الشهيد الأول
محمد بن جمال الدين مكي العاملي (الشهيد الأول)،
أحد أبرز فقهاء الشيعة الإمامية، ممن ترك آثاراً واضحة على الفقه الشيعي تجديداً وتطويراً وتنقيحاً، له العديد من التصانيف القيمة التي ما زالت حتى يومنا هذا من الكتب التي يرجع الشيعة إليها في دراسة الفقه والعلوم الشرعية.
ولادته ونشأته
ولد الشهيد الأول في العام 734 هجرية في جزين في جبل عامل،
درس على والده الشيخ (جمال الدين مكي) بن الشيخ محمد شمس الدين، وتلقى عنه مبادئ العربية والفقه، كما تتلمذ الشهيد في جزين على الشيخ (اسد الدين الصائغ) الجزيني أبو زوجته وعم أبيه، وكان هذا عالما كبيرا يتقن ثلاثة عشر علما من العلوم الرياضية.
هجراته العلمية واساتذته
لم يكتفِ الشهيد الأول بالعلوم التي تلقاها في مسقط رأسه (جزين) وإنما تجاوزها إلى أقطار بعيدة وقريبة في ذلك العهد. وأهم هذه الاقطار التي شد الرحال إليها لتلقي العلم أو الافادة :
الحلة وكربلاء وبغداد ومكة المكرمة والمدينة المنورة والشام والقدس.
كانت الحلة آنذاك مركزا من مراكز الحركة العلمية في الاوساط الإسلامية الشيعية، فهاجر الشهيد الأول إليها وهو بعد لم يتجاوز السابعة عشرة من عمره، وأجازه (فخر المحققين) نجل (العلامة الحلي) أن يروي عنه بتاريخ 20 شعبان سنة 751 هـ.
ومن أساتذته في الحلة: الشيخ ابن معية من تلامذة العلامة الحلي والسيد عبد المطلب بن السيد مجد الدين بن الفوارس. والسيد ضياء الدين عبد الله بن السيد مجد الدين بن الفوارس وهما ابنا اخت العلامة الحلي.
وفي الشام سنة 776 اجتمع الشهيد الأول بالفقيه المحقق (قطب الدين الرازي البويهي تلميذ العلامة الحلي) وقرأ عليه الفلسفة والحكمة.
ومن أساتذته وشيوخه في الرواية أيضا:
• السيد جلال الدين عبد الحميد بن فخار الموسوي
• السيد علاء الدين علي بن زهرة الحلي
• الشيخ إبراهيم بن عبد الرحيم بن محمد بن سعد الله بن جماعة.
• الشيخ إبراهيم بن عمر، الملقب ببرهان الدين الجعبري شيخ مشيخة مقام الخليل بفلسطين
تلامذته
• السيد أبوطالب احمد بن القاسم بن زهرة الحسيني
• الشيخ جمال الدين أحمد بن النجار صاحب الحاشية على (قواعد العلامة الحلي)
• الشيخ جمال الدين أبو منصور حسن بن الشهيد الأول، أجازه والده الشهيد.
• الشيخ ضياء الدين أبوالقاسم علي ابن الشهيد المتوسط، وله عن أبيه إجازة.
• الشيخ عبدالرحمان العتائقي صاحب المؤلفات الكثيرة تلقى عن الشهيد كثيرا من العلوم
• السيد بدر الدين الحسن بن أيوب الشهير بابن الاعرج الاطراوي العاملي.
• الشيخ رضي الدين أبوطالب محمد أكبر أبناء الشهيد، أجازه أبوه مرتين.
• الفقيهة الفاضلة فاطمة المدعوة بست المشائخ، تروي عن أبيها وعن السيد تاج الدين ابن معية إجازة، وكان أبوها يثني عليها ويأمر النساء بالاقتداء بها، والرجوع إليها. وقد عني الشهيد بتربية بنته هذه وتثقيفها فكانت مثال المرأة المؤمنة المثقفة، وكانت موضع احترام وعناية الفقهاء والناس عامة، حتى أنها لما توفيت في قرية جزين حضر تشييعها سبعون مجتهدا من (جبل عامل). ولسنا نملك أثرا فقهيا عن هذه السيدة الجليلة، لكن بين أيدينا وثيقة كتبتها ست المشائخ لاخويها تهب بها ما يخصها من تركة أبيها في جزين لاخويها، ابتغاء لوجه الله، وفي قبال ذلك يعوضها أخواها بكتب في الفقه.
• الشيخ شرف الدين أبوعبدالله المقداد بن عبد الله المعروف بالفاضل السيوري الحلي. (الفاضل المقداد)
• الشيخ محمد بن تاج الدين عبد علي (في بعض المصادر عبد علي أو عبد العالي) الشهير بابن نجدة.
• الشيخ حسن بن سليمان الحلي.
• الشيخ زين الدين علي بن الخازن الحائري.
مؤلفاته
له العديد من المؤلفات، امتازت بالتنقيح والتنظيم، وهو أول فقيه إمامي قام بتدوين القواعد الفقهية في تاريخ فقه الشيعة بصورة منهجية. ومن أبرز مؤلفاته:
• الموجز النفيسي.
• غاية القصد في معرفة الفصد
• كتاب الذكرى
• كتاب الدروس الشرعية في فقه الامامية
• كتاب غاية المراد في شرح نكت الإرشاد
• كتاب جامع البين من فوائد الشرحين
• كتاب البيان في الفقه
• رسالة الباقيات الصالحات
• اللمعة الدمشقية في الفقه
• الاربعون حديثا
• الالفية في فقه الصلاة اليومية
• رسالة في قصر من سافر بقصد الافطار والتقصير
• النفلية
• خلاصة الاعتبار في الحج والاعتمار
• القواعد.
• الدرة الباهرة. (في بعض المصادر الدرة المضيئة)
• رسالة التكليف.
• كتاب المزار.
• جوابات الفاضل المقداد (المسائل المقداديات)
• أحكام الأموات
• جوابات مسائل الإطراوي (أجوبة مسائل ابن نجم الدين الإطراوي)
• مسائل ابن مكي.
• العقيدة
• اختصار الجعفريات
• مزار الشهيد
• المقالة التكليفية
• الاستدراك
• الحواشي النجارية
• رسالة في علم الكلام
• المجموع
• شرح قصيدة الشفهيني.
كتاب اللمعة الدمشقية
وهو كتاب مختصر في الفقه يتميز بمتانة الاستدلال وتركيز الدليل وتجنب الخوض في المناقشات المطولة للآراء وجمال التعبير. وكل ذلك كان سببا ليدخل هذا الكتاب في المنهاج الدراسي للحوزات العلمية في الفقه إلى اليوم الحاضر، وهو أول كتاب دراسي استدلالي يقرأه الطالب في الفقه. ويلاحظ في هذا الكتاب استخداما واسعا للقواعد الفقهية، وهذا ما لا نجد نظيرا له في الاعمال الفقهية للشيعة السابقة عليه.
يذهب بعض المؤرخين إلى أن الشهيد ألّف هذا الكتاب في مدة حبسه في قلعة الشام في سبعة أيام وما كان يحضره من كتب الفقه غير كتاب "المختصر النافع".
فيما يرى البعض الآخر أنه قد ألّفه بطلب من "علي بن الموَيد" ملك خراسـان الشيعي (توفـي عام 795هـ)، وقد ألّفه عام 782هـ، وذلك قبل شهادته بأربع سنوات وكان الرسول بين الشهيد الأول والموَيد هو محمد الآبي النقيب شمس الدين، وهو المرجّح والأقرب للتصديق.
شخصيته وإنجازاته
كان الشهيد يقوم في وقت واحد بجهد علمي في جزين، ونشاط سياسي في دمشق، وعمل اجتماعي واسع في تنظيم المرجعية في بلاد الشام وخراسان.
1- تأسيس مدرسة جزين: مع استلام الايوبيين للحكم من الفاطميين بدأت مرحلة من الضمور الكبير للحالة الشيعية في مصر والشام، ثم جاء من بعدهم المماليك عام 648 ليواصلوا نفس السياسة التي مارسها سلفهم الايوبيون في التضييق على الشيعة، وكانت أيامهم من أشق الفترات على شيعة الشام. في مثل هذه الظروف الصعبة حاول الشهيد الأول أن يوصل جبل عامل بمدرسة الحلة وينقل إليها العلم والفقاهه والفكر، ويجعل من جبل عامل مدرسة للفقاهة والثقافة الامامية مستفيدا من موقعها الجغرافي الذي يمنحها حصانة طبيعية في مقابل تعدي المماليك. وكانت مدرسة (جزين) التي أنشأها الشهيد الأول في جبل عامل البذرة التي نمت فيما بعد وأثمرت واتسعت واستتبعت مدارس فقهية أخرى في مناطق كثيرة من جبل عامل. وازدهرت هذه المدرسة على يد الشهيد وكان يمارس التدريس فيها بنفسه ويعطيها من اهتمامه وجهده ووقته الكثير.
2- تدوين القواعد الفقهية: وهو أمر جديد في تاريخ الفقه الامامي. والقواعد الفقهية أحكام كلية تندرج تحت كل منها تطبيقات جزئية من أبواب مختلفة من الفقه أو من باب واحد من أبوابه، وهي كثيرة في أبواب المعاملات والعقود والنكاح والمواريث والعبادات والجنايات وغيرها.
3- إنفتاحه الثقافي والعلمي: عُرف الشهيد الأول بانفتاحه الثقافي والعلمي فقد قرأ على عدد من مشايخ أهل السنة، وروى عن أربعين شيخا من علمائهم بمكة والمدينة وبغداد ومصر ودمشق وبيت المقدس ومقام الخليل إبراهيم. فكان على صله وثيقة بالاتجاهات الفكرية السنية، وعلى معرفة تامة بآرائها وأفكارها، كما كان على صلة وثيقة، ومعرفة تامة بمشيخة الرواية والفقه والكلام عن أعلام السنة، مما يدل على أنه في أسفاره كان يخالط كثيرا من (أقطاب المذاهب الإسلامية) الأخرى، ولم يكن ممن ينطوي فكريا على نفسه.
4- عمل الشهيد في هذه الفترة على تنظيم علاقة الامة بالفقهاء من خلال شبكة الوكلاء الذين ينوبون عن الفقهاء في تنظيم شؤون الناس في دينهم ودنياهم كما يقومون بجمع الحقوق المالية الشرعية لتوزيعها على مستحقيها بنظر الفقيه. والمعروف أن الشهيد الأول هو أول من أسس هذا التنظيم الذي يربط الفقيه المتصدي بالامة بواسطة شبكة من الوكلاء، واستمر هذا التنظيم فيما بعد ونمى وتطور على أيدي الفقهاء الذين تصدوا لشؤون الناس إلى اليوم الحاضر.
5- كان الشهيد يتردد خلال فترة عمله في جزين على دمشق كثيرا، وكان له بيت عامر في دمشق بالعلماء وطلبة العلم. وكان مجلسه هناك حافلا بمختلف الطبقات ومن مختلف المذاهب الأربعة.
شعره
له شعر جميل على قلته يمتاز بالرقة، ودقة التصوير، وروعة الديباجة والمس المباشر للنفس، وجمال التعبير، وجودة الأداء، منه قوله:
عظمت مصيبة عبدك المسكين في نومه عن مهر حور العين الأولياء تمتعوا بك في الدجى بتهجد وتخشع وحنين فطردتني عن قرع بابك دونهم أترى لعظم جرائمي سبقوني أو جدتهم لم يذنبوا فرحمتهم أم أذنبوا فعفوت عنهم دونى إن لم يكن للعفو عندك موضع للمذنبين فأين حسن ظنوني
فتنة اليالوشي
كان اضطراب الوضع السياسي والاجتماعي في البلدان الإسلامية يحمل نواة ظهور بدع في التفكير والعقيدة. فقد ظهر في جبل عامل شخص يسمى بمحمد الجالوش، أو (اليالوش) – نسبة إلى قرية برج يالوش- ويقال إنه كان من تلامذة الشهيد.
لكنه بدأ يدعو إلى مذهب يغلب عليها طابع التصوف والإعتقاد بوحدة الوجود، ويذهب البعض إلى أنه ادّعى النبوة، ويبدو أن (اليالوش) كان خطيبا متكلما لذقا، حلو البيان ومشعوذا، استطاع أن يشد إلى دعوته الجديدة ناسا من السذج، فاربك الوضع، وخاف الشهيد أن تشيع هذه البدعة الجديدة، ويتسع إطارها فاتصل بالبلاط واقنع الجهاز بضرورة تلافي الامر قبل أن يستفحل، فجهزت حكومة دمشق (من المماليك) جيشا، واصطدموا بمعسكر (اليالوش) بالقرب النبطية الفوقا، فقتل (اليالوش) وتمزق شملهم.
إلا أن هذه الهزيمة لم تكن كافية للقضاء على هذه الظاهرة فقد انتقلت زعامة الدعوة الجديدة بعد مقتل (اليالوش) إلى تقي الدين الجبلي أو (الخيامي) من أهالي الجبل، ومن بعد وفاته تولى الزعامة شخص آخر يدعى ب (يوسف بن يحيى) وكان لهذين الرجلين الجبلي، ويوسف بن يحيى اصبع في مقتل الشهيد الأول وذلك بالوشاية عليه عند (بيدمر) حاكم دمشق، وقضاة بيروت وحلب ودمشق
وفاته
وكانت وفاته سنة 786، اليوم التاسع من جمادي الأولى، قتل بالسيف ثم صلب ثم رجم وأحرق بدمشق بفتوى القاضي برهان الدين المكي وعباد بن جماعة بعدما سجن سنة كاملة في قلعة الشام.
وكان سبب حبسه وقتله وشاية من رجال (اليالوشي) الذين كتبوا محضرا يشتمل على مقالات شنيعة بحق الشهيد، اتهموه بميله للنصيرية، وإباحته الخمر، وغيرها من الإفتراءات بهدف التخلص منه.
شهد بذلك جماعة من سبعين نفرا من رجال اليالوشي، ثم أتوا به إلى قاضي الشام فحبس بداية ثم قتل ثم صلب ورجم ثم أحرق.
روايات أخرى عن وفاته
يذهب البعض إلى أن موقف القاضي ضد الشهيد الأول كان منبعه الحسد، حيث أفحم الشهيد القاضي في إحدى اللقاءات على مرأى ومسمع جمع من العلماء والحاضرين.
ويرى البعض الآخر إلى أن القاضي المذكور هو من قام بكتابة العريضة ضد الشهيد الأول بعد مناظرته وإفحامه، وأشهد عليها جمع من العلماء ورفعها إلى حاكم دمشق.
وقيل كذلك بأن رجال اليالوشي إنما أقدموا على كتابة شكواهم بإيعاز من حاكم دمشق، وذلك بعدما رأى من اتساع أمر الشهيد الأول وقدرته على التأثير في الأوساط العلمية والدينية والإجتماعية.
وأما تأخير قتل الشهيد وحجزه في القلعة سببه خوف الحاكم في دمشق من ردة الفعل الشعبية عليه، لما للشهيد من مكانة علمية واجتماعية وسياسية بين أتباعه.
المصادر
ترجمة الشهيد الأول في كتاب أمل الآمل – الحر العاملي –
الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية – مقدمة شرح السيد محمد الكلانتر.