السماع الطبيعي (أرسطو)

السماع الطبيعي أو الطبيعة هو كتاب من تصنيف أرسطو، ويعتبر كتابه الرئيسي في الطبيعيات.

يقع في ثمان مقالات. نقل الكتاب إلى العربي ضمن حركة الترجمة من قبل إسحق بن حنين. كما شرحه عدد من الفلاسفة المسلمون منهم أبو نصر الفارابي وابن الهيثم.

تلخيص موضوعه

إذا كان علم ما بعد الطبيعة يبحث في الجوهر اللامحسوس الأزلي لأبدي، أي بعبارة أوضح، في الله ، فإن علم الطبيعة يبحث في الجوهر امتحرك امحسوس. والواقع انه نظرا إلى أن علم الطبيعة يعني بالمحسوس والمتحرك، فإن موضوعه هو ا لجسم من حيث هذه الحركة، ل ن الحركة لا توجد إلا في جسم. ولهذا كان موضوع الطبيعة الأجسام من حيث الحركة. إلا أنه يجب أن يحدد معنى الأجسام هنا، فإنه ليس امقصود بها هنا، لأجسام أياً كانت، بل لأجسام القابلة لأن تتحرك، الممتدة بالفعل. وهذا التحديد يخرج الأجسام الرياضية، لأنها لا تتحرك بالفعل، ولأنها كذلك غيرمحسوسة. كما أن الحركة - في هذه الحالة - ليست أي حركة كانت، بل يجب أن يفرق في داخل الأجسام بين ما هو طبيعي وما هو صناعي، فما له الحركة من ذاته، يعتبرجس طبيعياً، وما له الحركة من خارج، يعتبر جسما صاعيا. والجسم الذي قلنا عنه: إنه موضوع علم الطبيعة، هو الجسم الذي يوجد مبدأ حركته في داخله. وعلى هذا فإن من الممكن أن يعرف موضوع علم الطبيعة في شيء من التفصيل، فيقال: إنه الجسم القابل للتحرك، والذي مبدا حركته من ذاته.

ويسمى مجموع الأجسام بهذا المعنى باسم «الطبيعة». ونحن نعلم ان كل جسم إنما يتركب من هيولى وصورة، ولو ألقينا نظرة على الصلة بين الهيولى والصورة، بالنسبة إلى تجوهر الأشياء، لراينا أن ما يكون ماهية الجسم أو امركب، هر داثعل الصورة. وعلى هذا يرى أرسطو - دائما - أن الطبيعة يجب أن تطلق - في هذه الحالة - لا على الهيولى، وإنما بالأحرى على الصورة، نظراً إلى أن الصورة هي التي تكون الماهية . ولهذا فإن التعريف النهائي للطبيعة هو - على حد تعبير أرسطو - أنها «مبدأ أول، وعلة أولى بالذات، لحركة ما بالذات، أو سكون ما بالذات، في شيء التغير له بالذات»

فلنبحث في تفصيل هذا التعريف، لكى نحدد الخصائص الرئيسية لفكرة الطبيعة عند أرسطو، فنجد أولا أن الخاصية الأولى لتي تتصف بها «الطبيعة» أغها مبدأ بالذات، ومعنى هذا أن علة الحركة والسكون في جسم ما، باعتبارها (أي هذه العلة) صادرة عن ذاته هي ما يسمى بالطبيعة ٠ فهي تمتاز إذن بالعلية، وبأن هذه العلية ذاتية. ولذا كان المعنى الرئيسي لفكرة الطبيعة أها علة، بالمعاني لمختلفة للعلة الصورية، كما يلاحظ ثانياً أغها علة حركة، وهذه الحركة توجد في الشى ء بذاته ولذاته، لا من حيث أن شيئاً خارجياً هو الذي يحدث فيه هذه الحركة، ولهذا يقول «بالذات»: وهذا يرجع إلى التفرقة التي وضعها أرسطو بين التحرك بالذات والتحرك بالغير ويقول عنها كذلك: إغها مبدأ سكون، ويجب أن يفهم السكون هنا فهما مخالفاً للمعنى المألوف عادة في للغة الدارجة، إذ السكون في هذه الحالة معناه عدم الحركة في الشيء القابل للحركة، وليس معناه انتفاء الحركة أصلا، فانتفاء الحركة أصلا، أمر لا يقول به أرسطو بالنسبة للأجسام الطبيعية إطلاقاً. وعلى ذلك، فليس من الممكن إذن تصور السكون على هذا الأساس. والسكون في هذه الحالة بالذات بالنسبة إلى الشيء، لأن لكل جسم مكانه الطبيعى الذي ينحو نحوه باستمرار، وفي هذا المكان يكون الجسم في حالة سكون، ولما كان هذ السكون صادراً عن طبيعة الجسم نفسه، من حيث أن كل جسم يقتضي دائما مكاناً طبيعياً يحل به، فإن من الممكن أن نفهم: لاذ كان لسكون أيضاً من ذاته .

إلا أنه يقوم بإزاء هذا التعريف كثير من الاعتراضات والمشاكل. إذ أن الطبيعة مفهومة على هذا النحو، معناها القوة. وهذه القوة السارية في جميع الأشياء، لا بد أن تكون حينئذ قوة واحدة، ما دامت الأشياء كلها تستمد حركتها من محرك أول. فعلى ذلك لا يمكن أن تفهم - في هذه الحالة - هذه القوة امسماة باسم الطبيعة، إلا على أغها قوة واحدة سارية في كل الموجودات وصادرة عن الله، وهذا القول - في جزئيه - تعترضه مشكلتان: المثكلة الأولى هي في وجود قوة عامة تسري في كل الموجودات الطبيعية، فإن هذا يؤذن بتصور الطبيعة على النحو الذي تصور أفلاطون على أساسه النفس الكلية في الكون. ولكن هذا التصور يرفضه أرسطو بكل صراحة . فعلى أي نحو يجب إذن أن يفهم هذا السريان، خصوصا إذا لاحظنا أن لكل شيء طبيعته؟ وكيف يمكن أن نوحد بين جميع الطبائع، ونميز في الآن نفسه بين الجوهر؟ إن الوضع المنطقي يقتضي - في هذه الحالة - إما أن نقول بروح واحدة سارية في جميع لموجودات تسمى لطبيعة، على صورة قوة هي الحياة؛ وإما أن نقول بأن الطبيعة مختلفة بالنسبة إلى جميع الأشياء. فإذا قلنا بالمقالة الأولى، وقعنا فيما حاول أرسطو دائا أن يتجنبه وهو القول بالنفس الكلية. وإذا قلنا بالمقالة الثانية، فكيف نستطيع أن نفسر أن أصل لحركة هو لمحرك الأول؟ فيجب تبعاً لهذ أن تكون الطبيعة - قوة التح يك هذه -صادرة عن الحركة الأولى. وهذا القول الثافي لا نستطيع تجنبه، ولو أن أرسطو يحاول دائما أن يتجنبه بأن يقول: إنه يجب علينا من أجل تفسير المظاهر المختلفة للحركة وأنواعها المتعددة أن نضع إلى جانب الحركة الأولى - وهي حركة المحرك الأول التي يعطيها للسماء الأولى - حركة أخرى صادرة عن محركات في مرتبة أدفى من المحرك الأول، ولو أنها هي الأخرى أزلية أبدية كذلك؛ ونعني ٢ا - بصريح العبارة - حركات العقول.

والملاحظ في هذا كله، ان أرسطو لم يقدم لنا أجوبة مقنعة عن هذه المسألة، خصوصا أنه إذا قال بوجود مبادىء متعددة للحركة، فدن يستطيع أن يوفق بين هذا وبين نظرته العامة إلى الطبيعة باعتبارها ذات نظام وعلية مستمرة. لذ نرى أرسطو ينكر إنكاراً تاما تدخل الله في الأحداث الجزئية، وعنايته بأي شيء في الوجود خلا ذاته. وهذه هي المشكلة الثانية التي لا يستطيع أرسطو أبضا أن يقدم فا حلا ومهما يكن من شيء، فإن في وسعنا أن نترك فكرة الطبيعة، وأن نبحث في الأثار المترتبة عليها، وهذه الآثار هي الحركة بأعم معانيها.

وهنا نرى أرسطو يفرق بين الحركة وبين التغيرتارة، ويخلط بينهما تارة أخرى، في كثير من الأحيان فإذا ميز بينهما قصر الحركة على الحركة في المكان، والحركة في لكيف، والحركة في الكم. أما التغير فيشمل إلى جانب هذه الأنواع الثلاثة نوع رابعاً؛ هو الكون والفساد، أعني التغير في الجوهر. والحركة هي «كمال أول لما هو بالقوة من جهة ما هوبالقوة». وعدد الحركات أربع، وحركة النقلة أولى الحركات، والحركة الدائرية أولى أنواعحركات النقلة، ويهمنا هنا أن نحدد مسألة قد ننساق إلى استنتاجها، هي مسألة إرجاع جميع الحركات إلى حركة النقلة، فقد يدعو هذا إلى الظن بأن أرسطو يفسر الأشياء تفسيراً آلياً صرفاً ، لا اعتبار فيه لأي كيف فيما عد التغيرفي المكان أعني أن نظريته كمية صرفة على غرار ديموقريطس والذريين بوجه خاص. فهذا ما يؤذن به ظاهر كلام أرسطو في هذ الباب. لكن يلاحظ أن أرسطو كان يرفض دائما هذا التعليل، ويقول بوجود تغير في الكيف إلى جانب التغير في المكان، وأنه إذا كان من الممكن إرجاع التغير في الكيف إلى التغير في المكان، فليس ذلك يتم دائما وفي كل الأحوال، وإنما كل ما يمكن أن يقال: هرأن حركة الاستحالة وحركة الزيادة والنقصان وحركة الكون والفساد، توجد في مرتبة ثانوية بالنسبة الى حركة النقلة. وليس معنى الارجاع إلغاء هذه الحركات الثلاث لحساب حركة النقلة وحدها.

تأتي بعد ذلك مسائل وتأملات خاصة بالمبادئ، الرئيسية للطبيعة، أعني تلك التي تلعب دورأ خطيراً في التغير، وأهمها أولاً: الامتناهي، وثانياً المكان، والثاً: الخلاء، وأخيراً: الزمان. فهذه الأمور تقتضيها الحركة، ويجب إذن ان نتناول كل واحدة من هذه المسائل على التوالي في شيء من التفصيل.

اللامتناهى:

يؤذن بالقول بوجود اللامتناهي عدة أشياء ، فأولاً: الزمان لامتناه؛ وثانياً : المقادير الرياضية غير متناهية؛ وثالثاً: لكي يتم الكون والفسادباستمرار، يجب ان تكون هناك تغذية للجواهر باستمرار، أي مالا نباية له من الأشياء التي يتم بها كون الجواهر ورابعاً: ان الفكر حينما ينظر إلى شيء وحد هذا الشيء، يندفع باستمرار إلى تصور وجود شيء خارج هذا الحد. فمن أجل هذه الاعتبارات كلها، يخيل إلى الإنسان أنه لا بد من القول بوجود اللامتناهي.

فلننظر أواً في فكرة اللامتناهي من حيث كونه جوهراً أو من حيث كونه عرضاً، فنجد أفلاطون، والفيثاغوريين من قبل، يجعلون اللامحدود أو اللامتناهى مبدأ قائم بذاته، وليس صنة حالة في الأشياء، أعني أنهم يجعلون من اللامحدود جوهراً. ولكن أرسطو يرد عليهم، فيقول إن الجوهر في هذه الحالة لا يمكن أن يقال على اللامتناهى، وذلك لأن اللامتناهى يقال على الأشياء باعتباره صفة تحمل عليها ولا مجمل عليه هو شي، من الأشياء؛ وإلا فإنه إذا أمكن أن يكون جوهراً، فإنه سيكون حينئذ بالضرورة قابلا لأن ينقسم، وقبوله لأن ينقسم معناه أنم ممكن أن ينقسم إلى ما ا نهاية، فتوجد حينئذ مالا نهاية في ما لا نهاية، وهذا خلف. ويقول أرسطو من ناحية أخرى إن اللامتناهي لا يمكن أن يطلق على الأجسام لطبيعية باعتباره صفة بالفعل لها، كما فعل الطبيعيون لمتقدمون. وهو يسوق من أجل البرهنة على ما يذهب إليه حججاً: بعضها طبيعي، وبعضها منطقي ٠ وأهم ما يقوله من لناحية الطبيعية إنه يجب أن يميز بين ماله حد وما هومماس، فما هومماس لا بد بالضرورة أن يفترض وجود حد، وشيناً وراء هذا الحد. أما ما له حد فقط، فلا يشترط وجود غير هذا الحد، ويمكن ألا يتصور -في هذه الحالة - وجود شيء من لأشباء وراء هذا الحد -وذلك لأن فكرة لمماس تقتضي لإضافة، أعني أنها تقتضي وجود طرفين بينهما تضايف، على حين أن فكرة «ما له حد» أو المحدود، لا تقتضي أن يكون وراء هذا الحد شيء.

كذلك يقول أرسطو إن الذي له حد، هو السطح؛ أو ان لجسم هو المحدود بسطح. وهذ يدل تماما على أن الجسم لا بد أن يكون متناهياً، لأنه ما دام محدوداً، فمعنى هذا انه متناه ويضاف إلى هذا أيضاً أن لكل جسم مكانه الطبيعي ومعفى هذا ان الجسم ينتهي عند حد، فقولنا «فوق» و«تحت» يدل داثما على ان هناك حداً سينتهى إليه، مهما بعد هذا «الفوق» في العلو، أوهذا «التحت» في الهبوط. ففي كلت الحالتين لا بد دائما من تصور وجود نهاية ينتهي اليها الجسم الطبيعي في حركته. فلهذه الأسباب كلها - من طبيعية ومنطقية - لا نستطيع ان نقول حينئذ باللامتناهي.

لكن يلاحظ أن الأسباب التي أوردناها في أول كلامنا عن اللامتناهي - وهي تلك الاسباب التي قلنا إغها تدعونا الى القول بوجود اللامتناهي - لا زالت باقية. فيجب أن نرد عليها الواحد بعد الآخر، حتى نتبين طبيعة وجود اللامتناهي على وجه الدقة. اما فيما يتصل بكون الجواهر تحتاج دائما في الكون المستمر لى شيء لا نهاية له، فهذا يرد عليه بسهولة بأن نقول إن الحركة هنا دائرية، ففساد شى من الأشياء هو في الآ نفسه كون لشى ء آخر، وهذ الشيء الجديد بدوره يصبح فاسداً من أجل ان يخلى السبيل لكون جديد ثالث، وهكذا باستمرار. قهناك إذن حركة دائرية، والأشياء يتحول بعضها الى بعض، فلا حاجة في هذه الحالة الى تصور شيء لا متناه، منه يستمد هذا الكون اللامتناهي للجواهر.

أما ما قلناه من أن الفكر يحاول دادا ان يتصور شيئاً وراء الحد بحكم اندفاعه، فهذا شيء لا يدل إللاقاً على ان هذ هو ما يتم في لواقع. وذلك لأن تصوري لإنسان ما في مدينة من المدن، ليس معناه أنه بالفعل في هذه المدينة، وإنما الوهم أو الخيال هو دائيما الذي يضطرنا إلى القول بوجود شيء وراء الحد. اما العقل - أو اليقين - فلا يمكن إلا أن يقف عند الحد، فلا يقول بشيء آخر وراءه. لكن بقي بعد ذلك الاعتباران الأول والثاني، وهما اعتباران رئيسيان لا نستطيع ان نشك فيهما، في شيء من الجد، خصوصاً فيما يتصل بالمقادير الرياضية، فإنها تؤذن دائيما بكونها تسير إلى غير باية ونحن - في الواقع - حينما نبحث في المقادير الرياضية، نجد دائما أننا نستطيع أن نقسمها باستمرار. وإلا فإنه إذا كانت النقط ليس بينها وبين بعض حدود، فإنها ستختلط، ولن يتكون شيء -بعد ذلك - من تركب النقط بعضها مع بعض. ولكننا من ناحية اخرى لا نستطيع أن نتصور هذه النقط موجودة إلى جوار بعضها على التوالي، وإلا فلن يمكن الشيء في هذه الحالة ان يكون كلا، وإنا سيكون مجاميع منفصلة لا تكون وحدات . فنحن إذن بإزاء شيئين متعارضين في الواقع. إمكان الانقسام إلى غير نهاية - فالخط قابل لأن يقطع باستمرار- ، وضرورة الوقوف عند حد ، بجعل الحدود بين النقط تكون وحدة حتى نقول بإمكان وجود كل أو وحدة . ونستخلص من هذا كله أن اللامتناهي له شيء من الوجود.

وإذا كان اللامتناهي له - من ناحية - شيء من الوجود، وليس له وجود - من ناحية أخرى -، فعل أي أساس نستطيع أن نحدد طبيعة للامتناهي؟ هنا يلجأ أرسطو الى مفتاحه المشهور، الا وهو التفرقة بين ما هو بالقوة وما هو بالفعل؟ فيقول إن اللامتناهي له وجود بالقوة، وليس له وجود بانفعا . ولئ القوة هنا يجبان تفهم بالمعنى العادي الذي تطلق بمقتضاه على الاشياء الاخرى فنقول - مثلا - عر، النحاس إنه تمثال بالقوة، باعتبار نه سيصبح تمثالا بالفعل، أعني أن لقوة هنا تفترض الفعل بتداء: وإنما تطلق القوة على اللامتناهي بمعنى مخالف لذلك، إذ انها تمثل - في هذه الحالة - القوة، أي القوة التي ليس من الضروري ان تستحيل الى فعل، فالقوة بالنسبة لى للامتناهي، لا يمكن مطلقا ان تصل الى درجة الفعل , والحال هنا بالنسبة الى اللامتناهي هي ء٠٦ت الحال بالنسبة الى الحركة او التغير، لان الحركة رقال عنها إي القوة باستمار، إذ بتحقق الصورة تنتفي الحركة، اعني انه لا وجرد للحركة اا باعتبارها بالقوة باستمرار, وعلى هذا فإن هناك - إذن - تشابهأ بين الحركة وبين اللامتناهي، حينيما يطلق على كل منهما أنه «ما بالقوة» .

وهذا التفسير لطبيعة الوجود الخاصة باللامتناهي، تجعلنا نقول إن اللامتناهي من حيث التركيب مستحيا ، ولكن من حيث التقسيم ممكن باستمرار. أعنى انه لا يمكن ان نركب من الاشياء المتناهية، شيئاً لا متناهياً، كيا لا نستطيع في الواقع ن نوجد مركب لا متناهيا. ولكن في الكميات الرياضية، نستطيع دائما ان نقسم، اعني ان القسمة تصلح لان تكون الى غير غهاية. واللامتناهي قل درجة في الوجود من المتناهى. وهنا نجد ان فكرة للامتناهي تلعب دوراً خطيراً فيم بعد بالنسبة الى اله، فقد نظر ليها ارسطو، كما نظرت اليها الروح اليونانية إلى فيلون اليهودي، باعتبار أنها نقص، وأن الكمال هو المتناهي، والسبب في هذا أن المتناهي هو التام، بينما للامتناهي فيه أشياء ل تتم بعد ، فهو يتصف إذد بالقص.

المكان

وبعد الحديث عن المتناهي، ينتقل أرسطو إلى الكلام عن «المكان» فيلاحظ أولا ان المكان لم يكن موضع عناية وبحث الفلاسفة المتقدمين، نظراً لأنهم لم يبينوا طبيعة المكان الحقيقية . اما افلاطون فإنه وحده لذي نحدث عن طبيعة المكان، وإن كان ذلك بطريقة ناقصة -كيا سيتضح لنا فيما بعد. وكذلك ل يعن واحد من المتقدمين باستخراج لمشاكل انكثيرة لتي تثيرها فكرة المكان، إذا استثنينازينون الايلي والقول بالمكان قول لا يكاد يشك فيه اي إنسان. وثمة ثلاث ظواهر تؤكد لنا وجود المكان مستقلا عن الاشياء وباعتباره شيئا قائيا بذاته، فاولا ظاهرة حلول او تعاق اجام على محل واحد. ويجب ان يلاحظ هنا ان ارسطو حينما يتحدث عن المكان لا يفرق تفرقة دقيقة بينه وبين «المحل«، بل يكاد يعتبر الاثنين شيئا واحداً. فهذه الظاهرة الأولى من شأنها ان تدل على ن المكان شيء قائم بذاته، توجد فيه الأشياء مختلفة في مكان وأحذ. والظاهرة الثانية هي ظاهرة الحركة في المكان. فالنقلة لا يمكن ان تتم إلا إذا تصورنا أن هناك مكانا يسير فيه المتحرك بالنقلة من جهة إلى جهة وفي اتجاه معلوم. فمن أجل هاتين الظاهرتين إذن لا بد من القول بالمكان.

ونستطيع ان نضيف إلى هذا أيضاً ظاهرة ثالثة ، هي أن المكان شيء تفتضيه حركة الاستحالة، لأن حركة الاسنحالة ترجع في النهاية الى حركة التخلخل والتكاثف، وهما بدورهما حركتان في المكان، فلهذا يمكن أن يعتبر المكان شيئاً موجوداً. وهذه الظواهر الحسية تؤيدها ظاهرة أخرى يمكن أن تعتبر أولى الظواهر الحقيقية التي تجعكا نقول بوجود المكان، ونعنى بها وجود الجهة: فجهة «فوق» و «تحت» تجعلنا نقول قطعاً بأن هناك مكاناً، وأن للمكان صفات خاصة به تيعكا نضعه كائناً إلى جانب بقية الكائنات، بل وجوهراً، إن لم يكن اول الجواهر، ما دمنا نجعل النقلة أولى الحركات فإذا كان امكان شرطاً لهذه الحركة، وما يتوقف على شرط شيء يتوقف على الشيء نفسه- فيمكن أن يقال في هذه الحالة: إن المكان هو الموجود لأصلي.

كا هذا إذن يؤذن بوجوب القول بوجود لمكان. ولكن تصور المكان نفه من حيث طبيعته يثير كثيراً من المشاكل، فيجب ان ننظر أولاً في المكان : هل يمكن أن يعتبر جما؟ ونحن إذا قلنا بهذا القول، كما يقتضيه منطق الظواهر التي أشرنا إليها، فإنا نقع حينئذ في تناقض، إذ أننا نقول عن شى ء ما: إنه موجود في مكان؛ فكيف يمكن أن نتصرر وجود جمين معاً في مكان واحد ومن جهة واحدة؟ فلهذا لا يمكن أن يقال عن لمكان: إنه جسم. هذا، إلى أننا نقول من ناحية أخرى : إن المكان حد أو سطح، والحدود أو السطوح أشباء وهمية في الواقع، لأنها أشياء مجردة يفترض وجودها في الأشياء، ولا يمكن أن نجدها في الوجود الكياني، فمن هذه الناحية يمكن أن يقال إن المكان شيء مجرد ولي جما -كما قلنا . وهكذا نجد أنفسنا بإزاء قولين متعارضين : أحدهما يجعل المكان جما، والأخر يجعله رابطة أو إضافة، أعني شيئاً مجرداً.

وثمة مشكلة ثانية، هي تلك التي أثارها زينرن لايلي حين قال إذا كان ثمة مكان، ففي أي شيء يوجد هذا المكان؟ وإذا نظرنا الى المكان باعتباره جسما، فكيف نتصور في هذه الحالة -بصفة خاصة - أن يكون المكان الحاوي لكل الأشياء غير محوى في شيء ما من لأشياء؟ إن هذه مثكلة خطيرة سنجد أن الحلول الكثبرة لتي يقدمها لنا أرسطو فيما يتصل بتصور المكان من حيث طبيعته، لا يمكن أن تقدم عنها جواباً شافياً ٠ وبعد أن يرد أرسطو هذه المشاكل وغيرها مما تثيره فكرة امكان، يقول: إن هذه المشاكل نفها، وفي الطريقة التي بها وضعت، إشارة الى الحل لذي يجب ان نتخذه من أجل تصور طرعة المكان الحقيقية.

فلننظر أولا: هل يمكن أن طبق فكرة الهيولى والصورة على المكان؟ فنجد أولا أن المكان لا يمكن أن يقال عنه إنه هيولى، لأن لمكان حد وسطح، بينما الهيولى وسط بين الحدود' أو السطوح، فلا يمكن في هذه الحالة أن يقال عن المكان إنه هيولى، كما لا يمكن أن يقال إنه صورة، إذا اعتبرنا أن الهيولى والصررة لا يمكن أن يوجدا إلا بالنبة إلى أشياء خاصة، أعني أن لكل شيء هيولاه، ولكل شي، صورته، ولكن المكان هنا شيء مثترك لي متعلقاً بموجود دون موجود آخر، فلا يمكن أن يقال إذن إنه هيولى أو صورة، لأن شيئاً ما من الأشياء لا يتخذه صفة أو حالة، أو بعبارة أخرى صورة لشيء. ومن أجل هذا لا نستطيع ان نقول : إن لمكان صورة أو هيولى؛ ولكننا نقول بستمرار حينما نتحدث عن المكان: إن شيئاً «في» شي ء فكأن طبيعة المكان في الواقع تتلخص في هذه العبارة: «الوجود في». فإذا ما استطعنا أن نحلل فكرة «الوجود في«، استطعنا أن نتبين ماهية المكان: إننا نقول إن امحمول يوجد «في» الموضوع من حيث أن المحمول داخل في مفهوم الموضوع، ونفول عن الموضوع إنه داخل «في» ما صدق المحمول، كما نقول أيضاً عن شيء إنه في الوعاء، أو نقول عن السائس إنه «في» السياسة؛ بل ونقول أيضاً إن الثغر «في» أيدي الأعداء . فإذا ما بحثنا عن معنى «في» في هذه الأحوال المختلفة، وجدناها في الواقع ترجع إلى معنيين رئيسيين: المعنى الأول حينما ننظر إلى الشيء ككل دون أجزاء؛ واسم الثاني حينما نظرإلى الشيء ككل فيه أجزاء فمثلا، إذا نظرنا إلى دن خمر فإننا نستطيع أولا أن نقول إن الخمر في الدن، وفي هذه الحالة يمكن أن يقال إن الشيء في نفسه، بمعنى ان الشيء قد جزء إلى جزأين، واعتبرنا احد الجزأين في الآخر. ولكن إذا نظرنا إلى دن الخمر ككل، بصرف النظر عما فيه من أجزاء، فإننا لا نستطيع فيهذه الحالة أن نقول عن الشي، إنه في نفسه، بل نقول إن الشيء موجود في شيء آخر، أو بعبارة أخرى، نقول إن هناك شيئاً حاوياً للشيء، وإن الآخر وعاء له. فموقف أحد الشيئين بالنسبة إلى الآخر، موقف الوعاء بالنسبة للشيء المحوى.

ولكن، هل يحل لنا هذا ما يقوله زينون؟ الواقع أن جواب أرسطو عن هذا جواب مضطرب، فهو يقه ل إننا يجب في هذه الحالة ألا نفهم من مجرد وجود الحاوي، ضرورة وجود شيء يحوي هذا الحاوي، ريكون هذا الحاوي محوياً بالنسبة إليه، وإنما يكفي فقط - في نظر أرسطو - أن ننظر إلى فكرة الحاوي، دون أن نتصور بالضرورة وجود حاو لهذا الحاوي. وعلى ذلك - وهذا لا يتم الا بالنسبة الى السماء الأولى أو الى الكون بأكمله -نستطيع ان نقول عن المكان في هذه الحالة إنم حاو وليس محوياً.

ويجب ان نفرق في داخل فكرة الاحتواء هذه، بين ما هو مكان بحق، وما هو مكان مشترك. فالمكان بالدقة هو الجهة التي يوجد فها الشيء بطبيعته، فمثلا النار في أعلى، والتراب في أسفل : هذا هو لمكان الحقيقي بالنسبة إلى كل منهما 1 ولكن حينما نقول مثلا إن الأرض في السماء بمعنى أن الأرض في الهواء، والهواء في السماء، فالمكان هنا ليس مكاناً طبيعياً حقيقياً، وإنما هو مكان بالاشتراك فح٠ب .

فإذا نظرنا إلى كل هذه الاعبارات، وأردنا ان نتبين طبيعة المكان، وجدنا أن امكان أولاً يجب أن يتصف بصفة أنه وعاء ، وهذا الوعاء ينظر إليه باعتباره وعاء فحسب، بمعنى أننا في هذه الحالة نفرق في الشيء بين حاو ومحوى في هذا الحاوي، دون أن يستلزم ذلك بالضرورة وجود شيء خارج الحاوي يوجد فيه. كما يجب من ناحية اخرى ألا نقول بالضرورة - إن لحاوي وحد المحوي شيثان مختلفان. وفي هذا يجب أن نفرق بين فكرتين: فكرة التماس وفكرة الاتصال فالاتصال في هذه الحالة يدل على عدم التفرقة وإن دل على الهوية، بينما التماس يقتضي التفرقة، ولا يقتضي بالضرورة عدم كون الشيئين شيثا واحداً. فاذا ما أخذنا فكرة التماس هذه وطبقناها على «الوجود في»، وجدنا أنا نستطيع أن نميز المكان عن الشيء المحوي في المكان. ولكن هذا التمييز لي معناه الهوية بين حد المحوي وحد الحاوي الذي هو المكان في هذه الحالة. ولذا نستطيع نهائياً أن نحد المكان بأنم «السطح الباطن من الجرم الحاوي، المماس للسطح الظاهر للجسم المحوي». وهذا هو تعريف المكان في الصيغة التي نجدها عند الفلاسفة المسلمين.

أما التعريف الأرستطالي الصرف، أي الذي نجده في كتب أرسطو نفسه فهو أن المكان «هو الحد اللامتحرك المباشر للحاوي». ويقصد بصفة اللامتحرك هنا، انه لا يتحرك بحسب الحركة الموجودة في الأشياء ، أعني - وهذا يحل مشكلة من المشاكل التي تثيرها فكرة المكان - أن المكان لا يزداد بازدياد الشيء . ففي حركة إلزيادة لا زيادة في المكان، إذ لا تغير فيه. ويقصد بقوله «المباشر» أنه في هذه الحالة مماس ولي متصلا، حتى يمكن أن يميز بين حاو ومحوي. وفكرة «المباشر» هذه، هي ما عبر عنه في التعريف العربي بكلمة «الباطن».

وبهذا التعريف يظن أرسطو أنه فسر طبيعة المكان الحقيقية ولكن هناك كثيراً من المشاكل لا زالت باقية بدون حل. فمشكلة زينون - مثلا - لا تزال - كما رأينا - تتطلب حلا. وهناك مشكلة أخرى يمكن أن تعتبر إلزاما على مذهب أرسطو نفسه في الحركة، فإن أرسطو يقول بصراحة إن السماء الأولى تتحرك، ومهما يكن تصورنا هذه الحركة، فإنها لا بد أن تقتضي - بحب مذهبه نفسه -انفصال الثيء المتحرك عن مكان، فكيف يمكن لأرسطو أن يقول عن المكان إنه متناه، وليس بعد السماء الأولى مكان، مع أنه يفرل بأن هذه السماء الأولى تتحرك؟ الواقع ار أقوال أرسطو في هذا الصدد مثار لكثير من النقد، نظراً لا فيها من تناقض. وهذا التناقض يرجع إلى فكرة اللامتناهي التي أشرنا إلى أن أرسطو قد أنكره إنكاراً تاماً من حيث وجودها بالفعل. كما يلاحظ من ناحية أخرى، أن ارسطو كان حسياً واقعب أكثر مم يجب، فلم يتطع أن يتصور المكان تصوراً ذاتياً صادراً صدوراً قبلياً، كما سيغعل كنت بعل ذلك بزمن طويل، ولم يتطع كذلك أن ينظر إلى المكان باعتباره روابط أو حدوداً، حتى ينظر إليه نظرة أقرب إلى التجريد. بل كان واقعياً حسياً، ولو أنه اضطر إلى أن يخرج عن المكان فكرة الجسمية، مما يجعل في أقواله كثيراً من التناقض .

الخلاء

وبعد فكرة المكان، ننتقا إلى فكة الخلاء. فنجد أن هناك دلائل تدل قطعاً على وجود الخلا،، فالحركة في المكان تستلزم بالضرورة وجود الخلاء ؛ فضلا عن أن هناك ظاهرة مشاهدة تقتضي القول به أيضاً ، وهي أننا لو صببنا ماء في إناء به رماد، فإننا نجد أن حجم الإناء لا يزداد بصب الماء، فهذا يؤذن بأن هناك خلاء قد ملى بالماء، حتى يمكن أن يقال إن حجم الثيء لم يزد. ولكن أرسطو ينكر الخلاء إنكاراً تاماً، فبقول أولا إن الحركة تتم بأن يطرد جسم جم آخر، ولا تتم بأن ينتقل الشيء من مكان ملاء إلى مكان خلاء . هذا إلى أن فكرة الخلاء نفسها تؤذن بانتفاء الحركة، لأنه إذا كان ثمة خلاء - والخلاء لا تعيين فيه للجهة - فإن الشيء المتحرك لا يعرف أين يتجه، وعلى هذا لا يستطيع التحرك، فالقول بالخلاء إذن يؤذن ايضاً بعدم الحركة.

ويضاف إلى هاتين الحجتي. حجتان أخريان، فما من الثهرة - عل حد تعبير هملان - بقدر ما هما خاطئتان : الخحجة الأولى تقول إن الأجام تتحرك بحسب سرعة تختلف تبعاً للثقل، فالأجسام الثقيلة تهبط بسرعة اكبر مما تهبط به الأجسام الخفيفة، وذلك لأن السرعة والبطء

يتوقفان على المقاومة التي تبدى للشيء من جانب المكان الموجود فيه. فإذا كان الخلاء خالياً من المقاومة، فمعنى هذا - وهذا ما تقول به الحجة الأولى . أن الثقيل والخفيف يسقطان معاً في وقست واحد. والحجة الثانية تقول إنه إذا كانت الرعة تتوقف عل المقاومة، وكانت المقامة في الخلاء معدومة، فيجب أن يقال في هذه الحالف إن الجم يهبط أو يسير بسرعة لا متناهية، وبما أل لسرعة للامتناهية مستحيلة فالثرط الذي تقوم عليه هذه الحركة مستحيل، أعني أن الخلاء مستحيل، فلا يمكن القول بوجوده. وعن طريق هاتين الحجتين اللتين يقوم الخطأ فيهما على جهل أرسطو بفكرة الكتلة - عما سيتبين بعد، خصوصاً عل يد جلليو - لأول مرة -، ظن أرسطو أنه يمكن إنكار وجود الخلاء، فقال بوجود ملاء متمر.

الزمان

وبعد هذا يتحدث أرسطو عن فكرة الزمان. والزمان قد يبدو لنا حينما ننظر إليه أول الأمر، أنه ليس له وجه د فالماضي قد فات، والمستقبل آت، والحاضر لا يمكن تثبيته، واللحظة نفسها - أو الآن - طرف موهوم بين ماض ذهب، ومستقبل لم يوجد بعد. كما أن الن مان لا يمكن تشبيته، لأنه يفقد حينئذ طابعه الجوهري، وهو كونه مكونا من أوجه متتالية، يتلو الواحد منها ألآخر، متساوقة - عنى حد التعبير العربي - ، فمن هذا يبدو لأول وهلة أن الزمان غير موجود. ولكن ليس معى هذا في الواقع أن الزمان عدم، فهو موجود يفترضه الح، لأن الحركة تفترضه. وهنا نلزحظ أن الناس حينما ينظرون إلى الزمال، ينظرون إليه باعتباره حركة، ولكن هل هو في الراقع كذلك؟

لا يمكن أن يقال عر الزمان إنه حركة، وذلك أولا لأن كل حركة مشروطة بمتحرك، وبحسب طبيعة المتحرك تكون طبيعة الحركة. ولكن الزمان واحد، فكيف يمكن إذن أن يقال إنه حركة؟ هذا إلى أن الزمان لا يمكن أن يكون فلك الكون، إذ أن معنى هذا أيضاً أنه إذا وجدت عدة أفلاك، وجدت بالتالي عدة أزمنة، والزمان واحد، فهذا ليس بصحيح. ويلاحظ ثانياً ان الزمان لا يمكن أن يكون حركة، لأن في الحركة اختلافاً، بينما الزمان راتب، فكيف يمكن إذن ان يكون الزمان حركة مع هذا الاختلاف؟ ليس الزمان إذن حركة؛ ومع ذلك، فلي معنى هذ أيضاً أن الزمان لا صلة له بالحركة. وأصدق شاهد على هذا هؤلاء الذين أقاموا نياماً في كهف سرديس، فإنهم حينما استيقظوا بعد مرور مدة طويلة من لزمان، لم يشعروا بأن ثمة زمناً قد مر بين اللحظة التي بدأ فيها نومهم وبين اللحظة التي استيقظوا فيها، فمعنى هذا أن عدم شعورهم بالحركة قد أداهم إلى القول بعدم وجود زمان، فكأن الزمان إذن مرتبط بالحركة.

فعلينا إذن أن نحدد ماهية هذا الارتباط بين الزمان وبين الحركة، فنقول أولا: إن الزمان، بمعنى من المعاني، حركة ٠ ومع ذلك فهذا تعبير غامض، فلنوضح هذا لمعنى الذي يقال - على نحوه - إن الزمان حركة، وذلك يمكن ان يتم بالاستعانة بفكرة الامتداد، فإن الحركة تتوقف على الامتذاد، فاذا كان الزمان هو الآخر حركة، فهو بدوره يتوفف على ما تتوقف عليه، أعني أنه يتوقف كذلك على الامتداد. ونحن نلاحظ في الامتداد أنه متصل، وبالتالي فإن الحركة متصلة، وعلى ذلك يكون الزمان المتوقف على الحركة متصلا كذلك. ويمكن بالاستعانة بفكرة الامتداد أن يستخلص أمر آخر: ذلك أن فكرة الامتداد تدل دائما على أمام وخلف، وهذا الوصف ينتقل أيضاً إلى الزمان من حيث هو حركة، فيقال إن في الزمان ما هو «أمام» وما هو «خلف«، فإذا عبرنا عن هذا بعبارة أخرى قلنا إنه لا كانت الحركة تقتضى دائما المرور بأدوار، أي أن فكرة التغير معناها أن وجهاً يسمى الصورة يتلو وجهاً آخر يسمى الصورة السابقة، ونحن في الحركة غميز عدة أوجه متتالية أحدها متقدم والآخر متأخر أو لاحق؛ فإن الزمان -إذا طبقنا عليه هذا التمييز - يحتوي على متقدم ومتأخر في الحركة، لأنه يمثل تتالياً بين أوجه متعددة في التغير، فينتج له من هذا كله، تعريف للزمان بأنه «مقدار الحركة بحسب المتقدم والمتأخر» .

وهنا يجب أن يوضح معى هذا التعريف بالدقة، فيلاحظ أولا أن قولنا «مقدار» ينشأ من أننا غميز بين عدة أوجه في الحركة يتلو الواحد منها الآخر فلما كانت هذه لأوجه في الواقع منظوراً إليها من ناحية الكم، وكان كل تمييز بين أجزاء كم ما، يعتبر عدداً ومقدراً، فإن الزمان الذي يقاس به عدد أو أوجهم الحركات المتتالية يسمى إذن مقداراً وهو مقدار للحركة لأن الذي يقيس الحركة هو الزمان - في هذه الحالة -؛ وهنا تلاحظ أن المقدار يجب ألا يفهم - في حالة الزمان - بمعنى أنه المقدار المعدود، أو

الشىء المعدود، وإنما بمعنى المقدار المحدد أو العدد المعدد. وننظر إلى الزمان باعتباره شيئاً يعدد هذه الأوجه في حالة كونها معددة، بمعنى أن وجود الحركات في الزمان مقدار للحركة، أي مقيأس لأوجهها. وهذه الأوجه ينظر إليها، لا من ناحية وجودها بعضها إلى جانب بعض، ولكن من حيث تتاليها، أي من حيث وجود الواحد بعد الاخر، ولهذا فإننا في هذه الأوجه المختلفة للحركات بين سابق ولاحق، أو بين متقدم ومتأخر - بحسب ما في هذا التعريف - لذلك كله كان الزمان مقداراً، أي شيئاً يعد الحركة أي أوجه الحركة، بحسب المتقدم والمتأخر، أي باعتبار كون هذه الأوجه يتلو بعضها بعضاً .

وثمة مسألة أخرى من المسائل ال ئيسية جدأ في بحثنا في الزمان، وهي مسألة عني أرسطو بأن يثيرها، ونعني ب الصلة بين النفس وبين الزمان. فهل يمكن أن يوجد الزمان دون نفس تعد هذا النمان؟ هنا يقول أرسطو إنه لا وجود للزمان إلا إذا وجدت النفس، لأن المعدود لا يوجد - حالة كونه معدوداً - إلا إذا وجد العاد فبدون وجود النفس إذل لا يوجد الزمان.

فلننظر نظرة إجمالية إلى ما يقوله أرسطو عن الزمان، خصوصاً فيما يتعلق بهذه المسأنة الأخيرة، فنقول أولا إن الطابع الرئيسي البارز المميز لفكرة الزمان عند أرسطو أنه يجعل من هذا الزمان شيئاً قائما على أساس المكان، إذ قد وجدنا أن ارسطو يحاول أن يستخلص صفات الزمان ابتداء. من صفات الامتداد أو المكان، ولهذا جاءت الصورة التي أعطاها للزمان صورة مادية الية قد سلبت الزمان كل حيوية. ولهذا فالواقع أن الزمان الأرستطالي زمان الساعات، أو هو زمان آلي، قد نظر اليه من ناحية الامتداد والمكان. هذا من ناحية الطبيعة العامة للزمان، وأما من ناحية طبيعة الوجود الخاصة يهذا الزمان، فإننا نجد ان موقف أرسطو هنا موقف «هجين» قد جمع بين النظرة الذاتية للزمان، والنظرة الواقعية الموضوعية له، فلا نستطيع أن نقول عن فكرة الزمان عند أرسطو - كما قد يستخلص من أقواله أويلزم عليها - إنها كفكرة الزمانعند أفلاطون، عبارة عن مقدار حركة الفلك فحسب، لأن أرسطو يتحدث عن الزمان باعتبار أنه لا يوجد إلا بوجود لنفس العادة العاقلة. ومعنى هذا أن هنا نظرة ذاتية - وإن كان هذا في الواقع إلزاماً أكث من أن يكون قولا صريحاً قاله أرسطو - لأن ارسطو يجعا الزمان في هذه الحالة متوقفاً في وجوده على النفس أو الذات. إلا أنه يجب ألا نعتبر هذه النظرة الذاتية نظرة ذاتية خالصة، لأن أرسطو هنا يجعل الزمان متوقفاً على الحركة، والحركة تتوقف على لامتداد، فالزمان إذن يتوقف على الامتداد أي المادة. ومعفى هذا ان أرسطو يعطي للزمان هنا شيئاً من الوجود الواقعي في الخارج، أي أن للزمان وجوداً موضوعياً كذلك . فكأن نظرية أرسطو في الزمان تترجح إذن بين النظرة الذاتية الخالصة، وبين النظرة الموضوعية أو الواقعية. ومن أجل هذا قلنا إن تصوره للزمان تصور هجين.

ونحن نميل - على الرغم مما حاول أن يذهب إليه المؤرخون المثاليون الذين كتبوا عن أرسطو مثل هملان -إلى أن ننظر إلى الزمان الأرستطالي باعتبار أن الناحية الموضوعية فيه تطغى طغياناً عظيما على الناحية الذاتية. ولهذا نرى من الواجب أن نميز تمييزاً دقيقاً بين نظرة أرسطو إلى لزمان، وبين النظرة الحديثة إليه، باعتباره إطاراً للعقل فحسب، ولا وجود له في الخارج، كما سيقول كنت بعد ذلك زمان طم يل .

العالم

بعد هذه المقدمات الممهدة للطبيعيات، نستطيع أن ننتقل إلى دراسة هذا العالم الذي افترضناه منذ البدء، ولم نبحث فيه بعد؛ خصوصاً وقد عرفنا المحرك الأرل. فنقول أولا إن العالم عند أرسطو ينقسم إلى قسمين، وأساس التقسيم هو فلك القمر، فهناك أولا ما فوق فلك القمر، ثم هناك ما تحت القمر، أي.الأرض وما حولها. وكلا العالمين متمايز تمام التمايز، فالعالم الأول -وهو الذي فوق فلك القمر، أو العالم الأعلى - يمتاز بأنه لا يوجد فيه كون ولا فساد، بينما العالم الثاني - وهو ما تحت فلك القمر - يسوده الكون والفساد، إلى جانب ما هنالك من صفات أخرى سنفصل القول فيها على حدة.

أما العالم الذي فوق فلك القمر، فهو عالم لكواكب. ولكي نبين المادة التي يتركب منها هذا العالم يجب أن نتخذ المنهج التالي، الذي ذكره ارسطو في الفصلين لأول والثاني من المقالة الأولى م٠ن كتاب ,السماء». وخلاصة هذاالمنهج أن تعين امادة تبعاً للحركة، فيلاحظ أولاً أن كل جسم طبيعي لم طبيعة، ويلاحظ ثانياً أن الأجام تنقسم بحسب الحركات . فإذا ما نظرنا إلى العام الأعلى او العلوي، وجدنا أولاً أن الحركة الوحيدة التى توجد فيه هى الحركة البسيطة، وهذه الحركة البيطة إما أن تكون الحركة الدائرية أو الحركة المستقيمة، وتبعاً لهذا ستنقسم الحركات بوجه عام إلى حركات بسيطة وأخرى مركبة. والحركات البسيطة هي وحدها التي توجد في العالم العلوي.

فلنبحث إذن عن مادة تصلح لأن تكون موضوعاً للحركة البسيطة، فإذا كانت الحركة البسيطة الدائرية أزلية أبدية، وكان تحرك الأفلاك السماوية والكواكب بهذه الحركة، فإن المادة التي نشترطها في هذه الحالة ستكون مادة لا تحتمل من بين جميع الحركات الممكنة غير الحركة المكانية. ولكي نضمن الأزلية والأبدية، في هذه الحالة، للأشياء المتحركة بهذه الحركة، فلا بد أن تكون هي الأخرى خالية من كل تضاد، فهذه المادة هي وحدها مادة الأفلاك والكواكب. وهذه الأشياء - وحدها- كذلك، يجب أن تكون «الأثير». ويلاحظ أرسطو أن هذه الكلمة 0^018 ليست مأخوذة من الفعل 1٧ء18 بمعنى يحرق - إذ لا صلة مطلقاً بين الأثير وبين النار - وإنما هي مأخوذة من الكلمتين: 1٧ء0+4، أييسيرباستمرار. وهذا الأثيرلما لم يكن فيه أضداد، فإنه لا يقبل حركة الاستحالة، كما لا يقبل مطلقاً حركة الكون والفساد، ولا يقبل حركة الزيادة والنقصان، وإنما يقبل حركة واحدة فحسب، هي الحركة المكانية. وهو لا يقبل أي نوع كان من الحركة لمكانية، وإغما يقبل فقط الحركة الدائرية. فالكواكب إذن تتركب من مادة الأثير.

ويصف أرسطو هذه الكواكب بأنها حية، لأن ها حياة (زوثيه) ولها فعل، بل هي أكثر حياة من الإنسان، . وهي تنعم جهذه الحياة التي تحياها كما ينعم الإنسان، وبدرجة أعظم بكثير. كما أن لها طبيعة. إلا أن هذا القول يثير عدة مشاكل، أهمها مشكلتان: الأولى خاصة بماهية هذه الطبيعة، إذ يلاحظ أن أرسطو يضيف إلى كل كوكب فلكاً معه، ولهذا الفلك نفس، فما الصلة إذن يين النفس وبين الطبيعة؟ وأيهما المحرك في الواقع: عقل الفلك أو طبيعة الكواكب؟ يمكن أن تحل هذه المسألة بأن يقال إن المحرك الحقيقي في الواقع هوعقل الفلك، أما الطبيعة فلا تحرك، وإغما تشارك فقط في حركة العقل، كما تشارك العين في حياة النفس الحاسة. وثمة مشكلة أخرى، هي مشكلة نوع الحركة التي تصدر في هذه الحالة. فإنه يثاهد أن النفس في الانان مثلا لا تأتي بحركات طبيعية باستمرار، بل تستطيع ايضاً ان تأقي بحركات قنرية، فكيف يمكن إذن أن يكون نوع الحركة في هذه الحالة ؟ هل تكون الحركة طبيعية صرفة، فتكون حينئذ صادرة عن الطبيعة وحدها، او يمكن أن تكون ايضاً قسرية، وحينثذ تصدر عن النفس؟ الحل الذي يمكن أن يقال هو الذي يرد في الشرح المنسوب إلى الإسكندر، على أساس تلك الفكرة المستخدمة لحل كل صعوبة، ونعني بها فكرة القوة والفعل، فيقول صاحب هذا الشرح، إن الطبيعة في هذه الحالة بالقوة وليست بالفعل، وأما الذي يحرك بالفعل فهو النفس.

ويتصل بهذا أيضاً مشكلة عقول الكواكب من حيث صلتها بالمحرك الأول، وقد بينا بوضوح مدى هذه المشكلة، والتفسير التاريخي الذي يجب أن تحل على أساسه ، فلا نعود إليها، بل ننتقل مباشرة إلى العالم السفلي، لكي نحدد أولاً طبيعة المادة التى يتكون منها هذ العالم , فيلاحظ اولاً ان هذ العالم هو عالم الكون والفساد، وأرسطو ينكر إنكاراً تاماً أن تكون هناك حركات مخالفة للطبيعة في العالم العلوي، وإنما كل شيء في هذا العالم يجري بحسب النظام. أما العالم السفلي فإنه لما كانت فيه المادة - والمادة طائفة من الممكنات، والممكنات متعددة، والدوافع إلى إظهارها إلى الفعل متعددة كذلك - فمن هنا ينشأ الاضطراب الشنيع في هذا العالم السفلي، أما العالم العلوي، فإنه لما كان خالياً من المادة القابلة للممكنات، فإنه لا يوجد فيه إلا النظام باستمرار. والصفة الثانية التي يمتاز بها هذا العالم السفلي، أنه ينقسم إلى نوعين من الكائنات: كائنات حية، وأخرى ليس فيها حياة.

فلنبدأ بهذا النوع الأخير، أي الكائنات اللاحية، وهذا النوع بدوره ينقسم إلى قسمين: بائط، ومركبات. وأرسطو يلجأ من أجل تعيين البسائط إلى نفس المنهج الذي لجأ إليه من قبل من أجل تعيين مادة الأفلاك والكواكب، فيقول إن الحركة إما أن تكون إلى أعلى أو إلى أسفل، أي بحسب الخفة والثقل. فالبسائط هي أولاً الثقيل، وهو التراب ؛ والخفيف، وهو النار؛ وهناك حالة بين بين، بأن يكون هناك قرب من الثقل أو قرب من الخفة، ولذا كان هناك نوعان آخران من البسائط: هما القريب من الثقيل وهو الماء، والقريب من الخفيف وهو الهواء. وبهذا تكون البسائط أربعة: التراب والنار والماء والهواء.

وهناك طريقة أخرى لتعيين هذه العناصر، وذلك على أساس النظر في الكيفيات، بأن نقول إن الاحساس يرجع في النهاية -على أقل تقدير - إلى حاسة اللمس، لأن هذه الحاسة اولى الحواس؛ وهذه الحاسة تميز اولاً بين الحار والبارد، ثم تميز ثانياً بين ما هو قريب من كليهما، فتميز كذلك بين اليابس والرطب، فمهما جمعنا هذه الكيفيات بعضها مع بعض، وركبناها، أي تركيب - وكل التركيبات الممكنة لا تزيد عن ستة عشر، يسقط منها ما هو في الواقع تركيب واحد، واختلف فقط في ذكر لأول أو الثاني، الواحد قبل لآخر، ويسقط منها ايض ما هو جمع لأضداد - فإن النتيجة النهائية أن يتبقى أربعة تركيبات هي الكيفيات الرئيسية من حرارة وبرودة ورطوبة ويبوسة، فينتج لدينا حينثذ أربعة عناصر أولية رئيسية، وهذه العناصر هي العناصر الأربعة: الماء والتراب والهواء والنار، اثنان منها سلبيان، والآخران إيجابيان، فالحار والبارد إيجابيان لأنهما فاعلان، بينما اليابس والرطب سلبيان لأنهما منفعلان، ويمكن أن يتحول الواحد إلى الآخر. وذلك لأن كل واحد يحتوي ضداً واحداً آخر على الأقل، فيمكن أن يستحيل إليه. ولكن لا يمكن إرجاع هذه العناصر الأربعة، أو هذه الكيفيات الأربع الرئيسية، إلى أبسط منها فهي الاط الأولى التي ينحل إليها كل شيء آخر، ولا تنحل هي - بدورها - إلى اي شيء.

وبعد أن حددنا هذه البسائط، نستطيع أن نحدد المركبات ولن ندخل في تفصيل ما يذكره أرسطو عن المركبات لأن الكلام في هذا يطول، وهو يخرج بنا عما نحن بصدده. ولكننا سظر نظرة إجمالية عامة إلى الصفة الرئيسية للمركب كما نظر إليه أرسطو. وهنا نجد أرسطو يقول: إن صورة المركب غير صورة ما يتركب منه، أعني ان الأجزاء لا تكون موجودة في المركب بالفعل، وإنما بالقوة فحسب، لأنها ليست محققة لصورتها، وإنما تحقق صورة أخرى جديدة، وهذه الصورة الجديدة ليست صورة أي واحد من الأجزاء على حدة، بل هي صورة المركب المتمايزة تمام التمايز، أعني أن أرسطو هنا حينما يتحدث عن المركب، يتحدث عما نسميه في الكيمياء الحديثة باسم المركب في مقابل الخليط.

وبعد هذا يبحث في الطريقة التي تنشأ بها الحركات، كما يبحث في الكون والفساد يالنسبة إلى الأشياء الموجودة في العالم الذي تحت فلك القمر. وهذه الأبحاث الجزئية تمتاز بالطابع العلمي الموجود بها كلها. فأرسطو يعتمد فيها على التجربة والمشاهدة، أكثر من اعتماده على الاستدلال والبرهان الجدلي . وعلى الرغم من أن كثيراً مما يقوله هنا خاطى، فإن كثيراً من الأنيا، التي يذكرها كان لها مع ذلك أثر كبير جداً في العصور التالية، حتى ابتداء عصر النهضة والعصر الحديث.

فإذا ما انتقلنا من هذا القسم الأول: قسم الكائنات اللاحية إلى قسم الكائنات الحية، وجدنا أرسطو يعرف الحياة تعريفاً عاماً بأن يقول : إنها «صفة للموجود بها يتغذى وينمو وينقص بنفسه» . ولما كان النمو في الواقع يقتضي الاستحالة، فيمكن إرجاع الصفة الرئيسية للحياة إلى فكرة التغذي بالذات، ولهذا فإن أرسطو يجعل الصفة لرئيسية الأولى للكائن إلحي أنه مغتذ بنفسه ٠ إلا انه يجب أن يلاحظ مع ذلك أن الحياة ليس معناها التغذي فحسب، وإنما التغذي يفترض دائما وجود علة فاعلة، بها يتم هذا الفعل، وهذه العلة الفاعلة لها من القوة - بمعى القدرة - أكثر مما للصورة الموجهة عند كلود برنار. فهذه القوة التي يتم بها التغذي معناها ان الجم لا بد أن يكون ذا قوة، بمعفى أنه ذو نفس. فالأصل في الكائن الحي - في الواقع - إنه الكائن ذو النفس؛ ومن هنا يشاهد أن أرسطو كان يقول بمذهب ان كل شيء ذو نفس، فيما يتصل بالكائنات الحية على أقل تقدير، فمذهبه في الواقع مذهب مناصر لفكرة وجود النفس باعتبارها أصل الحياة.

وبعد أن بين أرسطو الصفة الأساسية للكائن الحي -وهي أنه ذو نفس - ، يقوم بالبحث في الكائنات الحية على هذا الأساس. فيقول أولا إن الكائنات الحية مستقلة بعضها عن بعض؛ فأرسطو لا يقول بفكرة التطور من الأقل تفاضلا إلى الأكثر تفاضلاً وهي الفكرة التي قال بها أنبا ذوقلي؛ وإنما يقول بأن الحياة تنشأ في الأغلب والأعم عن طريق اجتماع مادة وصورة، والمادة هي عضو لتأنيث، والصورة هي عضو التذكير. والاختلاف بين المذكر والمؤنث في الولادة والتكاثر هو في أن عضو التذكير عضو يدل على الكمال وعلى الفعل، بينما عضو التأنيث يدل على النقص والانفعال، ويتم التكاثر باجتماع عضو التذكير مع عضو التأيث بحسب أحوال الكائنات الحية. فإذا كان فعل عضو التذكير كاملا تاما، ففى هذه الحالة يكون المولود ذكراً، وإذا كان ناقصاً كان المولود أنثى.

هذا هو التكاثر أو التولد العام؛ ولكن قد يحدث أحياناً ان تنشأ بعض الأشياء بالبداء (أو التولد التلقائي)؛ والأشياء التي تتكاثر بالبداء، تنشأ عن تعفن. أما فيما عدا ذلك، فإن كل مولود ينشأ عن شيء يشابهه مسمى باسمه. فالانسان يلد لانسان، والحيوان يلد الحيوان، وهكذا . . . ولو أنه - في كل حالة - العلة الفاعلة والمادة، مختلفة.

ثم يتابع أرسطو أبحائه في هذا الباب، ويأقي بنتائج فا اهمية كبرى من ناحية علم الحياة، ويكفي أن نعرض للمنهج الرئيسي الذي اتخذه في دراسته للكائنات الحية، فنجد أن المنهج يقوم أولاً على تفرقته امشهورة ببن لأجزاء الحية المتجانسة 0٩ءسر010سإ6 والأجزاء الحية اللامتجانسة 00016011، فالأولى هي التي إذا تجزأت كانت اجزاؤها واحدة أي من جنس واحد، والأخرى هي التي إذ جزئت كانت أجزاؤها من انواع مختلفة، فمثلاً الدم أو اللحم يعتبر متجانساً، لأن اي جزء اخذته يساوي في الجنس والنوع أي جزء آخر، بينما الوجه مثلا غير متجانس، لأن أجزاءه مختلفة. وهذه التفرقة الرئيسية قريبة جداً من التفرقة التي يقول بها علم الحياة الحديث بين الانسجة والأعضاء. فالأنسجة تقابل الأشياء المتجانسة، والأعضاء تقابل الأشياء اللامتجانسة، لأن من خصائص التعضي اختلاف الأجزاء من حيث النوع مع اتغاقها في اداء وظيفة واحدة. وبهذا وضع أرسطو الأساس لتفرقة رئيسية في علم الحياة ونعني بها التفرقة بين علم التشريح وعلم وظائف الأعضاء .

وثمة تفرقة أخرى هامة كذلك - أو بتعبير أدق -منهج آخر استخدمه أرسطو في بيان وظائف وأعضاء الكائنات الحية، وهو منهج التماثل. ويقصد بالتمائل اتفاق أنواع الحيوان المختلفة في الصورة العامة للوظائف أو للأعضاء، ثم قيام بعض الأعضاء بوظائف بعض الأجزاء الأخرى، فيلاحظ مثلاً أن الخياشيم الصدرية في السمك تقابل الرئة في الإنسان، والخرطوم في الفيل يقابل اليد في الانسان، وصورة الجمجمة عند الإنسان تتشابه مع صورة الجمجمة عند السمك؛ وهكذا نجد باستمرار تماثلاً وتناسباً بين أنواع الحيوان المختلفة بعضها مع بعضها.

ويستمر ارسطو طويلاً في بيان هذا التماثل. إلا أنه يلاحظ هنا أن أرسطو لم يفرق في داخل هذه المماثلة - كما نفرق نحن اليوم ابتداء من كوفييه - بين التماثل والتوافق. فالتماثل تناسب في الوظائف بين الكائنات بعضها وبعض والتوافق تناسب في صورة الأعضاء بعضها مع بعض. فمثلاً يعتبر بين الرئة في الانسان، والخياشيم في السمك، تماثل، وبين الزعانف في السمك، والأجنحة في الطير، والأرجل في الانسان، توافق، من حيث ان هذه الأعضاء يناظر بعضها بعضاً. فإن المماثلة عند أرسطو تشمل كلا من التماثل والتوافق.

ثم يقسم أرسطو الكائنات الحية إلى مراتب، وتبعاً لهذا يقسمها إلى ثلاثة أجناس رئيسية : النبات والحيوان والإنسان، وتتدرج تصاعدياً بحسب وظائف النفس في كل من هذه الأجناس، فالنبات يمتاز أولا بأنه يتغذى وينمو ولكنه لا يتحرك، ثم إن أي جزء أخذته يمكن أن يفصل عن الآخر مع بقاء الحياة كماهي - كماهو واضح في التعقيل أو في التطعيم - أي أن النبات أقرب ما يكون إلى الخليط منه إلى المركب الحي الصحيح، إذ في ألحيوان نجد ان الجزء الذي يزول عنه لا يمكن ان يحيا مستقلا بذاته، ويتصف النبات كذلك بأنه لا توجد فيه إرادة، ولا أي شيء من القوى العاقلة. ونتيجة هذا كله أن التفاضل في النبات على درجة ساذجة جداً، بينما الحال على العكس من ذلك في الحيوان : إذ نجد الحيوان - نظراً إلى انه يجمع إلى جانب التغذي والنمو. الحركة والإحاس، بل وأيضاً الخيال والذاكرة - أكثرتفاضلاًمن النبات كماانه يلاحظ بالنسبة إلى التكاثر ان عضوي التكائر في النبات معاً، أي في نبتة واحدة، بينما عضوا التكاثر في الحيوان ليسا في فرد واحد، وإنما يكون هناك فردان أحدهما فاعل إيجابي عن طريق السائل المنوي، والآخرمنفعل سلبي، عن طريق دم الطمث، فهذا اختلاف واضح في طريقة التكائر بين النبات والحيوان. كما أن الحيوان يمتاز بالحركة، ولو أن بعضاً من الحيوان يبدو وكأنه نبات، كما هي الحال في المحار أو الحيوانات الصدفية، التي يظهر أن حركتها تكاد تكون معدومة. هذا إلى أن الحيوان يمتاز بخاصة رئيسية تميزه من النبات، وهي قيام الأعضاء في مكب الطبيعي، فمثلاً يلاحظ في النبات أن الفم في أسفل والوضع الطبيعي ان يكون في أعلى، وهذا طاهر في الحيوان، فالنبات إذن مقلوب الوضع في الواقع. هذا إلى أن النبات لا يعرف النوم، بينما الحيوان ينام، أو يمكن أن يقال عن النبات إنه في نوم مستمر ولا يعرف اليقظة؛ أما لحيوان فيتراوح بين اليقظة وبين النوم.

وقبل أن نتحدث عن النفس الإنسانية بكل أنواعها، يجدر بنا أن نتحدث عن تصنيف أرسطو للحيوان والنبات، فنجد أن هذا التصنيف - كما يظهر من كتبه - يرجع المملكة الحيوانية إلى ٤٩٩ فصيلة إلاأن هذاالتقسيم -وإن كان المبدأ الذي يقوم عليه لا يزال ذا قيمة - ليس تقسيم جيداً، فالمبدأ الذي يقوم عليه هو وجود الدم أو عدم وجوده، وثانياً على اساس الوسط الذي يوجد فيه ٠ وهذا المبدأ في التقسيم - وإن كان جيداً - فإن ارسطو قد خلط كثيراً ين أنواع الحيوان والنبات، حتى إننا لا نكاد نجد تمييزاً واضحاً بينها وبين بعض، على أساس صفات رئيسية تميزها، ، كما هي الحال في تصنيف رجل مثل لنيه كما يتحدث أرسطو أيضاً عن موت الحيوان فيقول : إن هذا الموت ملازم لحياته، لأن العالم الذي يوجد فيه هو عالم الكون والفساد، وهو خاضع لهذا النوع من الحركة، خضوع غيره من الأشياء الموجودة تحت فلك القمر. ويلاحظ على مذهب أرسطو في الحياة بوجه عام أنه مذهب حيوي إلى حد كبير، وأنه ينفي كثيراً أو.دائما كل تفسبر فيزيائى كيمياوى للظواهر الخاصة بالحياة، وإن كنا نراه أحياناً يتحدث عن بعض الوظائف الحيوية وكأنه يفسرها على أساس فيزيائي وكيمياوي، حينما نراه مثلاً يفسر الهضم على أنه احتراق، وتبعاً لهذا يقول بوجود حرارة يسميها «الحرارة الحيوانية»، كما يلاحظ ثانياً على مذهب أرسطو في الحياة انه مذهب غائي يحاول دائما أن يجعل لكل عضوغاية، ولكل كائن في الحياة غاية. وعن طريق فكرة الغائية، نجده دائما يحاول أن يفسر الأوضاع والوظائف الخاصة بأعضاء الكائن الحي؛ وهو لهذا قريب الشبه جدأ بكلود برنار في فكرة «الصور الموجهة»، ومن دريش الذي يقول أيضاً بوجود صورة غائية في الكائنات الحية.