الطبيعيات عند أفلاطون
الطبيعيات عند افلاطون تنقسم ثلاثة أقسام رئيية، كلها تتصل بنظرية الصور بوصفها العمود الفقري لمذهب افلاطون كله. ذلك ان البحث يجب ان يتجه أولا إلى الشيء الذي هو في مناظرة الصور والذي باجتماع الصور وإياه ينتج المحسوس. وهذا الشيء هو المادة . وثانياً لا مناص من البحث في الصلة بين العالم المحسوس وبين الصور، وهذا يكون القسم الثاني من الطبيعيات، وأخيرا لا بد من البحث في الصلة التي تجمع بين الصور والمحسوسات، أو بعبارة أدق علة الحدوث في الكون، وتلك هي النفس الكلية. فلنبحثفيكل قسم من هذه الأقسام الثلاثة.
أولا :المادة. لا بد أن نبدامن الأساس الأول الذي اقيم عليه مذهب أفلاطون الكلي وهو نظرية الصور. ونحن قلنا لا بد من القول بالصور بوصفها الموجود الثابت الذي لا يتغير، والذي يكون ماهية الأشياء، والذي هو في مقابل العلم. وحينثذ لا بد لنا ان نبحث في مقابل الصور، أي في هذا الشيء الذي لا يقوم بذاته، والذي يجري عليه التغيردائما، والذي هو مصدر الكثرة في الموجودات. وهذا الشىء الذي يتغير باستمرار ولا يبقى ثابتاً عل حال، والذي عن طريق اجتماعه بالصورة يكون الحدوث، هو ما يمكن أن يسمى باسم لم يستخدمه أفلاطون ألا وهو الهيولي أو المادة. أما أفلاطون نفسه فلم يستخدم هذا اللفظ في المعنى الذي نراه شائعاً فيما بعد والمفهوم لدينا الآن، وإنما كان يستعمله عادة بالمعى الاشتقاقي اللغوي : أي الغابة أو الخشب.
وقد اختلف الذين رووا مذهب أفلاطون اختلافاً كبيراً في ماهية هذه امادة. فنشاهد أرسطويقول عن أفلاطون إن المادة لدى هذا الأخير هي الأصل في نشأة العالم، وإنها كانت موجودة مند الأزل في حركة دائمة، وإن الصانع، عندما صنع العالم، نظم هذه المادة المشتتة التي كانت في حركة دائمة. ويقول آخرون إن المادة عند أفلاطون هي الشيء المتغير باستمرار؛ وإنها عنصر يجري فيه التغير الدائم جريانه في أي عنصر آخر مثل الماء والنار.
وهنا يثار في هذا الصدد مسألة خلق المادة، وهل كان افلاطون يعتقد أن المادة مخلوقة أو غير خلوقة , والواقع أنا لا نجد موضعاً واحداً في مؤلفات افلاطون يذكر فيه ما يحاول البعض أن يفسر به وجود المادة عند أفلاطون ، نقول لا نجد موضعا واحدا يقول فيه إن المادة قد خلقها الصانع، بل نجد عنده دائما وباستمرار أن المادة ازلية. وأوضح الأدلة على هذا أنه من غير الممكن أن يكون أفلاطون قد قال بأن الصانع قد خلق المادة، لأن الصانع مصدر الخير، والخيرلا ينتج عنه إلا الخير، فكيف يمكن إذن ان يخلق المادة وهي مصدر الشر في الوجود؟.
ولنعد الآن إلى ما قاله أرسطو من أن المادة عند أفلاطون نوع من الخليط ا لأزلي. فنقول إن هذا الرأي لا نجده مطلقا عند أفلاطون في أية محاورة من المحاورات، وإنما ينسب أرسطو هذا الرأي إليه اعتماداً على المحاضرات الشفوية التى ألقاها افلاطون في آخر حياته والتي أورد لنا أرسطو شيئاً كثيراً عنها . لكن يلاحظ هنا أنه، إما أن يكون أرسطو قد أخطأ فهم مذهب أستاذه، وإما أن قوله يجب أن يفسر تفسيراً اخر غير المعنى الظاهر لهذا الكلام، لأن المادة عند أفلاطون ليس لها وجود حقيقي، وكل الوجود الحقيقي إنما ينتسب إلى الصور أو الماهيات، فلا يمكن أن يكون لها وجود حقيقي إذن. ثم إن افلاطون يمثل المادة بهذا الخلاء الذي تصوره الذريون وفسروا على أساسه الحركة، ولهذا يتحدث عن امادة كثيراً بوصف أنها المكان. وهنا يجب أن نحدد معنى هذا اللفظ نحديداً دقيقاً لأن المكان -على الأقل في العرف العام أو في العقل -لا يمكن أن يتصور غيرمشغول بمادة، فالمكان أيضاً هومادة بالمعنى المفهوم لدينا، أي الأجام . ولكن الواقع هو أن أفلاطون لم يفهم المكان هذا الفهم، وإنما فهمه بوصفه الخلاء المطلق، وإذا كان قد استعمل هذا اللفظ هنا، فمرجع هذا إلى سوء استعماله لهذا اللفظ اللغوي وعدم تحديده لمعناه الفلسفي .
وفي الطرف الآخر رأي حاول أن يحل المسألة حلا مثاليا خالصاً وهو رأي رتر، الذي يقول إن المادة الأفلاطونية شيء مجرد صرف لا وجود له في الخارج، وقد فترضه أفلاطون افتراضا من ناحية نظرية المعرفة . فنحن في علمنا بالأشياء الخارجية نستعين بشيء فيه نتصور وجود الماهيات. وهذا الشيء هوما يسمى باسم المادة. ولكن هذا الرأي أيضا رأي غير صحيح، لأن أفلاطون لا يتحدمن عن شيء من هذا في محاوراتم ومن ناحية أخرى تلاحظ أن هذا النوع من المثالية لم يكن موجودا عند اليونانيين بوجه عام . فهذه الذاتية التي نراها واضحة في العصر الحديث، وعلى الأخص عند بركلي، لا يتصور أن تكون موجودة عند أفلاطون، بمعنى أن المادة هي من خلق الفكر وليست ذات وجود خارجي في الواقع. - والذي نستخلصه من هذا كله هوأن المادة عند افلاطون ليست هي المادة بالمعنى المفهوم، وإنما هي شبه المادة، بمعف انها شبه إطار فارغ فيه يجري التغيروفيه تدخل الصور كي تتحد بالمحوسات لأن المادة الأفلاطونية ليس لها اي وجود وليس لها اي قوام ولهذا فهويقول عنها انها لا وجود في مقابل الوجود الحقيقي، وهو وجود الصور. وفي هذه المثالية المغالية صعوبات كثيرة؛ اهمها أننا قلنا من قبل إن المحسوس موضوع الإدراك الحسي وإن الماهية موضوع العلم الصحيح، اما اللاوجود فموضوع الجهل، أي انه من غير الممكن مطلقاً ان يعلم الإنسان اللاموجود. فإذاكانت المادة لاموجوداً ، فكيف يحق لأفلاطون ان يتحدث عنها وكيف يتير له أن يتصورها أدنى تصور؟
أدرك أفلاطون هذه الصعوبة. ولكنه لم يستطع أن يحلها وأن يقدم عنها جواباً شافيأ، بل اكتفى بقولهم إن لمادة شيء يدرك، بوصفها مقابلا للوجود فادراكها إذن بالنبة إلى الصورة. ثم نجده بعد هذا، وخاصة في حاورة «طيماوس»، يصف المادة بأنها اللامحدود، وأرسطو نفه يذكر («الطبيعة» م٢ ف، ، ص ٣ . ١ اس٣) عن أفلاطون إنه يعرف المادة أيضاً هذا التعريف، فبأي معنى يجب أن نفهم المادة بوصفها اللامحدود، وهوما لا صفة معينة له؟ المادة التي هي لا محدود، هي جهذا المعى الشيء الذي لا صفة له، لأنه يمكن ان يتصف بكل الصفات، فالمادة هي عدم التعين المطلق. ولكننا نجد بعد هذا تقسيمات وتصويرات للمادة بوصف أن لها أثراً في تكوين الأشياء . وأوضح ما نرى هذا حينما يقال عن المادة إنها العلة في وجود المحسوسات على أساس أنه باجتماع المادي والمعقول يتكون المحسوس. فكيف يمكن المادة أن تكون حاصلة على هذه العلة إذا كانت لا وجودأ، أي شيئا سلبياً مطلقا؟ هنا نجد أيضأ نفس المشكلة التي وجدناها من قبل، وهي مشكلة عدم التحديد في كلام أفلاطون أو التناقض والوفوع في أقوال متعارضة . وبعد هذا فلنبحث في صلة المادة بالصور وهل للصور مادة كما للأشياء المحوسة.
هنا يتحدث بعض المؤلفين عن وجود نوعين من المادة عند أفلاطون: إحداهما خاصة بالمثل، والأخرى خاصة ببقية الموجودات سواء أكانت موجودات حية أم كانت موجودات رياضية،وعن طريق هذه التفرقة يحاولون أن يفسروا ما قاله أرسطوعن المادة الأفلاطونية بوصف أن الصور تتكون منهاايضا، غير أنه لا يحق لنا أن نقول جهذه التفرقة طالما لم توجد في المحاورات . ومن ناحية أخرى نقول : على أي أساس يمكن أن يقال إن الماهيات أو الصور مادة؟ سيكون هناك تناقض حينئذ، لأننا قلنا إن وجود الماهيات هو الوجود الثابت غير القابل لأي نوع من أنواع الحركة أو التغير، بينما نجد على العكس من هذا ان الماهية الحقيقية للمادة هي أنها مصدر التغير وأنها في حركة دائما. فكيفيمكن أن تجتمع هذه المادة مع الماهيات الثابتة؟ إما أن يكون هنا تناقض في فكر أفلاطون، وإما أن تكون هذه التفرقة غير صحيحة، وخاصة لأننا لا نجده يذكرها في محاوراته، ومصدرنا في هذا كله أرسطووحده . والواقع أنأرسطو في روايته لكلام أفلاطون في صدد المادة-كما هي الحال أيضا فيما بتعلق بالهور-ند غالى كثيراً في بعض النواحي ولم يكن هادئ في عرضه لبعض الآراء ،كما أنه حاول مرارا عدة أن يفهم أقوال أفلاطون على أساس مذهبه الخاص، فكانت نتيجة هذا أنه شوه كثيراً من الآراء الأفلاطونية، ولذا لا يحق لنا أن نعتمد عليه كثيراً، على الأقل في هذا الصدد.
الصلة بين المحسوس وبين الصور
في كتاب «ما بعد لطبيعة» (م ا ف٩) يقدم لنا أرسطونقداً عنيفاً لنظرية الصور. وهذا النقد يقوم أولا على أساس الصلة بين المحسوسات وبين المعقولات أو الصور، فيقول أولا: كيف يمكن المعقولات، وهى مفارقة، أن تكون حالة في المحسوسات باطنة فيها، إذا كان المعقول منافضاً للمحسوس، وكان من غير الممكن إذن أن يجتمع الاثنان في شيء واحد؟ وثانياً : يقول أفلاطون إن الصور هي نماذج أو أمثلة على غرارها تصاغ الأشياء المحسوسة، ولكن يلاحظ هنا أن ثمة تشابها وشيئاً مشتركا بين المحسوسات وبين الصور التي نشارك هذه المحسوسات فيها، فلماذا لا يفترض حينثذ وجود صور أعلى من الاثنين بوصف أن نظرية الصور تقوم على أساس فكرة الكلي المشترك أو الصفة الجامعة بين شيء وحر؟
ويلاحظ ثالثاً أن فكرة العلية فيما يتصل بالصور فكرة غامضة كل الغموض، وذلك لأن أفلاطون لم يوضح لنا كيف أصبحت الأشياء موجودة عن طريق المشاركة في الصور، وما العلة التي سببت هذه المشاركة وجمعت بين الصور وبين المادة، فكونت من الاثنين هذا المزيج الذي هو الوجود؟ ولكن هذه الاعتراضات يمكن أن تنحل كلها إذا فسرنا أفلاطون تفسيرا حقيقياً يقوم على أساس فهم هذا المذهب فهما عقليا فبم شيء من التأويل، حتى يتمكن الانسان من أن يوفق بين هذه الأقوال، خصوصا إذا لاحظنا أن أفلاطون نفسه كان عالما بالكثيرمن هذه الاعتراضات، بل إنه في محاورة «برمنيدس» يثير الاعتراض الأول، فكيف يمكن أفلاطون أن يترك هذه لاعتراضات كما هي، وألا يعدل مذهبه حاسباً حاباً لا تقتضيه هذه الاعتراضات؟
أغلب الظن أن أفلاطون لم يفعل هذا التعديل، لأنه رأى أن هذه الاعتراضات كلها يمكن أن تزول إذا نظرنا إلى الفكرة الرئيسية في المحسوسات بوصفها خليطا من المادة لا من الصورة. فإذا نظرنا إلى هذا فإننا نجد حينئذ أن الاعتراض الأول يسفط تماما ، لأنه يقوم على أساس فكرة التفرقة تفرقة تامة بين عالم الصور وعالم المحسوسات، والواقع أن أفلاطون لا يقولهذا القول بهذه الحدة، وإناهويلجأ فقط إلى بعضصور وتشبيهات وتوكيدات لايريدبهاأن تؤخذبحروفها وظاهرها فيفهم منها أن هناك عالماً مثالياً مفارقا كل امفارقة نهذا العالم الحسي ، وإنما هو يرغب من وراء هذه التوكيدات أن يبين بكل وضوح ان هناك فارقا في الشيء الواحد بين صورته وبين مادته ، وأنه لا بد من وضع تفرقة حادة بين الاثنين ، ولكن في داخل الشيء الواحد عينه . وذلك كرد فعل ضد الفلاسفة الطبيعيين السابقين ، الذين ضحوا بالوجود العقلى أو وجود الماهيات من أجل الوجود الحسى أو وجود المادة ، فجعلوا الوجودين متصلا كلا منهما بالآخر تمام الاتصال . فما يريد أفلاطون إثباته هنا هو ان ثمة ثنائية في المحوسات ، بين الماهيات من ناحية وبين المادة من ناحية اخرى . والذي يستخلص من هذا كله هو ان الصور باطنة في الأشياء نفسها وليست عالية عليها علواً طافا
ويسقط الاعتراض الثافي حينما نلاحظ أن هذه المشاركة بين المحسوسات و بين صورها يجب أن يحدد معناها على أساس أن هذه المشاركة ليست مشاركة شيئين منفصلين تشابها في شيء، وإنما هذا الشيء علة الاثنين ويجب أن يوضع فوقهما. وأخيراً يسقط الاعتراض الثالث، وهو الخاص بالعلية في الصور، إذا رجعنا إلى ما قلناه من قبل عن الصور بوصفها عللا. هذا إلى أن هذا الجزء يدخل فيه الشيء الكثيرمما ينتسب إلى ميدان الأسطورة، لأن أفلاطون لم يستطع أن يدلي فيه بكلام عقلي خالص، وهنا تظهر فكرة الصانع وهي فكرة أسطورية بحت فلا تفسر مطلقا هذه المهمة، مهمة علية الصور.
فلنبحث الآن في الصلة بين العالم الحسي وبين عالم الصور. أول ما يقال في هذا الصدد هو أن الصور باطنة في الأشياء وليست عالية عليها مفارقة لها كل امفارقة، على نحو ما يصوره أرسطو وتابعه عليه الغالبية من ال مؤ رخين. وإنما يجب أن ننظر إلى الصور على أنها باطنة في الأشياء. وعلى كل حال فستتضح هذه المسألة أكثر عند الكلام عن المشاركة .
يأتي بعد هذا رأي يقول بأن المحسوس مستخرج من الصور.وأصحاب هذا الرأي، ومنهم أرسطو، يقولون بأن المحسوس من نوع مشابه تمام المشابهة للمعقول من حيث إن المعقولات أو الماهيات تمازج المحسوسات، وإذا كانت كذلك فامحومات من جنسها، وتستخلص منها مباشرة، فهي وجود من نوع أحط من الوجود الأول وهووجود الصور. ولكن هذا الرأي أيضاً غير صحيح، لأن الصلة بين المحسوسات وبين الصور لا يمكن أن تكون صلة اشتقاق للواحدة من الأخرى، وإنما نجد هنا في الواقع رأيين متعارضين لافلاطون : فنجد من ناحية أن أفلاطون يقول بأن الوجود الحقيقي هووجود الصور، وكل وجود مهما كان من أمره فهوداخل بالضرورة تحت هذا الوجود، أي ان المحسوسات داخلة أيضا تحت وجود الصور، بمعنى أن وجود الصور يشمل وجود المحسوسات. ولكننا نجد رأياً آخر لأفلاطون يجاول أن يفرق فيه بين هذين العالمين : عالم الصور وعالم المحسوسات، ويجعل الصور مفارقة مفارقة كبيرة وعالية على المحسوسات. فكيف يمكن التوفيق بين هذين الرأيين، خصوصا وأن الميل السائد عنده في أخريات حياته أن يصور المثل على أنها مشابهة للموجودات الحسية، وأن ليس هناك فارق كبير بين عالم الصور وعالم المحسوسات؟ لكأنه يقترب شيئاً فشيئاً من أرسطو، الذي أراد أن يملأ هذه الهوة التي تصور وجودها بين عالم الصور وعالم المحسوسات عند أفلاطون.
وإذا بحثنا الآن في كيفية التشابه بين الصور وبين المحسوسات أو اتحاد الصور والمحسوسات، وجدنا أن كلام أفلاطون هنا كلام أسطوري ، إذ هويستخدم لبيان هذه العلاقة فكرة مجازية هي فكرة المشاركة، ولا يحدد ماهية هذه المشاركة وكيف تكون الأشياء مشاركة لصورها في ماهيتها . أوليس معنى هذه المشاركة أن الصور قد انقسمت؟ إذ المفهوم حينئذ أن الشيء لمشارك فيه سبكون موجوداً في عدة أشياء، ومعنى هذا أن الصور قدانقسمت . ولماكانت الصورفي نظر أفلاطون جوهراً معقولا، والمعقول بسيط لا يقبل القمة، فسيكون من التناقض ، إذن ومن غير المفهوم، أن تصور الصلة على أنها صلة المشاركة . وهذا أيضاً من لاعتراضات التي وجهها أرسطو إلى أفلاطون. ولكن هذا الاغتراض يمكن أن ٠سظ هو الآخر يتفرقة وضعها أرسطو نفسه . ذلك أن الصور - بوصف أن لها وجوداً مستقلا، ذاتياً - لا يمكن أن يفرق فيها ببن جزء وجزء، أي انه من المستحيل أن يقال عنها إنها تنقسم ، وإنما يقال عن الشيء إنه ينقسم حينما تدخله المادة، فمبدأ الفردية هو المادة كما يصرح أرسطو نفسه. وإنما الذي يتم في الموجودات في الخارج هو أن المادة، عندما تضاف إلى الصور، تف ق ببن الموجودات . لكنها لا تفرق في الصور نفسها، با الصور قائمة بذاتها بسيطة غير منقسمة . غير أن هذا التفسير أيضا صعب الفهم، لأنه ما دامت المادة قد دخلت في الشيء وما دامت المادة مبدأ الجزئية أو الفردية، وما دام من الممكن أن تتصل الصور بالمادة، فإنها ستكون إذن عرضة للتجزئة، والتجزئة معناها الانقام في الصور نفسها. ولهذا فإن الاعتراض لا يمكن أن يحل بسهولة. ومن هنا جاءت فكرة أن المشاركة هي محاولة من جانب المادة للتشبه بالصور التي تريد التشبه بها، فهي نززع وشوق من جانب المادة للتشبه بالصورة، ومن هذاالنزوع يحدث التشابه بين المادة وبين الصورة، وبهذا ينتج المحسوس. وتكون المشاركة معناها إذن محاولة التشبه من جانب المادة بالصورة . إلا أن هذا القول أيضا لا يحل المشكلة كثيرا، لأنا لا نفهم ما العلة في نزوع الماده إلى التشبه بالصورة ولا نستطيع أن نبين ما هي الصلة الضرورية الموجودة بين الشيء وصورته. ولهذا فإن اعتراضات أرسطو على فكة المشاركة اعتراضات وجيهة في أكثر أجزائها.
بقي علينا أن نتحدث عن صورة الخير بوصفها مصدر العلية بين عالم الصوروعالم المحسوسات. فقدرأينامن قبا أن صورة الخيرهي الصورة العليا وأنها القمة بالنسبة لجميع الصور وأنها أخيرأ العلة الأولى أو الإله. فإذا كانت الحال كذلك، فيمكن تصوبر الصلة بين المحسوسات وبين الصور على أساس علية صورة الخير فعن طريق صورة الخيرتتحدصورة الأشياء بالمادة، وعن هذا تتكون المحسوسات . وهذا ما يسميه أفلاطون باسم العلية العاقلة في مقال الضرورة أو العلية العمياء . ذلك لأن المادة لا تقبل دائما الصورة، فتارة تشوه منها، وتارة تكون نافرة بالنسبة إليها، ومن هذا ينشأ عدم قبوها لها، والموجودات التى تنشأ عن صورة الخير والتى فيها تقبل الصورة المادة أو الهيولي اتى يراد إيداعها فيها، قبولاً تاماً، فالعلة فيها علة عاقلة. وقد تحدث أفلاطون كثيراً عن هذه العلة العاقلة وعن الخيرية في الطبيعة وعن كون الأشياء مرتبة كلها لغاية، كما سيقول أرسطو هذا فيما بعد بالتفصيل . و الضرورة هنا تناظر في الواقع فكرة الصدفة والبخت عند أرسطو. أما فكرة الصانع فليس لها معنى حقيقى في هذا الصدد، وإنما هى فكرة اسطورية تكاد تكون تماماً صورة الخير في تصوير اسطوري ، فيجب ان تفسر تفسيراً مجازياً، كما أشرنا إلى هذا من قبل.
وهنا نود أن نلقي نظرة عامة على فكرة الهيولى، وفكرة الصلة بين عالم المحسوس وعالم المعقول كما بيناه حتى الآن. فيشاهد أولا أننا لم نأخذ بالتفسير المعتاد للصلة بين العالم المحسوس والعالم المعقول . فالنظرة العادية هي تلك التي تحاول أن تفرق تفرقة مطلقة بين هذين العالمين، ورائد هذه النظرة أرسطودائماً والنقد الذي يوجهه إلى أفلاطون.
ولكننا قد رأينا من العرض الذي قمنا به حتى الآن أن ذلك النقد قد وجه في شيء من الاندفاع، مما يجعل أرسطو لا يفسر مذهب أفلاطون التفسير الحقيقي الذي يستدعيه، لا النص فقط، با والروح العامة لمذهب أفلاطون والظروف التي أحاطت به من حيث التراث الذي نقل إليه، فيما يتصل بالصلة بين المادة وبين المعقولات. لذا يجب ألا نقول مع القائلين إن الصور مفارقة مفارقة تامة للأشياء المشاركة فيها، بل يجب أن نفرق بين كون الصور مفارقة مفارقة تامة، وبين كوها ذات كيان خاص ومستقلة. فإن المقصود بهذه التفرقة الأخيرة هو أن تحدد على وجه الدقة ماهية الصورة بالنسبة إلى ماهية المادة، وأن يجعل الوجود المادي في مرتبة منحطة جداً بالنسبة إلى مرتبة الوجود المعقول، لدرجة أن يصبح هذا الوجود المادي لا وجوداً. فقصد افلاطون من وراء هذا كله إذن هو أن يؤكد أن الوجود الحقيقي هو الوجود المعقول، وليس الوجود المحسوس، لأن العلم يقتضي هذا.
وبلاحظ ثانياً أنه في الكلام عن المادة يجب ألا ينظر إلى المادة هذه النظرة الأرسططالية بوصفها العنص الذي يتكون منه الكون، فإن المادة بهذا المعنى قد تحدث عنها أفلاطون بوصفها العناصر. وما يسمى باسم المادة الأولية عنده يجب أن يفرق بينه وبين المادة الأولية عند الفلاسفة السابقين على سقراط. فليس لهذه المادة الأفلاطونية فوام خاص، وإنما هي عدم تعين مطلق خالص، فليس لها من ناحية الكم أومن ناحية الكيف أي شيء تتميز به وتتعين. ومن هنا كان من السهل أو المفهوم أن يكون أفلاطون غيردقيق في استعماله لهذا المصطلح الذي يعبر به عن هذه المادة. فقد رأينا عند كلامنا عن اللغة عند أفلاطون كيف أنه استعمل أسماء عدة للدلالة على هذه المادة، مما يدل على أنه لم يقصد من ورائها غير شيء واحد، هوأغها المقابل، من الناحية الوجودية، للتغير، وذلك ضد الإيليين، ومن الناحية لأخلاقية، لوجود الشر فهي في الواقع مبدأ للتفسيرأكثر من أن تكون مبدأ وجودياً حقيقياً. ولهذا فإنه إذا سماها باسم اللامحدود، فليست هذه التسمية تقال من باب الحمل على الأشياء ، وإنما تفال بوصفها موضوعاً ، أي ان المادة موضوع غبر معين، وليست شيئا يطلق على الأشياء فيعطيها صفة ال لا تعين.
ويلاحظ الثاً أن أفلاطون كان ثنائياً في تصوره للمادة، وكان حريصأ كل الحرص على هذه الثنائية، ومن أجل هذ غالى في تصوره لهذه الثنائية، فاضطر من أجل هذا أن يستعمل تعبيرات فيها كثير من الافراط، وليس المقصود بها أن تؤخذ بحروفها: كماهي الحال في قوله بالمفارقة.
فالخلاصة التي نستخلصها من هذا كله هي أن انعالم الأفلاطوني مركب من اثنين وأن هذين الاثنين متحدان معا، وأن هذا الاتحاد يجب أن يفسر على أساس أنه الموجود بوصفه الرافع.
النفس الكلية
العلة التي تجمع بين الصور وبين المادة هي النفس الكلية - وقد اختلف المؤرخون في تصويرهم لماهية هذه النفسالكلية، خصوصا إذا لاحظنا أن فكرة النفس الكلية قد لعبت دوراً كبيراً في الفلسفة اليونانية فيما بعد وبخاصة عند الرواقيين : فقد تحدثوا عن وجود النفس الكلية في العالم، وهذه النفس الكلية هي مصدر الحياة في الوجود، وتصوروا تبعا لهذا أن العالم كائن حي . ولكن هذه النظرة نظرة وحدة في الوجود بمعنى أنها تتصور الوجود أو الكون شيئا واحدا له جسم وله نفس، لكي يكون في النهاية موجوداً واحداً وهذ التصوير-ولوأننا نجد شبيها له عند كثيرمن ال مؤرخين الذين تحدثوا عن النفس الكلية عند أفلاطون ديجبأن يستبعد نهائياً لأنه يتنافى مع المبدأ الرئيسي لفلسفة أفلاطون كلها وهو مبدأ الثنائية. فالفصل بين الروح وبين المادة، أو بين النفس وبين الجسم، كبير لدرجة أنه يتنافى مع أي مذهب من مذاهب وحدة الوجود، كما أن مذهب النفس الكلية عند أفلاطون قد مزج بكثيرمن العناصر الأسطورية، فيجب أيضاً أن نلجأ في البحث فيه إلى طريقة التأويل التي استخدمناها من قبل في فكرة الصانع. وبعد هاتين الملاحظتين نستطيع أن نتبين الآن ما هي النفس الكلية، وما هي وظيفتها، وما صلتها ينفس الانسان
يقول أفلاطون : إن الته يريد أن يخلق العالم خيراً وعلى مثال الخير، والخير أو الخير لا يمكن أن يوجد إلا إذا وجدت النفس. فالقول بالخيرية يفضى إلى القول بوجود نفس كلية. وهنا نجد رأياً لأفلاطون («طيماوس«، ٣٥ ح) يورده أرسطو بوجه خاص («في النفس«: م١ ف٢ ، ص ٤٠٦ ب٢ وما يليه) هو أن النفس الكلية قد خلقت من المشابه واللامتثابه، فمن الاثنين كون اته شيئا ثالثا هو «النفس الكلية» : فهي إذن خليط من المعقول واللامعقول، من الصورة ومن العالم الحي ٠ ومعنى هذا في الواقع أن هناك علة تدفعنا إلى القول بوجود النفس الكلية، وهي أن تكون وسيطا بين الصور وبين العالم المحسوس.
يضاف إلى هذين السببين سبب ثالث، هو أننا نجد النظام في الكون في حركات الأفلاك. وهذا النظام يؤذن بوجود إضافات رياضية، وهذه الاضافات الرياضية هي حالة وسط كما رأينا بين الوجود الحى ووجود الصورة، فإذا قلنا بوجود إضافات رباضية في الكون، فقد قلنا أيضاً بوجود شيء يقالها هو وسط ووسيط بين الصورة والمحسوس. وهذا الشيء هو انفسالكلية.
وهذه النفس الكلية تمتاز بثيئين : الحركة والمعرفة. فعن طريق النفس الكلية تتحرك الأشياء التي في العالم. وذلك لأن النفس الكلية - كما تقول «فدرس» (٢٤٦ب) هي التي تشيع الحركة في غير المتحرك، وتصور لنا «طيماوس» (٢٤ب ٣٦) المسألة تصويراً حسياً فتقول : وجدت النفس الكلية من المتشابه واللامتثابه، وحينئذ تكونت عنها دائرتان : الأولى صادرة عن المتشابه، والثانية عن اللامتنابه، الدائرة الأولى هي دائرة الكواكب السبعة المتحركة، والنفس موجودة في الوسط تبث حركتها إلى هذه الأجزاء، كما أنها تشمل بإطارها الكواكب الثابتة، أي أنها تشمل العالم كله . ومن هنا يجب أن يقال إن النفس الكلية هي التي تحرك الكون.
وأذا بحثنا الآن في ماهية هذه الحركة التي بهاتتحرك النفس الكلية، وجدنا أن النفس الكلية تتحرك بذاتها، بينما الأجسام تتحرك بغيرها. لكنها في حركتها بذاتها تحرك بقية الأشياء. فحركتها إذن حركة عامة تشمل جميع الموجودات. وإذا تحركت تحرك الأشياء بحركتين : إما بالحركة التي تصدر عن تماسها مع المتشابه، وإما بالحركة التي تصدر عن تماسها باللامتثابه . وهذه الحركة هي نوع من القول بين النفس وبين الأشياء التي تتحرك، والقول معناه المعرفة، فبتحريك النفس الكلية للأشياء الأخرى تعرف، ولما كانت الحركة على نوعين، فالمعرفة أيضاً على نوعين : فبتحريكها لفلك الكواكب الثابتة تصدر معرفة في مقابل العلم، وعن تحريكها لفلك الكواكب المتحركة أو اللامتشاه يصدر الظن أو الانفعال الصحيح.
وإذا بحثنا الآن فيصلة هذه النفس الكلية بالنفس الانسانية وجدنا النفس الانسانية ها شخصية ولها فردية، بينما الكلية ليست لها هذه الفردية. وكيف يمكن أن يكون لها هذه الفردية وهي تشمل كل الأشياء؟ لكن يلاحظ مع هذا أن النفس الانسانية شبيهة بالنفس الكلية من حيث إن النفس الانسانية صادرة أيضاً عن النفس الكلية. أما عن الصلة بين هذه النفس الكلية وبين الصور من ناحية والمادة من ناحية أخرى، فقد قلنا إن مهمتها الجمع بين الاثنين، ولهذا يذكر عنها ارسطو أنها علاقة رياضية . ونحن نجد أفلاطون يقول عن النفس الكلية إنها مجموعة نسب رياضية وإنها إنسجام، وهوفي هذا قد تأثر بالفيثاغوريين من ناحية، ومن ناحية أخرى بنظريته هو في المعرفة، بوصف أن العلم المتوسط هو المقابل للوجود المتوسط، والوجود المتوسط هو الموجود بين الصور وبين المحسوسات , وليس من شك في أن الكثيرمن هذه التصويرات الأفلاطونية للنفس الكلية تصويرات أسطورية، ويجب أن تؤخذ على هذا الاعتبار. وكذلك الحال فيكلما يتعلق بأغلب آرائه في الطبيعيات ٠
القسم الثاني من الطبيعيات: بناء العالم
قلنا إن كلام أفلاطون في الطبيعيات كلام أسطوري، وسنجد هذا أكثر وضوحا في هذا القسم الذي سنتحدث عنه الآن من الطبيعيات. ولعل مرجع هذا إلى أن البحث في الطبيعيات هو البحث في المتغير، وقد قلنا من قبل إن المتغير ليس موضوعا للعلم الصحيح، وإنما موضوع للظن، ويستخدم في بيانه الأسطورة ب لذلك ليس البحث في الطبيعيات بحثا في موضوع العلم وإنما هو بحث في موضوع الظن، فليس بغريب إذن أن يداخله عنصر أسطوري . ثم إن النزعة السائدة في فكر أفلاطون تجعلنا أيضاً نقول بأنه إذ تحدث حديثا اسطوريا عن الطبيعيات فذلك مرجعه أن الطبيعيات لم يوجه إليها أفلاطون عناينه، لأن أبحاثه كانت متجهة إلى نظرية المعرفة وإلى المعقول وإلى الأخلاق، وكان منصرفا إلى حد بعيد عن الطبيعيات، ولعله لم يشتغل بالبحث فيها إلا من أجل أن يكمل مذهبه الفلسفي العام من ناحية، ومن ناحية أخرى من أجل أن يؤكد بعض المعتقدارت ادينية، ولهذا لم يتحدث عن الطبيعيات إلا في محاورة واحدة هي محاورة «طيماوس» ، مما يدل على أن أفلاطون نفسه لم ينظر إلى هذه التصويرات الحسية الخيالية التي عرضها لنا في «طيماوس» نظرة جدية،كما لم يرد منا ايضاً أن ننظر إليها هذه النظرة، بل إن أنصار افلاطون أنفسهم لم ينظروا إلى «طيماوس» على هذا الاعتبار، بل حاولوا أن يفسروهاتفسيراًرمزياً .وإلا فإذا أخذناها بحروفها، أي بحسب نصها، فستكون صحيحة إذن كل الاعتراضات التي وجهها أرسطوإلى أفلاطون، كما أننا لا نعلم من ناحية أخرى أن أفلاطون في محاضراته الشفوية قد تحدث عن الطبيعيات، ولهذا نجد أرسطو في عرضه لمذهب الطبيعيات عند أفلاطون يعتمد فقط على «طيماوس»، ولا يشيرإلى شيء بما في المحاضرات الشفوية: فإنه إذا كان الكثيرمن هذه الأقوال الأسطورية قد يفيد في تاريخ العلم، فإنه لا يفيد الفيلسوف فائدة كبيرة، فإذا كان من الممكن إذن أن يتحدث الانسان في شيء من التفصيل عن مذهب الطبيعيات عند أفلاطون في تاريخ العلم، فليس ذلكمن الجائز في تاريخ الفلسفة. ولهذا فلن نكرس لهذا الجزء غيرملاحظات قليلة تتعلق بالمسائل الرئيسية في الطبيعيات ذات الصلة بالمسائل الفلسفية العامة. والكلام هنا يمكن أن يقسم إلى قسمين : فنستطيع أن نتحدث أولا عن كيفية الخلق، وما بمسألة الخلق من مسائل ميتافيزيقية . كمسألة المادة، وهل هي قديمة أوحادثة، ومسألة الزمان، وهل هوقديم أوحادث، كما نستطيع أن نتحدث عن العناصر، وكيفية نشأة الأشياء بعضها عن بعض أما القسم الثانفي فسنجعله قسما رئيسيا، ألا وهو القسم الخاص بالانان.
تكوين العالم
في محاورة «طيماوس» يذكر لنا أفلاطون كيف أنه في البدء جاء الصانع ي00000لم51 فصنع من المتشابه واللامتشابه النفس الكلية، ومن النفس الكلية صنع العناصر الأربعة: الماء والهواء والنار والتراب، ومن هذه الأخيرة صنع الانسان وبقية الأحياء والكائنات الموجودة تحت فلك القمر. ويضيف إلى هذا أنه خلق الكواكب عن طريق لنفس الأولى، من أجل أن تكون حاسبة للزمان، كما يعنى أيضاً بالبحث في الزمان بوصف أن الزمان هو الصورة المتحركة للسرمدية الثابتة. وكل هذه التصويرات لا تدل على أن أفلاطون قد نظر إلى امسألة نلرة جدية، وإنما هو حديث أراد به أن يبين كيفية نشأة العالم، من أجل أن يقيم على هذا الأساس نظرياته الأخلاقية ونظرياته في الانسان. لكن يعنينا ونحن نبحث في هذه المسألة أن نتحدث عن مسألتين رئيسيتين هما مسألة خلق المادة ومسألة خلق الزمان، فإنا نرى أذلالون يعور الأمر وكأن الصانع قد خلق المادة ثم خلق منها من بعد بقية الأشياء. لكن هذا تصوير ظاهري فحسب، لأننا نجد أقوال
افلاطون في مواضع أخرى تتنافى تمام التنافي مع هذا التصوير. ذلك أنه يتحدث عن أزلية النفس ولا يمكنه أن يتحدث عن ازلية النفس إذا كانت المادة غيرازلية لأن النفس هي أيضاً جزء من المادة، كما أن النفس لا يمكن أن توجد إلا إذا كانت متصلة بجسم - وحينثذ إما ان نقول بان هناك تناقضاً في فكر افلاطون، وإما ان نقول بأن النفس التي يتحدث أفلاطون عن خلودها هي فقط- نفس عقلية غير متصلة بشيء من المادة، فلا ينطبق عليها ما ينطبق على هذه. لكن هذا التوفيق يتعارض مع ما يقوله أفلاطون صراحة من أن النفس توجد داثما مع جسم، ولو أنه تصور المسألة كثيراً وكأن انفوس الخالدة كانت موجودة في مكان معين قبل أن تحل في الأبدان.
هذا ويلاحظ من ناحية أخرى أن أفلاطون يتحدث باستمرار عن قبل وبعد، وحديثه عن «قبل» و«بعد» يتضمن الزمان. فهو يقول: *قبل» أن تخلق النفس الكلية، ولا يحق له أن يقول كلمة ,قبل،، إلا إذا كان زمان سابق على النفس الكلية، ومن هنا تنشأ مشكلة الزمان وهل هوغلوق في نظر أفلاطون أو هوأزلي أبدي . وهذه المسألة أكثر تعقيداً من الأولى. فالواقع أن الذي يكادينتهي إليه الرأي-كماأشرنا لى ذلك من قبل - هو أن المادة عند أفلاطون أزلية، لأنه لا يتحدث في موضع من المواضع عن خلق المادة، وإنما طريقة العرض أو التعبير هي وحدها انتي يمكن أن توحي بمثل هذا المعنى. كما ذكرنا إلى جانب هذا أن المادة إذا كات مخلوقة، والمادة هي أصل الشر، فمعنى هذا أن الصانع، وهوخير، يفعل الشر. وهذا مستحيل .
أما المسألة بالنسبة إلى الزمان فهي أكثر تعقيداً، لأننا قلنا إنه يتحدث أولا عن «قبل وبعد» بالنسبة إلى خلق النفس الكلية، وقل» هنا تشيرإلى الزمان، أي قبل الزمان - إذا كان الزمان مخلوقاً - كان هناك زمان، وهذا تناقض. لكن الذين ايقولون بان الزمان عند أفلاطون مخلوق، يؤيدون هذا بقولهم إن هذا لا يتنافى مع فكرة الصور، فالصور لا توجد في زمان لأنها ثابتة، والزمان لا يوجد إلا مع الحركة، فإذا لم تكن في الصور حركة فليس بالنسبة إليها زمان، وعن هنا يمكن أن نقول إن الأزلية تنتسب إليها الصور بينما الزمان قد خلق بعد ذلك. ونحن نجد أرسطو من أنصار هذا الرأي، إذ يذكر صراحة في امقالة الثامنة من «السماع الطبيعي» ز ٢٥١ ب س١٧ - س . ٢ ) أن انلاطون يجعل الزمان حادثاً غلوقاً، ويأخذ عليه هذا القول ويبرهن على بطلانه ببراهينه المشهورة.ضد حدوث الحركة. ولكن يلاحظ بعد هذا أن أرسطو لم ينظر إلى «طيماوس» في هذا الموضع بوصفها محاورة أرسطورية، بل أخذ النص كما هو. وليس هذا فحسب، بل نحن نجد أيضاً أن محاورة « طيماوس ة . إن كانت قد تحدثت عن الزمان هذا الحديث، فذلك في العرض وحده، وليس الترتيب في العرض معناه الترتيب في واقع الوجود، ولهذا فإن ما يوحي به ظاهر النص يجب ألا يؤخذ على أنه صحيح. وهذا التفسير لترتيب اطيماوس» قد قال به تلاميذ أفلاطون أنفسهم من أجل أن يبينوا أن الزمان غير مخلوق وأن المادة عند أفلاطون غير مخلوقة كذلك. هذا ويلاحظ أنه في هذا العرض نفه، نجد أشياء كان من الواجب أن توجد في عرضها قبل الأخرى- إذا كان العرض سائراً على الترتيب الزمني-، مما بؤذن قطعاً بأن أفلاطون لم يتبع الترتيب الزمني في سرده لما سرد فيما يتصل بنشأة العالم. فلهذا كله يجب ألا نقول مع القائلين بخلق الزمان، ولا بخلق المادة. وكل ما يريد افلاطون أن يؤكده حينما يوحي نص كلامه بشيء من هذا، هو أن المادة في مرتبة أدن بالنسبة إلى الته، فالتقدم هنا تقدم من حيث المرتبة لا من حيث الزمان. وكذلك الحال فيما يتصل بالزمان وبقية هذه الأشياء الأزلية التي يخيل إلينا لأول وهلة أن أفلاطون يتحدث عنها بوصفها مخلوقة.
وهو في تفسيرء نثأة الأشياء تحدوه فكرتان: فكرة الغائية، وفكرة الكمية. فمن الناحية الأولى لا بد أن يكون العالم مرئيا وملموساً، ولكي يكون مرئياً لا بد من وجود النار، ولكي يكون ملموسا لا بدمن وجود التراب. وبين هذين لا بد ان يوجد ثالث يكون النسبة بينهما. ولما كان الأمر متصلا بالجسم، لا بالطح، أي بشيء ذي أبعاد ثلاثة، كان هذا الثالث الوسط مزدوجاً أي عنصرين، هما الهواء والماء، اللذان نسبة أولهما إلى النار نسبة الثاني إلى التراب. أما من ناحية الكمية فيلاحظ أن هذه العناصر الأربعة ترجع في اختلافها إلى اختلاف في الكم، فيقول مع فيلولاوس إن النار هرمية الشكل، والهواء مثمن، والماء ذوعشرين وجها، والتراب مكعب وفي هذا نرى تأثره بالفيثاغورية. والكم عند أفلاطون يتعلق بالطح وحده. لأن الجسم يتركب عنده من سطوح لا من ذرات جسمية كما يقول الذريون. ولهذا يقول إن الأجزاء النهاثية للجسم هي السطوح الفردة. أي غير القابلة للقسمة، لا الجواهر الفردة.