الفلاسفة الجدد
الفلاسفة الجدد (بالفرنسية: nouveaux philosophes) هو جيل من الفلاسفة الفرنسيين الذين توحدوا بفواصلهم الخاصة من الماركسية في أوائل السبعينيات. ومن بين هؤلاء آلان فينكيلكروت، أندريه غلوكسمان، وباسكال بروكنر، وبرنارد هنري ليفي، وجين ماري بينويست، وكريستيان جامبيت، وغي لاردرو، وكلود غاندلمان، وجان بول دوله، وجيل سوسونغ. كما انتقدوا المفكر المؤثر للغاية جان بول سارتر ومفهوم ما بعد البنيوية، وكذلك فلسفة فريدريش نيتشه ومارتن هايدغر.
البدايات
تم إنشاء المصطلح بواسطة برنارد هنري ليفي في عام 1976. معظم الفلاسفة الذين أدرجهم في هذا الوصف لديهم تاريخ سابق من الماركسية قد انشقوا عنه مؤخرًا. أثرت كتابات ألكسندر سولجينتسين وكتاب أرخبيل غولاغ تأثيراً عميقاً على العديد من هؤلاء اليساريين السابقين.
سمات اساسية
رفض الفلاسفة الجدد ما اعتبروه عبادة القوة لليسار، وهو تقليد يعودون إليه على الأقل هيجل وكارل ماركس في القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر. لقد جادلوا في أن هؤلاء وغيرهم من «المفكرين الرئيسيين» الذين سعوا إلى إنشاء أنظمة فكرية شاملة قد أنشأوا بالفعل أسس أنظمة القمع. في الآونة الأخيرة استهدف باسكال بروكنر التعددية الثقافية.
عدم التجانس
يعرّف الفلاسفة الجدد بنوعية سلبية (أي رفض أنظمة السلطة الاستبدادية). في عام 1978، جادل مايكل رايان بأنها موجودة بالاسم فقط: تجانسهم مستمد من اعتناقهم للتغايرية. وقد تم وصفهم على أنهم «اسم علامة تجارية لمجموعة غير متجانسة للغاية من حوالي عشرة مثقفين متماسكين من الخارج أكثر من الداخل... لا يعملون كممثلين لأي حركة أو قوة سياسية محددة بوضوح.»
نقد
هوجم الفلاسفة الجدد بصفتهم سطحية وأيديولوجية من قبل النقاد مثل جيل ديلوز، بيير فيدال ناكيت، بيير بورديو، آلان باديو، جان فرانسوا ليوتارد، وكورنيليوس كاستورياديس.
الفلاسفة الجدد في فرنسا
تحتدم في فرنسا معركة فكرية حول ما يسمى "الفلسفة الجديدة" التي يعمل على إيجادها والترويج لها والدفاع عنها تسعة من المفكرين الشباب - من رجال ونساء - تدور أعمارهم في الحلقة الرابعة من العمر، ومن ورائهم حاميهم ومرشدهم القلق المنفعل: موريس كلافل . ومن العسير أن نحدد صفاتها المشتركة الايجابية، لأن انتاجها سلبياً أكثر منه إيجابياً، ولأنها صدرت عن خيبة الأمل في السياسة وفي الفلسفة وفي العلم، وبالجملة في حضارة الإنسان، وارتبطت بثورة مخفقة هي التي تسمى بثورة «مايو سنة ١٩٦٨ a . وربما كانت خيبة الأمل هذه هي السمة الجامعة بين هؤلاء التسعة ورائدهم موريس كلافل.
لقد كانوا جميعا قبل هذه «الفلسفة الجديدة» من المفكرين والأدباء «المتزمتين» الذين نشدوا في السياسة وفي العلم الوضعي العلاج لآلام الإنسانية، وإذا بثورة مايو سنة ١٩٦٨ تصدمهم بالحقيقة الرهيبة: وهي أن كل ما نشدوه من السياسة والعلم كان مجرد أوهام: النضال السياسي والثورة والعلم الوضعي، بل والتاريخ. وقد سبقهم سارتر إلى هذا اليأس وخيبة الأمل، فقال في ترجمته الذاتية م الكلمات (سنة ١٩٦٣) «هأنذا أرى بوضوح : لقد خاب أملي منذ عشر سنوات تقريباً وأنا إنسان يستيقظ بعد أن شفي من جنون طويل، مر، عذب
الفلاسفة الجدد في فرنسا
معاً، ولا يستطيع الخلاص من ذلك، ولا يملك أن يذكر، دون ضحك، ضلااته القديمة، ولا يعرف بعد ماذا يصنع بالحياة" .
ذلك أنه بدأ في تجربة جديدة في يوليو سنة ١٩٥٢ حين نشر في مجلة «الأزمنة الحديثة» دراسة سياسية مطولة بعنوان »الشيوعيون والسلام» حاول فيها أن يبين إلى أي حد يمكن للحزب الشيوعي الفرنسي أن يعد تعبيراً ضرورياً عن الطبقة العاملة، وإلى أي حد هو يعبر عنها (بالدقة) ٠ ولئن كان سارتر قد فهم السياسة الشيوعية بفهم خاص فقد هلل له خصوم الأمس وقالوا عنه في مقال ظهر في مجلة «النقد الجديد" التي يشرف عليها ج.
ل (المتوفى سنة ١٩٧٨) إنه «يشارك في. Kanapa كنبا
النضال من أجل السلام» وكانت نتيجة هذا الاتجاه الجديد عند سارتر أن انقطعت العلاقة بينه وبين مرلو بونتي الذي هاجم سارتر في بحث كتبه في كتابه «مغامرات الديالكتيك» (سنة ١٩٥٢) عنوانه «الغلو في البلشفية عند سارتر». لكن حدثين كبيرين وقعا في المعسكر الشيوعي سنة ١٩٥٦ دعوا سارتر إلى التخلي أو النكوص عن اتجاهه الجديد وهما: أولاًم التقرير الذي قدمه خروشوف للمؤتمر الشيوعي العشرين وفيه كشف عن الجرائم المروعة التي ارتكبها ستالين طوال حكمه. والثاني: هو غزو الجيش الروسي للمجر وقضاؤه العنيف المروع على الثورة التي قام بها الشعب المجري للتحرر من العبودية والاستبداد في أكتوبر سنة ١٩٥٦
وكان لهذين الحادثين أثرهما الكبير حتى في المناصرين للماركسية فبدأ الانشقاق والتبرؤ في صفوفهم، وإن كانت مواقفهم مبهمة مضطربة حتى قال عنهم مرلو بونتي Merleau Ponty في مقدمة كتابه Signes «حين يستمع المرء إلى هؤلاء الكتاب (المنشقين) يشعر أحياناً بالضيق فهم يقولون حيناً إنهم بقوا ماركسيين في نقط جوهرية، ولكنهم لا يحددونها بالدقة ولا كيف يمكن للمرء أن يكون ماركسياً في بعض النقط». . . وحينا آخر يطالبون بضرورة وضع مذهب جديد ولكنهم لا يكادون يتجاوزون في ذلك بعض الاقتباسات من هرقليطس، وهيدجر، وسارتر.
وكان من نتائج هذه البلبلة في معسكر الماركسيين أن ظهرت تأويلات جديدة للماركسية ونزعة اليسار بوجه
عام أفضت إلى عكس ما كانت تنادي به من قبل: فجارودي Garaudy تقرب إلى المسيحية وحاول المزج، أو على الأقل التعايش بينها وبين الماركسية. وأوغل في هذا الاتجاه إلى حد أنكره معه زملاؤه القدماء في الحزب الشيوعي الفرنسي . وحاول سارتر في كتابه «نقد العقل الديالكتيكي» (سنة ١٩٦٠) أن يتملص من الماركسية التي دخلها بأخرة ولكن دون أن يظهر بهذا المظهر، فأولها تأويلاً لا يقره عليه أحد من رجالها الرسميين - إن صح هذا التعبير - حتى قال ريمون أرون في مجلة «فيجارو» الأدبية (أكتوبر سنة ١٩٦٤) عن هذا الكتاب: إن سارتر يحاول فيه عن حسن نية أن يؤول الماركسية تأويلاً «يرفضه الماركسيون وسيثر الدهشة في نفس ماركس لو بعث حياً» .
ومن ثم تزحزح أقطاب الماركسية الفرنسيون عن ولائهم القديم وصاروا معارضين أو في القليل متمردين فإلى جانب جارودي نجد ديزانتي Desanti وديه Daix، ولكن كانت تواجههم جبهة ظلت على عقيدتها الصلبة القديمة، يمثلها أراجون Aragon والتوسير Althusser وباليبار Balibar وكانابا Kanapa وإلى حد كبير؟ النشتين Ellenstein الذي انشق أو كاد في عام ١٩٧٧ . لكن الشروخ في هذه الجبهة ما لبثت أن بدأت تظهر وكان من أكبر أسبابها حادثان: القضاء على حركة التحرر في تشيكوسلوفاكيا والتي عرفت ب «ربيع براج» في سنة ١٩٦٨، ثم كتاب «الجولاج» لسولينتين الذي لا يزال يؤثر في هذا لاتجاه أقوى تأثير.
تلك هي الأحوال التي مهدت لنشأة هذه «الفلسفة الجديدة» فلنأخذ الآن في بيان اتجاهاتها ولنبدأ ببيان بعض اتجاهات ملهمها وحاميها موريس كلافل
يقول كلافل شارحاً تطور أحواله الفكرية «بنوع من اليأس بوصفي فيلسوفاً، شاهدت الأمواج المتوالية التي زخرت بها السوربون: من فرويدية وماركسية وسارترية - . الخ، هذه الحمأة التلفيقية التي ذاب فيها هذا كله, وكنت لا أزال أحمل لسارتر إعجاباً شديداً جداً، ومن هنا نشأ حزني أمام كتابه «نقد العقل الديالكتيكي» لأنه تخلى فيه دون رحمة عن وجوديته ووضعها بين أيدي الماركسية ٠ لكني تركت العاصفة تمر خلال هذه الموجات من العقائد القطعية التي كانت خطرة بقدر ما
الفلاسفة الجدد في فرنسا
كانت تسمي نفسها نقدية .
«وإني لأتذكر تماماً نقطة تحول، في هذا الزمان، تحدثت فيها بأخرة مع ج - ت. ديزانتي J.-T. Desanti وهي اللحظة التي كنا ننتظر فيها بلهفة شديدة ظهور "نقد العقل الديالكتيكي» حوالي سنة ١٩٦٠ وإنكانلم يحدث مع ذلك إلا ضجة أقل من تلك التي أحدثها كتاب رجل مجهول وهو كتاب «تاريخ الجنون في العصر القديم». وأتذكر أنني أبديت آنذاك هذه الملاحظة وهي أن «نقد العقل الديالكتيكي» ادعى أنه يمثل جماعاً من العقلية لصالح تحرير بني الإنسان - لقد أراد سارتر أن يكون في هذا الكتاب بالنسبة إلى ماركس بمثابة كنت وهيجل معاً - بينما كتاب «تاريخ الجنون» (لميشيل فوكو Michel Foucault) هو أول كتاب يبرهن - استناداً إلى وثائق - على أن العقلية أداة للسيطرة على الناس واستعبادهم. . , نعم إن «تاريخ الجنون» ليس نقداً جديداً للعقل المحض - كما ستكون كذلك الصفحات من ٢٢٠ حتى ٣٦٠ من كتاب «الكلمات والأشياء» (لميشيل فوكو أيضاً) - كأنه يلقي ظلال الشك والاتهام والظن على العقل في نفس الوقت الذي حاول فيه سارتر أن يجعل العقل شاملاً محيطاً» (من حديث لموريس كلافل في «المجلة الأدبية» Magazine littéraire عدد سبتمبر سنة ١٩٧٧ ص٧ه)٠
إن كلافل يأخذ على سارتر-في هذا الحديث - أن تطوره التالي لكتاب «الوجود والعدم» لا يتفق مع هذا الكتاب «والهوتان بين كليهما تتعلقان بالأخلاق وبالسياسة فمن اللحظة التي يقرر فيها أن النية الأساسية تحو الآخرين هي نية الكراهية وشهوة الأذى (السادية) فليس ثم وسيلة للعثور على جماعة محررة لبني الإنسان». وأعتقد أن سارتر اليوم بسبيل إعادة النظر في رأيه في الآخرين (ما هو لغيره) الذي عرضه في كتابه «الوجود والعدم» ووصفه للنظرة المستلبة المحجرة، ونظريته في الحب بوصفه شيئاً للغير (أي النظر إلى الغير على أنه مجرد شيء لا ذات واعية) حتى في الملاحظة، وأيضاً تلك الصفحات الغريبة التي وصف فيها اللغة بأنها هي الأخرى أداع لسحر الآخرين . . إن «الوجود والعدم» عمل رائع في ذاته لكن ليست له علاقة بالتطور الثوري عند سارتر. . . لقد كان من الممكن أن يبقى كتاب
«الوجود والعدم» عملاً رائعاً نهائياً لفيلسوف سيظل نصف يائس ونصف سادي: لكن سارتر تخلله دائماً الأخوة والكرم والأمل» (الحديث نفسه ص٥٨) - ماذا يريد إذن كلافل؟ إنه يريد حركة روحية، لكن هذه الروحية «ليست مجرد ازدهار وبنية فوقانية ومجتمع موجرد، بلهي-إيجابياً أو سلبياً , الأساس المختار لكل حضارة مكبوتة منذ قرنين وهي تمرد لما هو روحي، يعود لينعكس مواقف جديدة، وتساؤلات جديدة، وغداً يوجد توكيدات جديدة. ومن الذي يرى فيهم الأمل لبعث هذه الروحية؟ إنهم أولثك الذين «سيكيلون أقسى الضربات للماركسية بعد أن يكونوا قد عاشوا جحيمها معنوياً على الأقل» (الموضوع نفسه ص٦٠)
ثم حدث أن وصل سوليتسين Solientsyne إلى أوروبا الغربية فخصصت له مجلة «نوفيل أوبسرفاتير» Nouvel Observateur عدداً خاصاً بعنوان «مرحبا بسوليتسين» ومن بين مقالات هذا العدد مقال لافت للأنظار بقلم جلوكسمن Glucksmann عنوانه "الماركسية تجعلنا صماعميال.
يقول كلافل في وصف هذا الحادث: "لقد كان ذلك حدثاً خطراً، أدهشني لكن بوصفه أمراً جديداً معترفاً يه. لقد كان ذلك هو العلامة. وبعد ذلك ببضعة أشهر أتم جلوكسمن كتابه «الطاهية وكل الناس» وفي نفس الوقت أيضاً قال لى برنار- هنري ليفى - Bernard Henry Levy إن في بلادك ماويين سابقين ألفا كتاباً سيعجبك كثيراً، ثم أحضر لي كتاب «الملاك» تأليف لردرو وجامبيه Lardreau et Jambet بيد أني لم أفهم أي واحد من هذين الكاتبين. كل ما هنالك أنني سبقتهما بقليل بنوع من الوجدان، وكنت أول من استطاع أن يتعرف في هذين الكاتبين اتفاقهما مع ما سبق أن عرفته منذ ٣ مايو سنة ١٩٦٨ ... وطبعا ساعدتهما بقدر الطاقة لكنهما كانا سيعرفان من دوني أنا٠ . . وأمام هذين الكاتبين يعتقد كل الأديولوجيين وكل أوكئك الذين استمسكوا بالأديولوجية أن «مايو» (ثورة مايو سنة ١٩٦٨) قد ولدت بطة. أما أنا فعلى العكس من ذلك أعتقد أن هذين الكاتبين أصدق برهان على الطاقة الإنتاجية لمايو سنة ١٩٦٨ إنهما ثورة فلسفية وعودة للفلسفة تحملهما ثورة ثقافية ويحملانها دون إفراط في الإيجاب ولا إفراط
الفلاسفة الجدد في فرنسا
في السلب" (ص٦٠).
ما هي هذه العودة في نظر كلافل؟ "إنها عودة الله وعودة الروح، وإن كنت أفضل الآن (أن أسميها) عودم العلوم أو بالأحرى: عودتنا الذاتية الإنسانية والباقي ناتج لهذه العودة ٠ يجب أن نطبق على ماركس صيغة ماركسية. لقد قال : «سيسقط الدين مثلما تسقط الغشاوة، كلا بل ستسقط الماركسية كما تسقط الغشاوة» (ص٦١).
ويمضي كلافل في بيانه لوجوب إسقاط هذه الغشاوة التي هي الماركسية فيقول إن ماركس بوصفه مفكراً للثورة - سواء كان مادياً ديالكتيكياً أو بنياوياً أو ظاهرياتياً - قد انتهى تماماً وصفي وتجاوزه الفكر لكن بقي أمران خطيران ينسبان إلى الماركسية وهما أنها (١) أدام ممتازة للتحليل ولتفسير الوقائع الاقتصادية والاجتماعية، (٢) وأنها أداة ممتازة للنقد. ويهاجم كلافل بعنف شديد هاتين الدعويين مستنداً إلى ما أدت إليه من «جولاج» وافلاس حيثما طبقت.
ويعتقد كلافل أن «الجولاج» (وهو معسكر الاعتقال الرهيب في سيبريا) موجود في داخل ماركس نفسه، وينبثق عن جوهر الماركسية وليس تطبيقاً خاطئاً لها أو انحرافاً عنها أو مرحلة طارئة. يقول : «ولا أقول هذا لأن ماركس كان يتنبأ بقيام تنظيم للدولة من شأنه أن يضطرها إلى إنشاء الجولاج وإنما أقول إن جرثومة الجولاج موجودة بالضرورة في ميتافيزيقا ماركس التاريخية. إذ عنده أن الاشتراكية لن تتحقق على شكل خطوات تدريجية، بل على شكل ثورة، وإنها ليست تقدماً بل هي نهاية الزمان، وسيحدث للإنسان ٠ المستلب اجتماعياً ووجودياً بفعل الملكية - أن يسترد جوهره استرداداًكلياً ومباشراً، وذلك بإلغاء هذه الملكية فإني أقول إن هذا التصوير المصيري الذي فيه يسترد الإنسان جوهره ويعود إلى نقطة الابتداء قبل السقوط في خطيئة الملكية. ٠ ■ من شأنه أن يولد - بالضرورة وشرعاً - في نفس الاشتراكي تفاؤلاً مصيرياً وزمنياً على نحو يجعل أقل اصطدام أو انحراف أو حتى مخالفة في المجتمع الذي يصير اشتراكياً بمثابة فضيحة وأمر كارث يؤديان إما إلى الانهيار الداخلي لهذا العالم، والخارجي بعد قليل -أو إلى الإرهاب الذي لا يرحم من أجل سد هذا الشرخ. وإنه لمن جوهر الماركسية ودعوتها إلى استعادة الطبيعة
الإنسانية (إلى ماقبل نظام الملكية) أنه لاعفو ولا مغفرة في الساعة التي لم تعد فيها «خطيئة» (الملكية) . ٠ . ويكفي أن يقرأ المرء النصوص الماركسية خصوصاً ما كتبه ماركس في شبابه أن اشتراكيته إعادة لطبيعة الإنسان في نفسه (كما يتصورها ماركس) فأي انحراف عن الاشتراكية هو تشويه لطبيعة الإنسان، وهو الرعب المطلق الذي لا جواب عنه إلا بالرعب المطلق للقضاء عليه . ذلك هو المبدأ التاريخي الميتافيزيقي للجولاج» (ص٦٢) ويقول بعد ذلك «إن الماركسية كلها تسعى إلى الجولاج القاسي أو الرقيق» (ص٦٢)، ويشير إلى ما قالهكل من بوكوفسكي وزينوفيف.
ويربط كلافل بين نزعته وروح سقراط: روح التساؤل الذي يبدو أنه لا يعرف ٠ وخلاصة رأيه أنه لا بد من «عودة الروح بكل قوة، لا بد من العلو الذاتي الإنساني الذي ينتج ذلك النشاط المحرر الذي أدعوه فكرا بدون تصورات منطقية مجردة. سيعود المرء إلى التفكير. لكن التفكير هاهنا مأخوذ بمعناه الأكثر جذرية، المعنى الأعمق في الوقت نفسه المولود ميلاداً متواضعاً جداً. لا أعني إعادة وضع الأمور موضع التساؤل، وتجديدها قبل أن تعبر عن نفسها في فلسفة منتظمة على قاعدة« (ص٦٤).
ولنمض الآن إلى هؤلاء الفلاسفة الجدد «الذين احتضن حركتهم موريس كلافل: لقد أطلق هذا الاسم لأول مرة في يونيو سنة ١٩٧٦ ، أطلقه أحد زعمائهم وهو برنار هنري ليفي في عدد خاص من مجلة «الانباء
٠ ١ يسونيو سنة) Les Nouvelles Littéraires «الأدبية
١٩٧٦) دوسيه بعنوان «الفلاسفة الجدد" ويندرج بينهم خصوصاً: جان ماري بنوا، جان بول دوليه، ميشيل جيران، كرستيان جامبيه، جي لردرو، فرنسواز ليفي، فيليب تيمو، ثم يتصدرهم برنار هنري ليفي، وغالبيتهم كانوا يدورون حول سن العشرين لما اندلعت ثورة مايو سنة ١٩٦٨ في فرنسا فماهي الخصائص الجامعة بين هؤلاء؟
أوا: تجديد الميتافيزيقا أو البحث في الوجود بوجه عام.
يقول في ذلك برنار هنري ليفي: "تجديد الميتافيزيقا لاول مرة منذ زمان طويل يعود إلى وضع
الفلاسفة الجدد في فرنسا
أسئلة بسيطة. ٠ أسئلة ميتافيزيقية تقليدية: السؤال عن العلاقة بين النفس والجسم (جامبيه ولردرو) السؤال عن لشهوة واللذة «جان بول دوليه . وجان ماري بنوا يعود -في سبيل إيجاد هذم الميتافيزيقا أو بعثها - إلى هرقليطس، وأفلاطون، وليبنتس Leibniz ٠ ويحاول دوليه أن يسير في أثر هيدج فيبحث في الوجود معتمداً على اللغة ابتغاء العودة إلى الأصل «في الموضع الذي فيه يبزغ الفجر والانحلال في منفتح الوجود".
(دوليه : «موت هيدجر» المجلة الأدبية العدد رقم ١١٧ أكتوبر سنة ١٩٧٦).
ثانياً : نزعة دينية مسيحية تحل محل المادية والثورة الثقافية ، وهذا الجانب هو الذي يتجلى فيه خصوصاً تأثير موريس كلافل على النحو الذي أوضحناه منذ قليل ٠
ثالثاً : إنهم ورثة ثورة مايو سنة ١٩٦٨ في فرنسا، إذ يرونها الأصل في الاستثناء «لكن لاستثناء وقع. لقد صار» (دوليه «الرغبة في الثورة" مجموعة ١٨/١٠ ص١٧).
لقد أراد جان ماري بنوا أن يقرأ ثورة مايو من خلال كتاب ديكارت : «مقال في المنهج» أي من خلال الشك الديكارتي. يقول «إذا كان لا بد من تحديد محل فلسفي للحركة التي نجحت، في شهر مايو، في زعزعة كل تراكيب المجتمع الفرنسي، قإني أقترح محلاً لها الشك الديكارتي" (جان ماري بنوا : «ماركس مات» ص١٣ مجموعة «أفكار» عند الناشر جاليمار في باريس)
رابعاً: إنهم جميعاً خصوم للماركسية، بعد أن كانوا قد اعتنقوها فترة من الزمان. وقد رأينا كيف فصل كلافل القول في هذا الموضوع .
خامساً: وهم يطالبون بالإفلات في التصور السياسي للعالم، لأن «جوهر السلطة هو السلطة المطلقة» (موريس كلافل في حديث نشرته جريدة La Croix في ١٩٧٦/٦/١١ ) . وفي هذا رد فعل ضد «التزام» سارتر ومن لف لفه.
سادساً: وهم يحملون بخاصة على اليسار، لأنه أدى حيثما سيطر٤ إلى الجول اج، أي إلى معسكر لاعتقال لكل من يطالب بحقوق الإنسان وحريته وكرامته ٠ يقول جامبيه ولاردرو: «لم يعد لليسار سياسته
لقد وحل في التكنوقراطية» والشكل النهائي لكل هذا، وحقيقة اليسار هي أرخبيل الجولاج كما لاحظ جلوكسمن بحق» («المجلة الأدبية» مايو سنة ١٩٧٦ .
لكن ليس معنى هذا أنهم اعتنقوا سياسة اليمين، كلا، لقد طلقوها هي الأخرى. يقول كلافل: «لست أخشى من أن يستردني اليمين، لأن هذا اليمين نفسه قد صار يزحف على بطنه تماماً أمام ذلك اليسار» (مجلة «النوفل أوبسرفاتر» ١٩٧٤/٥/١٣) ويقولجامبيه ولاردرو: «الشأن عندنا ليس التغلب على اليمين لأنه ليس من المؤكد أننا نريد سيداً من اليسار» (المجلة الأدبية مايو١٩٧٦).
سابعاً: وهم يتفقون جميعاً في أنهم أصيبوا بخيبة أمل هي التي دفعتهم إلى تلمس هذه «الفلسفة الجديدة»:
أ - بعضهم خاب أملهم في الدين، مثل نيمو Nemo ، فراغ إلى إيجاد مذهب جديد يناسب مطامحه الجديدة.
ب - وبعضهم خاب أملهم في الماركسية والمادية وكل ما اهتزت به ثورة مايو سنة ١٩٦٨ وتردد بين مرشدين ثائرين متضاربين عديدين. فمثلاً جامبيه، كما يقول عنه زميله نيمو «انتقل بسرعة من مجلة Tel Quel إلى دريدا Derrida إلى التوسير Althusser ثم إلى لينين ثم إلى ماو، ثم إلى من يدعى يوحنا الأفسوسي، وفي كل مرة كان يحرق من كان يعبده قبل ذلك بثلاثة أشهر، ولقد رأيته يفعل هذا، ذلك لأنه يضطرم بوجدان عاشق للحقيقة» («الأنباء الأدبية» في ١٩٧٦/١٢/٢٣).
ويقول دوليه Do lié عن نفسه إنه آمن بماركس لكنه لم يظفر منه بما توقعه ٠ لهذا خاب أمله. وإلى قول مشابه ذهبت فرانسواز ليفي، التي اندفعت في السياسة لتغيير العالم «لكن ما حدث لم يتفق تماماً مع ما انتظرته منها» («كارل ماركس: تاريخ بورجوازي ألماني» ص٧)
كلهم إذن كانوا فرائس لخيبة الأمل، حتى إن أحدهم وهو جيران Guerin مجد الوهم فقال «إن الوهم أياً كان، يجعل المرء يحيا، يجعله يؤمن بالحياة» (جيران] «نيتشه، سقراط بطولي»، ص١٨٣).
وبعد عرض هذه الآراء المشتركة بينهم يحسن بنا أن نذكر مؤلفاتهم:
الغلاسفة الجدد في فرنسا
(١)جان ماري بنوا:
أ — «الثورة البنياوية» .
ب - ماركس مات (عند الناشر جاليمار)، «استبداد العقل المنطقي"، سنة ١٩٧٥ عند التاشر Minime.
(٢) جان بول دوليه:
«رائحة فرنسا»؛ «كراهية التفكير» (عند الناشر ]ع٩111ت1سنة٠١٩٧٦
(٣) ميشيل جيران:
رسائل إلى فولف» ، «نيتشه : سقراط بطولي، .
(٤) كرستيان جامبيه:
«دفاع عن أفلاطون»، سنة ١٩٧٦.
(٥) كرستيان جامبيه وجي لردرو:
«اللاك,، ة ٠١٩٧٦
(٦) برنار هنري ليفي:
«البربرية ذات الوجه الإنساني"، سنة ١٩٧٧.
(٧) فيليب نيمو م
«الإنسان البنياوي».
(٨) فرنسواز بول - ليفي:
كارلماركس:
«سيرة حياة بورجوازي ألماني».
وقد ظهرت هذه المؤلفات كلها عند الناشر جراسيه Grasset في باريس (باستثناء ما ذكرنا لها ناشراً آخر) أما رائدهم الروحي، موريس كلافل، فنذكر له الكتب التالية:
أ - «من هو المستلب؟» عند الناشر فلاماريون ٠١٩٧٠
ب - «ما أؤمن به» عند الناشر جراسيه .
ج ٠ «نحن جميعاً قتلناه، هذا المدعو سقراط»، عند الناشر Seuil ١٩٧٧.
د - ,الله هو الله، بحق اسم الله».
وكل هذه المؤلفات هي من أكثر الكتب رواجاً في فرنسا، لما فيها من تحد ولما لأسلوبها من جراءة ورشاقة
ولغة قجة، ولما أثارته من هجمات بالغة العنف، والفحش في الألفاظ والشتائم من جانب خصومه .
ويمكننا تلخيص الأفكار الرئيسية في هذه الفلسفة الجديدةعلى النحو لتالي
١ - ض طغيان العلم الكلي :
تهاجم هذه الفلسفة الجديدة النزعة إلى تمجيد العلم الكلي الذي يدعى السيطرة على كل شيء والمعرفة بالمطلق. ويدعى أنه بالمعرفة يمكن تحويل كل شيء. وترى أن الفكر ليس له أن ينتظر شيئاً من العلم . والدليل على ذلك في نظرهم أن العلم يتكيف مع زمانه ومكانه. ويستشهدون هاهنا بما بينه أستاذنا كويريه Koyre من أن العلم اليوناني غير العلم الحديث. والقول العلمي عند أرسطو غيره عند جالليو. والمعرفة الرياضية القديمة تختلف عن المعرفة الفيزيائية الرياضية التي وصل إليها العلم الحديث. وقد ارتبط نقدهم هذا للعلم بنقدهم لماركس باعتباره هو الذي دعا إلى ما سماه بالاشتراكية العلمية.
٢ - ضد التاريخ والنزعة التاريخية:
«إن التاريخ، كما يقول دوليه، هو في أساسه منطق للنغظام. لا شيء يتغير لأن المستقبل ليس هو إمكان الممكن. بل هو امتداد سلسلة من الأمور المحتملة» («كراهية التفكير» ص٦٤). ومنطق النظام يردنا إلى الدولة «وليس ثم تاريخ إلا للدولة" (الموضح نفسه).
٣ -مع الإيمان:
وهنا يظهر تأثير كلافل بكل وضوح، وهو المؤمن الشديد الحماسة، العامر الوجدان. وهم لهذا يتعلقون به ويسعون لإكماله، وإن أدى بهم ذلك إلى نوع من الغموض مثل تمجيد اللامعقول، والتطلع إلى العلو «لأنه في التجرية الرائعة للعلو يمكن للقول اللامعقول أن يسمح بوصفه رسالة" (نيمو: «الإنسان البنياوي» ص٢١٨). وأشدهم إيماناً وحديثاً عن الإيمان هو فيليب نيمو Philippe Nemo وذلك في كتابه "الإنسان البنياوي» ومما قاله «إن الإنسان بوصفه روحاً هو المعاصر للعلو الذي يخترقه. إنه ابن الله» (الكتاب نفسه ص٢٣٤).
وها الإيمان يستند إلى الوحي «لإن الوحي حقيقة مطلقة، بيد أنها لا تكون ميسورة إلا إذا عشتها» كما قال موريس كلافل («ما أؤمن به» ص307)