سجنيات الشعر العربي

السجنيات هي تلك القصائد التي كتبها أصحابها خلف القضبان ومفردها «سجنية» وكل قصيدة كتبها صاحبها في سجنه سميت ( سجنية ) فيقولون سجنية علي بن الجهم ، وسجنية المتنبي - وقد تجاوز البعض في العصر الحديث ، واستخدم مصطلح السجنيات لكل أدب يكتب داخل السجون سواء كان قصة أم رواية أم نصاً أدبياً يصور معاناة صاحبه وأشواقه وصراعات جوانحه [١]، لكننا هنا معنيون أكثر بالقصيدة ، لأن الشعر هو الأقدم بين كل فنون الأدب الأخرى ، ولأن الشعر هو الأوفر حظاً في هذا الباب في كل العصور ، ومرجع ذلك أن النفس المكلومة تلجأ للشعر لأنه الأكثف لغةً والأقدر على إجمال المعاني في قليل الكلام ؛ علاوة على الإيقاع والموسيقى والأثر النفسي الذي يتحقق في الشعر دون بقية فنون الأدب الأخرى ؛ مما يجعله قادراً على توجيه الرأي العام ؛ ولعل مقولة عبد الله بن عمر : «أفضل صناعات الرجل بيت ٌ من الشعر يقدمه في صدر حاجته يستعطف به قلب اللئيم» ، تبين لنا دور الشعر في العلاقة بين الحاكم والمحكوم ، كما أن الشعر منذ بداياته الأولى قد عرف كسلاح مقاوم في مواجهة الظلم والاستبداد - والسجن تجربة ثرية لمن ابتلي بها من الشعراء والكتاب على مر العصور ، والشعر العربي زاخر بآيات من الفن في هذا الباب ، لشعراء وكتاب عانوا تجربة السجن أو الأسر ؛ ففاضت قرائحهم شعرا ثائراً أبياً ناطقاً بروح المقاومة وإرادة الحياة ، وعالج آخرون تلك التجربة علي أنها محنة ستنتهي ؛ كما تنتهي كل المحن ومثلما تنتهي الحياة ، فوضعوا في ذلك المقاربات والمقارنات ، ولديهم الآمال الكبيرة بالخـلاص والحرية .. ومنهم من روعته السجون والقيود ، وحالت بينه وبين أحبائه ، فراح يناجي أبناءه الصغار وزوجه وخلانه في ظلامها الحالك ، وعيشها المنكود ، وسوف نري إلي أي حد تتباين أسباب السجن والإبعاد ، في قديم العصور وحديثها ، وفي مختلف البيئات ريفها وحضرها ، لنطلع من خلال ذلك على ثقافة عصر الشاعر ونبوءاته ، وأعلامه ودهمائه ، وأحداثه وإرهاصاته

ومن أشهر تلك السجنيات [٢] في الشعر العربي قصيدة الشاعر العباسي (علي بن الجهم) والتي قالها في الحبس - وهي قصيدة فيها إباء على الذل والاستعطاف - يقول فيها:

قالَت حُبِستَ فَقُلتُ لَيسَ بِضائِري : حَبسي وَأَيُّ مُهَنَّدٍ لا يُغمـَدُ

أَوَما رَأَيتِ اللَيثَ يَألَفُ غيلَهُ : كِبراً وَأَوباشُ السِباعِ تَرَدَّدُ

وَالشَمسُ لَولا أَنَّها مَحجوبَةٌ : عَن ناظِرَيكِ لَما أَضاءَ الفَرقَدُ

وَالبَدرُ يُدرِكُهُ السِرارُ فَتَنجَلي : أَيّامُــهُ وَكَأَنَّهُ مُتَجَدِّدُ

وَالغَيثُ يَحصُرُهُ الغَمامُ فَما يُرى : إِلّا وَرِيِّقُهُ يُراحُ وَيَرعُدُ

وَالنارُ في أَحجارِها مَخبوءَةٌ لا تُصطَلى إن لَم تُثِرها الأَزنُدُ

وَالزاعِبِيَّةُ لا يُقيمُ كُعوبَها إِلّا : الثِقافُ وَجَذوَةٌ تَتَوَقَّـدُ

ومنها :

أَنتُم بَني عَمِّ النَبِيِّ مُحَمَّدٍ .. أَولى بِما شَرَعَ النَبِيُّ مُحَمَّدُ

ما كانَ مِن حَسَنٍ فَأَنتُم أَهلُهُ ..طابَت مَغارِسُكُم وَطابَ المَحتِدُ

أَمِنَ السَوِيَّةِ يااِبنَ عَمِّ مُحَمَّدٍ .. خَصــمٌ تُقَرِّبُهُ وَآخَرُ تُبعِـدُ

إِنَّ الَّذينَ سَعَوا إِلَيكَ بِباطِلٍ .. أَعداءُ نِعمَتِكَ الَّتي لا تُجحَدُ

شَهِدوا وَغِبنا عَنهُمُ فَتَحَكَّموا .. فينا وَلَيسَ كَغائِبٍ مَن يَشهَدُ

لَو يَجمَعُ الخَصمَينِ عِندَكَ مَشهَدٌ .. يَوماً لَبانَ لَكَ الطَريقُ الأَقصَدُ

فَلَئِن بَقيتُ عَلى الزَمانِ وَكانَ لي.يَوماً مِنَ المَلِكِ الخَليفَةِ مَقعَدُ

وَاِحتَجَّ خَصمي وَاِحتَجَجتُ بِحُجَّتي .. لَفَلَجتُ في حُجَجي وَخابَ الأَبعَدُ

وَاللَهُ بالِغُ أَمرِهِ في خَلقِهِ .. وَإِلَيهِ مَصدَرُنا غَداً وَالمَورِدُ

وَلَئِن مَضَيتُ لَقَلَّما يَبقى الَّذي .. قَد كادَني وَلَيَجمَعَنّا المَوعِدُ

فَبِأَيِّ ذَنبٍ أَصبَحَت أَعراضُنا .. نَهباً يُشيدُ بِها اللَئيمُ الأَوغَدُ

ثم تأتي سجنية " عاصم بن محمد الكاتب " لما حبسه " أحمد بن عبد العزيز " ، ويبدو أنه يعارض بها قصيدة " بن الجهم" ، فهو يرد على نفس أفكاره وموضوعاته ويفندها ببراعة الشاعر الفذ ، فالقصيدتان على نفس الوزن والقافية ؛ ويبدو من قصيدة عاصم أنه يتحدى بن الجهم ، أو أنهما أمام جمهور في مناظرة شعرية ولكل واحد وجهة نظر ومؤيدون ، وها هو عاصم يرى أن السجن هوانٌ ما بعده هوان ؛ في سجنيته الواقعية الشاكية المستسلمة  :

قالت حُبست فقلت خطبٌ أنـكـد ... أنحى علي به الزمان المرصـد

لو كنت حراً كان سربي مطلـقـاً .ما كنت أُؤخـذ عـنـوةً وأُقـيد

أو كنت كالسيف المهند لـم أكـن وقت الشديدة والكريهة أُغـمـد

أو كنت كالليث الهصور لما رعت ... فيّ الذئاب وجذوتـي تـتـوقـد

من قال إن الحبس بـيت كـرامةٍ ... فمكاثرٌ في قولـه مـتـجـلـد

ما الحبس إلا بيت كـل مـهـانةٍ ..ومذلةٍ ومـكـارهٍ مـا تـنـفـدُ

إن زارني فيه العدو فـشـامـتٌ يبدي التـوجـع تـارةً ويفـنّـد

أو زارني فيه الصديق فمـوجـعٌ . يذري الدموع بزفـرةٍ تـتـردد

يكفيك أن الحبس بـيت لا يُـرى ... أحـدٌ عليه من الخلائق يحـسـد

ويبدو أن عاصماً تبنى هذا الموقف ؛ وهو ( إظهار إحساسه بالذل والمهانة في محبسه)؛ حتى لا يبدو أمام (أميره)"أحمد بن عبد العزيز " متحدياً له إن هو أظهر تجلداً وعناداً كما فعل صاحبه " ابن الجهم " ، ويؤكد ذلك قوله فيما بعد :

هبني أسأت فلم حقدت إسـاءتـي .. ماإن عهدتك مذ صحبتك تحـقـدُ

بل كنت تغتفر الذنوب تـكـرمـاً..وتظلّ تعفـو دائمـاً وتـغـمّـد

فاغفر لعبدك ذنبـه مـتـطـولاً .. فالحقد منك سجـيةٌ لا تـعـهـد

واذكر خصائص حرمتي ومقاومي ... أيام كــنتَ جميع أمري تحـمـد

يا أحمد بن محمـدٍ يا ذا الـنـدى ..دم لي على ما كنت لي يا أحمـد

لا تشمتن بي العـدو وخـلّـنـي ... ببياض وجهك إن وجهي أسـود

والعرجي محبوساً - بسبب تعريضه بمحمد بن هشام، يقول من قصيدته ؛ الذائعة الصيت:

أضاعوني وأي فتى أضاعوا :: ليوم كريهة وسداد ثـغــر ِ

وخلونـي ومعتـرك المنايـا ::وقد شرعوا أسنتهم لنحـري

والحطيئة حينما هجا الزبرقان عامل عمر بن الخطاب فيحبسه فيقول مستعطفاً بأبنائه الصغار في مطلع سجنيته :

ماذا أقول لأفراخ ٍ بذي مرخ ٍ :: زغبِ الحواصل لا ماءٌ ولا شجرُ

ألقيتَ كاسيَهم في قعر مظلمةٍ :: فاغفر عليك سلامُ الله يا عمرُ

أنتَ الإمامُ الذي من بعد صاحبهِ ألقى إليكَ مقاليدَ النهى البشرُ

ومن أشهر سجنيات الشعر العربي ، سجنية الشاعر الملك " المعتمد بن عباد" كبير ملوك الطوائف بالأندلس الذي اعتقل بعد عز وقد تغير الزمان عليه ( وإن الدهر ذو غير ) ، وقد مرَ عليه في موضع سجنه ؛ سرب قطا رآها تمرح في الجوَ، فبكى حاله وما يقاسيه من قيود وأثقال ، وفكر في بناته وقد تبدل حالهن بعد عز ، وكان ذلك بعد نفيه إلى "أغمات " على يد يوسف بن تاشفين ، فقال في ذلك  :

بكيتُ إلى سرب القطا إذ مررن بي سوارح، لا سجنٌ يعوقُ ولا كبلُ

ولم تكُ والله المعيذُ حسادة ولكن حنيناً أنَ شكلي لها شكلُ

فأسرحُ، لا شملي صديعٌ، ولا الحشا جميعٌ ولا عيناي يُبكيهما ثُكلُ

هنيئاً لها أُن لم يُفرَق جمعُها ولا ذاق منها البعد من أهلها أهلُ

وأن لم تبت مثلي تطير قلوبُها إذا إهتزَ بابُ السَجن أو صلصل القُفل

وما ذاك مما يعتريني، وأنما وصفتُ الذي في جبله الخلف من قبلُ

لنفسي إلى لقيا الحمام تشوقُ سواي يُحبَ العيش في ساقه حجلُ

ألا عصم الله القطا في فراخها فإن فراخي خانها الماءُ والظَلُ

المراجع

سجنيات الشعر العربي - خصائص وسمات (مخطوط) – تأليف / موسى إسماعيل الفقي ( مصر )

  1. ^ أدباء خلف القضبان - عدد مجلة الهلال (المصرية) منتصف القرن الماضي
  2. ^ المقال هنا مجرد إشارات عابرة حول موضوع السجنيات وسماتها.