تحليل تتابعي

التحليل التتابعي (بالإنجليزية: Sequence Analysis) نوع من التحليل الإحصائى ينطوى على سلسلة من الأسئلة المتعلقة بالكيفية التى تتتظم بها العمليات الاجتماعية، إما زمانيا أو مكانيا، شاملة فى ذلك أسلوب الاجابة على هذه الأسئلة.

وتهتم العديد من مجالات علم الاجتماع بالوقائع والأفعال فى إطارها الزمانى، او ما يمكن أن نطلق عليه مشكلات التتابع وتعد الأدبيات المتعلقة بالسلك المهنى، ودورة العمر أمثلة واضحة على ذلك. ويسعى التحليل التتابعى إلى تحديد نمطية الوقائع (أنماط الحراك الوظيفى أو أيا ما كان) فى قائمة أو سلسلة منتظمة. وحيث أنه ليس هناك ادعاء متعلق بالزمن الفعلى - بالتعارض مع الزمن الرمزى - فإنه يصبح من الممكن أيضا تفحص الأجزاءالمتتابعة لطقس ما، أو ترتيب الخطوات فى إحدى العمليات الصناعية (حيث يكون الزمن المستغرق بمعنى ما مصطنعا)، بالإضافة إلى تتابع الوقائع فى الزمن الفعلى، كما هى الحال فى التغيرات فى المكانة التى ينطوى عليها تاريخ العمل أو السلك المهنى الإجرامى. ويمكن للوقائع فى أى سلسلة تتابعية أن تكون متفردة أو مكررة، كما أنها قد تكون ذات درجات متفاوتة من الاعثماد المتبادل. كذلك قد يكون هناك ارتباط بين سلاسل تتابعية كاملة . ويمكن فحص السلسلة التتابعية باعتبار ها متغيرا مستقلا أو متغيرا تابعا؛ فعلى سبيل المثال، قد نرغب فى أن نعرف أى سلسلة تتابعية من الخبرات الوظيفية تتنباً بالبطالة على النحو الأفضل، أو أى متغيرات مستقلة يمكن أن تفسر الخطوات التتابعية فى سلك الحياة المهنية. وتهتم بعض التحليلات التتابعية بتحديد الأنماط فى سلاسل من الوقائع باعتباره غاية فى حد ذاته فقط كما هى الحال على سبيل المثال، فى البحوث المتعلقة بترتيب الخطوات فى رقصة ما.

ويعد تحليل التتابع مجالاً حديث النشأة يستهدى فيه علماء الاجتماع بصفة أساسية بهدى العلوم الاجتماعية الأخرى. وثمة تراث عريض لتحليل التتابع فى علم التفس، فى مجالات مثل التعلم، والإدراك ونظريات مراحل النمو. كذلك درس الافتصاديون السلاسل التتابعية المتضمنة - من بين أشياء أخرى - فى السلوك الاستهلاكى وظهور الاختراعات. أما اللغويون فإنهم عادة ما بحثوا الخطوات التى تنطوى عليها صياغة نص ذى معنى. وتشتمل أدبيات العلوم السياسية على دراسات لعملية صناعة القرار المتعلقة بالميزانية الفيدرالية على سبيل المثال.

ونجد أثراً للتحليل التتابعى فى علم الاجتماع، فى صورة مفاهيمية مبسطة فى النظريات المرحلية الخطية مثل نظرية التحديث، والتنمية والترشيد والثورة وغيرها، وهى النظريات التى ترتبط بأسماء كارل ماركس، وروبرت ميشلز وروبرت ردفيلد، وآخرين. على أن هناك نظريات أكثر دقة وإتقانا مثل نظريات الحياة المهنية والتى يمكن أن نصادفها فى أدبيات تاريخ العمل، ذلك أن هذه النظريات تسمح بقدر أكبر من الاعتماد المتبادل والمصادفة مما تسمح به نظربات المراحل . وتسمح أكثر أشكال التحليل التتابعى تطورا بالاعتماد المتيادل بين كل سلاسل التتابع التى تتخذ صورة شبكة معقدة . ويشير أندرو أبوت وهو أحد رواد التحليل التتابعى فى علم الاجتماع إلى هذه الشبكات بتعبير "نظريات المجال التفاعلى" (Interactional Field Theories)، وهو يدعى أنها متأصلة فى النموذج الإرشادى لأصحاب نزعة التأطير التى طورتها مدرسة شيكاغو فيما بين الحرب العظمى الأولى وعام 1930. وتشتمل الأمثلة على ذلك تحليل الشبكات الذى أنجزه هاريسون و ايت حول نسق سلاسل الوظائف الشاغرة فبى سوق العمل والمنشوي عام 1970 بطوان "سلاسل الفرص"، ودراسة أبوت للحياة المهنية للموسيقيين الألمان خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر . (فى مقال : قياس التماثل فى البيانات التتابعية المنشور فى المجلة الأمريكية لعلم الاجتماع، عام 1990.

وعادة ما تستعار أساليب ترميز البيانات التنابعية وبرامج الحاسب الآلى اللازمة لتحليل هذه البيانات وتطوع من التطبيقات القائمة فعلاً فى علوم البيولوجيا وعلم النفس المعرفى والمجالات ذات الصلة بهما. وهناك العديد من مثل هذه البرامج المتاحة، ونظراً لأن التطورات فى هذا المجال يدعمها تمويل بحوث التكنولوجيا الحيوية، فإن التطورات فيه تنوالى بسرعة. وأحد المناهج التى استخدمها أبوت نفسه وأضفى عليها تحسينات هى تلك التى تدعى المزاوجة المثلى أو المقابلة المثلى أو الصف الأمثل أو التوحد الأمثل (Optimal Matching أو Optimal Alignment). وتحسب هذه الطريقة المسافة بين أى زوج من التتابعات استناداً إلى العدد الأدنى من عدد مرات الاستبدال والإقحام التى يتطلبها التحول من تتابع ما إلى تتابع آخر. (استعيرت هذه التقنية من البيولوجيا، حيث استخدمت فى بحوث التماثل فى جزيئات الشفرات الوراثية، وبناء شجرات الأنساب فيما بينها).

فعلى سبيل المثال، قد نقوم بترميز النمط فى عملية صناعة القرار بحيث تبدو البيانات على النحو التالى: 1ى 2، 1ى8، 20ى4، 2ى6. حيث يستخدم الحرف "ى" هنا لمجرد الفصل بين عدد المرات التى يتم فيها ملاحظة عنصر ما ويمثل هذا العدد الرقم الذى يسبق الحرف) عن هوية العنصر (الرقم الذى يلى الحرف) ولذلك فإن هذا التتابع قد يعنى شيئا من قبيل: وحدة واحدة "لتلخيص الموقف المذى تم التوصل إليه خلال جولة سابقة من اتخاذ القرار"؛ متبوعة بوحدة أخرى "لصياغة مقترح جديد لم يسبق الإشارة إليه"؛ متبوعة بعشرين وحدة "للحوار حول المقترح المطروح أمام الحضور؛ متبوعة بوحدتين" باقتراح تعديل مقترح جديد طرح على مائدة الحوار". وبعد أن نكون قد جمعنا البيانات الهامة وقمنا بترميزهاعلى هذا النحو، يمكن لنا أن ترى، على سبيل المثال، أن الأمر يتطلب إحداث تغيرين لكى نغير من التتابع 1ى2، 1ى9، 2ى15، 20ى43، 5ى21، 5ى23، إلى تتابع مفاده :2ى1،2ى1،9ى1،10ى20،15ى5،43ى5،21ى23. ويمكن ملاحظة هذا من خلال عرض التتابعات بحيث تتحاز التماثلات لبعضها البعض على النحو التالى:

وقد أضيف إلى التتابع وحدة من ى2 وتم تحويل وحدة من ى15 إلى وحدة من ى10.

1ي2 1ي9 - 2ي19 20ي43 5ي21 5ي23
1ي2 1ي9 1ي10 2ي19 20ي43 5ي21 5ي23

وباستخدام مجموعة من مثل هذه التكرارات، يقدر الحاسب الآلى المسافة (ومن ثم التماثلات) بين أزواج متتابعة وذلك باحتساب عدد وأنماط الإقحام والإحلال اللازمة لتحويل سلسلة تتابعية بحيث تصبح الخيوط متلازمة كلياً أو جزئيا. وتكشف البرامج المختلفة عن أنماط مختلفة للانتظام التتابعى، ويعتمد ذلك على اهتمامات الباحث، الذى يلجا إلى استخدام تكنيكات متعددة (للمبادلة، والإقحام، والإحلال، وتغيير حدود المعادلة) ووسائل بديلة لتقييم تكاليف هذه العمليات. وبهذه الطريقة يتم تحديد أنماط الاتتظام فى ترتيب الوقائع بشكل تتابعى . ويمكن للباحث بعد ذلك أن يستخدم هذه الأنماط فى صياغة توصيفات علية يتبدى فيها التتابع بوصفه المشروح أو الشارح.

ولقد ذهب أبوت فى مقال مثير للجدل عنونه "عن الزمان والمكان : الأهمية الراهنة لمدرسة شيكاغو" المنشور فى مجلة: القوى الاجتماعية عام 1997 ذهب إلى القول بأن العديد من علماء الاجتماع اليوم قد "كفوا عن الكتابة عن العالم الواقعى، مختفين وراء العوالم المتأنقة للمتغيرات المسحية، و القوى التاريخية، و التجريدات النظرية" وهو يوجه سهام نقده على وجه الخصوص إلى اصحاب نزعة تفريغ "نماذج المتغيرات" (Variables Paradigm) من مضمونها الاجتماعى الذى تمثله أغلب النزعات المعاصرة فى بناء النماذج العلية. ففى هذه النماذج يتم تجريد المتغيرات الاجتماعية المثيرة للإهتمام (كالطبقة أو البيروقراطية أو السلالة أو غير ذلك) من أطرها المكانية والزمانية الاجتماعية (بما فى ذلك الجغرافية) ويتم الربط بينها من خلال اختراع مجموعة من القصص التى ما أنزل الله بها من سلطان تدعى أنه إذا ما كان الناس عادة ما يتصرفون بهذه الطريقة أو تلك، فإن المتغيرات سوف ترتبط ببعضها إلى درجة ما . (وكما يلاحظ أبوت، فإن التباين المفسر عادة ما يكون صغيرا ويكشف عن علامات تراجعه على مدار السنين) - وعلى النقيض من ذلك، فإن الأسئلة و الأساليب التى يستخدمها التحليل التتابعى تضع الظواهر الاجتماعية فى إطارها الحقيقى، وتدرس الأنماط الفعلية وليس المتغيرات المنزوعة من سياقها . وباستخدام هذه المناهج "يمكننا أن ننظرمباشرة إلى الفعل الاجتماعى الذى يقوم به فاعلون معينون فى زمان ومكان اجتماعيين محددين . وبهذه الطريقة يعد التحليل التتابعى - فى رأى أبوت - بمثابة عودة بعلم الاجتماع إلى قضاياه الأصيلة التى اهتمت بدراسة العملية الاجتماعية و التفاعل الاجتماعى.

ويذهب نقاد أبوت إلى القول بأن القرارات المتعلقة بترميز البيانات فى صورة سلسلة تتابعية، وتلك المرتبطة بالتعريف والتحديد المتحفظين للتتابع، واختيار اجراءات وبروتوكولات حالات التلازم، كل هذه الأمور يبدو أنها اعتباطية ولا ثدعو إلى الثقة.