فلسفة عبد الرحمن بدوي
الخطوط العامة لفلسفة عبد الرحمن بدوي يمكن استخلاصها من هذين الماخصين اللذين كتبهما تلخيصاً لمناقشة رسالتيه: «مشكلة الموت في الفلسفة الوجودية» و«الزمان الوجودي».
مشكلة الموت
لعل أول حركة باطنة يحاول بها المرء أن يرد الأثر الذي يتركه في نفسه سماعه للكلمة « مشكلة الموت» أن يتساءل: هل للموت مشكلة؟ أوليس الموت واقعة ضرورية كلية لا بد لكل فرد أن يعانيها يوماً ما؟ أولسنا نعرف جميعاً هذه الواقعة، لأننا نستطيع أن نشاهدها لدى الاخرين؟
من أجل هذ كار علينا أل نبدأ بتحديد معنى «مشكلة» من ناحية، وأن ننظر نظرة إجمالية من غير شك - إلى معنى الموت من ناحية أخرى، لكي يكون في مقدورنا أن نتحدث بعد عن مشكلة للموت، وأن نتبين على أي نحو يمكن أن تك ن للموت مشكلة . حتى إذا ما استطعنا أن نتبينه، تيسر لنا أر نحدد عناصر هذه المشكله ومداها، سواء من الناحية الوجودية العامة ومن الناحية الحضارية. وسنرى حينئذ أن هذا البحث ، الذي يبدو لأول وهلة أنه يتناول مشكلة ج ثبة من مشاكا الوجود، سينتهى بأن يكون بحث شاملاً في الوجود كله، بحثاً يصلح لأن يكون مقدمة لمذهب في لوجود عام .
فهذا البحث يمكن إذن أن يوضع على الصورة الإجمالية التالية:
أولاً: إشكالية الموت؛
ثانياً؛ عناصر مشكلة الموت
ثالثاً. المشكلة الحقيقية للموت، وكيف يمكن أن تكون مركزاً لمذهب في الوجود؛
رابعاً المعنى الحضاري لهذه المشكلة
فلنبدأ بحثن إذأ بالحديث عن إشكالية الموت .
لكي نفهم معنى الاشكالية يجب أن نميز أولاً بين إشكال !11١:١1111ا١ا١)111 وبين مشكلة ن٦٦|خ|1|1٢،1إ. أما الإشكال فهو صفة تطلق على كل شيء يحتوي في داخل ذاته على نناقض ، وعلى تقابل في الاتجاهات، وعلى تعارض عملي والمشكلة هي طلب هذه لإشكالية بهصفها شيئاً يحاول لقضاء عليه، هي الشعور بالألم الذي يحدثه هذا لطابع الإشكالي، وبوجوب رفع هذا الطابع وإزالته؛ هي تتبع هذه الإشكالية، كما هي في ذاتها أولا، ثم محاولة تفسير ها تفسي اً يصدر عن طبيعة لشيء امشكا وجوهره فكأن المشكلة تتضمن إذا شيئين: الشعور بالإشكال، ومحاولة تفسير هذا الإشكال. فالحياة مثلاً تتصف بصفة الإشكال بطبيعنها، لأنها نسيج من لأصداد والمتناقضات؛ ولكنها ليست مشكلة بالنسبة إلى الرجل الساذج الذي ينساق في تيارها دون شعور منه بما فيها من إشكال، ودون محاولة - بالتالي - للقضاء على هذا الإشكال وذلك لأن لشعور بالإشكال يقتضي من صاحبه أن يكون على درجة عليا من التطور لروحي، وأن يكون ذ فكر ممتاز على تصال مباشر بالينبوع الأصلي للوجود والحياة، وأن يكون إلى جانب هذا كله على حظ عظيم من التعمق الباطن الذي تستحيا معه المعرفة إلى معرفة وحياة معاً؛ وبقدر هذا الحظ تكون درجة الإدراك هذا الى جانب ما يقتضيه الموضوع المشكل من شروط صادرة عن طبيعته هو الخاصة، دو غيره من الموضوعات المشكلة الأخرى
فإذا أردنا الآن أن نطبق هذا على اموت، وجدنا أنه
يتصف أولا بصفة الإشكال. فمن الناحية الوجودية يلاحظ أولاً أن الموت فعل فيه فضاء على كل فعا ؛ وثانياً أنه نهاية للحياة بمعنى مشترك؛ فقد تكون هذه النهاية بمعنى انتهاء الإمكانيات وبلوغها حد النضج والكمال، كما يقال عن ثمرة من الثمار إنها بلغت نهايتها، بمعنى تمام نضجها واستنفاد إمكانيات غموها؛ وقد تكون هذه النهاية بمعنى وقف الإمكانيات عند حد، وقطعها عند درجة، مع بقاء كثير من الإمكانيات غير متحقق بعد؛ وقد تكون بمعان أخ ى سنفصلها فيما بعد .
والثا أنه إمكانية معلقة ، إن صح هذا التعبيي بمعنى أنه لا بد ن يقع يوماً سا. هذ يقيني لا سبيل مطلفاً إلى الشك فيه، ولكنني من ناحية أخرى في جهل مطلق فيما يتعلق بالزمان الذي سيقع فيه، فها هنا إذا علم مطلق من ناحية، وجهل مطلق من ناحية أنرى. وفي هذا المعنى يقول بسكال: «إنني في حالة جهل تام بكل شيء، فكل ما أعرفه هو أنني لا بد أن أموت يوماً ما، ولكنني اجهل كل لجهل هذا الموت الذي لا أستطيع تجنبه»
ورابعاً أن الموت حادث كلي كلية مطلقة من ناحية، جزئى شخصى جزئية مطلقة من ناحية أخرى؛ فالكا فانون، ولكن كلا منا بموت وحده، ولا بد أن يموت هو نفسه، ولا يمكن أن يموت واحد اخر بديلاً عنه. وهذا عين مصدر الإشكال من ناحية المعرفة؛ إذ لا سبيل إلى إدراك الموت مباشرة بوصفه موقي أنا الخاص ، لأنني في هذه الحالة - حالة موتي أنا الخاص - لا أستطيع لإدراك. ومعنى هذا أيضاً أنني لا أستطيع أن أدرك الموت إدراك حقيقياً، لأن إدراكي للموت سينحصر حينئذ في حضوري موت الآخرين ومشاهدة الآئار الخارجية التي يحدثها هذ اموت. ومثل هذ الإدراك ليس إدراكاً حقيقياً للموت كم هو في ذاته، بل هو إدراك للموت في آثاره ٠ ولا أستطيع أن أقول هنا إنني عند محاولتي إدراك اموت أضع نفسي موضع الآخرين الذين يموتون، لأن المرء لا يمكن أن يحمل عبء الموت عن غيره ٠ هذ إلى أنه لو سلمنا جدلابإمكان إدراك موقف المرء بالنسبة إلى الموت، فإن هذا لا يفيدني شيئاً في معرفة حالة الميت نفسه، وإنما تجبري عن حالة «المحتضر» فحسب، لا عن حالة الموت نفسها، فم السبيل إذا إلى إدراكحقيقة لموت؟.
وهكذا نرى أن اموت، سواء من الناحية الوجودية ومن ناحية المعرفة، كله إشكال. ومن هنا نرى أن الشرط الأول، قد تحقق، وأعني به وجود الإشكال. فمتى يكون الموت مشكلة إذا؟ يكون الموت مشكلة حينما يشعر الإنسان شعوراً قوياً واضحاً بهذا الإشكال، وحينما يحيا هذا لإشكال في نفسه بطريقة عميقة، وحينم ينظر إلى الموت كما هو ومن حيث إشكاليته هذه؛ ويحاول أن ينفذ إلى سره العميق ومعناه الدقيق من حيث ذاته المستقلة. وهذا كله يقتضي اشياء من الناحية الذاتية، وأخرى من الناحية الضوعية.
فمن الناحية الذاتية يقتضي بالنسبة لن يمكن أن يصير الموت عنده مشكلة الشعور بالشخصية والذاتية أولا، لأنه بدون هذا الشعور لا يستطيع الإنسان إدراك الطابع الأصلى الجوهري للموت، وهو أنه شخصى صرف، ولا سبيل إلى إدراكه إدراكاً حقبقياً إلا من حيث أنه موقي أنا الخاص . ولا يبلغ الشعور بالشخصية والوحدة درجة أقوى وأعلى ما هو في هذه اللحظة، لحظة الموت، لأنني أنا الذي أموت وحدي، ولا بمكن مطلقاً أن يحل غيري محلي في هذا الموت. وخذا نجد أنه كلما كان الشعور بالشخصية أقوى ووأوضح، كان الإنسان أقدر على إدراك الموت وبالتالي على أن يكون الموت عنده مشكلة؛ ولهذا أيضاً لا يمكن أن يكون الموت مشكلة بالنسبة إلى من يكون ضعيف الشعور بالشخصية. والنتيجة فهذا هي أن لبدائي والساذج، نظراً إلى ضعف شعورهما بالثبخصية، لا يمكن أن يصير الموت بالنسبة لهما مشكلة؛ واللحظة التي يبدأ فيها الموت بأن يكون مشكلة بالنسبة إلى إنسان ما، هي للحظة التي تؤذن بأن هذا الانسان قد بلغ درجة قوية من الشعور بالشخصية، وبالتالي قد بدأ يتحضر. ولهذا نجد أن التفكير في الموت يقترن به دائما ميلاد حضارة جديدة، فإن ما يصدق على روح ا لأفراد يصدق كذلك على روح الحضارات. وهذه فكرة قد فصل القول فيها اشبنجلر واوضحها تمام التوضيح، وهي إحدى الأفكار الرئيسية الموجهة في هذا البحث؛ وسنرى في ختامه ما لها من أهمية عظيمة ، نظراً لا سنبني عليها من نتائج تتصل بالغرض الأصلي من كتابنا
ولهذا أيضاً كان كل إضعاف للشخصية من شأنه تشويه حقيقة الموت، وهذا الإضعاف للشخصية أظهر ما يكون في حالتين: حالة إفناء الشخصية في روح كلية، وحالة إفناء الشخصية في «الناس». فكل مذهب في الوجود يفي الشخصية في الروح الكلية لا يستطيع أن يدرك المشكلة الحقيقية للموت، وهذا ما فعله مذهب المثالية، وخصوصاً في اعلى صورة بلغها هذا امذهب، ونعني بذلك المثالية الألمانية، وعند هيجل ينوع أخص. فإن النرد بالنسبة إلى المثالية ليس له وجود حقيقي في ذاته، وإنما الوجود الحقيقى هووجود المطلق، ولا قيمة وجودية للفرد إلا من حيث كونه مشاركاً في وجود المطلق، ي ما كان لاسم الذي نعطيه لهذا امطلق: فسواء سمبناهم «الأنا المطلق» ، وهو لأنا الذي يضع نفسه بنفسه، كما فعل فشته؛ أو سميناه «الروح الكلية»، وهي تلك «الصورة» التي تعرض نفسها على مر الزمان كما فعل هيجل؛ فإن هذا من شأنه أن يحجب عنا إحدى المميزات الجوهرية للموت، ونعني به رتباطه بالفردية أو الشخصية أو الذاتية كل الارتباط. ولهذا لم يقدر لهذه المثالية أن تضع للموت مشكلة، وإن وضعتها لم تضعها وضعاً حقيقياً. وإذا كان هيجل نفسه قد عني بهذه المشكلة عناية كبيرة، فإن مصدر هذه العناية لم يكن مثاليته، وإنما كان مصدرها عواما أخرى اجنبية عن المثالية خضع لها هيجل بنوع خاص، وفي الطور الأول من حياته الفلسفية فحسب، أعني في هذا الدور الذي يطلق عليه «دور يينا". فقد كان في هذا الدور خاضعاً لتأثيرين: تأثير «المسيحية»، وتأثير»الرومانتيكية». أما تأثير المسيحية وصلته بمشكلة الموت فسنتحدث عنه بعد قليل، أما تأثير الروح الرومانتيكية فيما يتعلق بمشكلة الموت فآت من ناحية فكرة شقاء الضمير التي لعبت دوراً خطيراً في تكوين اتجاهات هذه الروح. فالضميرالإنسافي عند هذه لروح شقي بتأثير عوامل ثلاثة: فهو شقي أولا لأنه لا يسعه إلا أن يظل مغلقاً عليه في وحدة من المستحيل لقضاء عليها، فيها يبلغ الشعور بالشقاء والعوز أعلى درجة من الشدة؛ وهو شقي ثانياً لأنه يصطدم داثم بحواجز وعراقيل وقوى جنبية أو معادية ما من شأنه أن يولد في الضمير عراكا باطنيا وتمزقا داخليا؛ وهر شقي ثالثا وأخيراً لأن الانتصار الذي عاه أن بصادفه في هذ العراك إنما هو انتصار واو مؤقت، وأن هذا الانتصار يه لد ايضاً في الضميرأملاً لا حد له، أملأ لا يمكن أن يتحتق، لأن هذا الأمل يجب أن يكون أملاً كلياً في سعادة كلية، وإلا لن يكون ثم سعادة إن كانت جزئية فحسب. السعادة الكلية لن تتحقق إلا بإحراز الكل، ولا يمكن ان يحرز الكل إلا في حالة لإفناء. فشقاء الضمير ينشأ إذاً من شعور الضمير أو الأنا بأنه لا بذ أن يبقى في معزل عن المطلق ومنفصلاً عنه بمسافة لا يمكن عبورها إلا بأن يصير هو والمطلق شيئاً واحداً، وهذ لا يتحقق إلا بالفناء في لمطلق فلكي يمحي الشعور بشقاء الضمير يجب أن يتدخل الموت ، لأنه هو وحده الذي يستطيع ن ي: يل هذه اخوة التي تفصل بين الأنا وبين المطلق، والتى هى مصدر شقاء الضمير ومن هنا نرى أن لموت قد فهمهنا على انه فناء الجزئي في الكلي، أي أنه ولو أن فكرء شقاءالضميرقد دفعت هيجل إلى البحث في مشكلة الموت، فإن مثاليته قد تت أخيراً فثوهت وجه المشكلة الحقيقية للموت بسلبها إياه طابع ا لشخصية
وفكرة الشخصية تقتضي بدورها فكة الحرية، فلا شخصية حيث لا حرية، ولا حرية حيث لا شخصية. وذلك من ناحيتين : الأولى أنه لا مسؤولية إذا لم توجد لشخصية، ولا مسؤولية إذا لم توجد الحرية، فلا وجود للشخصية إذن إلا مع الحرية؛ والثانية أن الحرية هي الاختيار، ولا إختيار إلا بالننبة إلى شخصية تميز. فإذا كانت الشخصية تقتضي الحرية، والموت يقتضي الشخصية، فإن الموت يقتضي الحرية ويتضح هذا أكثر حينما ننظر إلى طبيعة الحرية وطبيعة الموت، فنرى حينئذ أن الحرية هي الإمكانية؛ ونحن قد رأينا من قبل وسنرى بعد قليل أيضأ أن الموت هو الإمكاية بل هو الامكانية المطلقة وعلى هذا فإنه من ناحية لإمكان أيضاً الموت والحرية مرتبطان أوثق ارتباط، وقدرة الإنسان على أن يموت هي أعلى درجة من درجات الحرية: فأنا حر حرية مطلقة، لأنني قادز قدرة مطلقة على أن أننحر. ولهذا عد بعضهم الموت أحدن شي، في الوجود لأنه مصدر الحرية، فقال انجلس سيليزيوس Silesius :لااعل(٨١ الشاعر الفيلسوف الألمافي: «أنا أقول ان الموت احسن شيء من بجن جميع الأشياء، لأنه وجده الذي يجعلني حرا,).
ومن هذا الارتباط ين الموت وبين الحرية نستطيع أن نستنتج أن كا المذاهبالتي لم تقل بالحرية الشخصية على وجه التحديد، لم يكن من حظها أن تضع مثكلة الموت وضع حقيقياً , وهذا أيضاً من العوامل التي شوهت مشكلة الموت في المثالية الألمانية، لأغها وإن قالت بالحرية، فإغها لم تفهم الحرية على أنها الحرية الفردية، وإنما فهمتها على أنها الح ية الكلية - إن صح هذا التعبير- ؛ فإغها تقول بح ية بالنسبة إلى الته، وباننسبة إلى الكل ، لأنا المضلق أو الروح المطلقة، لا بالنسبة إلى الإنسان الفرد؛ وأما ما هنالك من حرية في الأفراد فما هي إلا مظاهر متعذدة لحرية واحدة هي الحرية الكلية، فهذه الحرية كما فهمتها المثالية الألمانية، وعند فثته وهيجل بوجه خاص، ليست حرية بالمعنى الحقيقي، كما لاحظ هذ ايضاً أحذ أتباع هذه المثالية في الدور المتأخر من أدوار تطوره الروحي، ونعني به شلنج في الدور الأخير فقد قال شلنج إن فكرة المثالية عن الحرية فكرة صورية جوفاء يجب ان تستبدل بها فكرة واقعية حية، هي أن الحرية هي القدرة على فعل الخير والشر بالنسبة إلى الإنسان الفرد. أي أنه لا بد للحرية أيضاً أن تكون قدرة على فعل الشر، وإلا - أي إذ اقتصرت على فعل الخير وحده - فإنها لن تكون حينئن حرية؛ ومن هنا فإن الحرية بهذا المعنى لا يمكن أن تكون صفة من صفات الله عند من لا يجوزون على لله فعل الشر. ومن هنا جاء الارتباط الوثيق بين الحرية وبين الخطيئة : فحيث لا توجد الخطينة لا توجد الحرية، وحيث توجد الحرية توجد الخطيئة بالضرورة.
وعن طريق هذا الارتباط بين الحرية والموت من جهة، وبين الحرية والخطيئة من جهة أخرى، كان الارتباط بين اخطينة وبين الموت .
والارتباط بين الخطيئة وبين الموت قد بلغ أول درجة عليا من درجات التعبير عنه في المسيحية، وصور أصرح تصوير في عبارة القديس بولس المشهورة: «بواسطة إنسان نفذت الخطيئة إلى العالم، وعن طريق الخطيئة نفذ اموت«. فهذه العبارة تدلنا على أن المسيحية نظرت إلى الموت على أساس أن مصدره الخطيئه، أي أنها أدركت منذ بتدائها ما هنالك من صلة وثيقة جداً، هي هنا صلة العلة بالمعلول، بين الموت وبين الخطيئة. وهي قد ربطت ببنهما أيضاً عن طريق فكرة اخرية افردية، خصوصاً إذ لا لاحظنا أن الحرية الفردية تحتل مقاماً عالياً في الفكر امسيحي، ومصدر هذا ارتباط الحرية يالخطيئة؛ فإذا كانت فكرة الخطيئة تلعب الدور الأكبر في الحياة الروحية الميحية، كان لا بد إذا من القول بالحرية الفردية بل وتوكيدها، ما دامت مي مصدر الخطيئة. وهكذا نرى أنه قد توافرت للمسيحية هذه لعناصر الثلاثة الضرورية لوضع مشكلة الموت: ونعني بها الشخصية والحرية والخطيئة؛ أي أن الناحية الذاتية كان من شأنها أن تهى ء للمسيحية أن تضع مشكلة الموت وضعاً حقيقياً ، إن توافرت الناحية الموضوعية كذلك .
والناحية اموضوعية نقصد بها أولا إدراك أن الوجود يقتضي بطبيعته التناهي، حتى يمكن أن ينظر إلى الموت نظرة حقيقية على أساس أنه عنصر مكون في الوجود وإلا، فإن الموت لن يكون له إذأ مكان داخل نظرة الإنسان إلى الوجود، وإنما سيكون شيئاً عضياً يمكن إغفاله؛ وهذا هو السبب في أن الذين نظروا الى الموت هذه النظ ة لم يستطيعوا أن يضعوا المشكلة الحقيقية للموت. وعلى رأس هؤلاء جميعاً أفلاطون ، فإنه قد عنى بالموت، بل قال عن الفلسفة إنها «تأمل للموت» . إلا أن هذ القول يجب أن ننظر فيه جيداً حتى لا نقع في هذه لتفسيرات الخاطئة التي وقع فيها الكثيرون، وأهم هذه التفسيرات تفسيران: الأول تفسير شوبنهور، والتاني تفسي ٥ بالمعنى الذي يفسر به قول آخر شبيه به في اللفظ هو تأمل الموت meditate mortis وهو قول مشهور في كتب التصوف المسيحي؛ أما شوبنهور فيفس ٥ على أن الموت هو الموضوع الرئيسي للفلسفة والملهم الأكبر للتفكير الفلسفي . فهذا تفسير خاطى، لأن أفلاطون لم يجعل من الموت موضوعاً رئيسياً للتفكير الفلسفي، وبالأحرى لم يجعله الموضوع الرئيسي للفلسفة. وكذلك الحال في التفسير الآخر، فإن تأمل الموت عند المتصوفين المسيحيين يقه م على أساس النظرة المسيحية إلى الحياة، وهي نظرة تعارض تمام التعارض نظرة أفلاطون والروح اليونانية بوجه عام إلى الحياة. وإنما الذي يقصده أفلاطون بهذا القول هو أن الموت هو الوسيلة التي بها يتيسر بعد ذلك للفيلسوف أن يفكر جيداً، وذلك لأن حياة الفيلسوف عند أفلاطون هى حياة متجهة دان إلى تأمل الصور أو ألمثل، ولا يتيسر تأمل الصور تأملا حقيقياً ما دامت النفس سجينة في البدن، فلا بد من الخلاص من البدن - أي لا بد من اموت - حتى يكون في مقدور المرء أن يتأمل الصور دون أد يشوه عليه هذا التأمل مثره , فكأن الموت في نظر أفلاطون، إذاً جسر ومعبر ينتقا بنا من حياة النفس في البدن إلى عالم الصور؛ هو ابتداء أولى من أد يكون اة، لأنه ابتداء للحياة الروحية الحقيقية، حياة النفس حياة تأمل للصور؛ هه على وجه العموم باب يفتح على الأبديه . فلا يمكن إذل من ينظر إلى الموت هذه النظرة أن يجعل منه مشكلة.
وإنما يكون الممت مثكلة من الناحية الوجودية حينما بكون في نظر المرء من جوه لوجود، وجزءاً جوهريأ مكوناً له ٠ وهذه ناحية أدركتها لمسيحية فقال القديس بولس في نفس العبارة السابقة : «وهكذا نفذ الموت في جميع لناس»، أي أد اموت عنصر مكون للوجه د . وعن طريق هذا كله استطاعت لمسيحية لأول م ة أن تضع مشكلة الموت وضعاً حقيقياً من حيث أن الموت مشكلة فحسب؛ ولكنها حينم أرادت أن تعرف هذا الموت من حيث ماهيته اختلطت بالنظرة لأخلاقية، بل وضحي بالنظرة الأولى، وكاد النظر أن يصرف عنها لحساب النظرة الثانية ، حتى أوشكت الناحية الوجودية أن تختفي بتأثير الناحية الاخلاقية، خصوصاً أنها قد وقفت من الناحية الأخلاقية موقفين متناقضين. فقالت عن المهت إنه ش وقالت عنه إنه خير أي أنه شر بوصفه ابن الخطيئة وهو خير من حيث أنه لواسطة بين المتناهي وانلامتناهي بين الإنسان وبين لله إذ هو أصا الفداء. ولذا كان الشعور الذي يتم به إدراك ماهية الموت مزدوجا: فهم قلق من ناحية بوصف الموت د ا، وهو سرور بوصفه خي اً من ناحية أخرى. وكانت نتيجة هذا أنها ل تستطع أن تصا إلى دراك ماهية الموت إدراكاً حقيقياً، ما دامت لم تأخذ بالمصدر لأصلي اخقيفي للمع فة فبما يتعلق بالموت، ونعني به القلق ال٨١١)
وعلى كل حال فإن المسيحية استطاعت أن تضع مشكلة الموت وضعاً حقيقيأ، ولهذا كان لها أثر كبير في جميع الفلاسفة الذين حاولو من بعد وضع مشكلة لموت -
والعلة في أن النظرة الأخالاقية قد حالت بين لمسيحية وبين إدراك اموت إدراكاً حقيقياً،هي أن نظرنها إلى الموت بوصفه شراً جعلتها تنظر إليه على أنه مضاد للحياة، مع أنها قالت إنه عنصر مكون للوجود. فالواقع أن هذا القول إذ فسر تفسيراً وجودياً صرفاً، وبصرف النظر عن كل تقويم أخلاقي، يدل على أن اموت جزء من الحياة وأنه ليس مضاداً لها فلكي تكون النظرة إنى الموت صحيحة يجب أن نجعل اموت جزءاً من الحياة، وهذا ما فعلته فلسفة الحياة: خصوصاً عند أشهر مثليها من الألمار، نعني نيتشه وزمل. فقد قال نيتته : «حذار أد تقول إن الموت مضاد للحياة«. ولكن كيف السبيا إلى جعل الموت جزءاً من الحياة؟.
إد أصحاب المذهب الحيوي يقولو إنه ليس خارج الحياة شيء ، فالحياة هي الكل . ومعنى هذا أن الموت يجب أن يفسر أيضاً بالحياة وأن تفسر الحياة بدورها بالموت. ولهذ يقول زمل ان(١١٦٦أ5 «إن الحياة تقتضي بطبيعتها الموت، بحبانه هذا الشيء الاخر الذي بالنسبة إليه تصير شيئا، والذي بدونه لن يكون لهذا الشيء معناه وصورته. « إن الحياة تقتضي الموت إذا، وما هو حي هو وحده الذي يموت وما الموت إلا حد للحياة، هو الصورة لتي تلبسها الحياة وتحطمها من بعد، وهذه الصورة لا توجد في اللحظة الأخيرة فحسب، با توجد في كل لحظة من لحظات الحياة، وتعين مضمون هذه اللحظات. هي صورة باطنة إذ توجد منذ بدء الحياة وبدونها ستكون الحياة منذ البدء شيثاً آخر . اموت باطن في الحياة ومحايث immanent لها إذاً، وليس عالياً transcendant عليها، لأن الموت العالي على الحياة حادث خارجي عرضي صرف. والخلاعة إذاً أن اموت حالة من حالات الحياة، حالة ضرورية تكون فيها الحياة منذ البدء، وهذا ما عبر عنه أحد كتاب العصور الوسطى في قصة «الفلاح البوهيمي» حين قال: «منذ أن يأتي الإنسان إلى الحياة،، يكون بالفعل في شيخوخة الموت». فالنهاية إذاً في حالة الموت هي كانتهاء لنمو والنضج بالنسبة إلى الثمار، فنحن في هذه الحالة لا نقول عن النضج انه جاء دفعة واحدة، وفي للحظة لأخيرة التي تم فيها النضج، وكأنه شيء منفصل قد ألصق بالثمرة أو كأنه خاتم ختمت به؛ وإنما النضج فعل مستم ابتدأ منذ ميلاد الثم ة وإستمر يساير حياتها لحظة بعد لحظة حتى أتت نهايتها، وهي تمام النضج. ومثل هذ أيضاً يقال عن الموت، فهو موجود متطور منذ بداية الحياة، هو مقارن للحياة إذن لاينفصل عنها أنى وجدت.
وهنا تنشأ مشكلة اخرى: فها صحيح أن الموت مثا لنضوج؟ ها صحيح أن النهاية هنا معناها التمام والكمال وتحقيق كا الإمكانيات؟ نظن أن نظرة بيطة إلى الطريقة التي بها يختار اموت ضحاياه تكفي لإقناعنا بعكس هذا، فهو تارة يطيل حياة الناس حتى لتكون قد استنفذت كل إمكانياتها وزيادة؛ وطوراً اخر - لعله أن يكون الأكثر حدوثا - يقصر حياة الناس حتى لا تكاد هذه الحياة أن
تكون قد حققت غير جزء ضئيل من إمكانياتها، بينما ظلت بفية الإمكانيات مؤجلة لا سبيل مطلقاً إلى وفأئها. ومعنى هذ أر النهاية يجب أن تفسرتفسيراً آخر غيرتنسيرها بأنها تضوج، تفسيراً إذن يجمع بين الوجود والموت من ناحية، ومن ناحية أخرى لا يفترض وجود اموت في الوجود أو الحياة على صورة تطور نحو غاية، أعني أن الوجه د مجب أن يفسر من جديد على انه يقتضي من حيث جوهره الفناء، وأن افناء حالة وجودية يكون فيها الوجود منذ كينونته؛ وهذا معناه أيضاً إقامة مذهب في الوجود جديد على هذا الأساس، وهذا ما حاولت أن تفعله فلسفة الوجود عند هيدجر Heidegger ثم يسيرز Jaspers.
بدأت هذه الفلسفة بحثها في الوجود بالكشف عن المصدر الحقيقي لمعرفة الوجهد، فقلبت الوضع الذي وضعنا فيه ديكارت منذ أوائل العصر الحديث حين جعا لفكر أساس الوجود، مما أدى إلى قيام تلك المشكلة الكبرى - مشكلة نظرية المعرفة - وهي المشكلة لتي تدور حول الصلة بين الذات وبين الموضوع. فهل الموضوع من نتاج الذات، أو عال transcendant على الذات؟ وعلى أساس الوضع لذي اختاره المرء في نظرته إلى الصلة بين الاثنين قام امذهبان الرئيسيان في الفلسفة، وأعني بط مذهب المثالية ومذهب الواقعية. واستمر النزاع قائما بين المذهبين حتى جاء هسرل Husserl في أوائل هذا القرن، فأقام بناء فلسفة جديدة هي فلسفة الظاهريات phanomenoiogie على أساس فكرة الإحالة المتباذلة intentionalité . وخلاصة هذه لفلسفة هي أن هناك دائم إحالة متبادلة بين الذات وبين الموضوع، فالا وجود للذات إلا من حيث كونها محيلة إلى الموضوع، كما أنه لا وجود للموضوع إلا على أساس أنه محيل إلى ذات. وحينئذ أق تلميذه هيدجر فطبق هذه الفكرة على الوجود متأثراً من ناحية أخرى بمذهب الفعليين pragmatisme ، فقال إن الوجود في هذا العالم بالنسبة إلى الأشياء وجود إحالة متبادلة على أساس أن كل شيء لا بد أن يكون أداة لشيء آخر، أي «من أجل» شيء آخر، وهذه «المن أجلية» هي جوهر الوجود في العالم. فإذا كان كل شيء «من أجل» شيء آخر، فإن الصلة إذاً بين لأشياء صلة «اهتمام» Besorgen، بمعنى أن الإنسان وقد قذف به في هذا العاط سيجهل نفسه في هذا العالم، ولكنه لن يجهل هذه الأشياء التي هي مصدر عنايته وجزعه ومخاوفه واماله ٠ وإنا ستكون هذه الأشياء مصدراً «لاهتمامه» بها، أي معرفته إياها. ومن هنا فإن المعرفة لن تكون كما صورها انفلاسفة من قبل نوعاً من الانعكاس الخالص على النفس كما ينعكس اي شيء على مرآة، وإنما ستكون المعرفة داه مطبوعة بطابع عاطفي انفعا لي، فإذا أضفنا هذا العنصر العاطفي لانفعالي إلى صلة ',الاهتمام» استحالت هذه الصلة إلى صلة هم Sorge .
ونحن قد استعملنا حتى الآن كلمة «وجود» استعمالاً عامأ ,الواقع أنه يجب أن يفرف بين نوعي من لوجود: النوع الأول هو ما يمكن أل نسميه باسم «الآنية» ترجمة للكلمة الألمانية Dasein وهى كلمة من العسير أن نجد فا مقالاً دقيقاً في أية لغة أخرى من اللغات ل معروفة لدينا، ومعناها وجود الأشياء حاضرة بالفعل، والنوع الثاني هو ما يمكن أن يسمى باسم «الوجود اماهوي» Existenz، لأنه يقصد به ماهية الوجود وهذه التفرقة تقوم على أساس التفرقة المشهورة والتي تلعب أخطر دور في الفلسفة اليوم، وأعني بها التفرقة بين «الواقعية» Wirklichkeit «والإمكانية» Möglichkeit: فالنوع الأول من الوجود هو الوجود الواقعي ، والثافي هو الوجود الإمكاني أو الماهوي والصلة بين الوجود الماهوي وبين الوجود الواقعي أو « الآنية » على أنحاء نلاثة : نمن حيث ن الآنية تشير مقدما إلى إمكانيات لم تتحقق بعد تسمى لصلة إضماراً وتصميما Entwurf projet، ومن حيث أن لوجود اماهوي انتقل إلى حالة تحقق فصار «الآنية«، وإن كان جزء ضئيل من الإمكانيات هو فقط الذي تحقق، تسمى الصلة واقعية Fakzitat, effectivité، ومن حيث أن لآنية هي وجود بين أشياء أووجود في العالم تسمى الصلة حينثن سقوطاً Verfallen, déchéance وهذه هي الخصائص لرئيسبة «للأنية». ونحن قد قلنا إن «الهم» هو لطابع الأصلي للوجود، ونقصد بالوجود هنا «الآنية»، فلا بد إذن أن نجد في «الهم» هذه الخصائص الرئيسية الثلاث. ولهذا نجد هبد جر يعرف ا لهم بأنه : 1« ا لوجود ا لذ ا تي - مع الإمكان - بالفعل - في العالم» - ٧0٣22 - 62100 - in - Sich der-weit - sein. وواضح أن هذا التعريف يعبر عن تلك الخصانص الرئيسية. فقوله: «مع الإمكان» يعبر عن الإضمار والتصميم، وقوله «بالفعل» يعبر عن الواقعية،
وفوله «في العالم» يعبر عن السقوط. أما قوله: «الذ!قتي» فراجع إلى «الآنية». فقذ قلن إن الإحالة المتبادلة هي طابع الوجود، اعني أن كل «شيء لا بد أن يحيل إلى شيء آخر» . إلا أن عذه الإحالة إلى آخر لا بمكن أن تستمر إلى غير نهاية، يل لا بد أن تصل إنى شيء لا يحيل إلى غير داته، وهذ الشي، هو «الآية»؛ فه يحيا إذا إنى داته، ومن هنا قلنا: «ذاقتي في تعريفنا لنفظ «هم». وخلاصة هذا كله أن «الآنية» في هم من أحا ذاتها؛ أو بعبارة أخى «الآنية» مهمومت بإمكانياتها الذاتية
ثم إن هذه الصفات تثير إلى طابع أصلي اخر للوجود، فإننا إذا تعمقنا في معنى الصلة الأولى وهي صلة لإضمار والتصميم لوجدا أنها تدل على أن «هذا الوجود» يضمر ويصمم إمكانيات ذاتية باستمرار أو بعبارة أخرى ال «الآنية» في تصميم بالنسبة إلى ماهيتها. والتصميم إشارة إلى شيء لي يتحقق بعد بالفعل ويمكن أن يتحقق في المستقبل، ومعنى هذا أن هذه العلة تتسم بسمة ا لا تقبا ى. وعلى العكس من هذا نجد أن الصلة الثانية وهي صلة الواقعية، تدل بوضوح على أن التحقق للإمكانيات قد كان ، أعؤ أغها تتسم بسمة ١ لمضي ٠ وأخيراً سجد لصلة اكالثة مطبوعة بطابع الحضور، لأنبا تدل على الوجود حاض أ بي أشياء. فكأن «الآنية» إذاً تتسم بسمة الاستقباح والمضي ه ا خضرر أي بانات ١لزم،ان الثلاثة، أي أن جوهر الجود ه الزمانية، فالزمانية إذاً طابع أصلي للوجود. وهنا يلاحظ أن الزمان قذ فسر تفسيراً جديداً واله اقع أى هيدجر قد ثار على التفسب لمألوف للزمان على أساس أنه عبارة ني' خط مستمر مقسم إلى آنات ثلاثة متتالية، كما ثار قبله بقليل بجسون واشينجلر، نظرا لما في هذه النظرة الآلية للزمان من تشويه لحقيقته لأننا في هذه الحالة نتصور الزمان على أساس لمكان ، مع أن الزمان والمكان مختلفان كل الاختلاف. وكما نعت برجسون هذا الزمان متصوراً على هذا النحو بأنه زمان آلى، وصف هيدجر هذا الزمان بأنه زمان غير حقيقي ، هو زمان الساعات والحياة العملية ٠ أما الزمان الحقيقي فهو الزمان الوجودي أو الزمانية وهو هذا الذي فسرناه مند قلي ، ومن هذا التفسير يتبين لنا بوضوح أن صفات الوجود لأصلية هي عينها صفات لزمانية، ومعفى ذا أن الوجود والزمان شيء واخد.
فلننظر الآن في ماهية هذا الزمان الوجودي أو الزماذة، فنقول أولاً إن هيدجر يميز بين هذه الأحوال الثلاث للزمانية من حيث المرتبة فيجعل المرتبة الأولى للحالة الأولى وهي حالة المستقبا «فالزمانية لأصيلة
لحقيقية تصير في حالة المانية اتداء من لمستقبل الحقيفي، حتى انها لته فظ لحاضر أن تكون هي مستقبلاً فد كان، فالظاهرة الأولية للزمانية لأصلية لحفيقية إذاً هي ألمستقبل» . ونستطيع أن نفسر هذا بعبارة أخ ى فنقول : إن ماهية «الأنية» هي الإمكانيات، والإمكانيات أشياء لم تتحقق بعد، أي أنها في حالة الاستقبال , فالمسنقبل إذن جوهر الوجه د ونظراً فذه الأهمية الكبرى للمستقبل، يجب علينا أن نحلا مضمونه .
في المستقبل تكون «الآنية» في حالة إضمار وتصميم وتوقع مستمر بالنسبة إلى ذاتها، نظراً إلى أن الوجود لكلي لم يتحقق بعد بتمامه بأن بقيت فيه إمكانبات أخرى لم تزل غير متحققة ومعنى هذا أن «الآنية» - حالة المستقبل- لا بمكن أن تك ن كلأ تاماً، بل لا بد أن يوجد فيها باستمرار «نقص» بسبب عدم تحقق جميع الإمكانيات؛ أي أن «الآنية»، على حد تعبير هيدجر، في حالة «تأنجيل« باستمرار. وفكرة التأجيل Ausstand . sursis، هذه من بين الأفكار التي عني هيدجر بتعمق معناها إلى حد بعيد، نظراً لما لها من إهمية رئيسية بالنسبة إلى مشكلة الموت. وخلاصة ما قاله في هذا التحليل أن معناها «لي بعد»، وهذه يمكن أن تفهم بمعنيين: فقد تكون بمعنى أن شيئاً نيس في المتناول في لحظة ما) كما يقال عن باقي دين: لم يدفع بعد، أي أننا في هذه الحالة نجن ى، الشيء ونجعل منه اجزاء ميسرة الآن وأخرى ستأتي فتضاف - مجرد إضافة - إلى الأجزاء السابقة. وظاهر أن هذا المعنى لا يمكن أن يكون المقصود من التأجيل حينمأ يقال عن «الآنية» إنها في حالة تأجيل مستمر، لأن «الآنية» لا يمكن أن نقسم إلى اجزاء هذا لتقسيم لألي، خصوصاً إذا لاحظنا أن المؤجل أو « الذي «ليس بعداا عنصر جوهري في «الآنية»، فهذا الوجود هو عينه مؤجله. وإذا كان كذلك، فإن من جوه الوجود حينئذ هذا «الليس بعد» أو المؤجل؛ وهو موجودبوجوده.
وهذا «الليس بعد»، الذي هو عنصر جوهري في لوجود، معناه النقص، أي أن «هذا الوجود» ينقصه شيء
باستمرار، فهو إذن في حالة نقص مستمر. اجل، إن هذا «الليس بعد» إمكانية، ولكنها إمكانية ممتنعة التحقيق بالضرورة، لأنها عنصر جوهري في الوجود كماقلنا. بل هو أعلى درجة من درجات الإمكانية، لأنه إمكانية عامة، ولكنه أيضاً أعلى إمكانية لأعلى امتناع، لأن لامتناع هنا مطلق , -وخلاصة هذا كله أن من يين العناصر الجوهرية في الوجود بوجد عنصر الإمكانية المطلقة. وهذا هو الموت. لأن الموت هو إمكان «هذأ الوجود» أن لا يمكنه تحقيق حلور بعد، أو إمكانية الامتناع المطلق لهذا الوجود وليس وراء هذه الإمكانية حد، لأن الوجود. لا يستطيع مطلقاً أن يتخطى الموت، وإنما يوجد دائما من هذا الجانب من الموت ولا يمكن أن يكون وراءه. وما ليس له حد هو المطلق. إذن هذه الإمكانية مطلقة. وعلى هذا فإنه لما كانت الإمكانية إمكانية مطلقة، فالموت إذن هو الإمكانية المطلقة للاإمكانية المطلقة. وعلى هذا فإنه لما كانت لإمكانية المطلقة للاإمكانية امطلقة عنصراً جوهرياً في الوجود، فالموت إذن عنص جوهري في الوجود. فحيث يكون وجود، يكون بالضرورة موت. وبهذا المعنى وحده يجب أن يفهم الموت على أنه غهاية ٠ فلفظ «نهاية» يطلق بمعان عدة فبقال مثلا عن المطر إنه «انتهى» ، بمعنى انه انقطع انقطاع فناء؛ ويقال عن طريق في حالة بناء إنه «انتهى» هنا، بمعنى أنه انقطع ولكن لم يكمل بعد؛ ويقال ثالث عن طريق ننهى بناؤه إنه انقطع، أي ليس يعد هذ شيء منه باقياً؛ ويقال رابعاً عن لوحة تناولتها يد الفنان للمرة الأخيرة إنها انتهت، بمعنى انها كملت وبلغت تمامها. ولا يمكن أن يقال عن الموت إنه أنتهاء بأي معنى من هذه المعاني، لأنه لا يوجد من بين هذه المعافي للنهاية ما يفترض في الشيء المنتهي أن الأنتهاء موجود فيه منذ أن كان، بينما الموت - كما اثبتنا- موجود في الوجود منذ هو وجود أي منذ كينونته. وإنما يجب أن تفهم النهاية بالنسبة إلى لموت بمعنى أن الوجود منذ كينونته هو «وجود لغناءه Sein zum حلمن.
وتلك هي المشكلة الحقيقية للموت، فهى مشكله تناهي الوجود جوهرياً.
ولكن توجد الى جانبها مثاكل ثانوية للموت قد تفيدنا في دراسة هذه المشكلة الحقيقية، لكن بشرط أن يكون الأساس في بحث هذه المشاكل الثانوية هو المشكلة الحقيقية وأول هذه المشاكل الثانوية المشكلة النفسانية للموت، وتدور حول البحث في الشعور الإنساني نحو الموت، أولا بإزاء موت الذات الخاصة وثاياً بإزاء موت الآخرين. لكن يلاحظ هنا أن البحث في هذه امشكلة ليس بحثا في الأحوال النفسية عند الميت، با هى بالأحرى بحث في الأحوال النفسية عند ألمحتضر.
كذلك يمكن البحث في الموت من الناحية التقويمية، فنبحث في هل اموت خير أو شر؟ ولكن هذا البحث لا يتيسر إلا إذا بحثنا من قبل في ماهية الخيروماهية الشر من الناحية الميتافيزيقية الوجودية، أي أن البحث لا يتيسر إلا على أساس ما وصلنا إليه من نتائج في المثكلة الحقيقية. وفي هذه اناحية التقومية أيضاً بمكن البحث في الصلة يين الموت وبين المنطق، خصوصا فيما يتصل بمشكلة السلب بأنواعه من تناقض وتضاد , لأن المنطق يقوم - حتى الآن -على أساس قانون التناقض، بينما نجد ان مشكلة الموت قد بدا أنها قد انتهت إلى القضاء على هذا القانون.
كما نستطيع أيضاً ان نبحث في الصلة بين الموت وبين مسائل الإلهيات، خصوصاً فيما يتعلق بوجود الة ومالة الخلق من العدم، فإن هذه لمسانل ستأخذ وضعاً جديدا بعد البحث في المثكلة الحقيقية للموت.
وهكذا تجد اننا نستطيع ان نفيم مذهباً فلسفياً عام على اساس مشكلة الموت ينقسم تلك الأقسام الأربعة التقليدية للفلسفة. فيتناول أولاً الناحية الفلسفية بعنوان «ظاهريات الموت» ، ويتناول ثانياً الناحية التقويمية بعنوان «تقويمية لموت»، وثالثأ الناحية الإلهية بعنوان «إلهيات الموت»، ويتناول رابعاً وفي الدرجة الأولى الناحية الوجودية بعنوان ه وجوديات الموت لا . وهذا كله بشرط أ تكون الناحية الوجودية مثكلة الموت هي الأساس في كل بحث فيه،كماهو ظاهر مما قلناه.
وهذا المذهب الفلسفي العام لم يقم بناؤه بعد، وإنما نتهينا إلى تحديد المعنى الحقيقي مثكلة الموت بفضل هيدجر، وظفرنا بإشارات وملاحظات داخلة في نطاق «ظاهريات الموت» بفضل يسبرز وبقي إذاإقامة مذ المذهب كله على أساس البرنامج الذي رسمناه، أو على اي أساس آخر يتناول الموت من حيث كونه مركز التفكير الفلسفي ونقطة الإشعاع في النظرة الى الوجود.
والطور الحالي من أطوار الحضارة الأوروية يؤذن بوجوب قيام هذا المذهب، لأنه طور نهاية هذه الحضارة وأذان بقيام حضارة جديدة، وطور النهاية في لحضارة هو ذلك الطور الذي يسود فيه وجدان الليل بدلا من قانون النهار الذي يتحكم في أطوار النمو والنضوج للحضارة، ووجدان الليل يتعلق دائما بالجانب المظلم، جانب الفناء، ومن اجل هذايجعل^مركزتفكير٥ الموت. وعنده أن الأولوية للوجود على الفكر، بعك قانون النهار الذي يجعل الفكر أساس الوجود؛ ولهذ نرى أن العقل يسود بأحكامه عند قانون النهار، بينما العاطفة هي وسيلة المعرفة الرئيسية في نظر وجدان الليا . وليس من شك، بعد أبحاث اشبنجل في فلسفة الحضارة ومن جزى في إثره مثل برديائف ااعا٠ل٣ت13، في أن الطور الذي توجد فيه الحضارة الأوروبية اليوم هوطور النهاية
إلا أن جعل الموت مركز التفكير في الوجود يؤذن أيضاً بميلاد حضارة جديدة، لان روح الحضارء تستيقظ في اللحظة التي تتجه فيها بنظرها إلى الموت إتجاها يكشف لها عن سر الوجود، فكأن منطق الحضارة إذاً - سواء بالنسبة إلى الحضارة الأوروبية وإلى الحضارة الجديدة - يؤذن رجوب قيام هذا المذهب الجديد اليوم؛ والمسؤولية في إقامته مسؤولية مزدوجة كذلك.
فمن ذا الذي يريد أن يتحمل هذه المسؤولية؟.
خلاصة مذهبه الوجودي
الزمان الوجودي
غاية اموجود أن يجد ذاته وسط الوجود. فالوجود نوعان : مطلق ومعين ، وكلاهما يطلق بعدة معان ٠ أما المطلق فيمتاز خصوصاً بمميزات ثلاث أولها : أن تصوره أعم التصورات حتى إنه ليعلو على المقولات نفها . وإذا كان كذلك ، فهو غير فابل لأن يحد ، لأن الحد إنما يتم بالجنس والفصل ، وفك ة الوجود لا تدخل نحت أي جنس ، ما دامت أعم الأشياء ، وليس لها في ذاتها فصل نوعي ، لأنها غيرمتعينة أي تعين . وتلك خاصيته الثالثة ، إذ ما دام غير قابل لأن يحد ، فإنه سيكون غير معروف الماهية . ولكنه مع ذلك معروف الآنية ، لأنه الصفة الأولى كل الأولبة .
ومن شان هذه الخصائص الثلاث أن لا تقدم لنا عن الوجود المطلق فكرة واضحة ، مما كان مصدر الإشكال في خكرته باستم از فالواقع أل الوجود المطلق ليس وجودا حقيقياً ، لأنه إما وجود صرف فيه النظر عن كل تعين ولم نصل إليه في الواقع إلا بوساطة التجريد عن الواقع ، وإما وجود كلي على هيئة الروح المطلقة أو « الصورة » ٠ وهو أيضا ، وإن كان أقرب إلى العينية ، نوعمن التجريد ، إذ فيه يفنى الفرد في كلي غامض لا نسنطيع أن نحده إلا بواسطة الفرد .كما أن ما تضمنه من معان ، هي من خصائص الوجود الحقيقي ، قد فهم على نحو يسلبء هذأ الطابع .
إنما الوجه د الحقيقي هو وجود الفردية ، والفردية هي الذاتية، والذاتية تقتضي الحرية والحرية معناها وجود الإمكانية.
ذلك أن الموجود المعين على ثلاثة أنحاء وجود الموضوع ، ووجود انذات ، والوجود في ذاته . أما وجود الموضوع فيقصد به وجود الموضوعات آلخارجية عن الذات لعارفة ، أي وجود الأشياء في الزمان والمكان ، سواء أكانت هذه الأشياء روحية أم مادية ، واقعية محسوسة أم مثالية ذهنية . والخاصية الرئيسية لهذا النو ء من الوجود أنه وجود أدوات ، أي أشياء يحيل بعضها إلى بعض ويستخدم بعضها من أجل بعض ، ثم إنه وجود ليس يعرف ذاته
أما الوجود الثاني ط أي وجود الذات ، فميزته الأولى أنه يعرف ذاته . ففيه الأنا في نسبة مع نفسه ، والإحالة فيه ، لا من الذات إلى الغير ، بل من الذات إلى الذات ، وهي إحالة لا تتسم بسمة الأداة ، بل بسمة التوتر الحي والكلية الخصبة التي تحاول أن تفض مضموغها به اسطة الإيغال لمستمرفي الاستبطان الذاتي. فوجود الذات إذن وجود شاعر بوجوده ، محيل إلى نفسه وقد سمينا الوجود الاول وجود موضوع لأنه وجود
بالنسبة إلى ذات ، أما إذا صرفنا النظ عن هذه النسبة ١ فإن هذ الوجود يمى لوجود في ذاته ، وهو لمسمى أحيانا ، خصوصاً عند « كنت » باسم الشيء في ذاته ، وهو وجود لا يبرره شيء ، وخيرما يقال عن فكرته إغها فرض محدد ، قصد به إلى وقف المع فة الإنسانية عند حد معله م ، ليس عليها ولا لها أن تتجاوزه . وهذا فإنه ينتسب بالأحرى إلى نظرية المعرفة ، عما يعفينا من البحث فيه هنا في مذهبنا الوجودي هذا
لم يبق إذن إلا وجودان : وجود الذات ووجود الموضوع . فهل نرد لأول الى الآخر ، كما فعلت المادية ؟ أو نرد الموضوعإلى الذات، كما فعلت المثالية ؟لاهذا ولا ذاك. إذ
وجود الذات لا يمكن أن يفهم مستقلا عن عالم الموضوعات الذي فيه تحقق الذات إمكانياتها عن طريق الفعل واستخدام الذوات الأخرى كأدوات في سبيل هذا التحقيق،لأنه لا بد لها أن تظهر في عالم تبذل فيه حريتها وتنتقل فيه ماهيتها من الإمكان إلى الواقع . أجل ، إن هذا سيؤدي:إلى سقوطها ، ولكنه سقوط ضروري ليس فيه معفى القدح ، وإلا بقيت إمكانية معلقة على هيئة وجودية ممكنة . ولا معنى للإمكان ، إن ظل دائما معلقاً ٠ كما لا نستطيع من ناحية أخرى أن نرد وجود الذات إلى وجود الموضوع لأن في هذا قضاء على الذاتية ، إذ تصبح الذات موضوعا من جملة الموضوعات في العالم ، وفي هذا إلغاء لجوهرها ولك أن تسأل بعد هذا: ولماذا لا نعدها موضوعاً من جملة الموضوعات في العالم ؟ أوليست الذات الواحدة في مقاا ذوات أخرى لا تقل عنها ؟ أولسنا نضعها ، لا كذات كلية واحدة ، بل كذوات عدة ، وإلا وقعنا فيما حاولنا تجنبه من رفض قكرة الكلي المطلق ؟ .
والجواب عن هذا يستدعي البحث في معنى الذات التي نقصد ها هنا .
أما الذات فهي الأنا المريد . والشعور بالذات إنما يتم في هذا القول أنا أريد ولكي يجدالمرء ذاته ، فعليه أن ينشدها في فعل الإرادة ، لا في الفكر كفكر، أي كحالة لا كعملية ٠ ومن هنا كان الخطأ الأكبر في مقالة ديكارت المعروفة . لأن الفكر كفكر لا يمكن مطلقاً ان يؤدي إلى الوجود ، وبالتالي إلى إثبات وجود الذات، اللهم إلا إذا فهمنا الفكر بمعنى فعل الفكر ، فبهذا وحده يمكن إنقاذ مقالة ديكارت . ولكنه إنقاذ لا يمكن أن يفيده في شيء ، لأننا سنكون حينئذ بإزاء مصادرة على المطلوب الأول أو بإزاء تحصيل حاصل على أقل تقدير . لأن معنى هذه المقالة سيكون في هذه الحالة : « أنا ، أنا الذات المفكرة ، موجود» . ولن نكون حينئذ بازاء نتقال من الفكر إلى الوجود ، با انتقان من الذات إلى الوجود ، أو ، والمعنى واحد ، من الوجود إلى الوجود ، أي أننا هنا بإزاء تحصيل حاصل.
إنما يتم الشعور بالذات حقا في فعل الإرادة ،كما لاحظ مين دي بيران بحق : فهو شعور بالأنا المريد ولما كانت الإرادة تقتضي الحرية ولا تقوم إلاها، فالشعور بالذات يقتضي الشعور بالحرية ومن هنا فإن الذات والإرادة والحرية معان متشابكة يقتضي بعضها بعضاً . ولذا فإن الشعور بالذات يزداد بمقدار ازدياد الشعور بالحرية . والذات الحقة ، الذات البكر التي تستمد وجودها من الينبوع الصافي للوجود الحقيقي ، هي الذات الحرة إلى أقصى درجات الحرية ، الحاملة لمسؤوليتها بكل ما تتضمنه من خطر أو قلق أو تضحية .
لكن الحرية تقتضي الإمكانية ، لأن الحرية تتضمن الاختيار ، وكل اختيارهو اختيار ين عمكنات ، فإذا كان جوهر الذات في الحرية ، فماهيتها تقوم إذن في الامكانية وهذه الامكانية ليست مطلقة ، أي خالية من كل تحقق ، بل لا بد لها من أن تتحقق . ومعنى تحققها أن تختار من بين الممكنات حتى إذا ما تم الاختيار ، انتقلت الذات من حالة الحرية الى حالة الضرورة، والضرورة هنا هي تحقق الإمكانية على هيئة وجود في العالم، ومن هنا أيضاً تثبت ضرورة وجود الذات في العالم بين أشياء .
نحن إذن بإزاء نوعين من وجود الذات : ذات مريدة حرة لا تحتوي غيرإمكانيات لم يأن لها أن تتحفق بعد ، وذات قد اختارت فحققت بعض إمكانياتها ، وهي في طريقها إلى تحقيق الكل ، إن أمكن . ووجود الذات على النحو الأول هو ما يسمى باسم الوجود الذاقي الممكن ، ولما كانت هذه الإمكانيات جوهر الذات ، وماهيتها فيمكن أن يمى باسم الوجود الماهوي , وهو وجود يمتاز خصوصاً بالحرية المطلقة . والصلة فيه ليست صلة بين ذات وأخرى أو بين ذات وأشياء في العالم، وإنما هي صلة بين الذات وبين نفسها، اما الذات التي اختارت فيتحقق وجودها على هينة الآنية ، أي الوجود -في- العالم بين أشياء .
والوجود الحقيقي الأصيل للذات هو الوجود الماهوي ، لأن الصلة فيه بين الذات وبين نفسها . وهذه الذات إذن فردية إلى أقصى حدود الفردية وهذه الفردبة المطلقة، أو هذا الأنا، هو إذن الوجود الأصيل الذي أصدر عنه في كل أفكاري وأفعالي وهي حينئذ في حانة عزلة كاملة ، وحيدة مع مؤ وليتها الهائلة ، شاعرة بأن لها معنى لاغهائيا ، شعورا يصدر إليها من كون حريتها مطلقة . وهي حال تقرب من تلك التي نشدها كبار الصوفية وعبرت عنها القديسة تريزا الآبلية في فولها : < انا وحدي مع الله وحده » والوجود الحق إذن هو هذا الوجود الذاتي ، أما الوجود الموضوعي ، أعني الوجود بين الموضوعات والحياة على غرار الموضوعات ، فوجود زائف ، لأنني لا أكون فيه الكاً لذاى ، بقدر ما تكون لأشياء مالكة لى . والسقوط يأتي من الاتصال بأكبر عدد من الموضوعات . فالشرف في مرتبة الوجود يتناسب تناسباً عكسياً مع لاتصال بالغير أو بالأشياء .
والمهم في كل ما قلناه حتى الآن عن وجود الذات أن نفهم ان ثمة وجودين، وجودا للذات على هيثة إمكانية تنتقل إلى الواقع بفضل الحرية، فبواسطة الحرية التي للذات الممكنة تختار الذات بعضاً من أوجه الممكن وتحفقه عن طريق لإرادة ، وهذا التحقق العيني يتم في العالم ، ويسمى حينئذ بالآنية . وهذه الآنبة نوع من التفسير والفهم ، كما يتول هيدجر ، للوجود الممكن ، أعني عرض ما فيه ، لأن في هذا كيفية وجودها، ي أنها لا تتم إلا على هذا النحو، وإلا لما كان ثمة تحتق ، وبالتالي لم تكن ثمة انية. والمصدرالذي عنه تصدر الآنية في تفسيرها للوجود الممكن هو الزمان . ولذ فإن كل محاولة لفهم الوجود عامة ، والآنية بوجه خاص ، بدون الزمان محاولة فاشلة . فالزمان هو الشرط الأساسي في تكوين الأنية و وهوالعامل الأصلي في انتقال الوجودإلى حالة الآنية، والزمانية حالة جوهرية للوجود المتحقق ، أي للأنية . وعلى هذا فلا بد لنا ، لكي نفسر حقيقة الوجود عامة أن نلجأ إلى الزمان فنفسر الوجود من ناحيته ، وسنرى حيننذ أن ال مان يمكن أن يفسر به الطاع الأصلي للوجود، لكل ما في الوجود .
وعدم تفسير الوجود على أساس الزمان هو العلة في إخفاق كل ما قال به الفلاسفة من مذاهب في الوجود حتى الآن ، والذين حاولوا منهم إدخال الزمان - الى حد ما - في تفسيرهم لبعض أنحاء الوجود ، لم يفهموا الزمان بمعناه الحفيقي ، بل كانت لديهم عنه فك ة إما مبتذلة زائفة وإما نافصة ذلك أنهم فهموا الزمانية بمعنى الوجود « في الزمان »
ووفقا لهذا قموه أقسامأ : فقسم من الوجود يخصع للزمان ويجري فيه كأحداث الطبيعة والتاريخ ، وقسم لا يخضع له ولا يرتبط به كالنسب ال ياضية . وكل هذا في داخل هذا الوجود . ثم قموه قسمة ثنائية أخرى إلى وجود في الزمان ط هه الوجود الفاني ، ووجود فوق لزمان هو الوجود الأزلي الابدي ، وبينهما هوة حاول البعض اجتيازها بسلسلة من المتوسطات ، وقال البعض الآخر إنه ليس من الممكن عبورها .
والوضع الصحيح عندنا ان نفهم الوجود على أنه زمافي في جوهره وبطبيعته . وتبعا لهذا فإن كا ما يتصف بصفة الوجود لا بد أن يتصف بالزمانية . وليس معى الزمانية مجرد لوجود « في الزمان » ، وكأن الزمان إطار يجول فيه الوجود ، كما ينظر عادة إلى المكان فيخلط بين الزمان والمكان بل نقول فضلا عن هذا إن ما يدعون أنه » فوق الزمان » أو 1( خارج الزمان » هو أيضا زماني ، ما دمنا نعزو إليه صفة الوجود . وصفة الزمانية إذن تطبع كل موجود وتشيع فيه ، كروحه الحقيقية ؛ فالزمان هو المقوم الجوهري لماهية الوجود ، والعامل والفاعل في تحديد معناه .
وتفسير الوجود على هذا النحو فيه ثورة لا تقل في عنفها وخطر نتائجها عن تلك التي قام بها كوبرنيك في علم الفلك . فإذا كان كنت قد نعت مذهبه النقدي بأنه ثورة كوبرنيكية في نظرية المعرفة ، فإن في وسعنا أن ننعت مذهبنا هذا بأنه ثورة كوبرنيكية في علم الوجود .
وكل ثورة تبدأ يهدم الأوضاع السابقة ، لذا كان علينا أن ننقد عارضين ما قاله الفلاسفة من قبل في الزمان ، وغرضنا من هذا النقد ليس سلبياً كله بل هو إيجابي في أهم نتانجه ، وذلك بأن يكون النقد أداة لاستخلاص المشاكل والشكوك التي يتضمنها موضوع النظر ، ثم لوضعه بعد في الوضع الصحيح المؤدي الى تحقيق الغاية 1 وهي عندنا هنا تفسير الوجود على أساس الزمان .
والمذاهب التي وضعها السالفون من الفلاسفة في الزمان بمكن أ ترد !لى ثلاثة رئيسية المذهب الطبيعي ويمثله أرسطو الذي حلل لزمان تحليلاً يمكن أن يعد الصورة العليا لتفسير الزمان والوجود المرتبط به عند ا لأقدمحر، نم المذهب النقدي ، أي المتصل بنظرية المعرفة ، وهو الذي أقامه « كنت » وسار عليه من تأثره حتى نهاية القرن الماضي ، والثالث هو المذهب الحيوي الذي فصله برجسون . هذا في داخل ميدان الفلسفة ، أما في الفيزياء فثمة مذهبان رئيسيان المذهب المطلق ، ويمثله خصوصاً نيوتن ، والمذهب النسبي الذي وضعه إينشتين .
ومن هذا البحث النقدي نستطيع أن نستخلص النتائج العامة اكاب:
١ - أن الزمان نوعان . زمان فيزيائي ، وزمان ذاقي ، وسنسميه بعد بالزمان الوجودي .
٢- أن مشكلة الزمان مرتبطة تمام الارتباط بمشكلة الوجود بوجه عام ؛ وسنرى أن الزمان عامل جوهري مقوم للوجود .
٣-أن الوجود وجودان : وجود الذات ، ووجود الموضوع، ولكن الوجود الأصيل - بالنسبة إلى الإنسان على
الأقل- هو وجود الذات، حتى إننا سننتهي في اخر الأمر إلىقصر الوجود على وجود الذات.
٤- أن المقولتين الرئيسيتين اللتين يتعين جهما الوجود هما الواقع والإمكان ونبعاً لهما ينقسم الوجود إلى وجود ماهوي ، وانية .
ها_ أن الحرية هي الصفة الأولى لوجود الذات ، وهذا يستخلص من النتيجة السابقة أي كنتيجة لفكرة الإمكان كما بيناها ، والصلة بينها وبين الواقع .
٦ - أن مشافة الوجود لنفه يجب ان تعد المسلمة الأولى التي على أساسها يجب أن يوضع كل مذهب في الوجود والأخلاق ، وأن فكرة التوتر هي الفكرة التي يجب أن تسود كل نظرة وجودية وأخلاقية .
٧ - أن العقل المنطقي ليس هو الملكة الوحيدة التي يستطيع المرء بها أن يدرك حقيقة الوجود الحي تلك أهم النتائج ، والناظر إليها يلمح فيها القمات العامة لمذهب في الوجود.
إن الشعور بالوجود لا يكون قوياً عن طريق الفكر المجرد لأن الفكر المجرد انتزاع للنفس من تيار الوجود الحي وانعزال في مملكة أخرى تذهب منها الحياة المتوترة الحادة ، ولا يسودها فعل وحركة، بل صيغ خارجية عن الوجود الحي لا تنبض بدمه . إنما يتم هذ الشعورحقاً في حالة الفعل لباطن المنشب أظفاره في الحياة المضطربة ، في حالة التجربة الحية التي تستطيع فيها أن تكون على اتصال مباشربالوجود في توتره وهذا إنما يتم بملكة خاصة غير العقل ، لسنا ندري كيف نسميها ، ولعل خيرلفظ يعبر عنها هو الكلمة العربية « وجدان » ، على أن نفهم هذا اللفظ بمعنى الملكة التي نعاني بها الوجود بما هو عليه في نسيجه المتوتر على حال العاطفة وقوة الإرادة , وقد استعملنا كلمة « معاناة » لكي نزيل فكرة العيان : الرؤ ية ، وندل على أننا هنا بإزاء إدراك لا يتم إلا في تجربة حبة مباشرة ، لا يراعى فيها نسبة بين ذات وموضوع ، بل استبطان مباشر من الذات لنفسها . ومن أهم نتائج القول يهذه الملكة إزالة المشكلة الكبرى في نظرية المعرفة ، مشكلة الذات والموضوع ، وهي مشكلة لم تستطع فكرة الإحالة المتبادلة في ظاهريات هرل أن تحلها ، لأنه استعان بفكرة الماهيات الخالصة ، وهي فكرة تعود بنا إلى الصور الأفلاطونية ، وفي هذا إمعان في التجريد ، مع أننا نريد الوصول إلى العيفي المتقوم قدر المستطاع ، فضلا عن أن نصيب اموضوع لا يزال كبيراً كما أن التجربة امحيلة ذات طابع عقلي تجريدي واضح ، أما نحن فنرفض . المشكلة على اساس أغها مشكلة تتصل بالوجود الفيزيائي ، لا بالوجود الذاتي لأنه إذا كانت ثمة إحالة في هذا الوجود الأخير ، فذلك إنما يكون من الذات إلى الذات،فلامعنىبعد للانقسام إلى ذات وموضوع ، فضلاً عن أن التجربة هنا مباشرة فيها تخضر الذات نفسها بلا واسطة من صور أو كليات
والوجدان يكون إذن عالم للإدراك يختلف تماماً عن عالم الإدراك الذي يكونه العقل ، ولكن ليس معنى هذا أنهما مستقلان تمام الاستقلال، يل عالم الإدراك العقلي في خدمة عالم الإدراك الوجداني ، وبهذا نود أن نفهم ما ينسب إلى العقل من وظيفة إيجاد الأدوات والآلات . فنحن نفهم هذا على أن عمل العقل يختص بالوجود الفيزيائي ، والوجود الذاتي إنما يتحقق ما به من إمكانيات في العالم ، أي في الوجود الفيزيائي ، بأن يتخذ من الأشياء أدوات للتحقيق ، والعقل هو الذي يصنع هذه الأدوات ، فالعالم العقلي اذن مهيأ لخدمة العالم الوجداني ٠
وموقفنا من العقل هنا ليس موقف تحقير لشأنه ، بل العكس ، نحن نريد التفرقة الدقيقة بين ميدانه وميدان غيره ، وليس في هذا أي معنى من معاني التقويم .
أما عن تحديد طبيعة الوجدان من الناحية الفسيولوجية ، وهل هناك حقاً ملكة قائمة بذاتها من هذا النوع ، فأمر لا نحسبنا بحاجة الى الخوض فيه ، أولاً لأن تحديد المراكز العقلية جسمان ياً قد ثبت أنه مستحيل ، وثانياً لأن فكرة لملكات فكرة عتيقة عفي عليها من زمان بعيد ، فلا معفى لإثارتها بالنسبة إلى الوجدان.
والإدراك بواسطة الوجدان يتم وفقاً لقولات خاصة ، تختلف تماماً عن مقولات العقل 1 وهي التي لم يعن الفلاسفة بغيرها حتى الآن ٠ ولوضع لوحة هذه امقولات يجب أن يراعى الطابع الديالكتيكى لكل ما هو موجود ، لأن الوجود كما قلنا نسيج الأضداد ، وكل ما فيه يتصف بصفة التقابل ، لأن الإمكان حين يستحيل إلى قعل لا يفقد بهذا طابع الممكن ، والممكن جامع بين النقيضين لأن الإمكان بمعناه الحي الحقيقي لا بد أن يشمل القطبين المتنافرين،وإلا فلا معنى للإمكان حينئذ . فكل موجود يتردد إذن بين قطبين متنافرين يضمهما في داخل ذاته . وهذا الاستقطاب هو في سياقه وتطوره ما نسميه بالديالكتيك فالفارق بين الاثنين أن الأول منظور اليه من ناحية
خطر أمان
خطر آمن
طفرة
مواصلة
طفرة متصلة
تهابط
تعال متهابط
السكون، والثاني من ناحية الجركة، فالديالكتيك هو لانسياق الحركي للاستقطاب . والديالكتيك عندنا غيره عند هيجل ، لأنه عند هيجل منطق عقلي ، وعندنا أنه الانسياق الوجودي الصادرعن العاطفة والإرادة، وهذا الطابع العقلي للديالكتيك عند هيجا هو الذي أفسد عصبه الحقيقي أعني التعارض ، مما اضطره الى فكرة الرفع ، التي هي المنفذ الواهي لنطق هيجل ، ولو كان جريثا في منطقه ، لاحتفظ له بالطابع الحركي على الدوام . ونحن نحتفظ للديالكتيك م ا الطابع إلى أقصى درجة ، لأن العاطفة والإرادة والفعل بوجه عام تمتاز بالحركة المستمرة والمدة الدائبة السيلان والتغيير الثاما للأضداد ٠
فلا مناص إذن من أن نجعا للديالكتيك هذا الطابع ، وسنسميه باسم التوتر . فالتوتر معناه قيام المتقابلين مع بعضهما في وحدة لا يتخللها سكون أو توقف .
لهذا كان لا بد للمقولات من أن تمتاز بالتقابل ، ثم بالتوتر . ولذاسنجد لوحتها مكونة من زوج وج، ولكلزوج وحدة متوترة فيها جمع معا للمتقابلين مع الاحتفاظ بما لهما من استقطاب في أوج شدته ، ونذا لن سمي الوحدة باسم جديد ، بل باسم مركب من المتقابلين معاً حتى يحتفظ تماماً بهذا التوتر.
وقد انتهينا إلى وضع هذه اللوحة من تأمل لأحوال السائدة المحددة لكل ما عداها بالنسبة إلى كل من العاطفة والإرادة ، ولذا انقسمت أولاً إلى قسمين : واحد خاص بالعاطفة ، والأخر خاص بالإرادة ، وكل منهما ينقسم بدوره ثلاثة أقسام ، وكل قسم من الثلاثة يتركب من متقابلين ووحدة متوترة ، فلدينا إذن ثلاث مرة أخرى - مما بكون ثماني عشرة
مقولة ، هى :
ع|اطغة
قلق حب أصل: تألم
طمنينة كراهية مقابل: سرور
قلق مطمئن ح كاره وحدة متوترة : تألم سار
أصل :
مقابل :
وحدة متوترة :
يلوي
ويجب أن يلاحظ هنا أن كلمة « أصل » لا يقصيد منها أن المقولة المقابلة مشتقة منه ومتف عة عنه ، بل كلا الأصل والمقابل إيجاي ، وكلاهما محدد لارخر ، ما يتبين بوضوح في الوحدة المتوترة التي فيها تؤكد إيجاية كلا الطرفين لمتقابلين بكل ما فيهما من نفور وتناقض .
والمجال هنا ليس مجال دراسة هذه المقولات من الناحية النفسانية ، فإن بحثنا هذا بحث في علم الوجود لا صلة له بشي ء من هذا إنما يتجه نظرنا إلى بيان مدلوفا الوجودي ، أعني معناها من حيث تكوين طبيعة وجود الذات المفردة , فلنأخذ في بيان كا منها من هذه الناحية بإيجاز ٠
أما التألم فشعور الذات بأن شيئاً يحدها في وجودها العيني . فهي تريد أن تحقق إمكانياتها في العالم الذي قذفت به ، لأن الاتجاه الأصيل فيها هوتحقيق الإمكانيات بقدر الوسع والطاقة ، وتحقيق الإمكانيات يصطدم بالغير ، لأنه لا يجري في داخل لذات وحدها ، بل لا بد ن يجري في الغير ، وإن كان ذلك كوسيلة لإثراء الذات بأفعال جديدة . فإذا ما لاقت ، وهي بسبيل هذ التحقيق ، مقامة تألمت . وهذا يوضح لنا الأحوال المعروفة عن الألم مما لاحظه النفسانيون دون أن يستطيعوا تفسيره من الناحية الوجودية ، وأولها أن التألم يزداد مقداره ونوعه تبعاً لازدياد الرقي في سلم الكائنات . فهذا يفسره النفسانيون على أنه راجع إلى رقي الشعور كلما علا الكائن في سلم التطور ، وهذا ليس سن التفير في شيء ، إنما هو ت ديد لنفس المعنى بعبارة أخرى . أما نحن فنفسره من الناحية الوجودية على أساس أن الرقي في سلم لتطور معناه تحقيق الكائن لإمكانبات أكب ط نوعأ ومقداراً ، والتحقيق يلقى مقاومة من جانب الغير ، وإذن فكنا ازدادت الإمكانيات التي ستحفق زداد الألم الناتج تبعاً ل يادة لمقاوم . ولذ نرى لبدائي أقل تألما من المدني المتحضر، والتطور في داخل كل حضارة شاهد صادق على ما نقول ، إذ نحن نعلم أ عصر المدنية فيه يتألم الناس أكثر منهم في عصر الحضارة ، ففي الحضارة اليوانية يشاهد ازدياد الشعه ر بالألم في العصر الهلينى : فبدلاً من هذه انظرء الباسمة المقبلة على لحياء التي اتسم يا ليوناني في العصر الهومري ، رى في العصر الهليني وجوها شفها السقم ٠ وفي الحضارة الأوروية تشاهد الظاهرة بعينها : فالعهد السابق على الثورة الف نسية كال عهد إشراق وسعادة أكبر من العهد التالي لها ، حتى لنرى القرن التاسع عثر عبارة عن سلسلة من المتشائمين ابتداء م شوبنهور وإدورد فون
هرتمن ونيتشه حتى بودلير ودوستويفسكي ، وإلى اليوم عند هيدجر. وتفسيرهذاهوعلى نحوما قلنا، فقد ازدادت إمكانيات الإنسان القابلة للتحقق بواسطة النهضة الصناعية ، ففتحت المجال واسعاً أمام تحقيق أكبر عدد من الإمكانيات وبالتالي لملافاة اكبر مقاومة، وتبعاً لهذا معاناة أوفر قط من التألم. وبهذا المعنى يمكن أن يفسر قول روسم : إل الحضارة تسلب المرء السعادة
فالتألم مصدره الحد من تحقيق الامكانيات ، هو شعور من الذات الماهوية بأن ثمة مقاومة تعانيها من جانب الغير وهي تحقق ما بها من إمكانيات . ولما كان نحقيق الامكانيات الطابع الأصلي لوجود الذات على هيئة الآنية ، فإن لتألم إذن طابع أصيل للوجود الداني .
وهويتدرج تبعاً لمقدازا لمقاومة ونوعها . وبهذا يفسرمعفى التضحية وجوديا ، إذ العلة في سموها هو شرف الموضوع الآتية منه المقاومة ، وليس تضحية الجزء في سبيل الكل ، كما تدعي النظرة النفسانية المبتذلة.
والتضحية تكون الدرجة العليا للتألم ٠ ولذا فإنها في النقطة التي يجتمع فيها أعلى تألم مع أعلى سرور، فالأطراف في تماس كما يقال . إذ لا يشعر المرء بألم خالص كما في الأحوال الأخرى للتألم ، كما يشعر بسرور خالص على النحو المعانى في لحظات السرور، إنما هي تجمع بين الناحيتين وتفنيهما في لوع من الوحدة ، لم عمقت لكانت وحدة التوتر : فالشهيد الذي يعلوجبينه الأسف الباسم هو الذي يحقق هذه الوحدة المتوترة بين الألم والسرور، والمثل التاريخي الواضح عليه، سقراط الذي كان باسما في أشد لحظات المحنة . في هذه الوحدة المتوترة يبلغ الشعور بالذاتية والحرية أوجه لأنها جامعة بين النقيضين أو لضدين ، فهي تعبر إذن عن نسيج الوجود لحي أدق تعبير ٠
والتضحية هي نقطة التالاقى بين الألم والسرورما يفضى بنا إلى التحدث عن السرور . وتفسيره عندنا وجودياً هو أ الأصل هو الوجود الماهوي وينتقل إلى الآنية بواسطة تحقيق
الممكنات ، وتحقيق الممكنات هو الفعل ، والفعل إذن توكيد لإمكان ، وفي التوكيد شعور بالذاتية ، إذ فيه نقل لها من القوة إلى الفعل ، وكل ما يشعر بالذاتية على نحوليس به مقاومة هو السرور ٠ ويزداد السرور تبعاً لازدياد تحقيق لإمكانيات ، ويكون نوعه وفقأ لنوع ما يحقق منها . والدرجة العلبا للسرور هي تلك التي تملك فيها الذات نفسها بكل ما وسعها نحقيقه من إمكانيات . وهي حالة تصل أوجها في الإيثار المحقق لأقصى الإمكانيات الذاتية مع إغناء أكبر قدر من الذوات الغيرية في نفس لآن . وواضح أن الإيثار يلاقي التضحية في وحدة الألم السار، ففي كليهما طابع التوتر الصادر عن تعارض وتقابل في الاتجاه.
وبالإيثار قد انتقلنا إلى الثالوث الثاني في مقولات العاطفة، وهولمكون من الحب والكراهية في وحدة متوترة هي الحب الكاره، لأن الإيثار يتضمن معنى الحب بالنسبة إلى الغير ، وذلك حين ينتقل الشعور من الذات المفردة إلى ذوات أو أشياء مغايرة ٠ ولكن ليس معى هذ أننا قد انتقلنا ببذا من الذات الوجدية إلى الغير الوجودي ، بل بالعكس تماما ، فلا زلنا هنا في نطاق الوجود الذاي . والحب بالمعى الوجودي هو متصاص الذات للغيروإفناؤها له في داخلها ، والدافع اليه تملك الغير كأداة لتحقيق الممكن ومن هنا ارتبطت به فكرة التملك الخاص ، مما يسمونه الاخلاص في الحب أو الأمانه في الزواج إلى آخره ، لأن في هذ تحقيقاً للوجود الذاتي على نحو أكمل , ولهذا فإن الحب في لدرجة الأولى منه شعور باتساع الذات ونموها، وفي اعلاه بتعمقها وانتشارها مع وحدتها حتى تشمل كل الغيرية،كماهي الحال في لحب الصوفي الإلهي، وليس لهذا غيرمعنى واحد هوأن الذات قد اتسعت بوجودها حتى انتظمت كل شيء . ولما كان الحب كما فسرناه إفناء المعشوق في الذات ، فإنه يتصف أولا بأنه لا يشتط فيه لتبادل . ونانياً بأنه على ارتباط وثيق بالخلق والانتاج ، أي بغريزة النسل .
ولكن الحب في الدرجة العليا منه يصيرأئرة ، لأنه شعور لذات بأنها وحدها الموجودة حقا ، عما يولد إحساساً بالكراهية لكل ما عدا الذات . ولذا فقد أصاب من حللوا الكراهية بربطها بالحب ، حتى قال نيتثه إن الحب الأعمق هو أسمى كراهية .
والقمة انعليا التي يجتمع فيها أسمى حب مع أعلى كراهية هي « الغيرة » ، لأنها جامعة لأعمق محبة بالنسبة إلى المحبوب ، وأشد كراهية لما عداه . وهي لهذا حب كاره ، فهي إذن الوحدة المتوترة بين الحب والكراهية .
ولونظرنا إلى هذا الثالوث الثاني وقارناه بالثالوث الأول لوجدنا أن هذا كان يقول بمجرد التحقق للامكانيات على صورة الآنية ، أما الثالوث الثاني فيزيد عليه رغبة الذات في العلاء
بنفسها باستمرار وتحصيل تحقيقات في الوجود أتم . وهو لهذا قوة دافعة بالذات إلى اغناء نفسها حتى تبلغ أقصى درجة مكنة لتمام التحقق الفعلي ، ونزوع مستمر نحوبلوغ هذه الغاية ، ومن هنا امتاز بالحركة الدائبة وبالخلق والإيجاد ، وليس للغريزة الجنسية معنى غيرهذا من الناحية الوجودية , والثالوث الأول يعبر عن أشياء كائنة بالفعل ، أي يشير إلى تحفق مضى وكان ، بينما الثاني ض، عن تحقق لم يأت بعد وسيكون ، أي أن الأول مطبوع بطابع الماضي ، والثاني بطابع المستفبل . ومن هنا نرى أن الزمانية طابع ضروري فذين الثالوثين الكاشفين للذات عن طبيعة وجودها ، ونقون ضروري لأن الشعه ربكل ثالوث منهما لا يتم إلا وفف فذ الطابع : فالحب رأيناه دائي يشير إلى آب ل يحقق بعد ، وإلا انتهى ووقف ولم يكن ثمة حب . والألم والسرور يدلان على نحتق قد كأن ونتج عنه هذا الشعور اللاحق . فكل م هذين الثالرثين يكشف إذن عن طابع الزمانية كعنصر داخل في نركيب الوجود .
وإذ كان التالوث انأول قد كشف عن الماضي، والثاني عن المستقبل ح فسنجد الثالث يكشف عن الحاضر .
والقلى من أهم لأحوال العاطفية لتي عني بدراستها كيركجور وفي أثره هيدجر. وخلاصة تحليلهما أن ال تلق يكشف عن العدم , ونستطيع أن نفسر هذا بأن نقول إن الوجد الما هوي حين يصير متحققا في العالم ، تفقد الآنية ٢ذا القوط في العان بعضاً من إمكانياتها إذ لا تتحقق هذه الامكانيات حتى بالنسبة إلى شيء واحد خ وبالتالي ستظا ثمة أشياء لم تتحقق فالأنية إذن باعتبارها في .العالم يعوزها شيء ، وهذا العوز أو النقص هوالعدم الذي يشعربه الانسان في حال القلق ، إذ نشعر حينئذ بانزلاق كل الموجود ونحن من بينه . ولكن ليس معى هذا أننا نقوم بعملية تجريد سلبي كيما نبلغ العدم ، بل الشعور بالعدم في حال القلى يأتي قبلكل نفي وسلب .
ولكن القلق لا يكشف لناعنهذا الجانب لسلبي وحده ، بل يكشف لنا أيضاً عن جانب إيجابي . ذلك أن العدم ناشىء عن تحقق إمكانيات دون أخرى ، وبدون العدم إذن لن ينكشف لنا الوجود العيفي ، لأن الشرط في التحقق هو نبذ إمكانيات وأخذ أخرى تتعين في الوجود الحاضر في العالم . وهذا النبذ هو الفعل الناصء عنه العدم . وهذا العدم هو الأصل فيكل نفي وسلب نقوم به في داخل الوجود، وهو العنصر المكون للطابع الديالكتيكي لهذا الوجود العيني .
ولأن القلق يشعرنا بالعدم فإنه يرتبط بالحاضر ، ويقوم في الآن ، لأن الشعور في هذه الحالة لا يتعلق بلحظة ذات كيان ، بل ببرهة لا سمك فا إطلاقاً وهي ما نسميه باسم الآن . وإذا زاد القلق وبلغ أوجه ، شعرنا بأن الزمان قد وقف نهائياً ، وهذا الشعور بوقوف الزمان هو الشعور بالآن ، لأن لآن لا تجري فيه حركة . ومن هنا أيضاً ارتبط انقلق بالسرمدية ، وذلك عن طريق الآن .
وموقفنا من العدم في حال الموت خصوصاً يجب أن يكون موقف « حب المصير » الذي دعا إليه نيتشه ، وذلك بأن نعد هذا العدم الذي يقلق منه عنصراً جوهرياً في تركيب الوجود في العالم كما رأينا ٠ فتتولد لدينا طمأنينة من ناحية ما يقلق « منه 1) ٠ أما الطمأنينة بالنسبة إلى ما يقلق «عليه» فيمكن أن تأتي بالرضا عما تحقق بالفعل من إمكانيات ، والرجاء في تحقق أكبر قدر عكن ، وبهذا الرجاء تأخذ الطمأنينة طابعاً حركي ومن هنا نستطيع أ نقول إن الوحدة المتوت ة للقلق والطمأنينة توجد في حالين بوجه خاص : حال القلق من لموت ، وحال الطمأنينة في الرجاء ، وإن كان التوتر ليس قوياً كل القوة في كلتا الحالتين.
أما طابع الزمانية في حال الطمأنينة فهو « الآن » ، إذ نشعر إبانه بتباطوء الزمان .
وبذا ينتهي بياننا لمقولات العاطفة . ومنه يمكن أن نستنتج
١ - أن كا مقولة تكشف عن جانب من الوجود فالثالوث الاول عن الوجود بعد أن تحقق ، والثافي عنه وهوينرع إلى التحقق ، والثالث عنه في حالة التحقت الفعلي على هيئة ا لحضور بالفعا
٢ - أن كل جانب من هذه الجوانب يشير إلى طابع للزمانية باطن فيه بطوناً ضرورياً : فالأول يشير إلى اماضي ، والثاني إلى المستقبل والثالث إلى الحاضر.
٣- أن الزمان ,1 تبعاً خذ، طاع جوهري للوجود يعين كيفيا ته، ويحدد طبيعة أحواله .
٤- أن التوتر هو التركيب الأصلي للوجود، وفيه يبلغ لثعور بالوجود - وذلك إبان وحدة التوتر - أعلاه، فتكو الذات على اتصال بالينبوع اخي للوجود
٥ - أن أحوال العاطفة أحوال للوجود الذاتي في حال التحقق .
فالعاطفة إذن حال معبرة عن الوجود الذاقي في تحققه العيي - حال وجدانية لا فكرية - بمعنى ان الذات فيها مشتبكة مع نفسها مما ييسر لها إدراك الوجود على نحوأتم، إذ ليس من شك في أن الشعور بالوجود في حال الألم مثلا، أقوى منه في حال امعرفة بالألم، إذ في الأول اتصال مباشر بين الذات والوجود، بينا هنا في حال المعرفة اتصال غيرمباشر.
والحال أظهر في لإراذة منه في العاطفة : إذ الإرادة قوة للوجود الذاتي بها يحقق ما فيه من إمكانيات على هيئة وجود بالفعا في وسط لأشياء والذوات الأخرى . وهذه القوة مصدرها الحرية التي للذات في أن تعين نفسها بتحقيق إمكانياتها، فتختارمن بين اممكن أحد أوجهه وتنفذه بواسطة القدرة . وهذا الاختيار ليس معرفة بالأفضل، إنما هوفعل تعلق بأحد أوجه الممكن.وهذا الفعل أولى قد تصاحبه معرفة وقد لا تصاحبه .
ولما كان الممكن لانهاية له، وكان التقابل صفة جوهرية في كل موجود كانت الإرادة في حالة عدم تيقن بالنسبة إلى ما يجب عليها أن تتعلق به من أوجه الممكن، فلا يبقى أمامها حينئذ إلا أن تخاطر بأخذ أحد الأوجه، وإلا التاث عليها الأمر، وتوقفت عن الاختيار، وبالتالي عنالتحقيق.لهذا كانت المخاطرة الفعل الأول للإرادة، وكان الخطر أول مقولاتها . وفعل المخاطرة فعل لا معقول، ومع ذلك فهو وحده المؤدي إلى تحقيق الوجود، لأن تحقيق الوجود يستدعي المخاطرة، ولذا قال نيتشه : « الحياة بوجه عام معناها الوجود في حال الخطر» وفصل نظرياته في هذا بطريقة عامة غامضة نستطيع نحن أن نوضحها وفقا لمذهبنا هذا في كون الوجود مليئا بالأضداد المتساوية في درجة الإمكان، ولذا فإن اتخاذ أحد أوجه الممكن ينطوي بالضرورة على مخاطرة، ولا بد من اتخاذ أحد الأوجه حتى يتم تحقيق الممكن وبالتالي تحقيق الوجود. وكلما قل نصيب نعين أوجه الممكن من اليقين، زاد قدر الخطر. وعدم اليقين يزداد قدره كلما زدادت قيمة الفعل. فالخطر إذن طابع ضروري للوجود يزداد قدره وفقا لازدياد قدر الفعل ٠ ولهذافإنصاحب الأفعال الجليلةهولمخاطر لكبير، ومن لا يخاطر، لا يظفر بشيء .
والمخاطرة تتم بفعل واحد لا نستطيع أن نعين فيه اجزاء ، ولذا فإنها تتم في « لآن » ، وتشعربطابع الحضور في الزمانية ، ومن هنا أيضا تشعر بالسرمدية . وبهذا نستطيع أن نفسر أقوال كبار الساسة والقواد الذين يتحدثون عن الأفعال التي تنطوي على مخاطرة كبرى بأنها ستقرر مصاثر أمم لألف سنة مثلاً ٠ فهذا الشعور صادر عن الشعور بأنهم يخاطرونبفداحة، والمخاطرة تتم في الآن . وية، ى الشعور بالآن بقدر درجة امخاطرة وبالتالي هم يشعرون بنوع من السرمدية .
وهذا الثعور بالسرمدية هو الذي نجده في مقابل الخطر ، أي في الأمان إذ نحس فيه بعدم التغير . ولا ضيرعلى الذات من الشعور بالأمان ، إنما الضرر هو أد يكون مصدره وهماً . فالخطر الخالص مستحيل التحقيق ، والأمن الخالص مضاد للوجود الحي ، فلم يعد غير الخطر الآمن هو الذي يكفا للذات الوجود وتحقيق الإمكانيات في حرية ومسؤولية .
غير أن الانتقال من مخاطرة إلى أخرى لا يتم بطريق الاتصال ، بل منفصلاً، أي لابد للذات في سيرها أن تثب من فعل آخر. ولهذ فإن المقولة الثلاثية الثانية للإرادة هي مقولة «( الطفرة » .
ويدعونا إلى القول بالطفرة أن الوجود عندنا مكون من ذوات كل منها قائم بنفسه ، مغلق عليه في داخل ذاته . وقد يكون في مذهبنا هذ تجديد لفيثاغورية عفى عليها الزمان ، ولكن هذا لن يزيدنا إلا جسارة في توكين هذا الانفعال في طبيعة الوجود فمذهبنا هو أل الوجود مكون م ذوات منفصلة تمام الانغمال 1، قد غلق من دونها كل باب يفتح مباشرة على لأخرى. ولا سبيل بعد هذا للاتصال إلا عن طريق الوثبة من اواحدة إلى الأخرى.
والأصل في هذه الطفرة أن الذات في تحقيقها للإمكان لا بد فها من الاتصال بماهيتها ، أعني بوجودها الماهوي ؛ كما لا بد لها من الاتصال بالغير ، ولما كان بينهما هوة ، لم يكن الاتصال ممكناً إا بالطفرة . والطفرة هنا نفهمها بالمعنى المطلق .1 أي الذي لا يستلزم أي وسط تجري فيه ، وإلا وقعنا في الاتصال .
ولكي نفهم كيف تتم الطفرة على هذا النحو، لا بد من القول بفكرتين : « اللامعقول ، واللاعلية» .
أما اللامعقول فيدعونا إنى القول به طبيعة اوجود نفسه ، إذ هو يتضمن كما رأينا العدم ، كعنصر مكون له 1 والعدم يناظره اللامعقول ، من الناحية الفكرية . وقد أتت نتائج العلم الأخيرة مؤيدة لما نقول به من حيث اللامعقول ثم من حيث اللاعلية ، بل لم يقتصر الأمر على هذا إنما امتد أيضا
إلى فكرة المتصل . فقد أثبتت أخيراً نظرية الكم وجود الانفصال في تركيب الضوء والمادة على السواء ، كما انتهت إلى هذ أيضاً الميكانيكا التموجية على الرغم من محاولاتها الفاشلة للتوفيق يين المتصل والمفصلباضافة الموجة إلى الجيم، ي أثبتا ايضاً أن الجبرية العلمية قد عفى عليها ، ولم تعد ثمة وسيلة لتفسير التأثير عن بعد إلا بالقول بنوع من الطفرة . وإذا كان الأمر على هذا النحو فيما يتصل بالذرات المادية « غيرالواعية»، افليس من الأحرى أن يكون كذلك أيضاً بالنسبة إلى هذه الذرات الواعية ، التي هي الذرات العاقلة ؟ .
وليس معنى هذه الإهابة بالفيزياء أن مذهبنا لا يكون صحيحاً بدونها ، فإن علم الوجود سابق على الفيزياء وعلى أي علم آخر .
غير أنه لا بد مع ذلك من المواصلة مع الطفرة ، والضرورة هنا ناشئة عن ضرورة الفعل . وهذه المواصلة نوع من التوقف تقوم به الذات في طفراتها، توقف مؤقت من اجل طفرات جديدة .
ولكن على أي نحويتم الطفور؟ .
هنا تأتي لمقولة الثلاثية الأخيرة فتحدده لنا على أنه طفور متعال ، لأن في تحقيق لإمكانيات سمواً وارتفاعاً بالذات وإغناء لمضمونها ، وهذا التعالي خالق فعال مهاجم باستمرار . فلا نقول كما قال هيدجر في فلسفته امتلمة ، إن الوجود قد سلم لنفسه ، بل نقول إن الوجود ظافر بإمكانياته متحققة في حركة مستمرة إذ هو محاولة الذات أن تعلو على نفسها بأن تغزومواضع جديدة على الدوام . وهوإذن تعال موجه ، يتجه نحوشيء ليس بعد . ولذا يتجه نحوالمستقبل ، ويعبر إذن عن الآن المقبل.
وهكذا نرى أن المقولات الثلاثية الثلاث المكونة للإرادة تتصف بانات الزمان الثلاثة هي الأخرى : الخطر يتصف بالحاضر ، والطفرة بالماضى ، والتعالى بالمستقبل ، كما رأينا من قبل تماماً في حالة مقولات العاطفة .
ولو نظرنا في الفارق بين العاطفة والإرادة من حيث الكشف عن طبيعة الوجود، وجدنا أنهما يعبران معاً عن وجهي الوجود : فالإرادة تعبر عن وجه القوة ، أو الوجود كقوة ، والعاطفة عن وجه الحال ، أو الوجود كحال . والفارق بين القوة والحال أن القوة فعل ، والحال انفعال ، القوة لتحقيق الإمكان، والحال للتحقيق بالإمكان ٠
وبذا ينتهي بيان المقولات
والمقولات تفضي بدورهاالى وضع منطق جديد ، يقوم على نفس المبدأ مبدأ التوتر . فنحن نرفض مبدأ عدم التناقض الذي يقوم عليه المنطق العقلي لأنه لا يعبر عن حقيقة الوجود الواقعي ، هذا الوجود الذي يقوم على التناقض والتمزق والجمع بين الأضداد ، فمن الواضح أن هذا المبدأ قد أخفق في كل ما يدخله الزمان ، فلم ينجح إلا في العلوم العارية عن الزمان وهي الرياضيات ، وهي التي يميل المنطق العقلي ، كما هو طبيعي ، إلى التثبه بها اليوم .
وليس المجال هنا مجال تفصيل هذا المنطق الجديد ، الذي نسميه منطق التوتر ، في مقابل منطق اتفاق الفكر مع نفسه ، وما هي أقسامه وكيف يدرك على أساسه الوجود الذاقي ، وما لهذا من نتائج على أعظم جانب من الخطر فيما يتصل بالكشف عن هذا الوجود. إغا نجتزى ء هنا بذكر الأصول العامة التي يقوم عليها .
وأولها أن الزمان يجب أن يكون داخان* في التقويم امنطقي للحقيقة الوجودية ، وبالتالي يجب أن ندخل العدم إلى جانب الوجود في كل موضوع منطقي ، واتحاد الوجود واللاوجود في موضوع واحد هوما نسميه باسم التوتر . والتوتر إذن هوطابع الوجود الذاقي ، ولذا كان منطق هذا الوجود منطق التوتر .
والتوتر إذن نقيض الهوية ، لأن هذه تنشد المتساوي والمؤتلف ، والتهتر ينشد اللامتساوي والمختلف ، ذلك أن منطق الهوية يميل إلى جعل الصلة بين الموضو ء والمحمول صلة مساواة أو ما يقرب منها ، مما وجد صورته العليا في المنطق الرياضي .
والنتائج هذا عديدة ، وأولها في نظرية الحمل ، فعندنا أن الحمل ليس إضافة محمول إلى موضوع ، إذ الوجود أو الصفة الوجودية ليست عمجموعة مقادير ، يضاف بعضها إلى بعض ليتكون منها شيء ، وإلا لكان في ذلك أوهام عدة : أولها أن الجمع لا يتم إلا بين وحدات من نوع واحد ، ونحن هنا نجمع بين مقادير من أنواع مختلفة : فالحيوانية غير لنطق من حيث النوع ، وثانيها أل الجمع لا تكون عنه شيء جديد ، بينم نحن نرى الانسان يختلف في جوهره عن الحيوان وعن لنطق . فالحكم إذن ليس عملية جمع إنما هوتعبيرعنحال واحدة يلبسها الوجود دفعة واحدة ، هووحدة من الوجود واللاوجود لا تقبل لتجزئة بحال . والحمل هو التحقق منظوراً إليه من ناحية
القول أو اللوغوس ، ولما كان التحقق يدل على خلق ، فالحمل بدل على خلق ، وبالتالي يتضمن الجدة .
وبفكرة الجدة هذه نستطيع أن ننقذ المنطق من تحصيل الحاصل الذي تردى فيه حتى الآن ، إذ التوتر يدل على التحقق ، والتحقق فعل ، والفعل خلق ، وبالتالي يدل على جدة .
وعلينا إذن أن نلغي مبدا المنطق التقليدي كله، وهو : اتفاق الفكر مع نفسه ، ونستبدل به هذا المبدأ ، الا وهو : توتر الوجود مع ذاته الخالقة باستمرار .
وتبعاً لهذ نحن نقسم الأحكام إلى قمين : أحكام وجودية ، وأحكام هوية الأخيرة هي القائمة على مبدأ الهوية ، وليس فيها جدة ، ولا قيمة لها من الناحية الوجودية ، بل كل قيمتها من الناحية اللغوية أو العقلية ، لأنها من نوع التحليل . أما الأحكام الوجودية فهي المعبرة عن واقع أوحال يكون فيها اوجود دفعة واحدة .
وعلينا بعد هذا أن نقسم الأحكام من حيث « الزمانية » بدلا من تقسيمها كما في المنطق العقلي من حيث الجهة ، فعلينا أن نقسمها من حيث الزمانية إلى : احكام حضور ، ومضي واستقبال . ولا بد من تعيين الزمانية في كل حكم، وإلا كان ناقصا فلا معنى لقولي : سقراط فان، إذا لم اتبعه قولي : حاضراً ، أوماضياً ، أومستقبلاً ٠ وهذه الزمانية ملحوظة في كل حكم ، وإن لم تكن دائما ملفوظة .
والصلة بين الموضوع والمحمول ليست صلة تداخل أو تضمن أو إضافة ، بل هي عندنا صلة متوترة تمثل حالأ واحدة للوجود . فالصلة بين سقراط وفان في المثال السابق صلة حال وجودية فيها سقراط كموجود متصف يها ، واتصافه بها ليس زائدا على ذاته ، بل صفته هي عين ماهيته .
أما تقسيم القضية من حيث الكم فلا يعني الأحكام الوجودية في شيء ، لأن هذه لا تنظر إلى المحمول ، أو الموضوع على أنه ذو كم. ولكن الأمر علىغير هذا بالنسبة إلى التقسيم الثالث للأحكام ، أعني من حيث الكيف ٠ فإن فكرة السلب فكرة رئيسية في شرح الوجود ، وهي التعبير العقلي عن العدم الذي قلنا عنه إنه عنصر جوهري مقوم للوجود منذ كينونته . ولكننا نختلف في فهمه عن المنطق التقليدي . فإن منطق التوتر يفهمه على أن كل موجود تنقصه إمكانيات لم تتحقق وهذا النقص يعبر عنه بحكم سلبي . واللب نوعان :
مطلق هو الدال على استحالة اوصف بالنسبة إلى الوجود اماهوي للذات المعينة، وسلب مقيد هو الدال على الإمكانية غير المتحققة وهذا الاخير هو الجدير بالعناية حقاً .
والسلب عندنا له نفس المرتبة التي للايجاب . فلا يدرك أحدهما بغير الآخر ، لأن المتقابلات تكون وحدات لا انفصام لها
ويمتد اثر هذه النتائج إلى كل مسائل المنطق ، مما ينتهي إلى وضع منطق جديد شامل يستطيع الكشف عن حقيقة الوجود. والعامل الرئيس في تكوينه هه إدخال الزمان في مسائله . فبإدخال الزمانية في المنطق ندخل التوتر والخلق : التوتر لأنه الجمع بين السلب والإيجاب ، والسلب معناه الوجودي العدم، والعدم مصدره التناهي والتناهي أصل الزمان ، فاللب ناشىء إذن عن الزمان.والعدم أيضا شرط التحقق في الوجود ، لأن التعين لا يتم إلا بالسلب والتحديد وهذا هو العدم . أما الخلق فلأن الزمان أصل العدم ، والعدم شرط الوجود .
وهنا نصل إلى النقطة الحاسمة في مذهبنا الوجودي ، وهي فكرة العدم .
فالناس قد أدركوا من قديم الزمان أن العدم معقد الصلة بين الزمان وين الخلق ، وإن كانوا فهسوا المسألة على أنحاء مختلفةكل الاختلافيمكن مع ذلك أن ترد في النهايه لى اثنين : النظرة الفلسفية والنظرة الدينية . والنظرة الأولى تحاول استبعاد فكرة انعدم ، لذ لم تعن رتحليل مضمونه كثيراً ن وفهمته خصوصاً بمعنى السلب في المنطق العقلي ، وعني به برجسون من أجل إلغاء فكرته . ويلاحظ على كلامم هنا أنه لا يزال ينظر إليه بمعنى السلب العقلي ، إذ يقول إنه يأقي بنوع من التجريد المستمر . ولكن هذا غير صحيح لأنني في حالة لقلق الصادر خصوصاً عن فكرة موي الخاص ، أشعر بزوال الوجود دفعة واحدة ، والعدم - كما قلنا - ليس تعرراً عقلياً بل هو شيء يقتضيه مجرد الوجود العيني نظراً إلى نبذ إمكانيات ، وأخد أخرى . ويتمشى مع مذهب برجسون الفاسد في العدم مذهبه في الإمكان ، مما أدى إلى إخفاقه في فهم الزمان لأن لزمان يجب ان يفهم مرتبطاً بالعدم والإمكان . لكن جاء هيدجر من بعد فعني ببيان المدلول الوجودي الميتافيزيقي للعدم ، بوصفه اكاهي المطلق.
أما مذهبنا نحن فهو أن القصور في فهم ضبيعة
العدم قد نشأ عن نفس ظاهرة الخلط التي حدثت بالنسبة إلى فكرة الزمان ، إذ خلط بينه وبين الخلاء فتصور على نحو مكافي . والفهم الصحيح إنما يأقي وفقاً للنظرية التي ادلينا بها خاصة بطبيعة الوجود . فقد قلنا إن الحقيقة الواقعية مكونة على هيءة انفصال ، والوجود إذن مكون من وحدات منفصلة بينها هوات لا يمكن عبورها إلا بالطفرة . فنقول الآن إن هذه الهوات هي العدم تفسه في وجوده لموضوعي ٠ ولا يجب أن يفهم من هذه الهوات أنها خلاء ، فنحن لا نفهم شيئا اسمه الخلاء بالمعنى العادي للمفهوم . فالهوات الموجودة بين الذرات في الوجود الفيزيائي تناظرها هذه لهوات الموجودة بين الذوات ، في الوجود الذاي ٠ ولما كانت هذه الهوات بين الذوات هي لأصل في الفردية ، ففي وسعنا أن نقول إن العدم هو الأصل في الفردية .
ولما كانت الذاتية الفردية تقتضى الحرية ، كنتيجة لها ضرورية ، ففي وسعنا أيضاً أن نقول إن العدم هو لأصل في الحرية .
وفكرة العدم مفهومة على هذا النحو من شأنها أن تحل الإشكالات التي أثيرت حولها دون جدوى حتى الآن، كما أنها فكرة خصبة في وسعنا أن نفسر بها سر الوجود كله
فهي تضمن لنا أولا أن العدم عنصر جوهري مكون للوجود ، والعدم والوجوديكونان معاً تسيج الواقع ، وليس منهما من يسبق الآخر زمانا أو رتبة أو علية ؛
وهي ثانياً تضفي هالة من النور على كل الأفكار التي ادلينا بها حتى الآن. فالعدم كما رأينا هو الأصل في الفردية، أو العكر ، وفكرة الحرية تقوم على فكرة الفردية أو العكس ، وفكرة التوتر مصدرها أيضاً فكرة العدم 1 لأن التوتر لا يتحقق كما قلنا إلا من مزيج من لوجود واللاوجود أي العدم ، وأخيرا نجد أن فكرة الإمكان مصدرها فكرة العدم ، لأن الإمكان أصل الفعل 1 والفعل لا يتم إلا بطفرة الذات في الغير ، وهي طفرة لا تقوم بها الذات إلا لأن ثمة عدما . ومن هنا نرى أن الأفكار الرئيسية الموجهة لنا في مذهبنا الوجودي ، وهي الفردية والتوتر والإمكان ، ترتبط كلها بالعدم أوثق رتباط وكأنه إذن البؤرة التي يشع منها النور على المذهب كله .
وفي وسعنا بعد هذا أل نجيب عن هذا السؤال : لماذا كان ثمة وجود ولم يكن عدم ؟ قائلين إنه سؤال لا معنى له بعد . إنما السؤال الجدير بالوضع بعد هو : ما العلة الفاعلية
لهذا الاتحاد بين لوجود والعدم من اجل تكوين الآنية ؟ .
والجواب القاطع عندنا هو : إغها الزمان .
فلولا الزمان لما اتحد العدم بالوجود، وبالتالي لم تكن الآنية لتتكون ، أي الوجود العيني بوجه عام . لذا كان الزمان خالقاً . ولا آنية إذن إلا وهي متزمنة بالزمان . ومن هنا كان علينا أن نجد خواص الآنية في الزمان ، وهي خواص يمكن إجمالها في ثلاث : المنفصل ، والتوتر ، والإمكان .
أما صفة المنفصل فتدعونا إلى وصف تركيب الزمانية بالانفصال ، بمعنى أن الزمان مكون من وحدات منفصلة عن بعضها البعض . ومن الخطأ كل الخطأ القول بالاتصال في الزمان .
والس في هذا الخطأ اعتبارات نفسية وأخرى في يائية ، أما الفيزيائية ، فهي تصور الحركة تصويراً إمكاياً . ولما كان الن مان مقدار الحركة ، فلا بد أن يصور على غرارها ، وهي تقتضي التماس ، فلا بد أن يكون في الزمان اتصال. ومن العجب لذي يستنفد كل عجب أن يعرف الزمان مع هذا بأنه 1( عدد » لحركة ، مع أن لعدد هو الكم لمنفصل أي هو المنفصل بعينه , وفضلا عن هذا فإن الفيزياء المعاصرة لم تعد تقول بالاتصال ، فلا يمكن أن تقوم فكرة الاتصال في الزمان إذن على اعتبارات فيزيائية .
أما الاعتبارات النفسانية فترجع إلى فكرة الذاكرة، إذ قال برجسون إن الذاكرة ملكة كلية قبلية تربط بين الأفعال في الشعور بطريقة متصلة ، وفرق بين الذاكرة كعادة ، والذاكرة الحقيقية التي تصور تياراً متصلاً. غيران هذا التصوير لوظيفة الذاكرة غيرصحيح ، فقد أنبت بييرجانيه أن الذاكرة ترجع إلى الفعل المؤجل، ومعنى تأجيل الفعل حدوث انقطاع في تيار الشعور.والذك ى الخالصة التي يقول ها برجسون لا أساس فا . والواقع أن نظرية يرجسون في الذاكرة إنما تقوم على نظريته في المدة ولا تقوم على الوقائع النفسية ، وفي هذا دور ظاهر . فالاعتبارات النفسية هي لأخرى لا تسمح لناأيضاً بهذا التصوير للزمان على أنه متصل .
والسؤال الذي بجب علينا أن نضعه بعد ، هو : إذا كان لزمان على هذا النحه ١ فكيف نفرق فيه بين ماض وحاضر ومستقبل ؟ والجواب عليه يرتد بنا إى نظرية الوجود الماهوي وهو ينتقل إلى حال الآية بواسطة دخول الزمان فيه وهذه العملية تتضمن نلاثة أدوار : الإمكان ، والفعل والتحقق
بالفعل ، اما الإمكان فمعناه أن الوجود الذاي في حالة إضمار وتصميم لما يمكن أن يكون عليه ، وهو سابق على الواقع بالضرورة، لا كما يزعم برجسون، والفعل يمثل دور جريان التحقيق للممكن ، أي يدل على شيء يجري حدوثه ، أي يدل على الحضور المباشر ، أما بعد التنفيذ فإننا نكون بإزاء الفعل وقد تحقق ، أي بإزاء شى ء قد كان . فهذه العمليةتتضمنإذن : الفعل يوصفه ممكناً « سيكون )1 والفعل بوصفم حادثاًيجري كائنا ، والفعل بوصفه شيئا « قد كان » - « وسيكون » معناها المستقبل ، « وقد كان » معناها الماضي ، « وكائن » معناها الحاضر - وجهذا المعنى نفرق بين ماض وحاضر ومستقبل، فانات الزمان الثلاثة ذوات معان وجودية خالصة ٠
ولوعدنا الآن إلى لوحة المقولات لاستطعنا أن نفهم لماذا ارتبطت كل مقولة بحالة زمانية .
وما دام كل وجود فعلاً وما دام كل فعل يقتضي اتزمن بالزمان ، فكل وجود متزمن بالزمان .
أما وضع السرمدية في مقابل الزمان فوهم لا مبرر له . إذ لا وجود إلا مع الفعل ، ولا فعل إلا مع الإمكان ، ولا إمكان إلا لفعل، ولا فعل إلا وينتهى إلى تحقيق شىء فعلا. والإمكان ، والفعل إبان التحقق ، والتحقق فعلاً هي آناكت الزمان . فلا وجود إذن إلا بالزمان . وكل وجود يتصورخارج الزمان هو وجود موهوم . ومصدر القول به محاولة الإنسان القضاء على الجزع من الزمان - وهي محاولة لا صلة لها بحقيقة لوجود الحي - وعلينا ان نتجنبها . فكل إحالة الى وجود غير زماني، إحالة إلى اللاشيء.
وجود أو لا وجود ، تلك هي المسألة هنا أيضاً .
فإن كان وجوداً، فلا بد من الزمان ، وأما من دون الزمان ، فليس ثمة وجود . ولا واسطة بينهما .
أما عن الأولية بين آنات الزمان ، فالرأي بإزائها قد انقسم كما هو طبيعي إلى ثلاثة مذاهب : مذهب يقول بفكرة الحاضر السرمدي . ولذا يجعل الأولية والأولوية معاً للحاضر ، ومذهب يجعلها للماضي وإليه ينسب المؤرخون وأصحاب النتزعة التاريخية بوجه عام ، ومذهب يجعلها للمستقبل ويمثله أصحاب النزعة الدينية ، خصوصا كيركجور وهيدجر .
امانحن فلانذهب الى القول بتفضيل آنعلى آن،بل نؤكد وحدة الآنات الثلاثة وحدة تامة في تكوينها الزمانية لأصيلة الحقيقية . أما الزمانية الزائفة فهي تلك التي تتعلق بأحد هذه الآنات دون الأخرى. ذلك ان فكرة التوتر في الوجود تقضي علينا جهذا .
ومن هذا البيان لطبيعة الزمان قد انتهينا إلى الكشف عن حقيقتين رئيسيتين : الأولى أن لا وجود إلا مع الزمان وبالزمان ، وأن كل موجود لا بد متزمن بالزمان ، وتلك هي ما نسميه تاريخية الوجود . والثانية أن كل آن من آنات الزمان مكيف بطابع إرادي عاطفي خاص ، فالزمانية إذن كيفية . وهاتان الحقيقتان معاً هما ما نعبر عنه بقولنا إن الوجود ذو كيفية تاريخية ٠
تلك هي الخطوط العامة لمذهب في الوجود جديد سنجعل مهمتنا في الحياة تفصيل اجزاثه، حتى نستطيع أن نحقق للإنسان هذه الغاية التي قلنا إها غاية الموجود .