الفن الآشوري
تميزت أعمال الفنان الآشوري بالواقعية الأمر الذي يعكس ارتباطه بالواقع الاجتماعي النفسي. ولما كان مجتمع الملوك الأشوريين قد عاش مشغولاً بمغامرات الحرب والقنص والبطوات فقد حول الفن الأشوري جدران القصور إلى لوحات تعبر عن أمجاد ملوكهم دون أن يلتفت إلى حياة الرعايا واهتماماتهم. فمجد الفنانون الأشوريون مآثر الحرب وزحف الجنود إلى معارك القتال، وإذا تركوا مجال الحرب إلى مشاهد الطبيعة لم يصوروا من البحر إلا ضربات المجداف وهجمات سرطان البحر على صغار الأسماك. فلقد حرم الفنان الآشوري من التأمل في أعماق نفسه لأنه عاش وسط الحروب والغزوات والدمار وربط نفسه بسادته يخدمهم دون إعمال فكره، يتبعهم في حملاتهم ويلازمهم في تعقبهم حيوانات الصيد، فلم يبق له إلا أن يحكي أحداث حياته المليئة يالتقلبات والقسوة في أسلوب يشوبه العنف، ونسي إخوانه من أبناء الشعب الآشوري نفسه فلم يستوح حياتهم قط.
وقد تميز فن التصوير الآشوري ببساطة مذهلة قد تبدو فيه الأطياف الظللية silhouette شبه مسطحة لا تظللها سوى تموجات قليلة لتأكيد الشكل، غير أنها تنبض بالحياة والحركة والقوة. وكان النحات يتتبع بسن إزميله مسار الأعصاب في الأعضاء والأطراف، ويبرز العظام من الجلد حتى تبدو وكانها متمزقة، ويصور الأيدي ممسكة بقوائم الحيوانات أو قابضة على الأعناق أو جاذبة الأوتار والأقواس، ثم الأسنان وهي تنهش، والمخالب وهي تخدش، والدماء وهي تسيل سوداء لزجة، غير أنه ترك الوجه البشري وحده جامدًا لا يعبر عن انفعال داخلي ولا يشرق بذلك الإشعاع الذي يميز الوجوه في الفن المصري القديم.
وقد صور الفنان الآشوري وجه الملك في الأغلب قاسيًا عابسًا له قسمات جامدة يعلو رأسه تاج، ويبدو شعر رأسه ولحيته مصففًا مخضبًا، وقد أمسك بوحش هائج وراح يذبحه أو يخنقه في هدوء. ولا ينسى الفنان أن يرسم أدق تفاصيل ثوبه في عناية، فقد كان على الفنان الآشوري أن يتملق سيده ويتقرب إليه بأن يعنى بنقش أسلحته وزيه الحربي ويبرزه قويًا جامد الأحاسيس في المعركة أكبر حجمًا من أتباعه مسيطرًا بلا جهد على الحيوان الهائج.
كان الفنان الآشوري مرغمًا على الحضوع لهذا القهر الذي لم يسعه التخلص منه خلال ذلك العصر مدركًا حقيقة ما يدور حوله، عالمًا بأن هذا هو نصيبه الوحيد من الحرية. ولعله كان يحاول أن ينتقم لنفسه حين استطاع أن يغالي في أناقة أبطاله وشجاعتهم وزينتهم وزركشة سروجهم كي يقضي على ملل المشاهد.
والحق أنه أبدع في تصوير ما كلف به، ويكفي أن نتامل كيف رأى الحيوانات والجياد النحيلة القوائم القلقة الرؤوس الزائغة النظرات النابضة الخياشيم، والكلاب المزمجرة والأسود المتحفزة والطيور الضخمة التي تسقط من أعالي الأشجار مصابة بالسهام، وفي هذا ما يجعله سابقًا لغيره في هذا المجال بالذات، فائقًا من تقدموه أو جاءوا بعده. ذلك أن الفنان الآشوري قد فاجأ الحيوان وهو مسترخ تحت أشجار النخيل الفجة الثمار واضعًا خطمه على قوائمه بعد ارتوائه بالدماء فصوره أحسن تصوير؛ وباغت الحيوان في المعركة وهو يمزق أبدانًا ويبقر بطونًا في فورة الجوع والغضب مشددًا على فريسته في شراسة عمياء ووحشية قاسية، فصوره منقضًا بكل ثقله على الفريسة أو مشدود القامة منبسط الأطراف منفرج المخالب؛ كما صور الحيوان المحتضر في أسى مثير فترك أسدًا ينزف من حلقه بعد اختراق السهم جسده، وصور لبؤة مهتاجة مكشرة عن أنيابها مبرزة مخالبها وهي تجر جسدها المشلول وراءها جرًا بعد أن قصمت الحراب ظهرها. وما هون الموت من بشاعة هذه الحيوانات الملقاة على ظهورها وقد ارتخت قوائمها الغليظة.
وهكذا قدم الفنان الآشوري أنشودة تشدو بمباهج القوة والغزو والانتصار، ولم يكف عن ترديدها حتى حين ترك موضوعات الحرب والقنص، فقد بعث في الرائي الإحساس بأن الحيوانات الحارسة تستشعر وحدة تبدو معها وكأنها حيوانات طبيعية أشبه ما تكون في انفعالها بالكباش المصرية على الطريق المقدس.
كذلك لم يكتف النحات الآشوري بتثبيت رأس نسر على منكبي رجل، أو رأس رجل على جسد ثور، بل جمع في جسد واحد بين مخالب الأسد وقوائم الثور وأجنحة النسر ورأس إنسان ملتح طويل الشعر يرتدي غطاء رأس عاليًا، وجعل هذا الحيوان الملفق من متنافرات في تناسق ينبض بالحياة ويؤدي وظيفة رمزية حين يجمع في إيجاز بين الملامح المختلفة المعبرة عن القوى الحيوانية، وقد جعل هذا الكائن الغريب بصفة عامة في شكل آدمي على غرار ما فعل الفن المصري.
وجنح الفنان الآشوري إلى استخدام كثرة من الألوان القوية والعميقة، إذ لعبت الألوان في حياة الآشوريين دورًا هامًا لارتباطها بمعتقدات خاصة، فاللون الأحمر يتصل بالأمراض وطرد الأرواح الشريرة أو بالتأهب للانتقال إلى العالم السفلي، بينما يرتبط الأبيض بالنقاء وكان يرتديه الملك في احتفالاته كما يرتديه الكهنة، وكان يصنع من الكتان.
والواقع أن العصر الآشوري قد قدم النحت البارز على النحت المجسم حتى كادت التماثيل أن تكون مجرد أشكال أسطوانية. ودأب الآشوريون على الربط بين الإله والحيوان الرامز له ويصورونه واقفًا فوقه في أكثر الأحيان.
وانطوى الحفر الدقيق على الحجر على مزيج من الواقعية والخيال الأسطوري، فنرى القناص يواجه الأسود ليقضي عليها حيث تمتل شرًا لا بد من محقه، فهي تنشر الفزع بين الحيوانات الوادعة. وقد عالج الفنان الآشوري هذه الفكرة وأعاد صياغتها أكثر من مرة بأساليب مختلفة يغلب عليها طابع الخيال، وكان لمثل هذه المعارك معنى رمزي. كذلك استخدموا العاج في الكثير من أعمالهم ونقشوه نقشًا خفيف البروز واتخذوا من لوحات العاج زخارف لتزين الأثاث والأسرة والعروش.