حياة ابن سينا

حياة ابن سينا حياة حافلة بالأحداث لاتصاله بخدمة الحكام والسلاطين وتقلده الوزارة. وقد كتب عن شطر من حياته بنفسه.

مولده ونشأته

كان أبوه عبد الله بن سينا من الكفاة والعمال في مدينة بلخ، ثم انتقل لى بخارى في أيام الأمير نوح بن منصور الساماني، واشتغل والياً على قرية خرميثن من ضياع بخارى. ثم تزوج امرأة اسمها ستارة (بالفارسية = نجمة) .

وولد أبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا، صاحبنا، في هذه القرية في صفر سنة سبعين وثلثمائة (أغسطس / سبتمبر سنة ٩٨٠ م)، أو في قرية أفشنة التي منها أم ابن سينا، كما يقول هو نفسه في ترجمته. ويقول بعد ذلك :

«ثم انتقلت الى بخارى، وأحضرت معلم القرآن ومعلم الأدب. وأكملت العشر من العمر وقد أتيت علي القرآن وعلى كثير من الأدب، حتى كان يقضى مني العجب.

وكان أبي ممن أجاب داعي المصريين(1) ويعدّ من الاسماعيلية. وقد سمع منهم ذكر النفس والعقل على الوجه الذي يقولونه ويعرفونه هم. وكذلك أخي. وكانوا ربما تذاكروا وأنا أسمعهم وأدرك ما يقولونه ولا تقبله نفسي. وابتداوا يدعونني أيضاً إليه ويجرون على ألسنتهم ذكر الفلسفة والهندسة وحساب الهند. وأخذ يوجهني إلى رجل كان يبيع البقل ويقوم بحساب الهند حتى أتعلمه منه.

تعليمه

ثم جاء إلى بخارى أبو عبد الله الناتلي(2)، وكان يدعى المتفلسف، وأنزله أبي دارنا رجاء تعلمي منه. وقبل قدومه كنت أشتغل بالفقه والتردد فيه إلى اسماعيل الزاهد، وكنت من أجود السالكين، وقد ألفت طرق المطالبة ووجوه الاعتراض على المجيب، على الوجه الذي جرت عادة القوم به.

ثم ابتدأت بكتاب ايساغوجي على الناتلي. ولما ذكر لي حد الجنس أنه: هو المقول على كثيرين مختلفين بالنوع في جواب ما هو - أخذت في تحقيق هذا الحد بما لم يسمع بمثله، فتعجب مني كل العجب، وحذر والدي من شغلي بغير العلم . وكان أي مسألة قالها لي كنت أتصورها خيراً منه، حتى قرأت ظواهر المنطق عليه، وأما دقائقه فلم يكن عنده منها خبر.

ثم اخذت اقرأ الكتب على نفسي، وأطالع الشروح حتى أحكمت علم المنطق. وكذلك. كتاب أقليدس(3): فقرأت من أوله خمسة أشكال أو ستة عليه، ثم توليت بنفسي حل بقية الكتاب بأسره - ثم انتقلت الى «المجسطى» (4). ولما فرغت من مقدماته وأنتهيت إلى الأشكال الهندسية، قال لي الناتلي: تول قراءتها وحلّها بنفسك، وأعرضها عليّ لأبين لك صوابه من خطئه. وما كان الرجل يقوم(5) بالكتاب. وأخذت أحل ذلك الكتاب. فكم من شكل ما عرفه إلى وقت ما عرضته عليه، وفهمته إياه.

ثم فارقني الناتلي متوجها الى كركانج. واشتغلت انا بتحصيل الكتب من النصوص(6) والشروح: من الطبيعي، والإلهي. وصارت أبواب العلم تنفتح علي.

ثم رغبت في علم الطب، وصرت أقراً الكتب المصنفة فيه. وعلم الطب ليس من العلوم الصعبة فلا جرم أني برزت فيهم في أقل مدة، حتى بدأ فضلاء الطب يقرأون عليّ علم الطب. وتعهدت المرضى فأنفتح عليّ من أبواب المعالجات المقتبسة من التجربة ما لا يوصف، وأنا مع ذلك أختلف الى الفقه وأناظر فيه، وأنا في هذا الوقت من أبناء ست عشرة سنة.

ئم توفرت على العلم والقراءة سنة ونصفاً. فأعدت قراءة المنطق وجميع أجزاء الفلسفة. وفي هذه المدة ما نمت ليلة واحدة بطولها، ولا اشتغلت النهار بغيره. وجمعت بين يدي(7) ظهوراً، فكل حجة كنت أنظر فيها أثبت مقدمات قياسية. ورتبتها في تلك الظهور، ثم نظرت فيما عساها تنتج، وراعيت شروط مقدماته، حتى تحقق لي الحق في تلك المسألة. وكلما كنت أتحير في مسألة ولم أكن أظفر بالحد الأوسط في قياس، ترددت إلى الجامع وصليت وابتهلت إلى مبدع الكل، حتى فتح لي المنغلق وتيسّر المتعسر.

وكنت ارجع بالليل إلى داري وأضع السراج بين يدي، وأشتغل بالقراءة والكتابة. فمهما غلبني النوم أو شعرت بضعف، عدلت إلى شرب قدح من الشراب ريثما تعود إليّ قوتي، ثم أرجع إلى القراءة. ومهما أخذني أدنى نوم أحلم بتلك المسائل بأعيانها، حتى أن كثيراً من المسائل اتضح لي وجوهها في المنام. وكذلك حتى استحكم معي جميع العلوم، ووقفت عليها بحسب الإمكان الانساني. وكل ما علمته في ذلك الوقت فهو كما علمته الآن لم أزدد فيه الى اليوم، حتى أحكمت المنطق والطبيعي والرياضي. ثم عدلت إلى الإلهي، وقرأت كتاب «ما بعد الطبيعة»(8) فما كنت أفهم ما فيه، والتبس عليّ غرض واضعه، حتى أعدت قراءته أربعين مرة وصار لي محفوظاً، وأنا مع ذلك لا أفهم ولا المقصود به وأيست من نفسي وقلت: هذا كتاب لا سبيل إلى فهمه. وإذا أنا في يوم من الأيام حضرت وقت العصر في الوراقين، وبيد دلال مجلد ينادي عليه. فعرضه علىّ فرددته رد متبرم، معتقداً أن لا فائدة من هذا العلم. فقال لي: اشتر مني هذا، فإنه رخيص أبيعكه بثلاثة دراهم، وصاحبه محتاج إلى ثمنه. واشتريته، فإذا هو كتاب لأبي نصر الفارابي «في أغراض كتاب ما بعد الطبيعة». ورجعت إلى بيتي واسرعت قراءته. فأنفتح علي في الوقت أغراض ذلك الكتاب، بسبب أنه كان محفوظاً على ظهر قلب. وفرحت بذلك، فتصدقت في ثاني يوم بشيء كثير على الفقراء شكراً لله تعالى.

دخوله في خدمة سلطان بخارى

وكان سلطان بخارى في ذلك الوقت نوح بن منصور. واتفق له مرض تحير الأطباء فيه. وكان اسمي اشتهر بينهم بالتوفر على القراءة. فأجروا ذكري بين يديه، وسألوه احضاري. فحضرت وشاركتهم في مداواته.

وتوسمت بخدمته، فسألته يوماً الاذن لي في دخول دار كتبهم ومطالعتها وقراءة ما فيها من كتب الطب. فأذن لي. فدخلت داراً ذات بيوت كثيرة، في كل بيت صناديق كتب منضدة بعضها على بعض: في بيت منها كتب العربية والشعر، وفي آخر: الفقه، وكذلك في كل بيت كتب علم مفرد.

فطالعت فهرست كتب الأوائل، وطلبت ما احتجت إليه منها. ورأيت ما لم يقع اسمه إلى كثير من الناس، قط، وما كنت رأيته من قبل، ولا رايته أيضاً من بعد. فقرأت تلك الكتب وظفرت بفوائدها، وعرفت مرتبة كل رجل في علمه.

فلما بلغت ثماني عشرة سنة من عمري، فرغت من هذه العلوم كلها. وكنت اذ ذاك للعلم أحفظ، ولكنه اليوم معي أنضج، وإلا فالعلم واحد لم يتجدد لي بعده شيء.

تأليفه للكتب

وكان في جواري رجل يقال له أبو الحسين العروضي. فسألني أن أصنف له كتاباً جامعاً في هذا العلم. فصنعت له «المجموع» وسميته به. وأتيت فيه على سائر العلوم سوى الرياضي، ولي إذ ذاك احدى وعشرون سنة من عمري.

وكان في جواري أيضاً رجل يقال له: أبو بكر البرقي، خوارزمي المولد، فقيه النفس، متوحد في الفقه والتفسير والزهد، مائل إلى هذه العلوم. فسألني شرح الكتب، فصنفت له كتاب «الحاصل والمحصول» في قريب من عشرين مجلدة. وصنفت له في الأخلاق كتاباً سميته «البر والاثم» وهذان الكتابان لا يوجدان إلا عنده، فلم يعر أحداً ينسخ منهما.

ترحاله

تم مات والدي، وتصرفت بي الأحوال. وتقلدت شيئاً من أعمال السلطان. ودعتني الضرورة إلى الاخلال ببخارى والانتقال الى كركانج. وكان أبو الحسين السهلي - المحب لهذه العلوم - بها وزيراً وقدمت الى الأمير بها - وهو علي بن مأمون - وكنت على زي الفقهاء إذ ذاك بطيلسان وتحت الحنك، وأثبتوا لي مشاهرة دارة بكفاية مثلي.

ثم دعت الضرورة الى الانتقال الى نسا، ومنها الى باورد، ومنها الى طوس، ومنها الى شقان، ومنها إلى سمنقان، ومنها الى جاجرم رأس حد خراسان، ومنها الى جرجان وكان قصدي الامير قابوس. فاتفق في أثناء هذا اخذ قابوس وحبسه في بعض القلاع وموته هناك. ثم مضيت الى دهستان، ومرضت بها مرضاً صعباً وعدت الى جرجان. فاتصل أبو عبيد الجوزجاني بي، وأنشأت في حالي قصيدة فيها البيت القائل :

لما عظمت فليس مصر واسعي .... لا غلا ثمني عدمت المشتري(9)

تقلده الوزارة

إلى هنا انتهى ما أملاه ابن سينا من أحوال حياته على تلميذه المخلص الوفي أبي عبيد الجوزجاني، الذي تابع وصف سيرة حياة أستاذه، وذكر فهرسة كتبه ورسائله، وفصل القول في أحواله السياسية. وخلاصتها أن ابن سينا انتقل الى مدينة الري، واتصل بخدمة السيدة وابنها الملك مجد الدولة ابي طالب رستم بن فخر الدولة علي.

ثم اتفقت أسباب أوجبت بالضرورة ذهابه إلى قزوين، ومنه إلى همذان، واتصاله بخدمة كذبانويه. واتفقت له معرفة «شمس الدولة» وأمر باحضاره مجلسه بسبب قولنج أصابه، فعالجه حتى شفي. ففاز منه بخلع كثيرة، وصار من حاشية الأمير شمس الدولة. ونهض شمس الدولة إلى قرميسين لحرب عناز، وخرج ابن سينا معه في سلك خدمته. ثم توجه ناحية همذان منهزما راجعاً. ثم سألوه تقلد الوزارة، فتقلدها. ثم اتفق تشويش العسكر بسببه واشفاقهم على أنفسهم منه. فأغاروا على داره وأخذوه وحبسوه، وسألوا الأمير شمس الدولة قتله، فرفض الأمير. ثم أطلق سراح ابن سينا، فتوارى في دار أبي سعد بن دخدوك أربعين يوماً. وعاود الأمير شمس الدولة مرض القولنج، فطلب ابن سينا فحضر، واعتذر إليه الأمير، واشتغل ابن سينا بعلاجه، وأعاد الوزارة إليه ثانية.

وهنا بدأ في كتابه العظيم «الشفاء» بناء على التماس من تلميذه ابي عبيد. فابتدأ بالطبيعيات من كتاب «الشفاء». وكان يتولى التدريس للتلاميذ بالليل لعدم فراغه أثناء النهار؛ ومن تلاميذه كان: أبو عبيد الجوزجاني، والمعصومي، وابن زيلة، وبهمنيار.

ولما توجه شمس الدولة إلى طارم لحرب الأمير بهاء الدولة، توفي في الطريق من داء القولنج. وبويع ابنه وطلبوا من ابن سينا تولي الوزارة، فرفض.

ثم اتصل بالأمير علاء الدولة أبي جعفر بن كاكويه واشتغل في خدمته. وقام باصلاح أداة رصد الكواكب، ووضع آلات ما سبقه بها أحد.

ووقعت الحرب بين أبي سهل الحمدوني صاحب مدينة الري من جهة السلطان محمود الغزنوي، وبين علاء الدولة صاحب أصفهان. فقصد السلطان مسعود بن محمود الغزنوي أصفهان، في سنة خمس وعشرين وأربعمائة ، ومعه أبو سهل الحمدوني، فاستولى على أصفهان، ونهب خزائن علاء الدولة بن كاكويه.

ثم نهب أبو سهل الحمدوني مع جماعة من الأكراد أمتعة ابن سينا وفيها كتبه.

وأصيب ابن سينا بداء القولنج، بسبب فراطه في الشراب والجماع. وساءت حاله، فنقل محمولاً على محفة إلى أصفهان. وكان يعالج نفسه، لكنه كان في غاية لضعف. ثم حضر مجلس علاء الدولة وهو لم يبرأ من العلة كل البرء فكان يبرأ أسبوعاً ويمرض أسبوعاً.

وقصد علاء الدولة همذان ومعه ابن سينا. فعاود ابن سينا «القولنج في الطريق إلى أن وصل إلى همذان. وعلم أن قوته قد سقطت وأنها لا تفي بدفع المرض فأهمل أداة نفسه وأخذ يقول: المدبر الذي كان يدبر بدني قد عجز عن التدبير والآن لا تنفع المعالجة، وبقي على هذا أياماً، ثم انتقل إلى جوار ربه، وكان عمره ثلاثاً وخمسين سنة، وكان موته في سنة ثمان وعشرين وأربعمائة»(10). (ابن أبي أصيبعة، ج٢). وحدد تاريخ الوفاة البيهقي فقال: «مات في الجمعة الأولى من رمضان سنة ثمان وعشرين وأربعمائة ودفن في همذان. . . وكان عمر الشيخ (ابن سينا) نحو (٥٨ سنة) سنة من السنين الشمسية مع كسر»(11).


(1) لما كان الفاطميون هم القائمين عل الدعوة الاسماعيلية وكان مركزهم الرئيسي في مصر، فيبدو أن كلمة «المصريين» صارت تدل في النصف الثاني مر القرن الرابع والأول من القرن الخامس للهجرة عل أتباع المذهب أو الدعوة الاسماعيلية، وهو تعبير خطأ قطعاً لان مصر بشعبها كله لم تعتنق هذا المذهب أبداً طوال حكم الفاطميين ولا - طبعاً - بعد زوال دولتهم.

(2) راجع ترجمته في "تتمة صوان الحكمة"، للبيهقي ص ٣٧ دمشق سة ١٩٤٦، و "وفيات الأعيان" لابن خلكان وهو منسوب الى ناتل (بالتاء)، بلدة نواحي أمل في طبرستان بشمان شرقي طهران، كما في أنساب السمعافي ويقول عنه البيهقي أنه كان حكيما عالمأ مخلقاً بأخلاق جميلة وله رسالة لطيفة "في واجب الوجود وشرح اسمه، وهذه الرسالة دالة عل أنه كان مبرزاً في هذه الصناعة، بالغاً الغاية القصوى في علم الإلهيات ورسالة في علم الأكسير»

(3) أي كتاب «أصول الهندسة» لاقليدس.

(4) لطليموس وهو في علم الفلك

(5) أي يحسن فهمه

(6) النصوص الأصلية للمؤلفين، لا الشروح

(7) أي. بطاقات، جزازات يقيد يها ما يريد تقييده

(8) لأرسطو.

(9) ابن أي أصيبعة. "عيون الأنباء في طبقات الأطباء" ج ٢ ص٢ وما بعدها

(١) البيهقي: "تتمة صوان الحكمة"، ص 70 دمشق، سنة ١٩٤٦.