خلود النفس
خلود النفس هو بقاؤ ها بعد الموت ومشكلة خلهد النفس شغلت الانسان منذ وجوده، لأنه يعزعليه أن يكون الموت هوغهاية وجوده فذاعنيت جهاالأديان والفلسفات امختلفة على مدى تاريخ البشرية . وارتبطت بهذه المسألة معان أخلاقية تتعلق بالعقاب والثواب إذ عز على الانسان ألا ينال لمذنب أو الظالم عقاباً عن مظالمه وجرائمه في عالم آخر بعد أن أفلت منه في الدنيا كما هومشاع بالنسبة الى معظم المذنبين والظالمين : فالغالبية العظمى منهم تموت دون أن تحاسب وتعاقب لهذاكان على لانسان أن يتصورأن عقابهم سيكون في » عالم آخر» . ولا بد من أجل ذلك أن تظل نفوسهم باقية بعد الموت لتنال العقاب اوفاق. كذلك الشأن بالنسبة إلى المحسنين الذين لم ينالوا في الحياة ثوابا عن أفعالهم الخيرة، لا بد أن يفترض أنهم سينالونه في حياة «أخرى» . ومن أجل ذلك لا بد أن تظل نفوسهم باقية بعد الموت لتنعم بالثواب والمكافأة الحسنة عما قامت به من أعمال خيرة.
وسواء أكانت الدواعي للاعتقاد في خلود النفس وجودية، أو أخلاقية، فلا بد أن يتوافر عنصران في معنى هذا الخلود:
الأول هوأن يكون بقاء النفس بعد الموت أبداً، وليس لفترة محدودة فقط.
والثاني أن يكون الشخص نفسه بهويته الجوهرية هو الذي يبقىويخلد.
ولهذا يقول أمانويل كنت في تعريفه لخلود النفس : «خلود
النفس معناه أن يستمر الموجود العاقل وشخصيته استمراراً لا نهائياً»(«نقد العقل المحض»، الكتاب الثاني، الفصل الثاني، البند ٤) . والمقصود بالشخصية هنا الوحدة العقلية الواعية التي تربط معا سنوات حياة الكاثن على الأرض. والخلود معناه استمرار هذا الوعى العقل إلى أبد الآبدين استمراراً لا متناهياً، على ان يكون مستوى الوعى هو على الأقل نفس مستوى الوعي في حياة الدنيا. وهذا يعني ان كنت لا يستبعد إمكان نمو هذه الشخصية وهذا الوعي في حياته بعد الموت.
وهذا ينبغي الا نخلط بين هذا المعفى لخلود النفس وبين أمرين كثيرا ما يحدث الخلط بينهما و بينه :
الأمر الأول: هوفهم خلود النفس بمعنى خلود الجن البشري أو النوع الانسافي، أو بقاء تأثير فكر لانسان في الأجيال التالية إلى غير نهاية . فليس هذا أبدا هو المقصود بخلود النفس.
والأمرالثاني : هو فهم هذا الخلود بمعفى المشاركة في حياة اهية دائمة، لأننا هنا بازاء تحول شخصية الانسان إلى جوهر اخر فوق إنساني، والخلود إذن ل يكن للشخصية الانسانية التي قضت مدة زمنية محدودة في الحياة الدنيا.
ولتصور إمكان خلود النفس هناك ثلاثة اتجاهات:
الأول: يقول إن الإنسان مركب من جسم وروح، وأن الروح تقومبنفسهاجوهرا يستقل في وجوده عن البدن، وما البدن إلا بمثابة محل تحلفيه الروح، ثم تتركه عند الموت، أوعلىحد تعبيرأفلاطون : البدن سجن للروح أوالنفس، تنطلق منه عند الموت . وهذا هو مذهب أفلاطون .
والثافي: يقول أن الشخص هو نوع من الشبح أو الظل للانسان، وهذا الشبح أوالظل يفرمن البدن عندالموت. وهذا الرأي تجده عند بعض اباء الكنيسة مثل ترتليانوس في كتابه «في
٤٦٧
٤٦٨
خلود النف
النفس». وبعض الروحانيين المعاصرين يقولون بقول شبيه بهذا حين يتحدثون عن البدن الكوكبي astral body الذي ينفصل عند الموت ليقوم «برحلة إلى بلاد الصيف» ع11 0٤ Journey Summerland,
والثالث :القول بوجود نوعمن العقل في النفسهولعقل الفعال، مرتبط بفلك القمر، وهو وحده الجزء الخالد في الانسان، وهذا هورأي الاسكندر الافروديسي والفارابي وابن سيناوابنرشد .
فإذا نظرنا الآن في الحجج التي ساقها أنصار القول بخلود النفس، كان علينا أن نبدأ بأفلاطون الذي أولى هذه المألة إهتماما بالغا.
وقد ساق أفلاطون في محاورة «فيدون» الحجج الثلاث التالية:
١ - هناك اعتقاد قديم يقول ان ا لأرواح تذهب منهنا إلى عالم آخر، ومن ذلك العالم الآخر تعود إلى عالمنا من جديد. وهذه حالة خاصة من المبدأ العام الذي يقول ان كل الأشياء تتولد من اضدادها. فالأرواح الحية تتولد من الأرواح التي ماتت، والتي مانت تتولد من التي كانت حية.
٢ -اما الحجة الثانية فتقوم على أساس مذهب التذكر، أي أن كل معرفة هي تذكر لمعرفة سابقة حصلتها النفس في حياة سابقة على حياتها في البدن. فإذا أقررنا بأن الصور(ألمثل) موجودة وأن المعرفة هي تذكر للصور بمناسبة المحوسات المشاركة للصور، فإنه ينتج عن هذا بالضرورة أن النفس كانت موجودة قبلحياتهاهنا، فإنكانت موجودة مثل هذه لحياة، فإنها ستوجد بعدالموت، علىأساس الحجة الأولى التي تقول أن الأضداد تنشا منأضدادها .
٣ - والحجة الثالثة تقوم أيضا على نظرية الصور. فما دمنا نقر بوجود الصور، وما دامت النفس صورة الحياة، فهي أزلية أبدية شانها شأن سائر الصور.
ثم يأقي في المقالة العاشرة من محاورة ,السياسة» فيسوق حجة رابعة، ومفادها أن لكل شيء خيره وشره : فالرمد شر العين، والمرض شر الجسم. فإن وجدنا شيئا لا يتحطم بواسطة الثر الخاص به، فلا بد أن يكون خالدا. والنفس في هذه الحالة، لأنها لا تتحطم بواسطة شرورها مثل الظلم، والشهوة، والجبن، والجهل (التي هي أضداد الفضائل الأربع: العدل، العفة، الشجاعة، الحكمة). إن نفس الانسان لا يمكن أن يحطمها
الثر، إذ الانسان الثرير يستمر في الحياة والوجود. ولهذا فإن النفس خالدة؛ إذ المرض الجماني خاص بالجسم وبالتالي يقتل الجسم، لكنه لا يقتل الروح. («الياسة» ص٦٠٨ د - ٦١١أ) .
وقد اختلف المؤرخون في قيمة هذه الحجج الأربع عند أفلاطون، وأرج الآراء هوأن الحجة الثالثة هي الأقوى في نظره. (راجعجورج رودييه: «دراسات في الفلسفة اليونانية»، وراجع في هذا كتابنا : « أفلاطون» ،ط١، القاهرة سنة ١٩٤٣).
وكل الذين أخذوا بمذهب افلاطون من بعده، حتى القرن الماضي قالوا بخلود لنفس.
أما أرسطوفإن صريح مذهبه يقضي بفناء النفس مع فناء البدن، لأن النفس صورة البدن، والصورة توجد مع هيولاها: وتفى بفناء هيولاها. بيد أن أرسطومع ذلك أشار اشارة غامضة إلى جزء خالد في النفس، هوالعقل الفعال، وذلك حين قال عن هذا العقل : «ولست أقول انه مرة يفعل، ومرة لا يفعل،بلهو بعد ما فارقم على حال ما كان، وبذلك صارروحانياً». (,في النفس:،٤٣٠أ -٢٣).
وهذه الاشارة الغامضة تلقفها بعض شراحه وأنصاره في العصر الهليني والعصر الوسيط (الاسلامي والمسيحي على سواء) فاستنتجوا منها أن ارسطويقول بخلود جزء من النف هو ا لعقل الفعال. وقد غالى الاسكندر الأفروديسي في وصف هذا العقل الفعال فقال انه بمثابة النور الذي يضيء لنا المعقولات (رسائله، نشرة برلين ص ١٠٧ ص ٣١) وأنه هو الله، وأنه خالدغيرفاسد، قديم(النثرةالمذكورةص١١٢س٢٧،ص١١٣س٣).لكن هذا العقل يوجد خارج الانسان، وأنه واحد من حيث مصدره، وكثيرمن حيث الأفرادالذين يشاركون فيه. وبهذا الرأي اخذابن سينا في المقالة الخامسة من الفن السادس من كتاب «الشفاء» (ج ١ص٣٥٨-ص ٣٦١،طبع حجر في طهران).
وفي العصر الوسيط في أوربا جاء البرتس الكبيرفقال «ان العقل الفعال يفعل باستمرار. . . وهوصورة جميع المعقولات» (رسالة في العقل والمعقول).
لكن ابن سينا يقرر صراحة أن «النفس الانسانية» جوهر غيرمخالط للمادة، بريءعن الأجسام، منفرد الذات بالقوام والعقل («عيون الحكمة» ص ٤٦، نشرتنا، القاهرة سنة ١٩٥٤.
أما في العصر الحديث فإننا نجد لكنت موقفا خاصا من
خلود التف
٤٦٩
مسألة خلود النفس إذ يقرر أن من غير الممكن البرهنة عقليا وببراهين نظرية على خلود النفس، كما لا يمكن نظريا وببراهين عقلية إثبات عدم خلودها . ونقد الحجة التي ساقها مندلزون في كتابه «فيدون» ومفادها أن النفس جوهر بسيط، وما هوجوهر بسيط لا يمكن أن يفنى، إذ هو بوصفه بيطا فإنه لا ينحل وبالتالي لا يمكن أن يفنى. وقد رد كنت على هذا البرهان قائلا انه لوصح أن النفس ليست مركبة، أي لا تحتوي على مقدارممتد، فإنها مع ذلك ذات مقدار من حيث الثدة وهذهالثدة يمكن أن تتناقص شيئا فشيئا إلى درجة الزوال. («نقد العقل المحض»، الديالكتيك المتعالي، ص ٤٢٢ وما يليها من طبعة ركلام).
لكن من ناحية العقل العملي يمكن - هكذا يقرركنت -فتراض ان النفس خالدة ويدعونا إلى وضع هذه المصادرة في الأخلاق «إن تحقيق الخير الأسمى في العالم هو الموضوع الضروري للارادة التي يمكن ان تعين بالقانون لأخلاقي. لكن في هذه الارادة التوافق التام بين النيات وبين القانون الأخلاقي هو الشرط الأعلى للخيرالأسمى فيجب أن يكون ممكناهو وموضوعه، لأنه متضمن في نظام تحقيق هذا الموضوع. لكن التوافق التام للارادة مع القانون الأخلاقي هوالقداسة وهي كمال لا يقدر على بلوغه أي كائن عاقل في العالم المحسوس، في أية لحظة من لحظات وجوده. بيد أنه لما كان أمرا ضروريا من الناحية العملية، فإنه لا يمكن بلوغه إلا في تقدم يستمر إلى غير غهاية نحو هذا التوافق التام، ووفقا لمبادى، العقل المحض العملي. ولهذا من الضروري أن تقر بوجود تقدم عملي مثل هذا، بوصفه موضوعا حقيقيا لارادتنا. ومثل هذا التقدم اللامتناهي لا يكون ممكنا إلا يافتراض وجود وشخصية للكائن العاقل باقيين أبدا إلى غيرنهاية (وهذا ما يسمى : خلود النفس) . وإذن فإن الخيرالأسمىليسممكناعملياإلاافتراضخلودلنفس. وتبعا لذلك فإن خلود النفس - بوصفه لا ينفصل عن القانون الأخلاقي - هومصادرة للعقل المحض العملي» («نقد العقل العملي»ط١ ص ٢١-٢٢٠ .
إذن خلود النفس مصادرة - اي أمر يطلب التسليم به تسليما، لكن لا يمكن البرهنة عليه عقليا. -ما دام لا يؤدي إلى تناقض. (راجع كتابنا : «الأخلاق عند كنت» ص٠١٤٩٠١٤٨ الكويت سنة ١٩٧٩).
الحجج ضد خلود النفس:
وفي مقابل هذه ا لحجج لاثبات خلود ا لنفس، نجد حججا
مضادة لإنكار خلودها. ويمكن تلخيصها في ثلاث حجج :
(أ) لا يوجد دليل على قدرة الشخصية الانسانية على البقاء بعد موت البدن .
(ب) من المستحيل إثبات بقاء النفس ببراهين علمية. (ح) وحتى لوأمكن ذلك، لما كانت له قيمة أخلاقية.
ولنفصل القول في الحجة الثانية، وتسمى أيضا بحجة «اعتماد النفس والبدن كل منهما على الآخر» . ويشرحها برترند رسل (لماذا أنا لست مسيحيا؟ ص ٥١، نيويورك، سنة ١٩٥٧) هكذا:
«نحن نعلم أن المخ ليس خالدا، وأن الطاقة المنظمة لجسم حي تصيركما لو كات مسرحة عند الموت، وبالتالي ليست مهبأة للعمل الجماعي. وكل الدلائل تدل على أن ما نعتبرهحياتنا العقلية مرتبط بتركيب المخ وطاقة الجسم المنظمة. لهذا فإنه من المعقول أن نفترض أن الحياة العقلية تترقف عندما تتوقف الحياة الجسمية. والحجة ها هنا احتمالية فحسب، لكنها من القوة بالقدر الذي عليم تقوم معظم النتائج العلمية».
وكان الرائد في هذا المجال هوديفيد هيوم في الفصل الذي عقده في « لا مادية الروح» من كتابه «بحث في الطبيعة الانسانية» (ج ٢ ص ٥١٠-٥٣٣، لندن سنة ١٨٨٦ ) وفيه حاول أن يثبت ا ن النفس (أو ا لروح) ليست جوهرا بسيطا وليست لا مادية. لقد وجد أمامه اتجاهين لاثبات خلود النفس : الأول هوالذي سارفيه بعض أنصار ديكارت واللاهوتيون، ويقوم على التمييز بين جوهرين مختلفين تماما : أحدهما ممتد وقابل للانقسام، وهوالمادة، والآخرغيرمتد وغيرقابل للانقسام وهو النفس أو الروح، والثاني هو اتجاه باركلي الذي رد المادة الميتة إلى مجرد توال للمشاعر feelings وباستبعاده للمادة ظن انه أثبت لا مادية الروح. فجاء هيوم وضرب التيارين الواحد بالآخر. فأقر قول باركلي برد المحسوسات إلى الاحاسات، مقررا أن إحاساتنا لا تمثل موضوعات ممتدة، لكننا لا نستطيع -هكذا يستنتج هيوم -أن نقر بهذا دون أن نقرر في نفس الوقت أن بعض انطباعاتنا - مثل انطباعات البصرواللمس -هي نفسها بمتدة. إن الفكرهوتوالي الانطباعات: وبعضها، وعدده قليل، ممتدة بالفعل. لكن وجود انطباعات لا ممتدة لا يسمح لنا بأن نؤ كد وجود جوهر لا مادي. ومن ناحية أخرى، استشهد هيوم بما يحدث لسائر الأحياء في الطبيعة، واستنتج أن النفس الانسانية مائتة فانية هي الأخرى شأغها شأن ساثر نفوس الكائنات الحية.