علمنة
العلمنة أو التحول العلماني (بالإنجليزية: Secularization) هي تحول مجتمع ذو هوية وثيقة الصلة مع القيم والمؤسسات الدينية نحو القيم غير الدينية والمؤسسات العلمانية. وهي العملية التاريخية التى بمقتضاها يفقد الدين والمعتقدات والممارسات والمؤسسات الدينية مغزاها وأهميتها الاجتماعية والثقافية، خاصةً فى المجتمعات الصناعية الحديثة. ويصبح دور الدين في المجتمعات الحديثة محدوداً كنتيجة للعلمنة. في المجتمعات العلمانية، يفقد الإيمان سلطته الثقافية، والقوة الاجتماعية للمنظمات الدينية ضعيفة.
ويقاس تدهور الدين بمدى المشاركة فى الممارسات الدينية أو حضورها، والتمسك بالمعتقدات الدينية الصحيحة، ودعم المؤسسات الدينية المنظمة بالعضوية والمال والاحترام، وبالأهمية التى تنالها الأنشطة الدينية -كالأعياد مثلا- فى الحياة الاجتماعية. وحسب هذه المعايير، فإن هناك وجهة نظر ترى أن المجتمعات الحديثة قد مرت بعملية تحول علمانى فى القرن العشرين.
قد يرد مصطلح العلمنة في سياق رفع القيود الرهبانية عن أحد رجال الدين.
تاريخ
للعلمنة عدة مستويات من المعنى، كنظرية وعملية تاريخية. افترض المنظرون الاجتماعيون مثل كارل ماركس (1818-1883)، وسيجموند فرويد (1856-1939)، وماكس فيبر (1864-1920) وإميل دوركايم (1858-1917) أن تحديث المجتمع سيتضمن انخفاضًا في مستويات التدين. تسعى دراسة هذه العملية إلى تحديد الطريقة التي تفقد بها العقائد والممارسات والمؤسسات الدينية الأهمية الاجتماعية وإلى أي مدى تفقدها. يزعم بعض المنظرين أن علمنة الحضارة الحديثة ناتجة جزئيًا عن عدم قدرتنا على تكييف الاحتياجات الأخلاقية والروحية للنفس البشرية مع التقدم المتسارع للعلوم الفيزيائية.
على النقيض من أطروحة «التحديث»، يجادل كريستيان سميث وآخرون بأن النخبة الفكرية والثقافية تشجع العلمنة لتعزيز مكانتها وتأثيرها. يعتقد سميث أن المثقفين لديهم ميول كامنة لمعاداة ثقافاتهم الأصلية، وهذا ما يؤدي بهم للعلمانية. لمصطلح العلمنة معان إضافية، تاريخية ودينية في المقام الأول. بالتطبيق على ممتلكات الكنيسة، فهي تشير تاريخيا إلى الاستيلاء على أراضي الكنيسة ومبانيها؛ كعندما حل هنري الثامن الأديرة في إنجلترا في القرن السادس عشر، والأفعال اللاحقة خلال الثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر، وكذلك من قبل مختلف الحكومات الأوروبية المستبدة المستنيرة المناهضة لرجال الدين خلال القرن الثامن عشر والتاسع عشر، ما أدى إلى طرد وقمع المجتمعات الدينية التي احتلتها. مثّل الصراع الثقافي في ألمانيا وسويسرا في القرن التاسع عشر وأحداث مماثلة في العديد من البلدان الأخرى تعبيرًا عن العلمانية.
ما زال يوجد شكل آخر من أشكال العلمنة يشير إلى فعل الأساقفة الأمراء أو حاملي المنصب في نظام رهباني أو عسكري -الاحتفاظ بسلطة دينية وعلمانية مشتركة تحت الكنيسة الكاثوليكية- الذين انفصلوا وجعلوا أنفسهم تابعين لحكم وراثي وعلماني تمامًا (بروتستانتية نموذجية).
على سبيل المثال، تحول غوتهارد كيتلر (1517-1587)، وهو آخر قائد لفرسان اليفونيان، إلى اللوثرية، وأخذ لنفسه أراضي سيميغاليا وكورلاند نيابة عن الفرسان وعلمنها، ما مكنه من الزواج وترك لأحفاده دوقية كورلاند وسيميغاليا.
شهدت الستينات اتجاهات نحو زيادة العلمنة في أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية وأستراليا ونيوزيلندا. ترافق هذا التحول مع عوامل اجتماعية رئيسية: الازدهار الاقتصادي، وتمرد الشباب ضد قواعد وأعراف المجتمع، وتحرر المرأة، واللاهوت الراديكالي، والسياسة الراديكالية.
الخلفية
تُنسب العلمنة في بعض الأحيان إلى التحولات الاجتماعية في المجتمع بعد ظهور العقلانية وتطور العلوم كبديل عن الخرافات. وصف ماكس فيبر هذه العملية بتحرير العالم من الوهم، والتغييرات التي أجرتها المؤسسات الدينية للتعويض. في المراحل الأساسية، تبدأ العملية بالانتقال البطيء من التقليد الشفهي إلى ثقافة الكتابة التي تنشر المعرفة. يقلل ذلك بدايةً من سلطة رجال الدين كأوصياء على المعرفة السماوية. كان لانتقال مسؤولية التعليم من الأسرة والمجتمع إلى الدولة نتيجتان:
- تتضاءل الإرادة الجماعية حسب تعريف دوركايم.
- يصبح الدين مسألة اختيار فردي وليس التزامًا اجتماعيًا متبعاّ.
إحدى القضايا الأساسية بدراسة العلمنة هي المدى الذي تشير به بعض الاتجاهات مثل قلة الذهاب إلى الأماكن الدينية إلى تناقص الميول الدينية أو ببساطة خصخصة المعتقدات الدينية، فلم تعد المعتقدات الدينية تلعب دورًا مسيطراً في الحياة العامة أو غيرها من المجالات المؤثرة على اتخاذ القرار. قضية العلمنة تُناقش في مختلف التقاليد الدينية. غالبًا يُستشهد بحكومة تركيا كمثال، بعد إلغاء الخلافة العثمانية وتأسيس الجمهورية التركية في عام 1923. هذه السيادة الشعبية الراسخة في إطار جمهوري علماني، بمقابل نظام مُستند بسلطته على الدين، هو واحد من العديد من الأمثلة على تحديث الدولة، والتي أظهرت أن العلمنة والديموقراطية عمليتان تعززان بعضها البعض، بالاعتماد على الفصل بين الدين والدولة.
في دول علمانية صريحة مثل الهند، قيل بأنه كان هناك حاجة إلى قانون للتسامح والاحترام بين الأديان المختلفة تمامًا، في حين أن علمنة الغرب كانت استجابة للخلاف العنيف الجذري بين الطوائف المسيحيية الكاثوليكية والبروتستانتية. جادل البعض بأن العلمنة الغربية والهندية مختلفتين اختلافًا جذريًا في تعاملها مع التحرر من القوانين والسيطرة الدينية. تعد اعتبارات التسامح والاستقلال مرتبطة بأي دولة علمانية.
نظرية العلمنة
تشير أطروحة العلمنة أو نظرية التحول العلماني (بالإنجليزية: Secularization Thesis) إلى الاعتقاد بأن مع تقدم المجتمعات، لاسيما من خلال التحديث أو الترشيد، يفقد الدين سلطته في جميع جوانب الحياة الاجتماعية والحكم الرشيد.
وتذهب نظرية التحول العلمانى إلى القول بأن العلمانية سمة حتمية ترتبط بنشأة المجتمع الصناعى وتحديث الثقافة. فهناك من يرى أن العلم الحديث قد جعل المعتقدات التقليدية أقل إقناعا، كما أن تعددية عوالم الحياة قد كسرت احتكار الرموز الدينية، وأدى تحضر المجتمع إلى خلق عالم يتسم بالفردية واللامعيارية، وعمل تآكل الحياة الأسرية على جعل المؤسسات الدينية أقل شأنا، كما ساهمت التكنولوجيا فى تمكين الناس بصورة أعظم- من السيطرة على بيئتهم، بدرجة تجعل فكرة الإله الكامل المقدرة، فكرة أقل خطورة أو أقل إقناعاً. وبهذا المعنى تستخدم العلمانية كمعيار أومقياس لما يقصده ماكس فيبر باتجاه المجتمع نحو الترشيد.
فى مقابل هذا يذهب نقاد نظرية العلمانية إلى أنها تبالغ فى ثقدير مستوى التمسك بالدين فى المجتمعات التقليدية، وأنها تساوى ضمنيا بين العلمانية وتدهور المسيحية، فى حين أنه يجب الفصل بينهما، وأنها تقلل من أهمية الحركات الدينية الجديدة فى المجتمعات التى يطلق عليها مجتمعات علمانية، كما أنها لاتستطيع أن تفسر بسهولة وجود اختلافات وتنوعات هامة بين المجتمعات الصناعية (كما هو الحال فى الولايات المتحدة الأمريكية وبربطانيا) فيما يتعلق بطبيعة ودرجة العلمانية، هذا بالإضافة إلى أنها أخفقت فى أن تأخذ فى اعتبارها دور الدين فى بعض الثقافات القومية، كما هو الحال فى بولندا وأيرلندا، كما أنها تقلل من قيمة البدائل العلمانية للدين (كالنزعة الإنسانية مثلاً) والتى قد تؤدى وظيفة الدين دون أن تشتمل على الإيمان بالمقدس. (انظر على سبيل المثال أعمال مارتن ومنها كتابه: الدينى والعلمانى، الصادر عام 1969)، وكذلك كتابه: نظرية عامة فى العلمانية الصادر عام 1978).
وقد ذهب بيتر برجر (فى كتابه: الحقيقة الاجتماعية للدين، الصادر عام 1969)، إلى أن البشر يحتاجون إلى "مظلة مقدسة" كى تجعل الحياة ذات معنى لأن غياب المعنى يعد تهديدا لحاجتنا إلى عالم متسق. ويقترح توماس لوكمان (فى كتابه: الدين الخفى، الصادر عام 1963) أن المجتمعات الحديثة لديها دين خفى. أما المساندون لنظرية التحول العلمانى ومنهم برايل ويلسون (انظر كتابه: الدين من منظور اجتماعى، الصادر عام 1982) فيرون أن الطبيعة التعددية والتجزيئية للحركات الدينية الجديدة وتنوعها، وثقافات الشباب، و الثقافات المضادة، هى فى الحقيقة دلائل على فقدان الدين للسلطة الاجتماعية. وفى المواضع التى يبدو فيها أن الدين يزدهر، كما هو الحال فى الولايات المتحدة الأمريكية مثلا، يكون فى المقام الأول مجرد قناة للمشاعر الوطنية. ولهذا فإن علماء الاجتماع عندما يتصدون لدراسة العلاقة المعقدة بين الإيديولوجيا والقومية والتغير الدينى، يتضح لهم أن هناك أنماطا عديدة ومختلفة من العلمانية.