الأخلاق عند أرسطو
تمتاز الأخلاق اليونانية مهما تعددت الصور التي عرضت على أساسها، بأنها أخلاق سعادة لا أخلاق واجب، على العكس تماماً بما عليه إلأخلاق المحدثة، خصوصاً ابتداء من كنت. فإذا كانت هذه الأخلاق الأخيرة تضع قواعد يجب على السلوك الانسافي أن يسير وفقاً نها، فتقول له: ««افعل هذا لأنه واجبك»! ، فإن الأخلاق الأولى تقول له: «إفعل هذا لأنه يؤدي إلى سعادتك«! فالخير والسعادة في الأخلاق اليونانية بوجه عام شيء واحد ، وأرسطو من اوضح الممثلين للأخلاق ليونانية في هذا الصدد، فهو يقول - واللغة اليوناتية تساعده كثيراً في هذا القولد إن فعل الخير والنجاح وتحصيل السعادة كلها ألفاظ متعددة تدل على معنى واحد فحب؛ إلا أنه اذا كانت الغاية قد تحددت - وهيالسعادة - ، فإن ماهية هذه السعادة لم تتحدد بعد. وذلك لأن الحياة تنقم إلى ثلاثة أقسام رئيسية : الحياة الحسية وهي حياة اللذات المستمرة، والحياة السياسية وهي حياة تحصيل القوة وممارسة القوة، والحياة النظرية وهي حياة التأمل والنظر والتفكير الخالص. وتبعاً لهذا التقسيم يجب ايضاً أن تقم السعادة إلى انواع، فهناك سعادة بالمعفى الحي، وأخرى بالمعفى السياسي، وثاكثة بالمعفى النظري. ولهذ يجب ان نبدأ بالتمييز بين ماهية السعادة الحقبقية في كل هذه الأحوال؛ وقد رأينا في الفصل السابق ان ارسطو ينظر إلى اللذة نظرة أخرى غير النظرة المألوفة، فيقول: إن اللذة هي تحصيل كمال الفعل، أي انها الفعل وقد وافق طبيعة الأشياء. والسعادة عند أرسطو ليست شيئاً آخر غير هذا، فهي بالنسبة إلى اي شيء: أن يحقق كمال الفعل بالنسبة إلى ذاته.
إلا أن أرسطو ينظر هنا دائما إلى الإنان، ولذا يقول إن السعادة هي اللذة الناشثة من تحصيل الإنسان لكمال الفعل المقوم لطبيعته، وهكذا نجد أن ارسطو قد جعل اللذة هى السعادة. ولكن ليس معنى هذا أن أرسطو كان تجريبياً في الأخلاق إلى هذا الحد البعبد، فإنه يعطي اللذة هنا معنى آخر مختلفاً عن المعفى المالوف الذي من أجله ثار أفلاطون وثار الكلبيون على اللذة، ودلك لأنه ينظر إلى اللذة نظرة سكونية باعتبارها كمالاً أي تحققاً بالفعل. فاللذة إذن تخرج من كل صيرورة، وهي ليست حركة مستمرة تنطوي على تغير داثم، وإنما هي حالة سكون مطلق، كحالة سكون الصورة بعد أن تتحقق على الوجه الأكمل بالنسبة إلى شيء، وفي هذ اعلان لما ستكون عليه الأخلاق بعد ذلك كما سيضعها أبيقور، فإن هذا الأخير قد انتهى ايضاً إلى نوع من اللذات أقرب ما يكون إلى الانفعال السلبي فبما يسميه باسم «الأتركسيا» أي الخلو من كل تغير وانفعال. وهذا يناقض ارسطو الأخلاق الأفلاطونية التي عارضت اللذة او «الملاتم» على اساس أن اللذات متغيرات وأغها من عالم الصيرورة والتحول المطلق.
إلا أن اللذة مفهومة على هذا النحو، لا يمكن أن تتحقق في الواقع إلا بالنسبة إلى كائنات من شأنها الأ تتغير هذا التغير في هذه الأحوال، ولهذا سنرى بعد فليل أن أرسطو سيضطر إلى العدول عن ميدا اللذة البسيطة الساذجة، التي هي أترب ما تكون إلى اللذة القورينائية، لكي يقول بلذة أخرى قريبة جداً من الخير الأفلاطوفي. وذلك أن أرسطو حينما نظر إلى اللذة واعتبرها تحصيل الكمال الممكن بالنسبة إلى الكائن، أوإدراك الملائم بما هو ملائم، قال بعد ذلك إن هذه اللذة هي كالتاج الذي يعلو هذ ا النشاط، أي أنها في هذه ا لحالة ستكون شيئاً مضافاً عالياً بالفعل على النشاط أو لفعل الذي هي تاجه. وفي هذا تقترب كثيراً من الخير الأفلاطوني الذي هو عال على الموضوعات . ومع ذلك نجد ارسطو يتناقض تماماً فينظر إلى اللذة وكأنها الخير الأسمى، ولهذا نراه يشيد كثيراً باللذات الحية المألوفة مثل الثروة أوالشهوات المختلفة ولكننا نجده من ناحية اخرى يرتفع فوق هذا التصور للشهوات، لكي يرجع الى التحديد الجديد للذة باي خلو من كل حركة وأنها سكون مطلق، بمعى أنها كمال لم يبق فيه أثر لقوة. فيقول في هذه الحالة: إن الخير الأسمى لا يمكن أن يتحقق إلا في الحياة النظرية، لأنه تحقيق لأعلى درجة من درجات الكمال؛ والسكون بالنسبة إلى الانسان، إنما يتم في هذه الحالة الأخيرة، حالة الحياة النظرية، فبينما تراه في البدء تجريبياً حسياً يقول بال لذات الحسية المعتادة، نراه في آخر مذهبه يقول بلذة نظرية مجردة، لا صلة لها في الواقع باللذة الحسية المفهومة عادة، ولهذا نجده ينظر إلى امثل الأعلى للإنسان، أو الإنسان الكامل، متسائلاً: هل هو هذ الذي عذب وصلب على آلامه، أم هوهذ الذي تمتع بكل لذائذ الحياة؟ فيقول من ناحية: إن مثل هذا الرجل المعذب لا يمكن أن يكون المثل الأعلى للحياة الخلقية، لأن ها هنا خلواً من اللذات . ولكنه يعود فيقول من ناحية أخرى بشى يقرب منهذا، إذ يذكر أن معنى اللذة ليس دائما «الملائم»، وإنما معناها أن يحقق الإنسان فعاى؛ ومن هنا فقد يحيا الإنسان حياة مليئة بالآلام، ولكن هذه الآلام نفسها تنتهي بسعادة هي عينها لسعادة في تحقق هذا الفعل. فإذا كان كل فعل جالبأ، في النشاط الذي يؤدى فيه، الآلام، فيجب ألا تعد هذه الآلام مضادة للذة أو «الملائم»، بل ما دامت تحقيقاً لفعل، فهي جديرة إذن أن تسمى بلذة، وهي في هذه الحالة كالزهرة التي تأقي بعد تطور طويل. وهكذ يتضح لنا أن موقف أرسطو متذبذب بين كلا المثلين الأعليين السابقين، فيما يتصل بمسألة اللذة، وإن كان أميل إلى الأخذ بالتصور المعنوي للذة.
وهذا التصور المعنوي أو التجردي للذة، يقرب كثيراً بينها وبين اللعب، ولهذا نجد أرسطو يقول: إن تحقيق لفعل غاية في ذاته، فهو كاللعب سواء بسواء، لا يقصد منه إلى تحقيق غاية، وإنما ل لنشاط المبذول في اللعب هم الغاية من اللعب. ولا يعترض على هذا بكون الأطفال هم الذين يلعبون، فإن الحالة تختلف تماماً في كلتا الحالتين، إذ نجد أن اللعب - في حالة الطفل - قد نظ إليه بأكثر مما هو عليه في الوقع ، فتصورت له غايات ليست غاياته الحقيقية.
تلك إذن هي اللذة؛ فهي-كماقلنا-تحصيل كمال الفعل. ولكن هذ معناه أيضاً الفضيلة؛ إذ الفضبلة هى في أن يحقق الانسان الكمال الممكن بالنسبة إليه ٠ فلا بد إذن من دراسة الفضيلة. ولكن أرسطو حينيا يأخذ في دراسة الفضيلة، ويشرع في تحديد ماهيتها على وجه الدقة، لا يبدو هنا منطفياً كثيرأ مع نفسه، نتسلا عن أنه لم يفعل في هذا الباب الشيء الكثير، كما فعل من قبل رجل مثل أفلاطون، فهو لم يعن بترتيب الفضائل ترتيباً تصاعدياً -كما فعل أفلاطون - ، ولم يميز بين الفضائل بعضها وبعض إلا تمييزاً عاماً وهذا التقسيم العام يرجع إلى قسمين رئيسيين بحسب طبيعة الفعل الذي يمكن أن يقوم به الإنسان - كما رأينا في حديثنا عن الرغبة في ختام الفصل السابق -؛ فإما أن يكون الفعل عاقلا - أو معقولاً - وهو الذي يصدر عن دوافع عقلية، وعن علم بأن أشياء يجب أن تؤدى وهي واضحة عن طريق البرهان، وفضائل هذا النوع من انفعل فضائل نظرية عقلية؛- وإما أن يكرن لفعل لا معفولاً، وهو لذي يصدر عن الشهوات التي لا تخضع في اندفاعها وتحققها للعقل؛ ولو أن من الممكن بعد ذلك أن تخضع له. فمثال النوع الأول الحكمة والفطنة وما يتصل بذلك من الفضائل النظرية، أي المتعلقة بالتأمل والفكر؛ ومثال النوع الثاني العفة والعدالة. . . الخ.
ويلاحظ في هذه الحالة الشانية أننا ننتقل في الواقع من أحوال متعارضة، ونستخلص منها حالة متوسطة. وهذا هو الطابع الأصلي للفضيلة عند أرسطو، فالفضيلة عنده نوع من الوسط بين طرفين: أحدهما إفراط، والآخر تفريط . فمثلاً فضيلة كالشجاعة هي وسط بين إفراط هو التهور، وتفريط هو الجبن، وفضيلة كالكرم أو السخاء هي وسط بين إفراط هو التبذير وتفريط هو التقتير. . . الخ. وفكرة الوسط هذه فكرة غامضة جد؛ في مذهب أرسطو، لأنها تثير كثيراً من المشاكل من ناحية، ولا يمكن تطبيقها بسهولة في كل الأحوال من ناحية أخرى. فهي تثير مشاكل اولاً فيما يتعلق بطبيعة هذا الوسط، فإن الملاحظ دائما أن الوسط ينظر إليه باعتباره هو الآخر نقصاً بالنسبة الى الطرف المفرط، كما يعتبر إفراطاً إذا نظر إليه بالنسبة إلى الطرف المفرط فكيف يتحقق هذا إذن؟ أي كيف يتهيؤ لم أن يجمع بين هاتين الصفتين امتعارضتين؟ وكيف يمكن أن يكون الفضيلة على الرغم مما فيه ض تعارض، خصوصا إذا لاحظنا أن المتضادين هما - كما يعرفهما أرسطو في المنطق - الطرفان اللذان بينهما غاية الخلاف؟ وكيف يمكن، إذا نظرنا إلى الوسط نظرة رياضية، أن يقال إنه أعلى درجة من هذين الطرفين؟ الواقع أن سبيل التخلص من هذه المشكلة قد يكون بأن يقال إن التضاد من الناحية المنطقية ليس هو التضاد من الناحية الأخلاقية، فالوسط في حالة الأخلاق لن يكون الدرجة التي فيها نقص بالنسبة إلى كمال، وإفراط بالسبة إلى نقص، بل سيكون القمة العليا والدرجة الأولى.
ولكننا نظن أن هذا التخلص لا يؤدي إطلاقاً إلى حل المشكلة، فهو تخلص لفظي لا يغني شيثاً ، قإما أن نفهم الوسط بالمعى المعروف وهو الوسط الرياضي، وإما أن لا نفهمه بهذا المعنى، وحينثذ فلنا أن نسميه ما شئنا من الأسماء. أما الوسط بهذا المعى الذي يقول أرسطو إنه ينتهي إلى أن يكون القمة، أي الطرف الأعلى الحاصل على أكبر درجة، فلا يمكن أن يفهم -فيهذه الحالة - ، في أي شيء هو يفترق عن الافراط.
هذا من ناحية تحليل جوهر الوسط؛ أما من ناحية تعيين هذا الوسط فالمشكلة أشد عسراً؛ ذلك لأننا نجد أنه لا يمكن أن يتحدث عن وسط في الأشياء التى هى شر بذاتها. فالزنا مثلا او الفحش او السرقة. .. الخ لا يكن أن نتحدث فيها عن وسط مطلقاً، وإلا فما هما الطرفان اللذان تعتبر السرقة أو الزنا وسطاً بالنسبة إليهما؟ وكذلك الحال بالنسبة إلى الأشياء التيهيخير بذاتها، مثل النظر العقلي الصرف؛ فلا يمكن أن يقال عنها إنها وسط بين رذيلتين إحداهما تفريط في الفكر، والأخرى إفراط فيه , ففي هاتين الحالتين؛ أي في حالة الأشياء التي هي خبر بالذات، وفي حالة الأشياء التيهي شربالذات، لا يمكن ان نعين الوسط، بل لا يمكن إطلاقاً ان نتحدث عن وجود وسط بمعنى الخير. وهكذا نجد أننا قد وصلنا إلى مأزق فيما يتصل بتعيين فكرة الوسط. ويظهر هذا اوضح حينما يراد تحديد المسافة التي يشغلها الوسط بإزاء كل من الطرفين، وهذا يرتد بنا إلى نف طبيعة الوسط، وهل هو وسط رياضي أو وسط غيررياضي، أي لا وسط إطلافاً. فمن هنا يتبين أن فكرة الوسط عند أرسطو فكرة غامضة، إن لم تكن متناقضة؛ فلنضفها إلى سلسلة المتناقضات التي كشفنا عنها، خاصة فيما يتصل بتحديد ممفة اللذة وصلتها بالخير.
ولا يعنى أرسطو بالكلام عن الفضائل المفردة، وإنما يكرس بعض الفصول لفكرة العدالة، وما يعرف عند الأقدمين باسم الصداقة. أما العدالة، فكلامه فيها متأثر كثيراً بكلام أفلاطون. واشهر ما لأرسطو في هذا الباب، التقسيم المعروف للعدالة إلى عدالة تمييزية» وهي التي يعطى بها لكل إنسان بحسب مميزاته، وإلى «عدالة تعويضية» وهي التي يعوض فيها ما هنالك من فروق اقتضتها العدالة التمييزية، وأخيراً إلى «عدالة متبادلة» ويقصد بها أرسطو تبادل الناس الخيرات أو المنافع بعضهم مع بعض، فهي أقرب ما تكون إلى العدالة الاقتصادية. أما الصداقة، فينظر إليها أرسطو نظرة فكرية عقلية صرفة في أغلب الأحوال، فهي عنده في الأصل التفكير - والنظر - الخالص في الذات. وهذا هو الشيء الجدير بالنظر في هذا الباب، ونعني به أن أرسطو يجعل الأثرة في مرتبة الفضيلة العليا، ولكنه يفهم الأثرة هنا باعتبارها حب لانسان لذاته باعتباره فاضلا أما حب الإنسان لذاته باعتباره شريراً، أي حب الإنسان للجانب الشرير منه، فلا يعتبره أثرق كما يفهمها أرسطو. وهو يلاحظ أن الإيثار هو في الواقع أثرة لاعلى درجة، فهو ليس شيئاً آخر غير نقل الأثرة من الذات إلى الغير. وفي هذه الحالة ايضاً، لا يحقق الإنسان في الواقع - إلا مآرب أثرته وذاته الخاصة. ويلاحظ أن الذي يفعل الإيثار أعلى درجة من يتقبل الإيثار. فالمحسن أعلى درجة - من ناحية الأثرة - من تقبل الإحسان ، وذلك لأن المحن، في هذه الحالة، يجعل ما كان عنده غير محقق بالفعل محققاً بالفعل، فهو في تحقيقه للفعل عند الآخرين إنما يؤدي إلى ارضاء ذاته، من حيث أنه ينقل أفعاله من ناحية القوة إلى ناحية الفعل. ولهذا يرى دائيا أن الآباء يحبون الأبناء، أكثر مما يحب الأبناء الآباء، كما أن الفنان يحب آثاره أكثر ما تحب الآثار الفنان الذي صنعها. فهذا معناه ان المحسن أو فاعل الإيثار أعلى درجة من المتقبل للإيثار؛ وكل هذا في داخل الأثرة.
إلا أن من الجائز ان يسأل ارسطو فيقال له - كما سيفعل الأبيقوريون والرواقيون فيما بعد-: اوليس من الخير أن يكون الإنسان مكتفياً بذاته، وأن تكون حالة الاكتفاء الذاي هي اعلى درجة بالنسبة إلى الرجل الفاضل ؟ هنا يمكن أن يرد-على الطريقة الأرسطية - فيقال إن الإيثار - في هذه الحالة - ، أي التأثيرأو الفعل في الغير، هوايضاً داخل في اللذات القي ليس من المستحسن ان يحرم منها الرجل الفاضل.