولا يوجد مدينة... ولا شعب لم تنفذ فيه عادتنا في الاحتفال بيوم السبت والصوم وبكثير من قواعدنا في الطعام» («ضد أبيون«، فصل ٢، بند ٣٩)
وهذه الكتب في الدفاع عن اليهودية والهجوم على الشرك والوثنية اليونانية، قد أفاد منها المدافعون عن النصرانية الأوائل: كويريان في كتابه «بطلان الأوثان»، وأرنوب Arnobe في كتابه «مجادات ضد الشعوب« ، ولكتانس Lactance في كتابه: «النظم الإلهية»، وفرميكوس ماترنوس Firmicus Maternus في كتابه : «في خطا الأديان العلمانية» .