السفسطائية

السفسطة أو السفسطائية هي مذهب فكري فلسفي نشأ في اليونان إبان نهاية القرن السادس وبداية القرن الخامس ق.م في بلاد الإغريق، بعد انحسار حكم الأقلية الأوليغارشية وظهور طبقة حاكمة جديدة ديموقراطية تمثل الشعب، وقد ظهر السفسطائيون كممثلين للشعب وحاملين لفكره وحرية منطقه ومذهبه العقلي والتوجه المذكور هذا هو الذي كلفهم كل ما تعرضوا له من هجوم حتى ليصدق القول بأن السفسطائيين كانوا من أوائل المذاهب الفكرية التي تعرضت للتنكيل والنفي والقتل لمجرد كونها تخدم مصلحة الضعفاء والمساكين، فقتل أغلب قادتهم وشرد الباقون، كمثل ما حصل مع هيبياسي، الذي كان من أشهر قادة الديمقراطيين، والذي تعرض فيما بعد للإعدام. وكذلك بروتاجوراس الذي أوكلت إليه مهمة وضع دستور للبلاد الإغريقية إبان الحكم الديمقراطي الجديد، حيث أحرقت كتبه ونفي من أثينا. وغير ذلك "بروديقوس" الذي عذب وحوكم بالإعدام، فشرب السم.

تطور المدرسة السفسطائية

في القرن الخامس قبل الميلاد هاجم الفُرس بمساعدة الفينيقيين بلاد اليونان ومع أن اليونانيون قد هزموا الفرس والفينيقيين فقد خرجوا من الحرب مُنْهَكِي القوى ثم أدركوا أن الفرس لم يستطيعوا أن يصلوا إلى بلادهم البعيدة إلى اليونان إلا بأسباب الحضارة المادية القائمة على العلم فاندفع الشبان اليونانيون لتعلم العلم ولكن المعلمين كانوا قليلين فتصدى (أي قام) للتعليم أناس كثيرون عاديون ولكن على شيء من المعرفة سموا أنفسهم (سوفيتيس) (المعلمين البلغاء أو معلمي الحكمة).

ومع أن هذا الاسم سوفيتيس (و يعني سفسطي أو سفسطائي) كان في الأصل وصف مدح فإن هؤلاء المعلمين المتكسبين بالعلم حقاً وباطلاً قد جعلوا منه صفة ذم فأصبح قول سفسطة يعنى بها الكلام الذي فيه تمويه للحقائق مع فساد في المنطق مع صرف الذهن أيضاً عن الحقائق والأحوال الصحيحة أو المقبولة في العقل وتضليل الخصم عن الوجهة الصحيحة في التفكير.

أهمل السفسطائيون الرياضيات والطبيعيات في التعليم إلا قليلاً، وطبعاً كانت ناتجة عن قلة معرفتهم بها ولقلة موافقتهم لغرضهم ثم ما لبثوا أن دخلوا على تعليم الفنون التي يجوز فيها الجدل ويقبل فيها الرأي الشخصي كالنحو والبلاغة والخطابة والتاريخ وكان هؤلاء يعلمون كل طالب معرفة ما يريده من الفنون ثم يزينون له تلك الفنون التي كان يميل إليها ويذمون أمامه الفنون التي لا يحبها أو التي لا يميل إليها.

فكان الجدل هو أسلوب التعليم الذي خطه السفسطائيون إذ تكلموا في الخطابة والبلاغة وأثرها في الفرد والمجتمع وقد جادلوا في طبيعة الإنسان وجادلوا في اللغة أهي وضعية أم طبيعية وكذلك جادلوا في الأخلاق أهي وراثة اجتماعية أم مولودة اى مغروزة في الإنسان منذ الولادة. كان مأخذ سقراط على السفسطائيين هو تقاضيهم مالا لقاء تعليمهم ولكن برتراند راسل يوضح عن حق في أن السفسطائيين الذين يحترفون الكلام هم أيضاً بحاجة إلى الطعام. ولقد كان المواطنون العاديون في أثينا يعتبرون سقراط نفسه سفسطائيياً وليس فيلسوفاً، بسبب الجهل طبعاً.

مواقف شهيرة

من أشهر الأساليب التي اتبعت وقتها ما سمي «القياس الإحراجي»، والذي اشتهر به المعلم "بروتاغورس"، الذي كان قد استخدم قياس الإحراج في قضية رفعها ضد أحد تلامذته، الذي تعهد لأستاذه الذي علمه القانون وجدل المرافعات أمام المحاكم، أن يدفع القسط الثاني من المصروفات عندما «يكسب» أول قضية له أمام المحاكم في أثينا، ومرَّ الوقت ولم يفِ التلميذ بالوعد أو يسدد، وهنا لجأ بورتاغورس إلى المحكمة في محاولة لاسترداد مصروفاته من التلميذ، وكانت مرافعته باستخدام «قياس الإحراج» كالآتي: - إذا خسر التلميذ القضية وجب عليه أن يدفع القسط الثاني بمقتضى حكم المحكمة. - وإذا «ربح» التلميذ القضية وجب عليه دفع القسط الثاني بموجب الاتفاق الموقع بينه وبين «بروتاغورس» أستاذه السابق. وأصبح التلميذ إما أن يكسب القضية، أو يخسرها. وفي كلتا الحالتين وجب على التلميذ دفع القسط الثاني لأستاذه «بروتاغورس».

ولكن التلميذ رد على أستاذه برد بليغ وكانت مرافعته بدوره كالآتي: - إذا كسبت هذه القضية أمام المحكمة فلن أدفع شيئاً بمقتضى حكم المحكمة. - ولكن إذا خسرتها فلن أدفع شيئاً بمقتضى الاتفاق المبرم بيني وبين أستاذي، لأنه اشترط عليّ أن أدفع فقط في حالة «كسب» أول قضية أرفعها وها أنا ذا قد خسرتها. - ولكن إما أن أكسب القضية أو أخسرها. إذن: فلن أدفع شيئاً في كلتا الحالتين.

معاني لكلمة سفسطة

  • السفسطة هي قياس مركب من الوهميات الغرض منه إفحام الخصم أو إسكاته. والسفسطائيون ينكرون الحسيات والبديهيات وغيرها مما أقره المنطق أو قبلته أحوال المجتمع السليم.
  • والسفسطة في المعجم الوسيط تعني من أتى بالحكمة المموّهة.
  • السفسطة هي أيضاً التلاعب بالألفاظ لطمس الحقائق والإجابة على السؤال بسؤال.

أثر السفسطة في الفلسفة

و مع أن السفسطائيين كانوا محنة للفلسفة لأنهم تلاعبوا بالمدارك الفلسفية واستخدموا تعليم الفلسفة في سبيل كسب المال لكنهم قد أفادوا المجتمع في أنهم أثاروا في نفوس الشبان شيئاً من الرغبة في طلب العلم.

فمن أعلامهم مثلاً بروثاغوراس الذي كان أول من فكر في قوانين النسبية ويعتبره البعض الملهم لأينشتاين. حيث قال من ضمن نظريته القديمة في النسبية (أن قيمة الأشياء نسبية فليس ثمة شيء خير من نفسه أو شر في نفسه وإنما هو خير أو شر وعدل وظلم).

من أهم السفسطائيين أيضاً، وربما على الإطلاق، سقراط الذي شاركهم الاهتمام بالإنسان وحده وبالمجادلة عن الآراء ثم خالفهم في أنه جعل قيمة الأشياء مطلقة وقد جعل جداله محاذياً للمنطق فامتاز عنهم في الجدل بأنه جعل رد السؤال بسؤال من جنسه ليثير التفكير عند السائل ثم مزج الجد في الجدال بشيء من التهكم. وكانت غاية العلم عند سقراط هي إدراك ماهيات الأمور والأشياء كإيجاد حدود تامة تساعد الإنسان على أن يتبين معاني الأشياء في أوضح صورها ودقائقها وذلك بأن يكون للكلمات مدلولاتها الدقيقة وللمعاني نطقها الخاص بها بخلاف بعض المغالطين الذين يتقصدون استعمال الكلمات المتقاربة في اللفظ والمشتركة في المعنى والغامضة في الدلالة الذين أطلق عليهم المغالطين في ذلك الوقت والذين كانوا يميلون في جدالهم إلى الإبهام في الألفاظ والإيهام في المعاني.

ومن أهم ما تم نقله عن سقراط أو إمام السفسطائيين أنه جعل الأخلاق حيزاً من العقل لا حيزاً من الدين وقال إن المعرفة تنتج عن الفضيلة ومن عرف الحق لم يظلم ومن رأى وجه الخير لا يقرب الشر ولا يمكن للإنسان أن يسلك سلوكاً يخالف رأيه الصائب. وإن أتى نفر من المشهورين بالعلم شراً كان علمه على ظن وليس على يقين.

كما لا يفوتنا أن الكثير من الفلاسفة المعاصرين تبنوا أو تأثروا بهذا المذهب ولعل أهمهم كان فريدريك نيتشة وديكارت وغيرهم. طور السفسطائيون من أسلوبهم في التعامل بالمنطق فكانوا يميلون إلى المنطق الممزوج بالخيال أحياناً.

انتقادات

بالرغم أن اسم «سوفيتيس» (وتعريبها سفسطي أو سفسطائي) كان في الأصل وصف مدح؛ إلا أن لجوء هؤلاء المعلمين لتقاضي مالا لقاء تعليمهم (أي للتكسب بعلمهم) جعل (سقراط) يعتبر ذلك مأخذا سلبيا عليهم؛ فصار اسم (سفسطي) صفة ذم، ونتيجة لرأي سقراط ومن بعده (أرسطو) كذلك فأصبح لفظ «سفسطة» ينحصر في معنى: الاستدلال القائم على الخداع والمغالطة.

في العصر الحديث

أصبح مصطلح السفسطائي يستخدم في العصر الحديث لوصف «المغالطة» وهو النقاش الذي يسعى فيه أحد الطرفين للمرواغة وكسب النقاش بإستخدام حجج وقرائن لا علاقة لها بصلب الموضوع انما تلتف حوله، وتستخدم المغالطة حجة كاذبة بقصد تضليل. والسفسطائي هو الشخص الذي اجاب بحجج ذكية ولكن المغالطات خادعة.

انظر أيضًا

عبد الرحمن بدوي

لعل تياراً من التيارات الفلسفية لم يصادف من

الاختلاف في تقديره مثلما صادف تيار النزعة السوفسطائية، خصوصاً فيما يتصل بمركز السوفسطائية في داخل التفكير الفلسفي العلمي . وأول ما نشاهد هذا الاختلاف في العصر القديم نفسه، إذ نجد أفلاطون يحمل على السوفطائية حملة عنيفة شعواء ، ونلاحظ أن هذه الحملة كانت منصبة بوجه عام على آرائهم في السياسة والأخلاق، لا على آرائهم العلمية والموضع الوحيد الذي تحدث فيه أفلاطون عن النزعة السوفسطائية العلمية هو في «تيتاتوس» عندما تحدث عن مشكلة الخطأ عند السوفسطائيين وبخاصة عند بروتاجوراس زعيمهم. وقد اكتفى أرسطو بأن سار نفس السيرة التي سارها أفلاطون من قبل، وبهذا محا كل ما للسوفسطائية من مكانة في تاريخ الفلسفة. واستمرت هذه الحال كذلك حتى جاء مؤرخو العصر الحديث في القرن التاسع عشر، هناك ابتدأ فهم السوفسطانية يقرب من الصواب. فقد ارتفع هيجل بالنزعة السوفسطائية ارتفاعاً كبيراً وذلك في كتابهم «تاريخ الفلسفة« وجعلها لحظة اساسيةمنلحظاتتطورالفلسفةعندا ليونان. لكن المؤرخين الذين تلوا هيجل، حتى غهاية القرن التاسع عشر، استمروا يرددون النغمة القديمة التي كانت تنظر إلى السوفسطائية على أنها نزعة هدامة لا يمكن أن تعد نزعة فلسفية بالمعنى الصحيح، فخلط بينها وبين نزعة الشكاك، وصار الهدم فيها كالهدم عند الشكاك. واستمرت الحال كذلك حتى أوائل القرن العشرين، وحينئذ بدأ الناس يعودون إلى نظرة هيجل في السوفسطائية، وبدأت صفة جديدة تنسب إليهم، هي صفة التنوير. Aufklärung وكان العامل الأساسي في تغييروجهة النظر الأولى هوقيام فلسفة الحضارة، واتجاه الناس إلى البحث فيها اتجاها قوياً ٠ فقد بدا لهم على أثر ذلك ان السوفسطائيين من الناحية الحضارية لحظة مهمة في تاريخ اليونان الروحي الحضاري . وكان من أول الممثلين لهذه النظرة الجديدة تيودور جومبرتس ثم ابنه هينرش. ثم لم تلبث هذه النظرة الجديدة إلى السوفسطاثية ان اتسعت ووجدت صدى لدى كل المؤرخين المجددين للفلسفة اليونانية . حتى ظهرت في أول صورة جلية لها عند فرنرييجر في كناب (دببديا» وأخيراً وجدت اكبر مدافع عنها - ولوانه رتفع بدفاعه بالنزعة السوفسطائية إلى مستوى مرتفع جدا - نقول إنها وجدت في جوزبه سئيتا الذي وضع كتاباً بعنوان: «نزعة التنوير عند الوفطاثيين اليونانيين» سنة ١٩٣٨، اكبر مدافع عنها.

والواقع أنه لا بد لنا إذا أردنا أن نفهم النزعة السوفسطائية، أن نضعها في وضعها الصحيح داخل التطور

الوفطائية

٥٨٧

الروحي عند اليونان، وأن نبين أن هذه النزعة كات لحظة ضرورية لا بد منها في تطور الروح اليوناية نحو إدراكها لذاتها إدراكاً تاماً كلياً حقى بلغت اوج هذا الشعور عند افلاطون وأرسطو؛ ولمتكن إذنظاهرة ثانوية أوخارجةعن لتطور. ولبيان هذا نقول اولاً : إن الأوضاع لسياسية في الحياة اليونانية في القرن الخامس كات قد انقلبت رأسا على عقب . فبعد أن كانت البلاد اليونانية مدنا تكون دويلات وتقوم كل دويلة من هذه الدويلات بنفسها، ظهر في هذا القرن نوع جديد من النظم السياسية، هو الإمبراطورية في عهد بركليس. هنالك انتقلت الحياة السياسية عن الصورة القديمة التي كانت لها في عصر هوميروس وفي العصر السابق أي في القرن السادس . وكان لا بد، تبعا لهذا التغيير في الوضع السياسي ، أن يختلف النظر إلى الفضائل المطلوبة من المواطن. ففي العصر القديم كان يطلب من امواطن الذي يقود الدولة أن يكون ارستقراطياً ، وأن تكون هذه الأرستقراطية أراستقراطية دم، لأن الحياة حياة أسرية، تقتضي تبعاً لهذا أن تكون مسألة الدم هي العامل لأساسي في إيجاد الفضائل، هذا إلى أن القوة الجسمانية والصفات الملازمة للأرستفراطية الحربية لا توجد دائماً إلا في الأسر النبيلة التي توارثت هذه الصفات؛ فتكون عن ذلك جو لا يوجد في غير داخل هذه الأسر. أما الحياة في القرن الخامس، وقد أصبحت حياة إمبراطورية تخرج على حياة الأسر والمدينة، فقد أصبح فيها المواطن بلا جذور، أي بلا أصول أسرية يرجع إليها من أجل أن يؤكد كيانه وأن يثبت امتيازه. وحينئذ ستنقلب الصفات الأرستقراطية القائمة على الدم إلى صفات أخرى نستطيع - تجوزاً - أن نسميها أرستقراطية أيضاً، ولكنها من توع آخر، لأن هذه الأرستقراطية الجديدة لا تقوم على لدم بل تقوم على العقل إن صح أن تقوم على العقل أرستقراطية .

ثم إن حياة المدينة في هذا الوضع الجديد الذي لم تعد فيه المدينة مكتفية بذاتها، بل جزءاً من كل - نقول إن في هذه الحياة الجديدة تنمو الروح الفردية، لأن الفرد في هذه الحالة يستطيع أن ينتقل من مدينة إلى أخرى، ولا يكون مرتبطا بمكان معين فتنمو إذن روح الاستقلال لديه ما دام لم يعد مرتبطأ بمكان ضيق بذاته. انقلبت إذن الأوضاعمن ناحية السياسة - كما بينا - فلم يعد القادة نبلاء، من نوع نبلاء الدم، بل أصبح القادة الجدد الذين تتطلبهم الدولة قادة عمتازين من حيث الفكر والثقافة، فكان واجب التربية في هذه الفترة أن تعنى بالإنسان لا من حيث الناحية الجسمية ولكن من حيث التفكير العقلي. فهذا كان المطلوب منكل من يقوم بالتربية في ذلك العصر أن يربي

المواطن على فضائل الدولة. لكن مهمة السوفسطائيين لم تكن مهمة تربية رجال الدولة جميعاً لكي يؤدي كل مواطن ما عليه، بل كان الغرض أن تكون متجهة إلى ايجاد طبقة من القادة تستطيع أن تسيرأمور الدولة.

أجل، إنه لا يطلب من السوفسطائي أن يخلق قادة من حيث لا تسمح الطبيعة بإيجاد القادة، فإن هذه الصفات التي تستلزمها القيادة مثل حضور الذهن والمثابرة والإقدام، وهي الصفات التي تطلبها ثيوكيديدس من السياسي، لكي يكون على رأس دولة وبها وصف ثموستوكليس، نقول إن هذه الصفات صفات فطرية، وليس للسوفسطائي، أو لأي كائن من كان أن يخلقها في نفس الرجل. ولكن الشيء الذي يمكن، بل ويجب أن يربى عليه الإنسان هو الخطابة، والقدرة على التأثير في الناس، أي الناحية الشكلية في الروح الإنسانية. لذا سيكون الغرض الأصلي للتربية متجهاً إلى الناحية الصورية في الرجل. فهيإذن مبدأ صوري في الشخص الذي تكون فيه.

وعلى هذا فالحال السياسية كانت تقتضي أن توجد طبقة من الناس تعلم كل مواطن يريد أن يصل إلى قيادة الدولة كل الفضانل التي يستطيع بها الوصول إلى تحقيق هذا الغرض أولاً، ثم أن يحقق مقتضيات هذا الغرض على أتم وجه وأكمله ثانياً . ولم تكن النزعة السوفسطائية غير استجابة لهذه الحاجة الملحة التي شعر بها اليونانيون في القرن الخامس، أي أن الناحية السياسية قد اقتضت أن توجد النزعة السوفسطائية.

ومن ناحية التطور الروحي بالنبة إلى الفرد، قلنا من قبل إن الروح الفردية قد سادت وتغلغلت في كل المرافت الروحية عند اليونان . ولذا كان لا بد للفلسفة، التي ستعبر عن التطور الروحي كما وصل في تلك الفترة أن تكون فردية أو أن تقول بالفردية، وهذه الفردية تقتضي العقلية أو النزعة العقلية، لأن هذه وحدها تتفق مع الحرية، والحرية هي الشخصية، والشخصية أساس الفردية .

فكان لا بد إذن أن توجد روح فردية تقوم مضادة للنزعات العامة التى كانت موجودة عند كل المفكرين والفلاسفة اليونانيين الذين سبقوا السوفسطائيين. فبدلاً من أن تكون الروح الموضوعية هي الأساس في كل نظرة في الوجود والحياة، يجب - أو هذا ما تقتضيه الروح الجديدة على الأقل - أن تكون النزعة الفردية هي المقياس الوحيد أو الأول والأخير في النظر إلى الأشياء . وفي هذا تغيير تام شامل لمجرى تطور التفكير اليوناي، إذ سينتقل به من الموضوعية إلى الذاتية.

٥٨٨

الوفسطائية

فالروح العامة لليونان في تطورها كانت تقتضي إذن إيجاد النزعة السوفسطائية، كما أن الفلسفة في تطورها في القرن السابق وفي القرن الخامس أيضاً كانت تقتضى بدورها هى ايضاً ان تفوم النزعة السوفسطائية، لأن تطورها كان بسيردائماً على أساس إدخال العنصر الاكا نى أو الإنسان بكلما له من خصائص، إلى جانب الطبيعة الخارجية. وقد ظهرذلك جليا إبتداء من إكسينوفان . إذ نجد عنده لأول مرة جرأة شديدة في إدخال الإنسان في البحث الفلسفي إلى جانب الطبيعة الخارجية ولو أن محاولة إكسينوفان لم تمتد في المدرسة الإيلية التي هومؤسسها، فإن هذه النزعة قد استمرت وظهرت بشكل واضح عند هرقليطس، الذي شاء أن يجعل من اللوغوس المبدأ الأول الثابت في الوجود. وفي هذا الشيء الكثيرمن إدخال الإنسان في التفكير الفلسفي، لأن اللوغوس او العقل هو خاصية الإنسان، فكأننا هنا انتقلنا من الإنسان إلى الطبيعة الخارجية، وطبقنا على هذه الطبيعة الخارجية ما نجده في الإنسان ٠ وأنكساغورس قد قال بمبدأ عقلي روحي، ولو أنه لم يستخدم هذا المبدأ على الوجه الصحيح من حيث إنه لم يتوسع في تطبيقه بل استعمله استعمالا ضيقاً كل الضيق. وأنبادوقليس قد جمع بين الطبيعة الأيونية وبين فكرة الخلاص كما هي عند الأورفيين، فجمع بين الطبيعة الخارجية من ناحية، والانسان وما يتعلق به من ناحية أخرى. ويلاحظ عند هؤلاء المفكرين جميعا أنهم كانوا يريدون أن يؤكدوا - ولو أن هذا التأكيد غير صريح - ثبات الروح الإنسانية أو الذات، من وراء كل التغيرات التي هي أساس الطبيعة الخارجية.

وعلى هذا النحو نشاهد أن الإنسان قد أخذ يدخل في دائرة تفكير لفلاسفة اليونانيين شيناً فشيئاً ، وكان لا بد لهم إذا ان يخطوا الخطوة الأخيرة، فيرتفعوا بالانسان فوق الطبيعة ارتفاعا تاماً، وأن يجعلوه مقياس الطبيعة بدلاً ما كانوا يفعلون من قبل حين جعلوا الطبيعة مقياس الإنسان، وأنكروا أن يكون للإنسان وجود مستقل قائم بذاته، مختلف عن الوجود الخارجي . ومن هنا كان من الضروري من حيث منطق التطور الروحى الفلسفي، أن تتجه الفلسفة الجديدة إلى الإنسان اتجاهاً كبيراً أو أن تجعله محور التفكير.

وإذا كان السوفسطائيون قد غالوا في هذه النزعة مغالاة كبيرة، فهذه هي الظاهرة الطبيعية التي تشاهد دائماً حينم نرى رد فعل ضد حركة من الحركات : فإن رد الفعل لا بد أن يكون فيه إفراط وغلو باستمرار. ولم يكن لسقراط وأفلاطون من مهمة

إلا ارجاع هذا الإفراط إلى وضعم الصحيح، وإعطاء كل من الطبيعة الخارجية والطبيعة الذاتية حقها. فلهذه الأسباب الثلاثة كلها، نستطيع أن نقول إن النزعة السوفسطائية كات نزعة ضرورية لا غفى عنها، لأن منطق التطور الروحي والحضاري يقتضيها في هذه الفترة بالذات من فترات التطور الروحي عند اليونان.

ويلاحظ من ناحية أخرى أن النزعه السوفسطائية لم تكن كما وصفناها فحسب، بل كانت أبضاً استمراراً لتيار قديم كان سائداً في العصر القديم وهو عصر هوميروس وهزيود، لكن هذا التيار اختفى وكان وراء التار في القرن السادس والقرن الخام، وهو التيار الذي كان يمثله الشعراء إبتداء من هوميروس ثم هزيود، ووجد صورة واضحة عند بندار، بل قد وجدت هذه النزعة ليس فقط عند هؤلاء الشعراء بل عند المؤرخين أيضاً وخصوصاً هيرودوتس وثيوكيديدس. فكأن هذه النزعة السوفسطائية لمتكن. شيئاً جديداً بل كانت استئنافاً لتبار كان قوياً في عصر من العصور، واستمر ينمو شيئاً لشيئاً دون أن يكون ظاهراً على السطح، حتى ارتفع به السوفسطايون على السطح وجعلوه التيار السائد , ولهذه الأسباب عدت لنزعة السوفسطائية معبرة عن خصائص الروح اليونانية.

وهنا نستطيع أن نعرض الأقوال التي فالها سئيتا في هذا الصدد. فهو يقول إن الخاصية الأولى من خصائص الروح اليونانية هي أها روح تؤمن بالتغير الدائم، ولهذا يعد هرقليطس المعبر الحقيقي عن هذه الروح. ومثل هذه الروح التي تجعل الأشياء في تغير دائم لا تقول بالحقائق الثابتة الموضوعية، بل من شأنها أن تجعل كل الحقائق نسبية ما دامت متغيرة؛ فهي نسبية إلى الأفراد. ومن ناحية أخرى هناك خاصية ثانية فهذه الروح وهي أغها روح عقلية. وهذه الروح العقلية تقتضي أول ما تقتضي الاستقلال في الفكر، ما يجعل الإنسان يحكم على الأشياء كما يراها هو لا كما يراها الناس، ولذا يجعل المحتمل صفة للحقائق، ويجعل التسامح فضيلة من الفضائل، لأن التسامح معناه إمكان الاختلاف، ومعنى إمكان الاختلاف أن الحقاثق ليست واحدة ثابتة، بل متغيرة بحسب الأفراد. وهذه النزعة العقلية تقوم على الفردية ما دامت تقوم على الاستقلال الفكري، وبالتالي على الحرية.

والخاصية الثالثة من خصائص ال وح اليونانية هي أنها تميل إلى النضال، وميلها إلى النضال يظهر أولأ في الحياة الجسمانية كما هو ظاهر في الألعاب الرياضية في بلاد اليونان.

السوفسطائية

٥٨٩

فلما انتقلت، في القرن الخامس، المنافسة من الميدان الجسماني المتصل بالصفات والفضائل الحربية إلى الميدان الفكري، أصبحت أداة المنافسة الكلام أو الخطابة، ولذا كان للخطابة المكان الأول في الحياة الروحية اليونانية .

وهذه لنزعات الثلاث هي الخصائص الرئيسية التي تميز النزعة السوفسطانية أجلى تمييز، وذلك ظاهر في فروع الحياة الروحية التي تناولها لسوفسطائيون ٠ فهي ظاهرة أولاً في الدين، ثم في الفن، ثم في الأخلاق والسياسة

أما في الفن فقد كان السوفسطائيون أول واضعين حقيقيين لعلم الخطابة. ولقد كان هذا العلم، العلم الذي يجب أن يوضع في هذا العصر من حيث أنهالممثلالحقيقي لروح ذلك العصر. وذلك لأن قول بروتاجوراس المشهور وهو أن الإنسان يستطيع أن يقول شيئين متعارضين يالنسبة إلى شيء واحد، لا يجد مجالاً لتطبيقه والتعبير عنه خيراً مما يجد في الخطابة. هذا إلى أن الروح العقلية التي كانت سائدة في ذلك العصروفي الروح اليونانية كلها بوجه عام، وجدت أحسن مجال لظهورها في الخطابة.

ثم إن روح النضال التي هي خاصية من خصائص الروح اليونانية تجد مجالاً لظهورها في آلخطابة، وذلك لأن النضال البدفي الذي كان سائدا في القرون السابقة لا بد أن يستحيل الآن إلى نضال روحي، وهذا النضال الروحي لا يمكن أن يتم إلا عن طريق الخطابة. فكأن البيان - أو الخطابة - يعبر من الناحية الأولى، أي من ناحية قول بروتاجوراس، عن الحقيفه، لان لحقيقة العقلية هي تناقض ونزاع؛ فما يعبر تعبيراً حقيقياً عن هذ التناقض والنزاع سيكون العلم الحقيقي . ومن أجل هذا لم ينظر السوفسطائيون إلى الخطابة بوجه عام على أنها جدل أو وسيلة للتأثير فحسب، بل وأيضاً على أنها العلم الحقيقي. فجورجياس يقول إن الخطابة هي الفن والفن الحقيقي، وليست أداة للتأثير فحسب. وعلى يدي جورجياس ترتفع الخطابة إلى مرتبة الفن الحقيقي، وإلى مرتبة الأسلوب الصحيح في التفكير وتبعا لهذا يقول إن المعرفة الحقيقية هي تلك الممثلة في الخطابة ٠ وعند ترازياخوس تصبح الخطابة نظرة في الوجود ونظرة في السياسة. وعند أنتيفون أصبحت الخطابة طب النفوس، والوسبلة الفي بيها ترتفع لحياةالباطنة ارتفاع كبيراً. وعند هبياس أصبحت لخطابة رتفاعاً يالروح ولطف فيها وسموا في التفكير العقلي . وعلى العموم يلاحظ أن الخطابة قد ارتفعت عند السوفسطائيين جميعاً إلى مرتبة العلم بمعناه

الصحيح، وذلك راجع خصوصا إلى أحوال البيئة من ناحية، وإلى مذهبهم من ناحية اخرى. اما البيئة فقد كات تطلب من التربية تكوين القادة، والقادة لا تكونهم التربية من أجل أن يرتفعوا إلى مرتبة القيادة فحسب، يل وأيضاً من أجل أن يحتفظوا بالقيادة. وارتفاعهم إلى مرتبة القيادة والاحتفاظ بها لا يمكن ان يتم إلا عن طريق التأثير في الناس، وا لتأ ثير في الناس لا يتم أحسن ما يتم إلا عن طريق الخطابة.

أما من ناحية نظرية المعرفة عند السوفسطائيين، فيلاحظ - كما سنرى فيما بعد - أن بروتاجوراس كان يؤمن بقول هرقليطس بالتغير الدائم، وكان يشك في المعرفة بوصفها معرفة كلية ثابتة موضوعية غير متأثرة بالأفراد. ومن هنا كان من الممكن أن تختلف الأشياء باختلاف الناظرين إليها، وهذا الاختلاف لا يعبرعنه أحسن تعبير إلا في الخطابة كما رأينا.

أما في الدين، فإننا نرى السوفسطاثيين قد حملوا حملة عنيفة على المعتقدات الشعبية كلها ٠ ويرى سئيتا أن من خصائص الروح اليونانية أنها لا تؤمن بالخوارق على الطبيعة؛ وحتى لو أن شيئا من هذا قد ظهر في أساطيرهم، فإن تطور الروح اليونانية كان يسير دائماً في هذا ا لإتجاه: أعفي نحو استبعاد الخوارق على الطبيعة من التفكير نهائيا. وتبعا لهذا لم يكن من شأن الروح اليونانية أن تؤمن بوجود حقيقة عالية على الطبيعة، بل كانت داناً تصور لاشياء في صورة طبيعية: أو بالأحرى في صورة إنسانية، لأن الطبيعة والإنسانية، خصوصا عند لسوفسطائية، شيء واحد ٠ ومن هنا كان على السوفسطائيين -وقد مثلوا هذه الروح اليونانية أجلى تمثيل-أن يثوروا على المعتقدات الشعبية التي يتمثل فيها هذا الميل إلى القول بوجود الخوارق وبوجود حقيقة عالية على الوجود, وكان التفكير لعقلي من ناحية أخرى، والنزعة الفردية التي تمثلت في الروح اليونانية والسوفسطائية خاصة - نقول إن هذه النزعة العقلبة كان من شأنها ان تدفع بالوفطابة إلى الحملة على لأساطير والتصورات الشعبية، وبالتالي، على الدين كما تتصوره عامة الشعب. وهم في هذا كانوا يسيرون في نفس التيار الذي سار فيه من قبل الفلاسفة والشعراء والمؤرخون اليونانيون من ميل إلى الهجوم على الدين،هجوماً عنيفاً من أجل إخراج التصورات الشعبية من هذا الدين . فالحملة التي قام بها السوفسطائيون على الدين لم تكن غير استئناف أو استمرار للحملة التي قام بها هرقليطس وديموقريطس من بين الفلاسفة، ويورب يدس وأرستوفان من بين الشعراء ، وهيرودوتس وتيوكيديدس من بين الرخين.

السوفطائية

فإذا ما انتقلنا الآن من ميدان الدين إلى ميدان الأخلاق والسياسة، وجدنا أن السوفسطائيين قد جالو جولة طويلة في هذا الميدان . والأساس في أقوالهم كلها في هذا الصدد بقوم على التفرقة بين الطبيعة و4001 وبين القانون ؟0لإ٧0. وقول بروتاجوراس: إن الإنسان مقياس كل شيء، قد أعطى الكثير من الاختلاف في أوجه النظر إلى هذه التفرقة. لذا اختلفت اراء السوفسطائيين في هذا الصدد وكان قسم منهم مغالياً متطرفاً، بينما القسم الآخر كان معتدلاً ٠ وعلى رأس رجال هذا القسم الثاني برتاجوراس نفسه . فبرتاجوراس يقول إن الإنسانية قد انتقلت من دور البربرية والوحثية إلى دور الحضارة والمدنية عن طريق القوانين، والنزعة الفردية نجد ما يكبح جماحها في القانون . ولكن هذا القانون ليس قانونا مفروضا من الخارج، وإلا لكان في ذلك قضاء على النزعة الفردية مع أنها النزعة الأساسية عند السوفسطائية . إنا هذا القانون هو ما يمليه الحس العام . ففيه إذن تتمثل الفردية، من ناحية، على أساس أن العقل الانساني هو الذي يشرعه أو أن الناس هم الذين شرعوه، ومن ناحية أخرى يتمثل فيه شي ء من تضييق الفردية، لأن هذا القانون يجب أن يخضع له الجميع أوكل المواطنين .

وفي الطرف الآخر نجد أولأ هبياس الذي قال بأن الطبيعة هي الصالحة وأنها الأساس، أما القانون فهوقيد وهوير يحمله الإنسان، ويجب أن يتخلص منه . وقد مثل الرأي الأول أيضاً أنتيفون، الذي أيد الرأي الذي يجعل القانون فوق لطبيعة، أو على الأقل لا يجعل ثمت تعارضاً شديداً بين الاثنين. أما الرأي الثاني، وهو امتطرف، فقد مثله في أحد صورة له رجلان : كلكلس وترازياخوس . فهما يقولان إن القوانين من صنع الضعفاء قد وضعوها للقضاء بها على الأقوياء، والدولة تبعاً لهذا من صنع الضعفاء، وهي شر، والطبيعة هي الخير، والسيرعلى الطبيعة هو الأساس. وذلك لأن النجاح في الحياة هو عينه أكبر درجة من الظلم، فالظلم إذن هو الشيء الطبيعي، أما العدالة فليست غير البطالة ٠الخنوع والضعة. ولهذا فإن الطبيعة منافية للقانون، والطبيعة هي التي يجب أن تكون المشرع لنا، أما القانون فلا يجب أن نخضع له والحرب والنزاع يجب أن يكونا العاملين الرئيسيين اللذين يحكمان الناس، والقوة هي مصدر كل شيء، وبها يمكن أن يبرركلشيء.

فإذا انتقلنا الآن من هذه المذاهب العامة التي قال ب السوفسطائيون في الفن والدين والأخلاق إلى مذاهبهم الخاصة

في الفلسفة، وجدنا أن هذه المذاهس ممتصلة خصوصا بنظرية المعرفة، فلنحاول لآن أن نعطي صورة عامة عن نظرية لمعرفة عند أشهر السوفسطائيين، فسقوذ أوذ إر السوفسطائيي قد بدأوا جميعاً من طرفين متعارصب، لب , رصلمو ء إلى نتيجة واحدة: فبعضهم قدبدأمن مذهب هرءلمولمر والبعض الآخرإبتدأ من مذهب برمنيدس ويجس علينا أن نتساءل الآن، كيف وصلا إلى نتيجة واحدة من هذين انطرفي المتعارضين ؟ فنقول أولاً إن السير الديالككي يقتضي أن يتم دلك، هذا من جهة، ومن جهة أخرى لم يكن يعني الوفطايين من سيرهم في هذين المذهبين المتعارضين أن يقولوا بأحد هذين امذهبي كما هو، لأنه ل يكن يعنيهم شيء فيما يتصل بالدراسة الطبيعية، نظرا لانصرافهم عن دراسة الطبيعة الخارجبة واتجاههم إلى الإنسان فلهذين السببين إذا كان طبيعيا أن يبتدىء السوفسطائيون من هذين الإبتداءين المتناقضين ,

بدأ بروتاجوراس من مذهب هرقليطس، لكنه لم يقا بكل هذا المذهب كاهو في كل جزئياته، بل قال فقط بالفكرة الرئيسية السائدة فيه وهي أن الوجود دائم السيلان، فقال بروتاجوراس إن الطبيعة كلها في تغير دائم وتغير بين أضداد، والضد الواحد ينتقل إلى الضد الآخردائماً وباستمرارولا يمكن أن يطلق على شيء صفة معينة بل الصفة المعينة الوحيدة للأشباء هي انتقالها من الضد وعلى هذا لا يمكن أن يقال عن الشيء إنههوكذا ، بل يقال باستمرار إنه يصير كذا، أي أن فعل الكينونة أو الوجود يجب أن يستبدل به فعل الصيرورة والتغير. وهذا التغيرعلى نوعين: فهناك فعل، وهناك انفعال. فهذا الشيء يفعل في الشيء الآخر، والشى ء الآخريكون منفعلاً بالشيء لأول ولما كان هذان اللفظان متضابفين، أي أن أحدهما لا ممكن أن يفهم أو يوجد من دون أنيوجدالاًخر، فمعنى هذا أنهمايوجدان معا باستمرار والإحساس يتم حينئذ دائماً أبداً بين الشيئين المتضادين اللذين هما في انفعال وفعل -فالإحساس إذن حين يدرك إنما يدرك هذا التضاد وهذا التغير المستمر، والإحساس تبعا لهذا متغير بتغير الأفراد؛ وذلك لأن كل فرد يتصور هذا التغيرمن وجهة نظره الخاصة وعلى طريقته، والصفات المختلفة هي من وضع لإنسان ولا مكن أن يقال إن لها وجودا حقيقيا في الخارج، وتبعا لهذ فالمعرفة الحسية هي معرفة متصلة بالأفراد ومعتمدة عليهم. ومن هنا قال بروتاغوراس قولته المشهورة : الإنسان مقياس كل شى ء ، ما هو موجود يوصفه موجوداً، وما هوغيرموجو: بوصمم غيرموجود.

السوفسطائية

٥٩١

والمشكلة التي تنتج الآن أمامنا هي : ماذا يقصد بروتاغوراس من قوله لإنسان هنا ؟ أيقصد به كل فرد على حدة، وتبعاً لهذا تكون الحقية: مختلفة باختلاف الأفراد الواحد عن الآخر ؟ أم يقصد بالإنسان لإنسانية، وتبعاً لهذا يكون الإنسان مقياس الحقائق بمعفى أن الحقائق من وضع عقولنا نحن، وأن ليس لها وجود حقيقي في الخارج بمعفى الأشياء في ذاتها فهذا فوق نطاق العقل ؟ على كل حال يكون مذهب بروتاغوراس على هذا التفسير هو مذهب المثالية المتعالية اه)30520030^1 أي مذهب كنت.

الواقع أن الاختلاف بين هذين التفسيرين عند المؤرخين كبير فمنهم من يقول بالتفسير الأول وهو أن بروتاغوراس لم يكن يقصد من الانسان غير الأفراد الذين تتكون منهم الإنسانية، وعلى هذا فالحقائق مختلفة بالنسبة لكل فرد على حدة؛ ومن أنصارهذا الرأي اتسلروهويعتمد في هذا اعتماداً كبيراً على أفلاطون وكيفية سرده لمذاهب السوفسطائيين أما القول الثاني فهوقول أكثر المؤرخين الذي جاءوا بعداتسلر،كما أنه رأى جوزبه سئيتا. ونظن نحن أن هذا الرأي الثافي هو أرجح الرأيين.

ننتقل بعد هذا إلى جورجياس فنجد أنه قد عرض مذهبه في كتاب كتبه عن الطبيعة، أو اللاوجود، فقال فيه بقضايا ثلاث : الأولى أنه لا شيء، والثانية أنه حتى لو وجد شيء، فإن هذا الشيء لا يمكن أن يدرك، والثاكثة، حتى لو أمكن إدراكه فإنه لا يمكن أن يعبر عنه ويوصل إلى الغير. ويسوق لتأييد هذه القضايا حججاً كثيرة، وهو في هذا متأثر بالإيليين وخصوصاً بطريقة زينون في المحاجة. أما القضية الأولى وهي أنه لا شيء موجود فيثبتها كبما يلي: إذا كان هناك شيء ما، فإن هذا الشى ء إما أن يكون موجوداً وإما أن يكون لا موجوداً، وإما ان يكون الاثنبن معاً فإن كان لا موجودا، فإن الشيء الواحد سيتصف بصفة ونقيضها، وهذا محال : وذلك لأن اللاوجود معناه عدم الوجود كما أن معناه من ناحية اخرى - ما دمنا نقول إن شيئاً ما موجوداً هو لا موجود - أن اللاوجود موجود، وعلى هذا فسيتصف الشيء بصفة ونقيضها، وهذا محال. ثم إنه إذا أعطينا الوجود للاوجود فإن ذلك يتم بأن نسلب الوجود وجوده لكي نضع هذا الوجود للاوجود، وهذا محال لأنه لا يمكن أن نسلب عن الوجود الوجود، وإذا فهذا الشيء لا بمكن أن يكون لا موجوداً

وثانياً لا يمكن هذا الشيء أن يكون موجوداً: لانه إذا

كان موجوداً فإنه يلاحظ أولاً أنه إما أن يكون قديماً، وإما أن بكون حادثاً. فإذا قلنا إنه حادث فمعنى هذا أنه حدث عن شيء آخر. وهذا الشيء الآخرسيكون العدم، فيكون الوجود إذن ناشئا عن العدم، وهذا مستحيل. هذا إذا تصورنا أن هذا الوجود قد نشأ عن اللاوجود؛ أما إذا قلنا إنه نشأ عن الوجود فهذا أيضاً مستحيل لأنه كيف يصير الوجود وجوداً ؟ وذلك لأن التغير معناه الانتقال من حالة إلى أخرى . هذا وإذا قلنا إنه حادث عن لا وجود، وهذا اللاوجود موجود، فإننا سنقع إذن في نفس الخطأ من حيث إن هذا اللاوجود الموجود سينطبق علبه نفس الكلام عن الوجود بحسبانه صادراً عن الوجود . وإذا كان قديماً فمعنى هذا أنه لا إبتداء له وما ليس له إبتداء كما لاحظ مليسوس هو اللامتناهى، واللامتناهى لا يمكن أن يوجد في غيره، وإلا لم يكن لا متناهياً ، كما لا يمكن ان يوجد في نفسه لانه لا بد من التفرقة بين الحاوي والمخوي، وعلى ذلك فإذا كان الوجود قديما فإنه سيوجد لا في محل (في غيرمكان) والشيء الذي يوجد لا في محل لا يمكن أن يكون موجودا، وعلى ذلك فسواء اكان هذا الشيء موجوداً قدياً ام محدثاً فإنه لا مكن أن يكون موجودا.

ثانياً : يلاحظ أن الوجود إما أن يكون واحداً أومتعدداً، فإذا كان واحداً فمعنى هذا انه وحدة، والوحدة هي الشيء الذي ليس له مقدار مادي، وما ليس له مقدار مادي هو لا شىء ، فإذا كان الوجود واحداً فلن يكون إذن شيئا . وبعد هذا فإذا كان الوجود متعدداً، فمعنى أنه متعدد أنه مكون من وحدات، والوحدة كما قلنا لا شىء . وعلى هذا فسيكون الوجود مكوناً من عدة ،لا شيء»، أي من ا شيء ايضاً

ونرجع إلى الافتراض الثالث وهوأن الشيء وجود ولا وجود معا، فنقول إنه لما كان هذا الشىء لا يمكن أن يكون لا وجودا، فإنه بالأحرى لا يكون الاثنين معاً، وبهذا يثبت بطلان الفرض الثالث : ومن هذا كله يثبت يطلان القول بأن شيئاً ما موجود - وتبعا لهذا فلا شيء موجود.

والقضيتان الأخريان أسهل في البرهنة عليهما من القضية الأولى. ويبرهن جورجياس على القضية الثانية بقوله إن الوجود او الموجود غيرمعلوم، وإلا لكان كل معلوم موجوداً، وحيثذ يكون الخطأ مستحيلاً؛ ولما كان الخطأ موجوداً وممكناً، فمعنى هذ أن الموجود غير معلوم، وإذا كانت الحال كذلك فكيف يمكن الموجود أن يكون معلوماً ما دام الاثنان مختلفين كل الاختلاف؟

٥٩٢

السوفسطائية

والقضية الثالثة وهي أنه حتى لوفرضنا ان شيئاً ما يمكن أن يكن معلوماً فإن هذا العلم لا يمكن أن ينقله لإنسان إلى إنسان آخر - هذه القضية يبرهن عليها جورجياس بقوله : أولأ : كيف يمكن الأصوات أن تعبر عن المرئيات مع أن الأصل أن لكلمات أو الأصوات تنثأ عن المرئيات ؟ وثانيا : حتى لو سلمنا جدلاً بصحة هذا القول، وهو أن المرئيات يمكن أر توصلها إلى إدراكنا الأصوات، نقول إن ذلك معناه أن الشيء الواحد يعجد في مكانين ختلفين في ان واحد) وذلك لأن السامع والقائل إن كان يريد هذ لأخير ن يلقي شيئاً إلى الأول) فمعنى هذا أن الشيء الواحد موجود معا عند السامع وعند القائل، ولما كان من المستحيل أن يوجد نفس الشيء في مكانين ختلفين في آن واحد، فالفرض الأصلي باطل ) وتبعاً لهذا فإيصال المعلومات إلى الغير مستحيل. وبهذا تثبت القضية الالا٠

وعلى الرغم مما في هذه الحجج من مماحكات جدلية لفظية، فإنه يلاحظ أنها قد إبتدأت - وخصوصا في القضية الأولى - من مذاهب سابقة أظهرها مذهب الإيليين في الوجود، كما أنها تأثرت بحجج زينون مما يمكن مشاهدته بوضوح إذا نظرنا إلى الطريقة التي أوردت بها هذه الحجج. وعلى كل حال فإننا نستطيع أن نقول إن الغرض الأصلي الذي راد السوفسطائيون أن يصلو إليه من هذا هو أن يقضوا على العلم كما وصل، لا على العلم بوجه عام، ومن هنا يجب أن نفهم شكهم على أنه شك هدام من أجل البناء ) وليس شكا هداما من أجل لإنناء . وبهذا يكون شكهم غتلفاً عن شك الشكاك في العصور المتأخرة.

وقد نظرنا - في أول كلامنا عن النزعة السوفسطائية -نظرة عامة إلى هذا المذهب ونستطيع أن نضيف هنا إلى ما فلناه من قبل أن هناك كثيرأ من الشبه بين النزعة السوفسطائية وبين عصر النهضة ٠ والواقع أن هاتين النزعتين متواقتتان - على حد تعبير اشبنجلر- فيكلمن الحضارتين اليونانية والأوروبية، وذلك لأن أوجه الشبه بين الحركتين أو النزعتين كثيرة، فنزعة عصر النهضة تسمي نزعة إنسانية لأنها أرجعت المعايير للإنسان واحتفلت له احتفالاً شديداً . وكذلك فعل السوفسطائيون : إذ نقلو البحث من الطبيعة الخارجية إلى الإنسان وأرجعوا مصادر القيم - سواء ما كان من هذه القيم متصلاً بالحق وما كان متصلاً بالجمال والخير- إلى الإنسان نفسه بحسبانه المقوم الأكبر والمشرع الأول والأخير. بل إن فى عناية رجال عصر النهضة

بالآثار الأدبية القدية لما يشبه تمام الشبه عناية السوفطائيين بالآثار الأدبية اليونانية وباستئناف التيار الأدبي الذي كان سائداً في بلاد اليونان من قبل، ولهذا نراهم عنوا عناية كبيرة بالناحية الشكلية كالخطابة والنثر؛بل إن لنثر الحقيقي في بلاد اليونان لم ينثأ إلا في عصر السوفسطائيين. كذلك الحال عند رجال عصر النهضة، متازو بالنهضة الأدية خصوصاً فيما يتعلق بالخطابة والنقد والنز ) وإن كان الكثير منهم قد اتجه نجاهاً شعرياً، فإن أمنال بنرزكه (١٣٠٤ - ١٣٧٤) نستطيع أن نجد له مثالأ و نظيرا في حركة السوفسطائية. ومنهذانرى أن التشابه كبيربين كلتا النزعتين. وإذا كانت حركة السوفطائيين مقدمة لعصر قيام المذاهب الفلسفية الشامخة في بلاد اليونان فإن الحال كان كذلك أيضاً في عصر النهضة : إذ كان رجالها مقدمة لقيام المذاهب الفلسفية الشاخة في الحضارة لأوروبية

بيد أنه يلاحظ مع هذا أن حركة السوفسطائيين أقرب شبها بالقرن الثامن عشر منها بعصر النهضة. فكلا العص ين، ونعني بهما القرن الخامس قبل الميلاد بالنسبة للحضارة اليونانية، والقرن الثامن عشر بعد الميلاد بالنسبة للحضارة الأوروبية -نقول إن هذين القرنين يتصفان بصف ت متشابهة . وهذه الصفات تتلخص في كلمة واحدة هى : النوير. فإن خصائص نزعة التنويري0الا5٣»٢لا٨ هي أولاً: الإيمان بالتقدم امستمرنحو الغاية الأصلية للإنسانية، وثانياً جعل العقل لحكم لمطلق في كل شيء وثالثا؛ إخضاع كل العقاند والتقاليد الموروثة لحكم العقل، ورابعا: النزعة الفردية لتي تجعل من الفرد من حيث حريته واستقلاله الأساس لكل تقويم، سواء أكان ذلك في الفن أم في الأخلاق أم في العلم أم في الدين، وهذه الخصائص كلها نجدها واضحة في كلا القرنين المتواقتين، ممايدفعنا إلى القول بأن فرن السوفسطائبة هو فرن التنوي في الحضارة اليونانية.

ولم نذكر الشبه بين عصر النهضة وبين القرن الخامس قبل الميلاد إلا لأن هناك بعض الشبه خصوصا من الناحية الأدبية. أما التواقت الحقيقي من الناحية الحضارية فهو بين عصر السوفسطائيين وعصر التنوير في الحضارة الحديثة أي القرن الثامن عشر الأوروبي.