العالم في النصف الأول من القرن 16
أوضاع العالم في تلك الفترة
لقد كانت أحوال أوروبا في القرن السادس عشر تشبه إلى حد ما الأحوال المستقرة والموحدة التي تميزت بها أوروبا في القرن الحادي والعشرين، حيث تم دعم العلم وترسيخه على أسس عامة وشاملة. ولكن، لم تكن الأحوال السياسية على هذا القدر من الاستقرار والازدهار.
في ذلك الوقت، لم تكن ألمانيا الحديثة وإيطاليا قد اكتشفت بعد، وإنما كانت هناك مجموعة من الإمارات والدوقيات المستقلة. وقد ازدهر العلم كثيرا في هذه الفترة، وذلك لأن عددا كبيرا من القصور الملكية قام برعاية الفلاسفة والعلماء
أما فرنسا وأسبانيا، فقد كانت الحكومات المركزية تسيطر على معظم الأراضي التابعة لهما الآن. كما كان هناك الكثير من الأحزاب المعارضة في فرنسا وسيطرت دول أخرى على أراضيها في المناطق الشرقية والشمالية.
بالإضافة إلى ذلك، كانت إنجلترا تسيطر بشكل مزعج على أيرلندا، أما اسكتلندا فكانت لا تزال مملكة مستقلة. ولم تكن هناك أجواء الديمقراطية التي توجد الآن، فقد كانت الحكومات الموجودة في هذا الوقت حكومات مستبدة، كما كان يتم حكم البلاد والسيطرة عليها عن طريق قوات الجيش، ولكن بدأت تظهر فكرة الحق الإلهي للملوك.
هذا، وقد سيطرت أسرة هابسبورج الحاكمة على معظم الأراضي الأوروبية وأثرت عليها بشكل كبير للغاية. فلقد حکمت هذه الأسرة، التي كان مقرها في أسبانيا والنمسا، مساحات كبيرة من أراضي دولة إيطاليا المتفرقة، كما حكمت أيضا الأراضي المنخفضة؛ التي شكلت بعد ذلك دولتي بلجيكا وهولندا، بالإضافة إلى السيطرة على المناطق التي تتحدث اللغة الألمانية في أوروبا الوسطى. ولقد تجمعت دول أوروبا الوسطى بعد ذلك تحت لواء الإمبراطورية الرومانية المقدسة.
انقسمت أوروبا مرة أخرى بحلول عام ۱۰۱۷ وكان الانقسام هذه المرة بين مذهبی دینيين كبيرين. فمع بداية الإصلاح الدینی، الذي وضع أساسه العالم الألماني مارتن لوث والعالم الفرنسي جون كلفن، انقسمت البلاد إلى فئتين : الفئة الأولى هي فئة أنصا البروتستانت (ولقد تمركزت هذه الفئة في المناطق التي توجد شمال نهر الراين) والفئة الثاني تمثلت في أنصار العقيدة الكاثوليكية التقليدية (ولقد تمركزت هذه الفئة في المناطق الجنوبية). ولقد أدى هذا الانقسام إلى استمرار الصراع الديني العنيف لمدة قرنين من الزمان.
لقد كان هذا الإصلاح بمثابة ثورة ضد الفساد الذي كانت تشهده الكنيسة الرومانية، على الرغم من أنه كانت هناك مشاعر غضب تنمو تجاه هذا الفساد على مدار عقود، بل وربما لقرون. ولقد أدانت الكنيسة لوثر، وقامت الكنيسة عام 1945 بعقد مجلس المدينة العرض الإصلاحات التي تقترحها، وذلك من خلال تأسيس جمعية يسوع عام 1540 (والأمر الذي يثير الانتباه هو أن أنصار هذه الجمعية قد ضمت في القرون التالية عددا كبيرا من العلماء البارزين).
لكن، تمت مهاجمة الأفكار القديمة بشدة، تلك الأفكار التي قام بوضعها علماء اليونان البارزين والتي أقرتها الكنيسة. ولم تتمكن الكنيسة من السيطرة على الأوضاع، والأمر الذي أدى إلى حدوث ذلك هو القرار الذي أصدرته الكنيسة، والتي وضعت من خلاله قائمة بأسماء الكتب الممنوعة والتي تشمل الكتب التي قام بتألفيها كل من جاليليو و كوبرنيكس.
قد يكون هذا هو السبب وراء إسهام دولة أسبانيا الكاثوليكية العظيمة بالقليل فحسب في التقدم العلمي لقرون طويلة، ولذلك تميزت عليها السلطات البسيطة التي كانت توجد في الأراضي المنخفضة واسكندنافيا وإنجلترا واسكتلندا وغيرها من الدول التي ازدهرت فيها الحركات الإصلاحية. ولقد قدمت النهضة الأوروبية - من خلال المساعدة التي قدمها الأمراء والدوقات الذين كانوا يدعمون هذه النهضة، خاصة في مدينة فلورنسا - بعض الأفكار الجديدة في إيطاليا الكاثوليكية وقد استمرت هذه الأفكار في السيطرة على العقول لبعض الوقت. ولكن العقوبات التي تم إنزالها على الأفراد الذين تبنوا هذه الأفكار، مثل معاقبة العالم جاليليو (۱۹۳۳) بالسجن، أدت إلى تراجع النهضة الأوروبية مرة أخرى. هذا، ولم تساهم فرنسا الكاثوليكية في التقدم العلمي إلا بعد مرور قرن، وذلك عندما بدأ بعض الحكام، مثل الملك لويس الرابع عشر، في رعاية العلم ومساعدة العلماء واعتبار العلم مصدر من مصادر الثروات القومية.
بالإضافة إلى ذلك، أدت العوامل الخارجية أيضا إلى عدم استقرار الأحوال في أوروبا. ولعل أحد هذه العوامل هو محاولة أسبانيا السيطرة على العالم الجديد (الأمريكتين)، ومحاولة البرتغال بسط نفوذها على القارة الأفريقية والشرق الأقصى. ولقد أدى ذلك بالطبع الى توتر العلاقات التجارية بين بعض الدول - خاصة إنجلترا وهولندا. ولقد كان هناك صراع بين إنجلترا وأسبانيا، ووصل هذا الصراع إلى ذروته في معركة "الآرمادا الأسبانية"، من ناحية لأسباب دينية ومن ناحية أخرى لاعتبارات تجارية.
اما الخطر الآخر الذي كان يهدد أوروبا، فكان مصدره يأتي من الجنوب الشرقي. ويمثل هذا الخطر في اتساع رقعة الدولة العثمانية وزحفها المستمر على أوروبا، خاصة بعد سقوط إسطنبول في القرن الماضي. وعلى الرغم من أن هذه الكارثة قد أدت إلى هروب المفكرين والدارسين إلى إيطاليا، الأمر الذي ساعد على دعم وتقوية النهضة الأوروبية، فإن الأتراك قالوا قد بسطوا نفوذهم على دولتي البلقان والمجر وقاموا بمحاصرة فيينا عام ۱۰۲۹.
هذا، ولقد ولد العلم الحديث في ظل مثل هذه الأجواء غير المستقرة والبيئة المركبة، ولقد حملي أولى خطواته في إيطاليا، ثم نمی بعد ذلك وترعرع في المناطق الشمالية والغربية.
فنون وأفكار
لقد قدمت الفنون والأفكار الجديدة أعظم الإنجازات التي توصلت إليها الفلسفة الإنسانية التي تناولها المفكر الهولندي إيرازموس في كتابه Education of a Christian Prince. ولقد وضع أيضا السياسي الإيطالي نيقولو مكيافلي بعض الأفكار الساخرة التي تدور حول وضع قواعد يسير وفقها الحكام وذلك في كتاب تحت عنوان The Prince عام 1513، بينما وضح نظيره الإنجليزي توماس مور نظرته حول المدينة الفاضلة في مقالته السياسية Utopia (التي تعني هنا "لا مكان "). وقام مارتن لوثر في العام التالي بإثارة فكرة الإصلاح الدینی. وقد تمت ترجمة الإنجيل من اللغة اللاتينية إلى عدد كبير من اللغات المستخدمة في الحياة اليومية (فقد تمت ترجمته إلى اللغة الإنجليزية بواسطة وليم تيندال وإلى اللغة الألمانية بواسطة لوثر). وقد تم نشر الكتاب الإنجليزي Book of Common Prayer عام 1540.
من أمثلة الأعمال الأدبية التي كانت تتناقض مع التيار العام الذي ساد في ذلك الوقت القصص الشعرية التي قام المؤلف الإيطالي لوكوفيكو أريستو بكتابتها والمسرحية الإنجليزي الأخلاقية Everyman. ولقد انتشرت الموسيقى في الكنائس والمجالس الملكية ؛ وقد اشتملت هذه الموسيقى على مقطوعات موسيقية من تأليف الموسيقار الإنجليزي روبرت فاي فاکس والموسيقار الفلمنكي جوسكوین دي بريس.
على الرغم من اضمحلال النهضة الأوروبية، ظل الفنانون الإيطاليون هم أكثر فنانين العالم احترافا للفنون المرئية، فنجد مثلا أن مایکل آنجلو قام عام 1504 بنحت تمثاله الشهير دافيد، كما قام بالانتهاء من تزيين أسقف كنيسة سيستين عام ۱۰۱۲. كما قا دافنشي برسم الموناليزا عام 1505. كما ظهر في هذه الفترة عدد كبير من الفنانين العظماء مر أمثال تيتيان (الذي كانت لوحة Venus of Urbino من أهم الأعمال التي قدمها عام 1538) ورفاييل وتنتوريتو وكورجيو، بالإضافة إلى الأعمال العظيمة التي قدمها النحات الشهي کیلینی. ولقد اشتهر الفنان الألماني هانز هولباین برسمه للملوك والنبلاء، مثل قيامه برسم الملك هنري الثامن - ملك إنجلترا في ذلك الوقت - وحاشيته. كما اشتهر أيضاً الفنان الألماني ألبرخت دورير بالمنحوتات الخشبية التي أبدعها وكانت تجسد مواقف من الحياة اليومية .
البلاد التي تم اكتشافها في هذه الفترة
لقد كانت فترة أوائل القرن السادس عشر فترة مفعمة بالحيوية والنشاط، حيث استمر الأوروبيون في التجول حول العالم للبحث عن أراض وفرص جديدة. ولقد اكتشف البحارة البرتغاليون الساحل الذي يؤدي إلى البرازيل. كما اكتشف الأسبان ولاية فلوريدا وشبه جزيرة يوكاتان بالمكسيك، وصولا إلى بيرو. وعندما وصلوا إلى منطقة الشمال، اكتشفوا جراند کانیون.
هذا، علاوة على أن أحد البحارة المغامرين، ويدعى فاسكو بالبوا، قد قام بالإبحار على طول نهر الأمازون مرورا بسلسلة جبال الإنديز وصولا إلى المحيط الأطلسي. ولقد عبر هذا البحار برزخ بنما، وقد رأى لأول مرة المحيط الهاديء؛ مع العلم أنه هو الذي أطلق على هذا المحيط هذا الاسم. هذا، وقد اقترح مخطط الخرائط، مارتن والدسيمولر، عام 1507 أنه يجب أن يطلق على هذه المنطقة اسم أمريكا نسبة إلى المكتشف الأسباني أميريجو فسبوتشي.
في هذه الأثناء، كان البرتغاليون مستمرين في المضي قدما نحو استكشاف الطريق الذي يؤدي إلى أعماق أفريقيا والمناطق التي تحيط بالمحيط الهندي. ولقد مر البرتغاليون بالهند القديمة وصولا إلى غينيا الجديدة وجزر سبايس التي توجد في مالاكا، كما أنشئوا بعض المواقع التجارية في سريلانكا والصين وأقاموا بعض العلاقات مع اليابان.
لقد تم الإبحار حول العالم لأول مرة عام 1521 بواسطة مجموعة من السفن التي كان يقودها البحار الأسباني فرديناند ماجلان. ولقد أبحرت هذه السفن حول أطراف أمريكا الجنوبية وعبر المحيط الهاديء، ولكن لم يحيا ماجلان ليشهد بنفسه اكتشاف بلاد الفلبين.
عندما قام البابا عام 1494 بتقسيم دول العالم، أعطى لدولة البرتغال امتیازات خاصة في أفريقيا وآسيا، كما أعطى أسبانيا تلك الامتيازات في الدول التي تقع في النصف الغربي من العالم. وهكذا ؛ نجد أن هذا التقسيم قد جعل أمريكا الجنوبية تحت سيطرة البرتغاليين ، كما وضع بلاد الفلبين، التي لم يكن قد تم اكتشافها بعد، ضمن الأراضي الأسبانية.
الخطوات الأولى للعلم
على الرغم من أن العلم الذي نعرفه الآن لم يكن قد ظهر بعد، فإن هذه الفترة قد شهدت تقدما ملحوظا في مجموعة متنوعة من المجالات. فمثلا نجد أن الطب قد تقدم كثيرا من خلال المساهمات التي قدمها فيزيليوس ومعاصروه في مجال التشريح؛ بالإضافة إلى الأفكار الجديدة التي قدمها فراکاستورو حول كيفية انتقال الأمراض. كما حدث تطور ملحوظ في علم الفلك نتيجة للنظريات التي وضعها كوبرنيكس والتي أثبتت خطأ الكثير من المفاهيم السابقة العتيقة التي تخص نظام الكون والنظريات الرياضية. كما وضع پارسیلسیوس قواعد الكيمياء الحديثة، ولقد وضع آجريقولا هذه القواعد في علم الجيولوجيا ؛ ووسع جيسنر هذه القواعد في علم الأحياء من خلال مجموعة الموسوعات العلمية التي تناول فيها أنواع النباتات والحيوانات. لذلك، لا يسعنا إلا أن نقول إن نفاذ البصيرة الذي كان تمتع به ليوناردو دافنشي قد ساهم في تطور العديد من المجالات.
في الغالب، كانت معظم الإنجازات التي قدمها هؤلاء العلماء في المجالات الطبية والريانسية. وقد حصل الكثير من هؤلاء العلماء على الرعاية من جانب عدد من النبلاء والأمراء. هذا، مع العلم أن إيطاليا كانت موطن عدد كبير منهم وكانت أيضا بمثابة المنبع الذي يستقي هؤلاء منه العلم وتقام فيه العديد من الدراسات.