مجتمع صناعي
المجتمع الصناعي (بالإنجليزية: Industrial Society). من المهم أن نفرق بين الاستخدامات الوصفية لهذا المصطلح، واستخداماته التحليلية. فعلى المستوى الوصفي يستخدم هذا المصطلح لوصف الملامح المميزة لمرحلة الحياة الصناعية. كما يستخدم هذا المصطلح أيضاً على المستوى المجرد للإشارة إلى قضية أن هناك نمطاً من أنماط المجتمع تتحدد ثقافته، ومؤسساته، وطبيعة تطوره بناء على عملية الإنتاج الصناعي. وتحتوى نظريات المجتمع الصناعي - بهذا الفهم الثاني - على نوع من نظريات الحتمية التكنولوجية، أونظريات التعددية العملية. ويرى البعض أن منطق العلم التطبيقي أو العمليات التكنولوجية المبنية على الخبرة والقيم العلمية تفضى بالضرورة إلى إحداث تعديلات جوهرية للثقافة والمؤسسات التقليدية داخل المجتمع، وأن هذه التعديلات لا يمكن الرجوع فيها. وتجد هذه الرؤية تعبيرا عنها فى أعمال كلود هنرى دى سان سيمون، ولدى العديد من المنظرين الاجتماعيين فى القرن التاسع عشر، بما فى ذلك أوجست كونت، وهربرت سبنسر، وإميل دوركايم. لكن المثال الأبرز والأكثر تأثيراً داخل علم الاجتماع الكلاسيكي نجده فى تفسير ماكس فيبر لتحديث العالم الغربي، بوصفها عملية ترشيد مستمرة، وبوصفها فكاكاً من أسر نظم المعتقدات والقيم السحرية والغيبية المتقليدية التى كانت تفسر الحياة الإنسانية فى العصور الغابرة. ويرى نقاد فيير أن هناك مسحة ميتافيزيقية واضحة - نوعاً من الفلسفة الأخلاقية العميقة التشاؤم، ولكن الواهية فى نفس الوقت - تكمن وراء إدعاء فيبر أن البيروقراطية سوف تصبح شيئاً لا مهرب منه داخل المجتمع الصناعى والسياسة الصناعية.
واتخذت الأفكار الخاصة بالمجتمع الصناعي شكلا أكثر وضوحاً فى كتابات ما بعد الحرب العالمية الثانية، خاصة لدى علماء الاجتماع الأمريكى الوظيفيين والمتخصصين فى العلاقات الصناعية. وحذا هؤلاء الكتاب حذو دوركايم حيث ذهبوا إلى القول بأن تماسك وتشابه المجتمعات الصناعية يعتمد على الإجماع الاجتماعى، الذى يجمع أبناء كل مجتمع حول مجموعة معينة من القيم والمعايير المنظمة لحياتهم. لكنهم عندما تحدثوا عن مضمون هذه المعايير كانوا متأثرين بماكس فيبر فى تركيزهم على الجوانب العقلانية والجوانب غير الشخصية (أو العامة) لهذه المجتمعات، وإعطائهم الأولوية للإنتاج الرشيد للسلع المادية، والخدمات، وتركيزهم على الإشباع المرجأ. ويرون أن مثل هذه المجتمعات سوف تتجه بمرور الزمن، نحو توزيع الأفراد فى أوضاع أو مراتب طبقا لإنجازهم، خاصة تعليمهم وكفاءاتهم التقنية، وليس بناء على الخصائص التقليدية التى يكتسبونها بالميراث مثل الأصول العائلية، أو العرق أو النوع. وسوف يؤدى التطور الآلى والتكنولوجى - فى نفس الموقت، إلى رفع مستويات المعيشة، ومحو العديد من الأعمال اليدوية الصعبة التى ستصبح غيرضرورية، وسوف يؤدى ذلك إلى تبرجز الطبقة العاملة اليدوية. وتفضى كل هده العوامل إلى أن يحل محل ثنائية البناء الطبقى التى ارتبطت بمرحلة الرأسمالية الصناعية المبكرة نوع من التدرج المهنى الأكثر تنوعاً والأقل استقطابا. كما أن الصراع الصناعى الصريح داخل مكان العمل وداخل الصناعة سوف يفسح المجال فى مرحلة الصناعة المتطورة لأشكال من الصراع الصناعي ذات الطابع المؤسسي وأشكال من المساومة الجماعية. وسوف يستتبع ذلك بعض التداعيات السياسية، فتعقد التدرج الصناعى وتتوعه يستدعى توزيع القوة، وهو النظام الذي يطلق عليه هؤلاء المنظرون مصطلح "التعددية" ويعنى بالأساس زوال النظم السياسية التسلطية، ليحل محلها أحزاب جماهيرية، غير ذات طبيعة إيديولوجية. وقد تم التأليف بين هذه التنبؤات فى أعمال من يعرفون بأصحاب نظرية التقارب، الذين يذهبون الى أنه بناء على منطق التصنيع والتكنولوجيا المرتبطة به، فإن المجتمعات الرأسمالية سوف تتطور - شأنها شأن المجتمعات الشيوعية - إلى نوع من المجتمعات يشبه على نحو ما النمط المثالى للنظام الصتاعى التعددى المتقدم الذى وصفنا بعض ملامحه فى المسطور السابقة.
ويرى نقاد هذه النظرية أن الملامح العامة التى نسبت إلى النظام الصناعى المتقدم، ترتبط ارتباطا وثيقا بالصورة المثالية التى رسمتها أبواق الدعاية الإيديولوجية داخل الولايات المتحدة خلال الحرب الباردة. ومع ذلك يمكن أن تتطور أنماط إيديولوجية بديلة وأقل فجاجة للنظام الصناعى المتقدم، من خلال مراجعة الفروض المرتبطة بمنطق عملية المتصنيع. فقد لاحظ دارسو المجتمع الميابانى على سبيل المثال، أن استمرار عناصر ترتبط بالعزو (الاكتساب بالميراث) داخل الثقافة الصناعية لليابان قد أوضح أن تلك العناصر تتوافق مع الممستوى العالى من التقدم التكنولوجى، وأنها تساعد الفاعلية التتظيمية، وتحول دون وقوع القلاقل الصناعية. ويرون أن الاتجاهات الجديدة داخل أسواق العمل، وفى ميدان علاقات العمل، وداخل المشروعات الصناعية للمجتمعات التى على شاكلة الولايات الممتحدة وبريطانيا سوف تتحول إلى نموذج من المتصنيع المثقدم شبيه بالنموذج اليابانى لقد أدى نمط التصنيع والإدارة الصناعية اليابانى إلى دعم استمرار جهود المبحث عن ميول التقارب المعامة التى تؤثر فى العديد من المجتمعات عالية التصتيع. وهى الجهود التى أثمرت نظريات مجتمع ما بعد الصناعة.
وتثير فكرة النمط المجرد للمجتمع الصناعى، بالإضافة إلى الدلالات السبيية فى دراسة المتغير الاجتماعى المعاصر، تثير تفس الاعتراضات التى تثيرها النظرية المنافسة وهى نظرية المجتمع الرأسمالى. فكل منهما ذات نزعة مفرطة فى التعميم، وتغطيان مدى زمانياً ومكانياً يبلغ من الطول حداً يجعله قليل الفائدة فى التحليل الدقيق. وحتى عندما تنحوا منحى أكثر تحديدا لنطاق بحثهما، فإنهما يتجاهلان خصوصيات الثقافة والتاريخ. ويلاحظ على وجه الخصوص أنه عندما يتم إدخال أساليب تكنولوجية متشابهة داخل أنساق معنى مختلفة من النواحى الاجتماعية والثقافية، فربما يفضى ذلك الى تشابه بعض الأفكار بعينها داخل عموم الدول الصناعية، لكن تظل هناك كيانات كبيرة فائقة الاختلاف فى غالبية الجوانب الأخرى، ويثير الاستخدام التحليلى لفكرة المجتمع الصناعى بالشكل السابق اعتراضا ينبنى على أساس أن النظرية التى تنتسب إليها هذه الفكرة - وهى النظرية التطورية - تتضمن ما يلى أن العمليات الأساسية للتغير الاجتماعى هى عمليات ذاتية المنشأ (تنشأ من داخل المجتمعات) و ليست عمليات خارجية المنشأ. وأن العمليات الأكثر حسماً فى التغير هي العمليات الاقتصادية أو المادية، وليست العمليات ذات الطبيعة الثقافية أو السياسية أو العسكرية، وأن المجتمع يشبه الدولة - الأمة. لكنا نجد أن كل قضية من هذه القضايا تثير كثيرا من الاعتراض اليوم، لذلك فالأرجح القول بان هذا المفهوم ينتمى إلى تاريخ العلم وليس إلى مستقبله.
يمكن للقارئ أن يجد عرضا للصياغة الكلاسيكية لنظرية المجتمع الصناعى فى مؤلغ كلارك كير وزملائه المعنون: التصنيع والإنسان المصناعى، الصادر عام 1960 و1973. كما نجد نقداً لهذه الصياغة عند جون جولدثورب فى مقاله: "العمل، والطبقة، والحراك: تقد لنظريات التغير الطويل المدى الليبرالية والماركسية"، وهو منشور فى كتاب هانز هافركمب ونيل سملسر (محرران) بعنوان: التحديث والتغير الاجتماعى (الصادر عام 1991).
السياسة الصناعية
نظرًا لكون الصناعة اليوم جزءًا مهمًا من المجتمعات والدول، فإن العديد من الحكومات ستمتلك دورًا على الأقل في صناعة التخطيط والتنظيم. يمكن لهذا أن يشمل قضايا مثل التلوث الصناعي والتمويل والتعليم المهني وقانون العمل.
العمل الصناعي
تستخدم الصناعة في المجتمع الصناعي جزءًا كبيرًا من السكان. يحدث هذا عادة في قطاع التصنيع. نقابة العمال هي تنظيم عمال اجتمعوا مع بعضهم لتحقيق أهداف مشتركة في المجالات الرئيسية مثل الأجور والساعات وظروف العمل الأخرى. تعقد النقابة العمالية من خلال قيادتها، صفقات مع صاحب العمل نيابة عن أعضاء الاتحاد (عامة الشعب) وتتفاوض على عقود العمل مع أرباب العمل. بدأت هذه الحركة أولًا بين العمال الصناعيين.
الآثار على العبودية
اعتمدت روما وغيرها من الثقافات المتوسطية خصوصًا، على العبودية طوال فترة اقتصادها. في حين حلت القنانة محل هذه الممارسة في أوروبا خلال العصور الوسطى، إلا أن العديد من القوى الأوروبية أعادت العبودية على نطاق واسع في الفترة الحديثة المبكرة، لاسيما في الأعمال الأكثر قسوة في مستعمراتها. لعبت الثورة الصناعية دورًا رئيسيًا في إلغاء العبودية في وقت لاحق، يرجع ذلك جزئيًا إلى كون الهيمنة الاقتصادية الجديدة للتصنيع المنزلي تقوض المصالح في تجارة الرقيق. إضافة إلى ذلك، تتطلب الطرق الصناعية الجدية تقسيمًا معقدًا للعمل مع إشراف أقل على العمال، والذي قد لا يتوافق مع العمل القسري.
الحرب
غيرت الثورة الصناعية الحرب، مع الأسلحة واللوازم المنتجة بالجملة والنقل الآلي ومفهوم الحرب الشاملة وأسلحة الدمار الشامل. كانت الحالات المكبرة من الحرب الصناعية هي حرب القرم والحرب الأهلية الأمريكية، إلا ان إمكاناتها الكاملة ظهرت خلال الحروب العالمية.
الاستخدام في العلوم الاجتماعية وسياسات القرن العشرين
اتخذ «المجتمع الصناعي» معنى أكثر تحديدًا بعد الحرب العالمية الثانية في سياق الحرب الباردة وتدويل علم الاجتماع من خلال منظمات مثل اليونسكو وانتشار العلاقات الصناعية الأمريكية إلى أوروبا. ألهم تعزيز مكانة الاتحاد السوفيتي كقوة عالمية التفكير فيما إذا كان الارتباط الاجتماعي للاقتصاديات الصناعية المتقدمة مع الرأسمالية يتطلب التحديث. ساهم تحول المجتمعات الرأسمالية في أوروبا والولايات المتحدة إلى رأسمالية رفاهية منظمة تديرها الدولة، مع قطاعات كبيرة من الصناعة المؤممة في كثير من الأحيان، في خلق انطباع بانها قد تتطور إلى ما هو أبعد من الرأسمالية أو نحو نوع من «التقارب» المشترك بين جميع أنواع المجتمعات الصناعية سواء كانت رأسمالية أو شيوعية. أُخذت إدارة الدولة والأتمتة والبيروقراطية والمفاوضة الجماعية المؤسسية وظهور قطاع التعليم العالي على أنها علامات شائعة للمجتمع الصناعي.
تميز نموذج «المجتمع الصناعي» في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين بقوة النمو الاقتصادي غير المسبوق في أوروبا والولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، واعتمد بشدة على عمل اقتصاديين مثل كولن كلارك وجون كينيث غالبريث ودبليو. دبليو. روستو وجين فوراستي. أعطى اندماج علم الاجتماع مع اقتصاد التنمية نموذج المجتمع الصناعي تشابهًا قويًا مع نظرية التحديث، التي حققت تأثيرًا قويًا في العلوم الاجتماعية في سياق إنهاء الاستعمار بعد الحرب وتطوير دول ما بعد الاستعمار.
استخدم عالم الاجتماع الفرنسي رايموند آرون، الذي أعطى التعريف الأكثر تطورًا لمفهوم «المجتمع الصناعي» في الخمسينيات من القرن العشرين، المصطلح كطريقة في المقارنة لتحديد الميزات المشتركة للمجتمعات الرأسمالية الغربية والأسلوب السوفيتي. استخدم علماء اجتماع آخرون من بينهم دانيال بيل وراينهارد بيديكس ورالف داهدريندورف وجورج فريدمان وسيمور مارتن ليبست وآلان تورين أفكارًا مماثلة في عملهم، على الرغم من التعاريف المختلفة في بعض الأحيان. جرى التعبير عن المفاهيم الرئيسية لنظرية المجتمع الصناعي بشكل شائع في أفكار الإصلاحيين في الأطراف الاجتماعية الديمقراطية الأوروبية الذين دافعوا عن الماركسية ونهاية السياسة الثورية.