رعشة الحرية



مقالة: أحمد محمود زين الدين

يدل العنوان الموحي لكتاب غادة السمان الجديد على كل ما في الرعشة من"دلالات حافة" حسب عبارة الألسنيين الجدد، أي ما يومئ إلى معاني الرغبة والشوق والأحاسيس، غير أن إضافة الرعشة إلى الحرية تنقلها من هذه المعاني الحسية الإيروسية، إلى المعاني النفسية والروحية والعقلية، دون أن تنقطع أواصر المعاني المتنقلة بين النفس وتعبيراتها الملموسة، وبين المسرة الجسدية والمسرة العقلية، حيث رعشة الجسد إزاء الآسر والبهيج والفتان من جوانب الحياة والفن والطبيعة التي تكشف عنها مدن العالم وغاباته وبحيراته وكاتدرائياته ومسارحه وفنادقه. أما مدار هذه الحرية المشتهاة، وبؤرة تفتحها وإشعاعها، فهي اختراق أسرار الأمكنة، والسباحة في فضاءات أثيرية، وعوالم فردوسية. هي لذة التأمل والتحديق في كتاب الكون والإنسان. الكتاب المفتوح على الدوام إزاء هذه المترحلة السندبادية، المتعطشة إلى الانتقال على أجنحة الطائرات أو على أجنحة المخيلة. المسكونة المتماهية بجماليات الطبيعة وصور الأمكنة التي لا تحصى. الدائبة النظر إلى تفاعلية الناس وتحولاتهم مع هذه الأمكنة، وكيفية تصورهم لها من خلال اختباراتهم، وتنظيمها وفاق طرائقهم المختلفة باختلاف ضروب عيشهم وثقافاتهم وحضاراتهم. حتى ليمكن أن تثري هذه المعطيات وتلك النظرات العميقة إلى علاقة الإنسان بالمكان. ما يسميه الباحث الأميركي ادوارد هال " السلوك البروكسيمي " أي السلوك المكاني. ولكن دون الوقوف عند هذا البعد السوسيولوجي من عمل المؤلفة وهو جانب ثانوي رغم وزنه. فإن غادة السمان الكاتبة تعيد تخليق الأمكنة. تعيد صهرها في بوتقة شاعرية. بل أقول تحررها من ثقلها الطبيعي والمادي، وتطلق العنان لمخيلتها الخلاقة لتشكلها من مادة أثيرية وضوئية. هذه المخيلة الطليقة التي تبعث الأمكنة من سباتها التاريخي المتطاول، وتوقظ حس الحجر والاسمنت "قصر الملك لودفيك الثاني في بافاريا." تجعل القارئ يبحر في أوقيانوس الأزمنة ويعيش مغامرات الروح الإنسانية. بل تجعله الكاتبة يتصور نفسه أنه هو أيضا يقف مثلها أمام هذه الأمكنة خاشعا خشوع المتعبد في محراب الهيكل الإلهي. هذه النشوة الصوفية التي تحس بها غادة الهاربة من ميكانيكية الحياة، وعنكبوتية مصالح كبارها المالية والتجارية. لم تحد من تطلعها إلى نفر يصيخون السمع ويقبلون دعوتها، وهم على عتبة القرن الحادي والعشرين، إلى البحث عن صفاء الروح البشرية، والى الإنصات إلى وجيب القلب وحرارة العاطفة. لذا فإن الكاتبة الدائمة السفر والطيران في أرجاء الكون. موسومة كلماتها بهذه الانطباعية الإنسانية المنحى التي تنفعل بحياة الناس الذين يعيشون في هذه الأمكنة وتلك الأوطان. وتنفعل بدينامية حضاراتهم وطرائقهم السلوكية. ولأنها تسعى إلى أنسنة المكان فإنها إذا ما وجدت في أمكنة باردة كئيبة ومصطنعة ومجوفة من الداخل، وخالية من حرارة العاطفة والإنسانية، فإنها لا تلبث أن تغدو أكثر حساسية وفرحا، وانجذابا إلى وميض الضوء العاطفي الإنساني. فتلتقطه إذا ما لاح من بعيد، وتطير حوله كفراشة الحقول، مثل "الحب في مطار الدولار" حيث تحتفي بحب العاشقة الصغيرة من ركاب الطائرة، وتخشى على هذا الكنز العاطفي الذي تحمله الفتاة بين ضلوعها، من الضياع. تحمل غادة السمان النهمة إلى حياة السفر في تجوالها على الأصقاع الأميركية على وجه التحديد، إحساسا يتناقض مع هذه الأمكنة العدائية التي تمور بالمفارقات الإنسانية والمادية. فإزاء الكآبة الاسمنتية لناطحات السحاب النيويوركية والأبنية الفولاذية الحديثة، تكتشف الكاتبة حنينها إلى نضارة الخضرة وبهاء الأرض. وبدل المكان المغلق المعتم أو المضاء اصطناعيا، تتطلع إلى المكان المفتوح والفضاء الرحب المشع، حيث الداخل مكان للاختناق والعفونة والوحشة، والخارج نقطة انطلاق نحو المجهول والمغامرة والتحرر. وعوض هذه الآلية التي تغل عنق المدن الأميركية بحدائقها ومتاحفها وفنها الميكانيكي "زيارة إلى معرض الفنان الأميركي بروس نيومان " ومسارحها ومكاتبها الالكترونية، تصبو غادة إلى الحياة الطبيعية والعفوية والبساطة. هذه العدائية حيال المكان الأميركي مبثوثة في كل مقاطع الكتاب، حيث يتصاعد من شوارع نيويورك " بخار ينفث أنفاسه المسمومة كتمساح من جحيم "، وحيث تشعر أن ناطحات السحاب المحيطة بك "تتحرك وتميل ببطء لتقع فوق رأسك" بل هي تصدر الجزء الأول من كتابها الذي يدور حول زيارة المدن الأميركية بمجموعة مقتطفات من مفكرين أميركيين وأوروبيين كبار يشددون فيها على السمة العنفية والوجه البربري لهذا البلد. أماكن عدوة ولعل الإحساس بعدائية هذه الأمكنة ليس مرده موقف غادة السمان من سياسة الولايات المتحدة الأميركية، ولا من الثورة التكنولوجية التي يمثل ذروة تطورها المجتمع الأميركي المعاصر، بل هي ناجمة عن هذه المعادلة الفكرية الصعبة التي تحاول أن تجد لها غادة السمان حلا معقولا، وهي اطراد التقدم التكنولوجي السريع، مع الحفاظ في الآن عينه، على النسيج الإنساني الوجودي والأخلاقي في المجتمعات الإنسانية المتطورة. وبالرغم من هذا النفس العدائي، وهذا الوجه القبيح الأميركي، يظهر أحيانا وجه أميركي طيب. بل إن الكاتبة الآتية من إرثها العربي والمشرقي، والحاملة قلبا هو " قطعة من أرض بلادها " تبدي إعجابا ممزوجا بالمرارة والأسى من قدرة أصحاب هذه البلاد على فضح عيوبهم ومناقشة أخطائهم علنا، في حين أن مجتمعات " التابو" كما تسميها، يجملون عيوبهم. ومن طريق المقارنة تفضل الكاتبة أسوأ الديموقراطيات الأوروبية والغربية على أفضل الديكتاتوريات العربية والشرقية. وإذا كان المكان الأميركي مكانا عنيفا وكئيبا، فإن بلدانا أوروبية أخرى تمثل الجانب المضيء من الغرب. مثل كوبنهاغن باسترخائها الدافئ والأخاذ، وطمأنينة أهلها، ومثل دماثة الشعب الألماني والشعب النمساوي، ومثل هولندا بمعارض أزهارها، ودراجاتها الهوائية، وبروكسل بحديقتها " ميني يوروب " التي تجمع مجسمات المعالم الأوروبية الشهيرة لخمس عشرة دولة شريكة في الوحدة الأوروبية. وإزاء هذه الحديقة برمزيتها الوحدوية المعبرة، تقف الكاتبة متحسرة على ما آلت إليه وحدة العرب التي لا تجد لها وسيلة أو طريقة سوى الشعارات المضجرة والخطب المنبرية. أما سويسرا فبالرغم من محاولة تماهيها مع الأسلوب الأميركي "الهامبرغري" حسب عبارة السمان الطريفة، استرضاء للسياح، فإنها ما تزال تحافظ على صفائها وبهائها وخضرتها الباهرة. وتذكرنا الكاتبة بعد زياراتها متاحف الغرب بتقصيرنا نحو إبداعاتنا المحلية، وتاريخنا الذي يضيء متاحف العالم، وقدرة اليهود على استغلال عاطفة الغربيين عليهم بعد الحرب العالمية الثانية وابتزازهم سياسيا واقتصاديا، وسياحيا أيضا. وإن كانت الكاتبة تتهكم على مظاهر الثراء الكاذب، والنمط الاستهلاكي البذخي، والغطرسة الفارغة في أميركا والغرب، فإنها لا ترحم بقلمها الوصفي اللاذع بعضا من مظاهر الثراء العربي الفاحش، واستعراضية السياح العرب الأثرياء، وسماجة تصرفاتهم، وعديد مثالبهم التي لا يمكن أن يسوغها أدب اللياقة. غادة السمان في غربتها وهي تسبر أغوار الأمكنة والحضارات، وتنزع الأقنعة المزيفة عن وجوه كثيرة في هذا العالم المترامي، يحتل وطنها الصغير ووطنها الكبير وجدانها وذاكرتها.

المرجع : جريدة السفير اللبنانية