فقه الخلاف


اختلاف العلماء رحمة وسطحية الرافضين لفقه الخلاف

رغب النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه ذات يوم لغزو اليهود من بني قريظة وأمرهم ألا يصلوا العصر إلا في بني قريظة، وأدركهم العصر في الطريق، قبل أن يصلوا لبني قريظة، وحدث خلاف بينهم، فبعضهم صلى العصر في الطريق، فقال الفريق الآخر إنما أمرنا بالصلاة في بني قريظة، وقال الفريق الأول، إنما طلب منا الاستعجال في المسير، ولم يصلِّ هؤلاء حتى وصلوا بني قريظة، ولما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن الاجتهادين في فهم الحديث، صوب الفهمين، وما أنكر على أحدهما.

ويظهر هنا احترام الإسلام لوجهات النظر المختلفة، وبين أن من الخلاف ما هو محمود كما مر، ومنه المذموم كالخلاف الموجب للعداوة والبغضاء.

إن الوحي نزل بلغة العرب، وهذه اللغة، لغة فذة مرنة، تحتمل كثير من ألفاظها التعدد في المعنى، وتوجب في الأفكار اختلافاً طبيعياً، بل إن هذا التنوع في الفهم، يدل على العبقرية، وحرية المجتهدين، ويجعلهم يخرجون من نطاق الزمان والمكان المحددين، وتنوع الفتوى حسب الزمان والمكان.

وإنه لمن أبشع أنواع نكران الجميل، أن ينصب الجهد والطاقة، من أنصاف المتعلمين، إلى إهدار الكم الرهيب، الذي تركته أمتنا الخالدة، من تراث فقهي، ويأتي هؤلاء لنسفه مبرزين لنا فقه العجائز. إن حاجتنا اليوم كمسلمين إلى فهم العالم من حولنا، وكيف نعرض إسلامنا الصحيح، وما أجدرنا، أن ننظر إلى ما هو أولى وأفيد لنا ولوطننا وأمتنا وأن نعمر أوقاتنا بما هو مفيد، وخاصة أن الإنسان منا له طاقة وعمر محدودان.

إن خوض البعض في أعراض العلماء، والاجتماع لتصوبة فريق وتخطئة آخر غير واقعية وإضاعة للأوقات. إن واجب الوقت، يحتم علينا إن كنا نقصد وجه الله بعلمنا وعملنا، أن نتخصص فيما ينفع أمتنا في شتى أنواع التخصصات المدنية والحربية، فالإسلام والمسلمون في أمس الحاجة إلى الطبيب، والمهندس، والجندي والمفكر، والعالم، والعابد، والصانع والتاجر، أما أن نخوض في مسائل قد ألفت فيها آلاف الكتب، وتكلم فيها من العلماء، من لو جلس أحدنا ألف سنة، على أن يصل لدرجتهم في العلم ما استطاع.

إن هؤلاء الذين ينبشون قبور السالفين، يخوضون في اجتهاد أمة قد خلت، إن هؤلاء يهدرون أوقاتهم، بل وأعمارهم، وها هي أمة الإسلام، تعتمد على أعدائها، وتستورد منهم شتى الصناعات، بل وشتى الأفكار، وأصبح العالم الإسلامي محلا لأفكارهم وصناعاتهم وأسلحتهم، فإلى متى هذا السبات، وإلى متى ونحن نجري وراء علوم قد نضجت وطوي فيها بساط البحث ولم نفه ببنت شفة، ولم نتكلم بحرف واحد في علوم نحن فيها تبع لغيرنا، ولا نعرف فيها نقيراًُ ولا قطميراً، فإلى متى هذا الضياع.

إن تصويب النبي صلى الله عليه وسلم للذين صلوا العصر في الطريق، وتصويبه للذين صلوا بعد وصولهم. يوجب عليك هذا الإقرار، من النبي المختار، ألا تلزم الناس برأي ترى أنه صواب، ويرى غيركم خطأه، ويعلمك النبي صلى الله عليه وسلم في تصويب الرأيين الأدب مع أصحاب التخصص، وعدم الخوض في أمور أنت منها في عداد الصم والبكم والعمى، ولا تقف ما ليس لك به علم.

لك أن تلزمني باتباع كتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا يحق لك بحال، أن تنزل كلام بعض الناس، منزلة النصوص وقدسيتها. وإن الفوضى التي تعاني منها الأمة الآن، سببها أن تجرد كل من هب ودب، على الخوض فيما لا يعنيه من علم الفقه والحديث والأصول والتصوف والرجال والعقائد، ولو سكت من جهل، لما وقع الخلاف، وتجد الصغار والكبار، والعلماء والجهال، يخوضون في علوم الإسلام، وما رأينا إنساناً عادياً تجرأ على علم الطب، وعمل عيادة وهو رجل مسرح، كما أننا لم نر حلاقاً فتح ورشة لإصلاح السيارات، فلماذا هذه الجرأة على دين الله، والخوض فيما لا يعني؟

ما سبب هذه الفوضى؟ إن هذه المكيدة، ورائها جهل المسلمين ونشاط أعدائهم، فتجد طالب الهندسة، يخوض ويصول ويجول في مسائل أصول الفقه، ونجد الطبيب والمحاسب وغيرهم، يقفون عن مواصلة تخصصهم، ويهتمون بأمور هي من مباح القول وفضلته، وكان الأحرى بهم جميعاً أن يشتغلوا بما يعنيهم، وتجد المرأة والفتاة، بل وجميع الناس، لا يستفيدون من أوقاتهم، ولو نظرنا نظرة عابرة لعامتنا، لوجدتنا نقدم اللهو واللعب، على ما فيه خير وفائدة، وإن أحدنا لا ينظر إلا إلى مصلحته، ولو كان فيها ضياع البلاد والعباد، ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور.فرج حسن البوسيفي