شفيق الكمالي

عرفته أول مرة عام 1948 طالباً في ثانوية الكرخ ببغداد التي كنت قد دخلتها تواً، وهو يلقي قصيدة في حشد من طلاب المدرسة قبل أن يتوجهوا للاشتراك بمظاهرة شعبية ضد معاهدة عراقية بريطانية كانت ستعقد آنذاك بديلاً لمعاهدة 1930. وحين توفيت بعد أكثر من عامين الملكة عالية والدة فيصل الثاني واقيم حفل تأبيني في المدرسة رفض الكمالي المشاركة فيه. لكن اعلاناً على لوحة المدرسة كان يقضي بفصل عدد من الطلاب من بينهم الكمالي بتهمة احتساء البيرة على ساحل المدريسة المطل على دجلة ولا أدري ان كانت التهمة صحيحة ام مدبرة، كما لا اعرف كيف عاد الكمالي إلى المدرسة وانهى دراسته ودخل كلية الاداب ببغداد، حيث دخلتها بعد اربع سنوات. وكان اسم الكمالي يتردد في الوسط الطلابي والى حد ما في الصحافة الادبية ومجلة الاداب البيروتية، وكانت صحيفة محلية قد ذكرت بان الشرطة السرية عثرت على وكر طباعي، وان القبض قد القي على شفيق الكمالي الذي اخلت سبيله. والكمالي الذي ينتسب إلى مسقط رأسه في مدينة البوكمال على الحدود العراقية السورية، حافظ على علاقات طيبة مع اطراف الحركة الوطنية. لكنه وهو يؤسس أول تجمعات طلابية لحزب البعث أوائل الخمسينات لم يتكيف للحياة في المنظمة السرية، ولم يخضع لسايكولوجية المنظمة مما جعل قرار صعوده إلى القيادة الفكرية يأتي متاخراً. ساهم الكمالي في سلطة الحزب الأولى والثانية بمواقع قيادية، ولم يسجل عليه أو له نشاط في اقبية التعذيب، بل كان على العكس داعياً من دعاة التفاهم وساعياً إلى إخراج المعتقلين من السجون قبل أن تصبح محاولة للشفاعة كهذه خروجاً على تعاليم حزبية يعاقب عليها مرتكبوها بالطرد من الحزب أو السجن إلى جانب الموقوف الذي يسعى الشفيع إلى إطلاق سراحه. ان عدم مساهمة الكمالي في نشاطات التحقيق وسعيه إلى انتهاج سياسة التحالف مع الوطنيين العراقيين والقوميين العرب اضعف كثيراً من موقعه في الحزب. ويسجل عليه صدام حسين بالإضافة إلى هذا انه انتدب مبعوثاً من الحزب لحضور مؤتمر قومي مع زميله عبد الله سلوب السامرائي قبل وصول الحزب إلى السلطة، لكنه لم ينقل إلى المؤتمر وصية بترقية صدام حسين إلى عضو قيادة قومية. ولم يكن ذلك سيمر على ذاكرة صدام حسين الذي أصبح الرجل الثاني في السلطة، وكان متوقعاً للكمالي والسامرائي ان يكونا من أوائل الضحايا. عين الكمالي وزيراً في الحكومة التي شكلها الحزب بعد 30 تموز 1968 وابعد سفيراً واعيد وزيراً.. وطرد مرة أخرى.. لكنه أصبح رئيساً لاتحاد الادباء العرب قبل أن يطرده صدام حسين ويعين مكانه بعثياً يدعى حميد سعيد.. رايت الكمالي 1967 في مكتب الشيخ جابر العلي وزير الاعلام الكويتي آنذاك، فخلوت به جانباً وقال: متى تكون للعراق العريق مؤسسات ونظام عمل كالذي استحدثه الكويتيون الناشئون في السلطة، فأجبته: سيحدث ذلك إذا تنحى حزبنا عن السلطة. وفي بغداد وفي فترة ابعاده عن مسؤولياته الرسمية والحزبية اتخذ الكمالي طاولة له في زاوية من غرفة بجريدة الجمهورية يشترك فيها معه صحفيون آخرون. وعندما انفرد صدام بقيادة الحزب والسلطة في تموز 1979 كان شفيق الكمالي يتوقع ان يتصدر اسمه لائحة المبعوثين الواحد والعشرين من رفاقه إلى ساحة الاعدام. ولما لم يكن اسمه من بينهم اخذ يتصرف بهاجس من يعتقد ان قرارا بإعدامه سيصدر بين لحظة أخرى، وعليه ان يحول دون ذلك مستخدماً اداته الشعرية، فظهر امام الرأي العام العراقي غجرياً يحمل ربابته عند مضيف الشيخ، وقد قال كلاماً في صدام لم يصدر عن حاملي الربابة الغجرية، وكانت قصائده التي يحملها بنفسه إلى مطربات الاذاعة راجياً تلحينها وتقديمها للمستمعين تخرج من اطار المسؤولية المشتركة والعمل المشترك في حزب واحد. ان انهيار صورة الكمالي كانت ترضي مشاعر التشفي في قلب صدام. لكن ذلك لم يكن يكفيه، وكان على الأجهزة المختصة ان تعد له سيناريو لعملية يوضع الكمالي طرفاً فيها. لقد اعتقلوا نجله الأكبر (يعرب) واعتقل الوالد الذي اتهم بمحاولة تهريبه خارج العراق، وقتل الابن، هكذا نعلم واخرج الكمالي من السجن ليموت فجأة ولم يكن يشكو من مرض. لقد انتهت حياة صديقي في الأربعينيات الذي هيأني نفسياً لأن أكون أحد أتباع الحزب. مات شفيق الكمالي أحد صانعي المنظمة السرية، لأنه لم يستطع أن يلبي حاجاته السرية