الأفلاطونية المحدثة والمسيحية
الذي يحتاج إلى النظر الدقيق، هو الصلة بين المسيحية وبين الأفلاطونية المحدثة. فالناس مختلفون بإزاء هذه المسألة اختلافاً شديداً ، خصوصاً وأنها مسالة شائكة تتصل بنشأة المسيحية خاصة، كما هي معروضة في كتبها المقدسة. فالبعض يقول إن المسيحية هي التي أثرت كل التأثير في نشأة هذه الفلسفة الأفلاطونية. هذا إلى أنه، خصوصا ابتداء من القرن الرابع، كانت الفلسفة الأفلاطونية مختلطة كل الاختلاط بالدين المسيحي، حتى إنه من بين رجال الفلسفة الجديدة، كان هاك كثير من رجال الدين المسيحي كاوريجانس مثلاً، وكل هذا ينهض دليلاً في نظرهم على تأثر هذه الفلسفة بالمسيحية، ولكن هناك رأياً آخر يمثل الرأي العلمي الصحيح وهو الذي يعرضه لنا تسلر فيقول : إن الأحوال التي نشأت فيها المسيحية، وتلك التي نشات فيها الأفلاطونية المحدثة، احوال متشايهة أو واحدة، فقد كان العالم اليوناني الروماني، إبان ذلك العصر، قد توزع القلق نفوس كل الذي يقطنون به، إذ فقدت الممالك الرومانية استقلاقها، ولم يعد ثمة شعور بالحرية ولا بالاستقلال الذاتي وأصبح الناس من أجل هذا يائسين من كل شيء، ويطلبون الخلاص بأي ثمن، أو بعبارة أدق بأرخص الأثمان. ولهذا كان لا بد أن تلعب المذاهب القائلة بالخلاص الدور الأكبر في تشكيل هذا الاتجاه الجديد، وكانت الأحوال الروحية التي يعانيها الناس في ذلك العصر من شأها أن تدفع إلى إيجاد مذاهب تدعو إلى التخلص من الوجرد الخارجي، من حيث ان هدا الوجرد الخارجي شر لا خير فيه ، ولا حاجة إلى التعلق به أدن تعلق، بل يجب على الإنسان أن يعزف عزوفأ تاماً عن الوجود الخارجي المادي، وينشد الخلاص بعد هذا في حقيقة دينية عليا، يففى فيها الإنسان، ويجعل غايته في الحياة هذا الفناء .
لكن إذا كانت الأحوال والظروف التي نشأت فيها كل منا المسيحية والأفلاطونية واحدة متشابهة، فليس معى هذا انه لا بد ن يؤثر الواحد في الآخر، فقد يكون الحق وحده الدافع لإيجاد هذا التشابه بين كل من المسيحية والأفلاطونية المحدثة. وإننا لنجد في الواقع أن هناك اختلافاً بيناًحتى في هذه الأشياء المتشابهة بين المسيحية والأفلاطونية المحدثة. فالمسيحية وإن كانت قد نشدت، كالأفلاطونية سوا، بواء؛ الفناء في حقيقة عليا يجب على الإنسان أن يعتمد عليها، بل ويففى فيها، فإنها فهمت هذه الحقيقة العليا على أساس عيني تاريخي ، فربطت هذه الحقيقة بأحداث تاريخية معينة وأشخاص معينين. أما الأفلاطونية المحدثة فقد نظرن إلى المألة من الناحية العقلية الصرفة، واقامت من أجل هذا مذهبها في جومن الحرية التى لا تتعلق بفرد او بحادث. ثم إننا نجد الاتجاه في المسيحية مفاداً للاتجاه في الافلاطونية المحدثة فيما يتصل بالصلة بين الته وبين الفاني المحسوس، فالمسيحية تريد أن تنزل بالت إلى مستوى الفاني بأن تجعل «الأول» أو الته يلبس ثوب الإنسانية، أي يلب ثوب الفناء.
والحال على العكس منهذا ي الأفلاطونية المحدثة: فإغ^ا تبدأ من الإنسان، كي ترتفع به إلى مقام الألوهية، فالسبيل إذا صاعد بالنسبة إليها، هابط بالنسبة إلى المسيحية. ومن أجل هذا شعر الأفلاطونيون المحدثون منذ البدء بما هنالك من اختلاف كبير بين اتجاهات المسيحية واتجاهاتهم هم أنفسهم، حتى إننا لنجد ان كثيراً من الجهد قد انفقه هؤاء الأفلاطونيون المحدثون من أجل الرد على المسيحية. وإنا لنجد هذا ظاهراً منذ اللحظة الأولى، إذ نجده عند امونيوس سكاس، وقد كان مسيحياً، فيما يقال، أول الأمر، ثم اتقل من المسيحية إلى الأفلاطونبة المحدثة وبالتالي إلى الشرك. ويكاد يكون المجهود الذي بذله الأفلاطونيون المحدثون، خصوصاً فيما ورد لنا عن فورفوريوس، منجهأ الى الدفاع عن الشرك ضد المسيحية، حى إنه ليمكن أن يقال إن الأفلاطونية المحدثة قد كونت أصول مذاهبها كنتيجة لردها على المسيحية . ثم إن الاختلاف يتضح كذلك في هذا التشابه الذي كثيرا ما يجاول أن يقول بوجوده المؤرخون بين فكرة الثلاث في المسيحية، وبين ما نجده من التثليث في الأفلاطونية المحدثة، فكما يقول جيل سيمرن في كتابه عن «تاريخ مدرسة الاسكندرية»» (في جزئين؛ باريس سنة ١٨٤٥ ): ليس هناك من تشابه !لا في اللفظ فحسب بين التثليث المسيحي والأقانيم الثلاثة عند أفلوطين، وذلك لان أفلوطين لا يقول بأن الاقانيم الثلائة هي هي الله، وإنما يجعل هذه الأقانيم منفصلة عن المبدع الأرل أو الواحد. ثم إن الصفات التي تضاف إلى الأقان يم المركبة للتثليث المسيحي، تختلف اختلافاً بينا فيما يتعلق بنسبتها بعضها إلى بعض عن تلك الي تضاف إلى الأقانيم عند أفلوطين ، فليس ثمة تشابه في الواقع إلا في الالفاظ فحسب، وإن كنا سنجد فيما بعد أن فكرة التثليث بعد أفلوطين بعهد طويل قد تأثرت عند المسيحية بفكرة الأقانيم الأفلوطينية، ولكن ذلك كان متأخراً فلا يمكن أن يكون داخلاً في موضوع كلامنا، وهو تأثير المسيحية في نشأة الأفلاطونية المحدثة.