ميرتشا إلياده

(بالتحويل من ميرسيا الياد)



مقالة: احمد محمود زين الدين

1مقاربة المقدس 
2مفارقة المقدس 
3منظومة رمزية 
4توحيدية الرموز 
5طقوسية 
6وسائط الأسطورة  


<nowiki> "المقدس عنصر اساسي في بنية الوعي، وليس مرحلة من تاريخ هذا الوعي ". على ضوء هذه المقولة، يمكننا أن ندرس ونفهم كلّ ما وضعه عـالم الأديان مرسيا إلياد mircea eliade من تصانيف وابحاث. فالدين عنده ليس بنيـة فوقية، ايديولوجيا (ماركس) وليس عصاباً طفولياً وسواسياً (فرويد). بل هو في أس الوعي البشري. بوصلته لاكتشاف الحقـائق الـوجودية والكينونية. وإذ يرفض اليـاد اختزال التصورات الدينية إلى وظائف اجتماعية او نفسانية او عقلانية. فََإنه لا يسعى إلى تفسير الدين بشيء آخر غير الدين نفسه. وبمعنى آخر ان معرفة المقدس هي معرفة حدسية ومعيوشة داخلياً، سـابقة على كل اختبار، وبعيدة عن اي ريبية اونسبية معرفة ممتلئة بموضوعها، وليست نسقاً مجردا، او تصنيفات منطقيـة، او طريقـة استنتاجيـة، اواستنباطيـة. المقـدس في تجليه المباشر وتعبيراته وضروب اشكاله، انكشاف لذات المؤمن عـلى معنى وجوده ودوره ووضعه في الكون. وبـه يحيـا وضعاً انطولوجياً، بمقدار مـا هو وضع ابستيمولوجي معرفي. المقـدس يؤسس للعالم، كما لكل ثقـافة راهنة او مقبلة، أصولاً وانماطا وتقاليد، تستعاد دورياً وتوجه نشاطات الأفراد وتمنحها شرعيتها. مقاربة المقدس يرى الياد ان مقـاربة الظاهرة الدينية التي يشكل"المقدس" نواتها, ليست أمرا يسيرا لدى الإناسي أو مؤرخ الأديان. إذ لا يمكن التمـاسها في حالتهـا "النقية" أو"البسيطة" الأقـرب إلى الأصل، حتى في أكثر الأديـان بدائية، وعند أقدم الأقـوام والقبائل. إنما هي دوما بنية معقدة, يفترض أنها مرت بمراحل تاريخية عـدلت او حورت من بنيتها الأصلية. كذلك يرى أن الوثائق الدينية التي تساعد عـلى فهم السياق الحي، حيث تندرج الظـاهرة الدينية, متباينة وغـزيرة وغير محدودة, ولا يؤدي تكـاثرها إلا إلى ازديـاد التبـاين وبلبلة الأفكار. اذ كيف يستطيع بضع مـن الأيقونـات البيزنطيـة, وبضعة مقـاطع من الإنجيل، وتمـاثيل لقديسين من عصر النهضة, أن ترسـم صورة واضحة عن الديانة المسيحية ؟ إلى ان الوثـائق ليست متباينة فحسب في مصادرها (كهنة ورجال دين أو عامة) بل في بنيتها (أنصاب, أماكن, معابد). والسؤال: أيهما أصدق تمثيلا لحقيقة المقدس من الآخر؟ وهل يستوي الثقـافوي مع الشعبوي, والنخبوي مع العامي في فهم الظاهرة ؟ لا يستبعد مرسيا الياد أيـا من الإثنين, بل يتناولهما, وكل المستندات والمواد والإشارات معا باعتبار أنها جميعا اضاءات هامة على تجربة المقدس وتجلياته المختلفة, في مواقف محددة ولحظـات معينة. وهـذه العملية لا تتـم في نظـره, إلا في إطارإعـادة تركيب تاريخي, كي يصبح ممكنا فهم الظـاهرة الدينية وتمييزها. والطريقة التاريخية التي يشير اليها الياد هي المنهج المقـارن, الذي وحده, في رأيـه قـادر على اكتشاف التحـول المورفولوجي, أي تعدد وجوه المقـدس مـن جهة, ومراقبة صيرورته من جهة. في دراساته العديدة, لا يسقط أي إشارة أو أثر مادي يتعلق بتاريخ الأشكال الدينية الا أدرجه في سيـاق الظاهرة المقدسة. لا بوصفها نقطـة تقاطع بين ازمنة تاريخية, أو شكلا جنينيا, أوليا, بسيطا يزداد تعقيدا كلما أوغل في التاريخ (أي خاضعا لنظرة تطورية تضع الأشكال الدينية الأولية بمثابة جذور) بل, عكس ذلـك. يحذر من تلك النظرة التي تقتصر على دراسة الدين من خلال الأديـان الكبرى, وكونها نموذجـا مثاليا, أو الحلقة الأكمل في مسيرة التطور الديني. او تلك النظرة التي ترى في الدين البدائي مرحلة دنيا, تصبو إلى مثال أعلى وفي هذه الأديان الكبرى بغيته وكماله. ان المطـلب التاريخي لمرسيا الياد, وهو مطـلب يلح عليه باستمرار في مواجهة بعض العلماء او المهتمين بالشأن الديني, لا يجعل منه كما يظن مؤرخـا, أو موثقـا أو منقبا, أوباحثا، يوثـق ويدقق ويقارن في صحة الأثر. بل هو يجعل من هـذا الأثر، كمـا يروى عبر مؤلفات الإناسيين والمؤرخين, ودون تدخل منه تصويبـا او تعديـلا, شاهدا عـلى صحة منظومته الرمزية او الدينية, او على كيفية ظهور المقدس عبر تتـابعاته وتدرجاته في سياقه التاريخي وانساقه الثقافية والحضارية. انها لبنات تعيد بنـاء الأشكال الدينية للمقدس عبر الزمان والمكان. وهنـا بالذات يبدو الياد متميزا من عـديد من الإناسيين, مثل فرايزر مثلا، في "الغصن الذهبي" الذي جمع مـادة كثيفة جدا من الشـواهد، وصنفها على اسـاس التشابهات والتقـابلات, مسقطـا من ذهنه كل خصوصية, وكل الفروقـات التاريخية والثقافية بين الشعوب والأمم. فالمسعى التاريخي لـدى مرسيا الياد, بنـاء على الإكثار من الشواهد, لا يرمي إلى اخفاء ظـاهرة المقدس تحت ركام التاريخ ،على غرار ما يفعل المؤرخ, بل إلى " تظهير" المقدس من خلال التاريخ الذي يجلو اشكاله وصوره وضروبه. وهـو يشهد عـلى تحولاته الكثيرة المتبـاينة، المحتملة والـواقعية. وهذا عائد حتما إلى " قابلية" المقدس للتمظهر (او الاختفاء لا فرق) بطريقة معقدة. وهنـا فحوى مبدأه الديـالكتيكي. ودور الياد, من هذه الناحية بالذات, الكشف عن القوانين الجدلية لهذا المبدأ, من طريق تـأويله. فالمـقدس واحد في مبدأ وجوده, لكنـه متعدد في اشكال انوجاده او ضروبه، فمـا نراه منه, او يـراه غير المتدين، ليس الا جانبا او ناحية من نواحيه. نراه شمسا او قمرا، او نبعا, او حجرا, او حيوانا من حيوانات البر او طيور السماء. نتعرف فيه على اشياء الطبيعة وكائناتها. لكن عـين المؤمن ترى فيه جوانب اخرى اسمى بكثير. تجد فيه سر وجودها، ومصدر قوتها. من هنـا مأخذ الياد على باحثين مثل ماكس مولر وتايلور حين حسبا ان تبجيل بعض القبائل البدائية لأشياء طبيعية, من بـاب العبـادات "الفتشية" اي عبادة الطبيعة او اشيائها لذاتها, وليس شكلا شفافـا يعكس مضمونا مختلفا. ومثل هذه النظرة تبسط المقدس لتلغيه فعلا. فماذا يبقى من قداسة. او الأحرى أين هي القداسة في شيء عادي, يعامل في ذاته لذاته, وليس كشيء آخر؟ انـه إجهاض المقدس بالتمام ! واليـاد اذ يعارض هكذا تبسيطية, يعترض ايضا على الاختزالية. كأن يقتصر على مرحلة من مراحل النمو الديني, كالطوطمية وعبـادة الأجداد والأرواحية والفتشيـة. او ان تختصر التجربة الدينية العميقة والمستمرة بحرتقات صبيانية, كما في فرضيـة ليفي بـريل عن العقلية ما قبل المنطقية. او بإسقاط للتجربة المجتمعية البدائية كما لدى دوركايم. فيؤخذ في هذه الدراسات وجـه واحد من اوجه الحياة الدينية عـلى كونه جوهريـا, بينما تعتبر بقيـة الأوجه ثـانوية او حتى وهمية. او هي تتصور إمـكان وجود ديـانة تطورت من الأدنى إلى الأعلى "او ديـانة توحيدية أولانية لكن التطورات اللاحقة التي احـاقت بالمجتمعات البشرية, شوهت المعتقدات الأصلية، بل محت آثـارها في كثير من الحالات". وفيها أيضا اعتقـادهـا بتدهور تدريجي عـن اصل كـامل. حين ان الحيـاة الدينيـة كما يراهـا مرسيا اليـاد, ومنذ بدايتهـا شديدة التعقيد، و"ان التصورات " الرفيعة" كانت تتعايش جنبا إلى جنب مع اشكال " دنيـا" من العبادات والمعتقدات". وقد برهن فلهلم سميث في كتابه "اصل فكرة الإله" ان الإيمان بإله أكبر كان أمرا مشهودا على اقدم المستويات، حين لم تكن الطوطمية إلا لدى القبـائل الأحدث عهدا من الناحية الثقافية. ومعارضة اليـاد لإية اختزالية اجتمـاعية او نفسيـة او تاريخية, متأتية من اعتباره الظاهرة التقديسية كينونة ينغرس فيها المرء بكل كيانه الوجودي والمعرفي. ويعيشها كاملة غير منقوصة. فلا يستقيم اختزال او تقسيم اوتبسيط. وإلا كنا كمن يطلب من المرء مثلا, ان يعيش بأذنيه ويستغني عن عينيـه ويديـه ورجليه. واذا كـان امر ظهور اشكال المقدس مشروطا تاريخيا, فلا يعني هذا ان مرسيا الياد يقع في فخ الأرخنة. لأن بنية المقدس عنده سـابقة على كـل تنظير او تفسير أوأرخنة. وإن كانت لا تـدرك عـلى حقيقتـها الا داخـل التاريخ، وتـاريخها هـي بالـذات، فلا دلالـة لهـذا سوى ان التـاريـخ هـوالـضوء الكـاشف لتجلياتها العـديدة، والباعث على تفتح معانيها ودلالاتـها واكتشاف الجوانب غير المرئية فيها المقدس "احافير حية" يقول مرسيا اليـاد، ويكفي احيـانا "احفور" واحد حتى نعيد تركيب المجمـوع العضوي الذي هو أثر من آثـاره. فدور مرسيا اليـاد التاريخي يكمن في هذا التوجه الدائم إلى هذه الأحافير الحية, الموجودة في العـادات والطقوس والأنصاب.. الخ ,لإزالة ما علق منها من شـوائب الزمن، وما لحقها من تشويه وانحراف, ولإعادتها إلى مكانها أو مكانتها, في منظومة رمزية تحقق في داخلها ذاتها كجزء لا يتجزأ من الظاهرة الدينية, عبر عـملية تأويلية, (هي الأساس في دراسات إلياد) تحيلها إلى "مـراسيل روحية" تومئ إلى سرها وخفـاياها. وإليـاد يستخدم التـاريخ هنا بذكاء نادر شرطا من شروط ظهور أشكـال المقدس المتباينة. في انتقاله من حالة الكمون إلى حالة الوجود. او من وجوده البسيط إلى وجـوده المركب, فنرى مثلا، كيف ان رمزا دينيا مثل الماء ينحو إلى ان يتمثل فيه أكبر عدد ممكن من الأشكال والصور, فيضيف إلى صفته الكمونية " كرحم كـل احتمـالات الوجود" صفـات اخصابية وبطولية. ولا يمكن لهذه الصفـات ان تظهرإلا عـلى أرضية بنيـات تاريخية واقتصادية متنوعة. فلا حديث مثلا عن رموز مائية مثل التنين في الصين القديمة " ساكن الغيوم والبحيرات" "جامع المياه", و"مسير الأمطار" إلا في مجتمعـات زراعية. ولا المطـابقة بين شعار التنين والإمبراطور "موزع الخيرات على الأرض" الا في ظل امبراطورية ديكتاتوريـة. ولا يمكن ظهور رمـز "الحورية" وهو الآخر مـائي, في اليونان القديمة لتمثل دور مـربية "الأبطال" الا في مجتمـع حربي, في ذروة الصراع مع جيرانـه. هذا الميل لدى المقدس إلى التعدد القيمي, والى الاستدماج, يعود في الدرجة الأولى، إلى فعل العامل التاريخي في الاغتناء بكل الأشكال الاجتماعية والاقتصادية المستجدة. والتاريخ هنا في ذروة نشاطه وحركته الصاعدة, وصبوته إلى تفتيق الصور وتوسيع الامكانات, وقدرته على التجدد. لكن للتاريخ وجها آخر على يد إلياد لا يختلف عن الوجـه الأول, ويلتقي في منتهى حركتـه واكتماله, اي لحظة يتحول النضج إلى اهتراء, يبوسـة, قشرة ميتـة جافة. اي إلى عائق لنمو التاريخ نفسه. او اذا صح التعبير: إلى تاريخ سلبي. هنـا ايضا نكتشف كل الحركـات المتقهقرة، الارتكاسية للمقـدس نفسه. ولو عدنا إلى رمزية الماء نفسها لألفيناها في امـاكن او ظروف معينة, تميل إلى الانطـواء على صفاتها الحسية أكثر والمبـاشرة. فبعد ان كانت حاملة بذور الحياة، اضحت ذات صفات علاجية او تطهيريـة. وتحول رمز مائي مثـل اللؤلؤ يحمل قيما اخصابية وجنسية, بل يحمل مبدأ كونيا ميتافيزيقيا إلى صفـاته الجمـالية, بعد أن اُنتزع منه كل أثر للقـداسة. وإلياد, داعية المقاربة التاريخية لظاهرة المقدس، والمستخدم الحصيف لعناصرها، لا يبدو في دراسـاته مهتما بإبراز هذه التاريخية علنا, او في الأقل، تـلك التـاريخية "الفاقعة". فلا ينصب على التماس علاقة كرونولوجية, تؤرخ لظهور شكل او دال مقـدس, ولا على تشريح طبقـاته الجيولوجية. ان التاريخ لديه ليس اسـلوبا مفروضا عليه انتهاجه بحرفه, وانما حقـل رحب, تتحرك فيه الرموز الدينية, فتنمو وتذوي، وتنفرد وتتحد. يضمر ما كـان قائما, وينهض ما كان كامنـا. هكذا يتـاح للمقدس الرمزي ان ينضاف إلى رمـوز اخرى تحده ويحدها. وفي "توزعه" و"ترتيبه" و"اصطفافه" يطفـح بمعنـاه وتعدده الدلالي والقيمي. فالرموز كمـا يقول بـول ريكور: " لا ترمز الا ضمن مجمـوعات تحد مـن دلالاتها, وتقويها معا" من: (" البنية والتفسيرية " ص265). التاريخي هنا لا يستنفد الظاهرة الدينية. وايقاعها المتساوق مع ايقـاع التـاريخ لا يعني انها ثمرتـه. انما يبقى منها دومـا" فضلة" لا تاريخية. عصّية على الذوبان او الاستنزاف، عبر كل الصور والأشكال الدينية التي تتماهى فيها. هذه الفضلة هي التي تؤسس لمقولة المفارقة عند إلياد، وتاليا يستوي الدين على قاعـدة القطع بين المقدس والمـدنس داخل الشيء ذاتـه، او بين الأشياء المختلفة . مفارقة المقدس الشيء يتـقدس بقدر ما يفـارق ذاته. اي بقدر ما يتحلل من صلابته المـادية ووظـائفه وصفـاته الفيزيائية والكيميائيـة والفيزيولوجية. ويتخلص من اعتيـاديته الطبيعية ليكتسب، او يصل عبر تجاوزه لذاته إلى بُعده "الآخر" بُعد القداسة, فتصبح الصفات الطبيعية في نظر المتدين مـزايا روحية, تعبر عـن القـوة او العظمة او الإجلال. بدون هـذا الانقطاع. هـذه المفارقة التي تحدس بها العين المؤمنة، لا يمكن ان يتبوأ هذا الشيء مقـام القداسة. فإن انقطاعا كهذا, يشكل ما يشبه "التواطؤ" الأولي مع العالم الذي يتحدث عنه ميشال فوكو, التواطؤ الذي يرى في الأشياء, ما يؤسس إمكان الحديث عنها وفيها, والاشارة اليها وتسميتها, وإصدار احكام عـنها, واخيرا معرفتها في صورة الحقيقـة. (نظام الخطاب) ص32 يميز اليـاد (بتأثير من منهجه التاريخي) بين الرمـز وتجلياته. فالرمز اولي كلي، وتجليه (آيته بالمعنى الإسلامي) محدود. الرمز هو المقدس عينه، وتجلياته هي صوره واشكاله المتفاوتة او المتدرجة. واذا شئنا قلنا انهـا وسائطه التاريخية والثقافية. التجلي او "الهياروفانيا" مثلاًًَ : هي التنين والأفعى والصدفة واللؤلؤة، والحلزون، والنطفة، والنبع، والحورية، والسنطـور (رمـوزمـائية). اما الرمـز فهـو"الصيرورة" و"البعـث". "الهياروفانيا" هي: الحجر والصخرة والنصب والوثن. والرمز تجسيد الألوهية. "الهياروفانيا" ايضاً: الشمس والقمر والكواكب. والرمز هو السمو والسيادة. منظومة رمزية العلاقة بين الرمـوز وتجـلياتها لا يمـكن فهمها الا ضمن منظومة رمزيـة متماسكة ومنهجية. يعمل مرسيا الياد على تبيانها مفصلة في معظم ابحاثه، وخاصة في " مصنف في تاريخ الأديان ". فالرمـز او تجليـاته لا يتضح الا داخـل منظومته. والساحرة في بعض المجتمعات البدائية حين تغرز دبوسـاً في دميـة تمثل " المسحور" او تحـرق شعرة مـن " الضحية "، لا يمـكن ان يجـدي عمـلها (مـن وجهـة نظـر مواطنيها) الا اذا افترض مسبقاً " تواطؤ " او نظرة ما عند هـؤلاء جميعاً, قوامها: ان الأظافر والشعر والأشياء التي يحملها المرء، او يقتنيها, تظل محتفظة بأثر منه بعد انفصالها عنه. اي ما يمـكن ترجمته بقوانين التشابه الشكلي والرمزي والتناظر الوظيفي. كذلك لا يمكن فهم مغزى اي صلاة, اذا لم يعترف بفـاعلية الكلـمة، كمـا يقـول مـارسيل مـوس. الرموز اذن ليست علامات تعسفية, معلقة في الفراغ. ليست حرتقـات صبيانية يتصف بها عادة "المنطق" البدائي. فالديني بدائيـا كان ام متمدنـا, يفكر كما يرى الياد, بواسطة الرموز. والرمـوز مهمـا تكن طبيعتها او مسـتواها دائما متمـاسكة متعاضدة، حتى في اقصى حالات تدهورها. فلا نكتشف مثلا العلاقة بين الطوفان والمعمودية وإراقة الخمر والتطهر بالماء, والرؤى الأخروية, الا على ضوء رمزية اوسع هي الرمـزية المـائية. كذلك كل الرمزيات السماوية والأرضية والنباتية والشمسية والمكانية والزمانية, لا تفهم الا كأنساق ذات معنى. وليس في تظهير هـذه المعاني اي استنتاج او استنبـاط او " تعقيل" او استخـراج تعسفي. انمـا تدبرها يتم عبر "منطـق" رمزي. واذا كان البعض يرى في بعض الرمـوز حرتقـة صبيانية، فلأن الأمر عـائد في مـا يرى اليـاد, إلى ان بعض الرموز والأصح تجلياتها، تتقهقر بفعـل الضغوط التاريخية او غيرها فتحتجب مدلولاتها الأصليـة. وهذا بالفعل جزء لا يتجزأ من جدليـة الرمز. ولا تستعيد هذه الرموز كثافتها أو قوامها, الا بإعـادة إدراجها في نسقها الأصلي, او في نسـق بـديل, او ترفض خوف ان تخلخل نسقا مستجدا, يجد فيها, بعد ان فقدت معنـاها الأصيل, عائـقا دون اكتمال التجربة الدينية الجديدة. فالوثنية وعبادة الأيقونات مثلا, لا يمكن تبريرهما كطرازين مقدسين في لحظة امتلاك الشعوب السامية لوحي موسوي، او الشعوب اليونانية الرومانية لوحي مسيحي, فهما لايتطابقان مع القدرات الروحية والثقافية في تلك اللحظة. بل ان هكذا عبادات تعوق فاعلية التجربة الجديدة. فهي تحارب بلا هوادة. او يعاد تقويمها وتأويلها، لإعادة دمجها في المنظومة الجديدة بواسطة جدل المقدس نفسه. لأن المقدس يتمظهر دوما من خلال شيء آخر. فالمعبود هو هذا الشيء المغاير. والأمر واحد أكان كائنا سماويـا ام ماديا ام قانونا أخلاقيا, ام صورة الهية او فكرة. فالفعل الجدلي هو نفسه: ظهور المقدس عبر شيء آخر غيره. بل ان الدين الحي, كما يرى المستشرق "جب" يحتفظ (بل ربما عليه ان يحتفظ) ببعض الرموز التي تتصل, في الأصل, ببعض الطقـوس, والعقـائد الإحيائية. وقد احترست العقـول الدينية الكبيرة من ان تهدم, خلال النمـو الديني, تلك الرمزية التي تعيد بعث المركب التخييلي فثنبثق منه الرؤيـة الدينيـة الحدسية. ولكن اصحاب هذه العقول يسبغون على تلك الرموز تأويلا جديدا يغير دلالتها الروحية والعقلية, ويبدلها تبديلا تاما, فيسمو بها فـوق تراثها الإحيائي. وهذا التمييز المطلوب يقوم بين الذين لا يزال الرمز الإحيائي يحمل في نظرهم ارتباطات احيائيـة, او بين اولئك الذين اكتسب الرمز لديهم دلالة جديدة اسمى. ومـن الآراء الخاطئة الافتراض ان كل رمـز يحمل دائمـا وضرورة ارتباطاته الأولى. ومن ذلك اجـلال الحجر الأسود في الاسلام, وهو رمز احيائي في الأصل, فانتقل إلى الاسلام فاصبح طقسـا مرتبطا بعبادة اله واحد. كما نقـلت ذبيحة القـداس المسـيحية قرابين (الهيكل) والعشاء القدسي الوثني. والمفارقة الجدلية الكامنة داخل المقدس هي التي تتيح هـذا الدوران. هـذا الانتقال من مستوى إلى آخر, ومن عالم إلى آخر. وحيث أشكال المفارقة نسبية، كان مبدأها مطلقا. لذلك تبدو التجربة الدينية لـدى اليـاد بكاملها, بلا تفريق بين دين بدائي ودين متطور, قـائمة على المفـارقة في حدث التجسد نفسـه, الذي يفسح ببروز كل التجليات، مـن اكثرها مـادية وحسية إلى التجسد الأسمى "اللوغوس" في جسد المسيح. ويرى مرسيـا الياد في بعض الأديان الهندوسية ذروة هذه المفـارقة التي تسـاوي بين اقصى درجـات المـادية الوثنية, وارفـع مستويات تجريد الألـوهية. اذ هي تستعيد أكثر الرموز حسية لتضعها في صلب نسقها الديني التجريدي، بوصفها مظهرا من مظاهر هذه الألـوهية. ويتم هذا الانتقال من مستوى إلى آخر, لا من طريق لاهوتية حذقة, مزودة بتراث فلسفي فحسب, بل ايضا من خلال تفسير عـامي "لاهوت شعبي". فالمتزهدون الهنود "الفيشنافا" يطلقون على كل اثر مادي كان يعبده الشعب منذ قرون، مثل نبتة تولاسو واحجار سالاغراما او تماثيـل فيشنو اسم آرسا اي مبجل، احدى صـفات الإله الأكبر، المطلق، السرمدي. وتمظهره في أثر مادي, عارض ومحدود, لا يلغي في رأي شيعته من الهنود, كينونته المطلقة, بل يرون فيه دليلا على عظمة هذا الاله, وقدرتـه المطلقة ان يتراءى كيفما شاء, وفي الشكل والصورة التي يريد. وما تباين هذه الاشكال الا الدليل السـاطع على لا محدوديتها. والواقع ان هـذه المفـارقة بين المحدود واللامحدود, بين المقـدس والمدنس، تبرز في كل "هياروفانيا" حتى في اكثرها بدائية او محسـوسية. ومـا عمل لاهوتية لوكاشـاريا الهندية المتطورة – وهـو عـمل كل لاهوت – الا ترجمة مفـارقة "الهياروفانيا" القائمة على"ان المقدس يتراءى في الأثر المدنس" بطريقة تأويلية وتقويمية. أي بإعادة دمجها في سيستام ديني. وفعـلا، تظل جـدلية المقدس، اي ظهوره في الكائنـات والأشياء المادية, موضوعا اثيرا لدى اللاهـوت كما تطور في القرون الوسطى.و كما يبرهن انه المسـألة الأساسية في كـل دين. ان عبادة الهنود المتزهدين للآرسا تكشف بجدارة سمـة من سمات المنظومة الرمزية. وهي (تزامنية) المعاني في الرمز. او ما يسميه اليـاد (التعدد القيمي). وبدون هذه التعددية الآتية من مستويـات زمـانية ومكـانية مختلفة, ومن تحـولات " الهياروفانيا" وتنقلاتها من دور إلى آخر ومن طبقة إلى طبقة. بدونها تضمر الرموز وتذوي وتتحول إلى قشرة سميكة قاسية, تعوق مجرى الشعـور الـديني. في حين ان التعـدد القيمي يضمن حيويتها وتجددها عبر تـاريخها الطويل. توحيدية الرموز وثمة وظيفة الأنساق الرمزية وهي وظيفة توحيدية. فالرمز مهما كان محتواه وضيعا او بسيطا، هو بمفارقته لذاته يعمل على إلغاء محدوديته, ويتخلى عن كونه جزءا معزولا, ويميل إلى تطابقه مع الكل, وينمو لديه اتجـاه إلى تمثل أكبر عدد من الأشياء والمواقف والطرز. وهـذا الميل إلى التعـدد يجعل الرمز نفسـه أكثر ثراء واتسـاعا. فالمياه التي ترمز إلى "المـادة الأولى التي خلقت الأشكال". لم تكتسب رمزيتها هذه الا عبر صور متعددة متزامنة. هـذه التعددية ليست منفصلة عـن حقيقة الرمز الأولي الا في التجربة الاعتيادية (الدنيوية). اما العقل الديني البدائي فيتعامل معها على انها "كون". وحدة عضوية. فلدى السومريين تدل كلمة ماء على النطفة والحبل والذرية والولادة في آن. والماء "رحم" كوني تنمو فيه كل البذور, فيصبح مفهوما وجود اسطورة خلق البشر من إلهة الماء لدى المكسيكيين. كذلك تزدوج السماء والأرض في مركب جنسي فتخصب الأرض مـن معانقة السمـاء لها, لتولد فكرة الأم الارضية. خـاصة في المجتمعات الزراعية. وتشيع عادة غسل انصاب آلهة الخصوبة لاحداث المطر. وبفضل ميزة الماء الامتصاصية, تذوب الأشكال او تفكك ليعاد ترتيبها احسن تركيب, ممهدة لظهور فكرة البعث والتجدد عبـر المعمودية اي المـوت – الـولادة في المـاء. والمسيحية التي اخذت بهـذه الفكرة, اغنتها بقيم جـديدة, واصبحت المعمـودية واسطة التجدد الروحي. بل هـاجس آبـاء الكنيسة الـذين انكبوا عـلى تـأويل هذه الرمزيـة بما يعزز توجههم الروحاني. فكان المسيحي يتوسلها ويكرز بهـا كما " كان يوحنا يكرز بمعمـودية التـوبة لمغفرة الخطايا" (لوقا3,3). فمعمودية المـاء تطهره من ذنوبه وآثامه, وتجعله جديرا بالاتحاد بيسوع, ويقـول بولس في رسالته إلى اهل رومية : "... كل من اعتمد ليسـوع المـسيح اعتمدنا لموته. فـدفنا معه بالمعمودية للموت, حتى كمـا اقيـم الـمسيح من المـوت يمـجد الآب هـكذا نسـلك نحن أيـضا. لأنـه ان كنـا قد صـرنا متحدين معـه بشبه موته نصير ايضا بقيامته" (رومية 6,3,4,5). ويرتقي اللاهوت المسيحي برمزية الماء إلى مستوى آخر، حينما يعزو إلى المسيح قوله في إنجيـل يوحنا " كلّ مـن يشرب مـن هـذا الماء يعطش ثانية. وأما الذي يشرب من الماء الذي أعطيه إياه، فلن يعطش أبداً." يوحنا 4 : 13 – 14. فالماء الحي المتدفق المقصود في السياق التأويلي، هو المـاء النـابع من الداخل الذي يغسـل قلب الإنسان، أو هو تعاليم الشريعة أو الحكمة. وفي نصّ أشعيا44 : 3 - 25 يرمز الماء إلى روح الله القـادر عـلى أن يحول الصحراء بستاناً مزهرا ً. وانطلاقا من رمزية التطهر الروحي شاعت عند معظم الاديان الغابرة عادة الاغتسال او الوضوء قبل دخـول المعابد, او تقديم الأضاحي والقرابين. كذلك ترتبط رمزية الماء بفكرة الطوفان، اي تصور اختفـاء الإنسانية في قعر المياه، وحلول انسانية جديدة محلها، ثم اختفاء هـذه الإنسانية مجدداً وعودة انسانية اخرى، في حـركة دورية هي في صلب المفهوم الزمني عند الشعوب القديمة. ان رمـزية الطوفان، بمـا تحمله مـن حركة تكرارية استعادية تشبه في ايقـاعها ايقاعاً قمـرياً، انما تتضمن رؤية اشكال الحياة بوصفها صوراً عابـرة هشـة. ومثل اي "هياروفانيا" لاتلبث ان تتفتت طاقاتها الخلاقة المبدعة وتنحط قواها (بكونها واقعـة تحت وطأة الزمن) اذا لم تتجدد دوريا تحت المياه. وما هو تحت الأعماق الدفينة ليس موتاً كاملاً. انما اعادة تأصيل اعادة تركيب للأصول. وحيث لاانطفـاء نهائياً، فلا خلق جديداً، بل خلق متجدد. ومن مثـل الماء الذي يسبق كل خلق قـادر على تجديد شباب الإنسانية، قبل ان تذوي وتشيخ ؟ ولأن المـاء عنصر كوني حيوي بإمتيـاز فقد فضله الرب في " الكتـاب المقدس " على غيره ليضع عرشـه عليه والتعدد القيمي الذي يمتاز به الماء، مثل اي رمز اولي، لم يمنع من ظهور "هياروفانيا" وضيعة، مقارنة بفكرة المعمودية او الطـوفان. مثـل عبـادة الينـابيع والآبـار والسبخات المـالحة الموصوفة بقدراتها الشفائية. وهذه العبادات ليست بذات بال، عند من لا يدرك اصولها وارتباطاتها بالرمـز الأساسي. في حين انها تبرهن عن استمرارية مدهشة لتعدديـة الرمز المـائي، وقـدراته على هذا العدد الهـائل مـن الصور والأشكال. فلم تستطع الأديان المتطورة اجتثاثها. ولم تنفع كل القرارات التي اصدرتها المجامع الكنسية تحريماً لهذه العبادات، في ردع الفلاحين الأوروبيين المسيحيين، عـن تقديم النذور لبعض آلهة الينـابيع والبحيرات. وفي الديانة الإسلامية الشعبية ظلت الينابيع والأحواض والآبار والعديد من مصادر المياه، تجذب نحوها طوائف غفيرة من القرويين والبسطاء الذين ينزحون منها الماء، أو يغتسلون فيها، أو يرشونها على أغراضهم، أو يبللون بها قطعاً من أوراق كُتبت عليها عبارات وصيغ طلسمية. وبـؤرة المياه المقدسة تقع عادةً حـول مزارات الأولياء، أو قربهم. والميـاه هذه في المتخّيل الشعبي ذات خواص شفـائية كثيرة. وهي ذات قـابلية لنقل هذه القدرات العجائبية إلى الزائرين المرضى التماساً لشفاء أجسامهم من الأوجاع والأوصاب أو التئام جروحهم. وإلى كلّ من يصبو إلى حيازة الثروة أو الفوز في أعمـاله، أو الزواج بمن يحـب أو إنجـاب الأولاد. وقداسة المياه أحياناً ناجمة من الاعتقاد بوجود شرايين خفية في باطن الأرض، تصل ما بين هذه المياه التي يقدسها مثول الأولياء بالقرب منها، ومياه بئر زمزم في مكة، وهو النموذج الأصلي لكلّ الآبار في الإسلام (بئر سيدي داوود أو بئر باروتا في القيروان). وتحوي بعض الأحواض أنواعا من الأسمـاك والسـلاحف المشبعة بقداسة المكان فيلتقطها الزائرون ويحملونها إلى البيوت التماساً للسعد والحظّ، وتبركاً بها. وغالباً ما يضع سكان جبال أطلس في المغرب الشموع على مـداخل المغاور، أو بين شقوق الصخور التي تنبجس منها الينابيع أو تتساقط منها الشلالات (الشرشار في لغة المغاربة) قـريباً من مزارات هؤلاء الأولياء. كذلك نجمت قداسة مياه الفرات عند بعض الشيعة بعد ان قتل الإمام الحسين، على ضفافه ظمآنا. كذلك تشيع في الذهنية الميتولوجية، أن الينابيع انبثقت من ضربة عصا لأحـد الأولياء في موضع ما من الأرض. ويُقـام في بعض الأحيان على هذه المصادر المائية بناء، على شكل قبة تأكيداً لطابعها القدسي. وكما أن ثمة ميـاهاً محيية مطّهرة لا تغيض أبداً. فهناك أيضاً ميـاه مشؤومة ومرعبة يتحاشى القوم الاقتراب منها، خشيـة الأذية من حراسها الأشرار، من الخوافي والجن. وفي رمز اصيل آخر مثل الحجر، نجد مجموعة اشكال وصور (ليست الأوثان الا جزءاً منها) لا يمكن فهمها الا ضمن مقولـة المفـارقة الأساسية، في نظر الياد، لمعرفة آليـة التفكير الديني. فالناس لا يعبدون الأحجار الا بمقدار ما تمثل لهم شيئاً آخر غيـر نفسها. ويصدق في ذلك قول الآية في وثنيي الجاهلية " وما نعبدهم الا ليقربونا إلى الله زلفى " وزلـف في" لسان العرب " وازدلـف وتزلف : دنا منه، وازلف الشيء : قربه " وهو تعبير عربي فصيح عمـا يقصده مرسيا اليـاد، هنـا. وفي مـواضع اخـرى عـن تمظهر " الهياروفانيا ". يوفر الحجر للوعي الديني البـدائي، بثباته، وجموده، ورسوخ كينونته العصية على التغيير، طرازاً من الوجود المطلق الذي يشعر البدائي حياله بتجاذب عاطفي، فيبهره برسوخه وديموميته، ويهاب صلابته وحجمه. وهكذا نفهم فكرة بناء الضرائح للموتى مثلاً (وهي مـألوفة في حياتنا) بارتباطها بأصولها الرمزية الأصلية وهي رمزية الحجر. فالحجر لأنه في نظر البدائي رمـز الديمومة والثبـات، اضحى بجـدارة حامياً للحياة ضد الموت، وللجسد ضد الانحلال. اصبح مسكناً يحفظ روح المتوفى ويثبتها في مكانها. فالأحجـار المتميزة شكلاً وحجما ًولوناً مسكونة، على حسب بعض المعتقدات القديمة بأرواح الأجداد. ومن أشهر انواعها حجر " المغليت " المعروف عند القبائل الهندية البدائية. لـذا يكثرون من استخدامه في بنـاء الضرائح او يضعونه عليها. وفي منطقة كاليدونيا الجديدة، يتحدث الباحث الإناسي لينهارد عن اعتقاد السكان " بأن الأحجار هي روح الأجداد المتجمدة " وكلامه يطابق بصورة مدهشة ما ورد في تراثنا الإسلامي. إذ نقرأ للكلبي، في كتابه " الأصنام " ان اصل " آساف " و" نائلة " (اسمـان لصنمين في الجاهلية) بشريان مسخـا حجرين ووضعا عند الكعبة ليتعظ الناس بهما، فلما طـال مكثهما وعبدت الأصنام، عبدا معهما. وكـان احدهما بلصق الكعبة، والآخر في موضع زمـزم. فنقلت قريش الذي كان بلصق الكعبة إلى الآخر. فكانوا ينحرون ويذبحون عندهما. واذا كان الكلبي المسلم، والذي ينكر طبعـا عبادة الأصنام، يقصد ان يتعظ المسلمون فلا يقـربوا عبادة الأوثـان، فروايته، من منظور انـاسي جديرة بالتـأمل. وحيث الأحجار منازل تأوي اليها الأرواح يتوجه العابد اليها لأن قوى روحية مـاثلة فيها. وبسبب التعـدد القيمي للرموز وقابليتها للإدماج والتوحيد، تكتسب بعض اـنواع من الأحجار، إلى كونها مستقر الروح مـزايا جنسـية واخصـابية، مثـل احجار الدولمن والمنهير والمغليت. فنشـاهد مثلاً العاقرات في جنوبي الهند يقدمن إلى احجـار الدولمن ازهـاراً وارزاً مطبوخاً وخشب الصندل كي تهبهن ارواح الأجداد الثاوية فيها ذرية. كذلك يدهنها التجار بالزيت طمعاً بتجـارة رابحـة. وتختـار هذه الأحجار على شكلها. إذ ترمز صخرة " الدولمن " العريضة إلى اشكال انثوية، "أم" القبيلة عند الآساميين. أمـا صخرة " المنهير " المتعـامدة، فتمثل شكلاً ذكورياً جـد القبيلة. ويتفرع من هذه الصخور والأحجار انواع تمت بصلة إلى المزية الإخصابية. كصخور الحب والزواج والولادة وصحة الأطـفال. وبعض هذه الأحجار والصخور المقدسة تحيط بمزارات الأولياء في جبال الأطلس وتسمى " الأورمات " او " الكراكير " او الأرجام. ويتبرك بها الزوار, او تتمدد عليها النسـاء التماسـاً لقداستها ونيل حظوة التبرك منها، ونشداناً لـذرية مطلوبة. راجع " عبادة الأولياء في الإسلام المغربي، لأميل درمنغهام ". وبالقرب من مزار الولي سيدي فتح الله على خليج تونس, صخرة طولها عشرون متراً تتقلب عليها النسـاء العاقرات الراغبات في الإنجاب خمس عشـرة مرة. وقرب قلعة بعلبك في لبنان حجر من الدولمن, يسمى حجر الحُبلى. وربما كان من بقايا احجار القلعة، تقف عليه النسوة العاقرات طلباً للأنجاب. والحجر المخصب ليس بالضرورة ذا رمز جنسي، بل ان انواعـاً تنال هذه الحظوة بفضل مصدرها السمـاوي المقدس. إذ يعتقد ان احجاراً اصلها نيازك مطفأة، قادرة بسبب " نزولها " من السماء ان تمـنح المطر والخصوبة. وفـاعلية هذه الأحجار ليست في ذاتها. بل تنتمي إلى مبـدأ، او تجسد رمزاً، او تترجم اصلاً سمـاوياً. " فهي إمارات لحقيقة روحية اخرى، او وعـاء لوسائط سحرية ليس الا". وهي وان كـانت في الأديـان البدائية بيوتـاً لأرواح الأجداد، تحولت في الأديان السامية إلى " بيت الله " او " بيت ايل " وهي كذلك لأن ميثاقا ً ابـرم في جوارها بين الله وشعبه، كما في الديانة اليهودية. او لأنها مـوقع مفضل للإتصال بالعالم الآخر، عالم الألـوهية. وحسب العهد القديم، فإنّ يعقوب اضطجع على حجرٍ لينام فرأى في حلمه سلماً منصوبةً على الأرض، ورأسها في السـماء تنزل الملائكة عليها وتصعد. وفي أعـلاها يقف الرب مبـاركاً يعقوب ونسله. وعندما استيقظ يعقوب أقام من الحجر عموداً، وصبّ زيتاً على رأسه ودعا المكان بيت إيل (التكوين 10:28-19). ويرى الباحث جان الليغرو في كتابه " الفطر المقدس والصليب " أن اسـم يعقوب نفسـه يرجع إلى اصل سـومريّ بمعنى حجر منتصب أو عمود. ويمثل هـذا الحجر بهيئته المنتصبة رمز الطـاقة الذكورية الخلاقة. واحتل تقديس مثل هذه الحجارة مكانةً متميزةً في عبـادة الإلهة الفيرجية " سيبيل " (الأم الكبرى) في آسيا الصغرى. وكانت عبـادة هرمـس تقترن بتعظيم أحجـار مقدسـة، تـدُعى هيرما. وكانت مـواقع كثير من الأنصـاب الحجرية من الميغـاليت التي تنتشر من الشطآن الغربية لإنكلترا حتى إيرلندا والدانمارك وإسبانبا مكاناً طقوسياً مفضلاً لتوقيع الرقص الإحتفـالي وتقديم الأضاحي، ومركزاً للنشاط الاجتماعي أيضاً. ووُجدت منهيرات مزينة بصور بشـرية بوصفها مقراً لاجسـاد الموتى. وغالباً ما تعلقت بعقيدة الإخصاب للأشخاص والقطعـان والمحاصيل. ولقد عانت الديانة الموسوية قبـل الإسلام صراعاً لا هـوادة فيه ضد خلط الشعـب اليهودي بين الأثر المـادي والمثول الإلهي فيه. فحرمت تحريما مطلقا ًا ية شبهة وثنية  : " لا تصنعوا لكم اوثانا ولا تقيموا لكم تمثالا منحوتا او منصوبا، ولا تجعلوا في ارضكم حجرا مصورا لتسجدوا له. لأني انا الرب الهكم " (لاويين 1,26). يقـرأ هذا التجاذب بين التوحيد (التجريد) والوثنية (المحسوس) وهو عند اليـاد في صلب الفهم الديني الرمزي، بكونه حواراً بين تاريخيـة " الهياروفانيا " ومطلقية الرمـز. او بتعبير آخر، قدرة الرمز على إلغاء ذاتـه واستعادتها. هذا الموقف يدمج لحظتين من التجربة الدينية : من جهة، المفهوم القديم الذي يماهي بين الألوهية ومادتها. فيعبد الأثر الذي هـو الشكل، او موضع مثـول الإلهي. ومن جهة ثانية المفهوم الجديـد الذي يميز بين " بيـت الله ". والله نفسه كفكرة مطلقة. وإذ اقرت الصفوة الجديدة الاحتفاظ ببعض الآثار المادية التي تمت إلى التجربة السابقة، مثـل " تابوت العهد "، فإنما تدرجه، او بالأحرى تقومه مجدداً، في سيستـام ديني جديد، مـا يمنحه مضموناً مختلفاً. كل اصلاح ديني، يقول مرسيا الياد، يقوم ضد تدهور التجربة الدينية الأصيلة. ضد الخلط بين تجلي المقدس والمقدس نفسه. بين الدال المادي والمدلول الروحي، بين المدنس والمقدس. ولكي يثمر مثل هذا الإصلاح عليه ان يعـدم بعض هذه الدلالات، او يحورها لتطابق المعنى الأصلي، او ما يظنه كذلك. ولا يلبث الاختلاط ان يعـود من جديد، وتحت اشكـال اخرى، مستدعياً اصلاحاً آخر، وعودة إلى معنى اصيل. هو على الدوام معنى لا تاريخي، او ما فوق التـاريخ. او ما يسميه مرسيا اليـاد " الميـل إلى النمـوذج الأصلي ". ولا نظن ان اليـاد عندمـا يتحدث عن تقهقر الرموز إنمـا يبتغي وضع خط بياني، في اعلاه صورة اله خالق. وفي اسـفله رموز حسية، باعتبار ان ذروة الخط هي الحلقة الحضارية الأكثر تطوراً. واسفل الخط هو البدايات التاريخية والثقافية. هكذا ترسيمة تعني ان التطور الديني لا يكتمـل الا بتصور هذا الخالق. حين، ان اليـاد، يميل إلى القـول بوجود ديانـات توحيدية لدى قبائـل بـدائية محت التطورات اللاحقة آثارها او شوهتها. يذكر مرسيا الياد ان عدداَ من القبـائل التي توقف تطـورها عند مرحلـة القطـاف او الصيد، عرفت الهاًَ خالقاً، بلا اي دور في حياتها الدينية. فهو بحسب الأسطـورة حينما خلق الكون، ترك مخلوقاته سريعاً، واختفى من السماء. ولم ينجز في احيان كثيرة عمله. خلاه لإله آخـر، هو ابنـه او وكيلـه او احـد الأجـداد الأسطوريين. ولأنه انعزل عن مخلوقاته غير مبال، لم تعد الصلاة توجه اليه الا في حـالات محدودة. ولا تقام له معابد ولا تماثيل، ولا يخدمه كهنة. حال قبائل سلكمان في ارض النـار. لذا تعرّف قبائل الزنوج من غريوس الله  : " بأنه البعيد عنا ". والإله في هكذا امثلة وقد فقد كل فعالية دينية، وغاب عن العبادة اليومية. يستبدل بإله آخر، أكثر دينامية في حيـاة هـذه الشعوب. ونرى هـذا الإبـدال واضحاً في ديـانات الشـرق القديم، وفي العالم الهندي - المتوسطي، حيث الإله السماوي الخالق الكلي العلم والقدرة إله مخصب، بصورة أكثر تعبيراً عن سيطرة القيم الحيوية في افـق الإنسان الذي يعيش في هـذه المنطقـة طوراً متقدماً من اطوار الحيـاة الزراعية، واقترنـت لدى هـذه الآلهة الصفـات المناخية الإخصابية بالصفـات الشـمسية. وانتقلت مـن مرحلة الاستعلاء واللامبالاة إلى حالة دينامية تؤّمن بروز طرائق سحرية لمـواجهة اخطار القحط. ثم ان إلهاً ليس حاضراً في حياة المؤمن اليومية إله منسي. وهو المثل على " موت الله " اطروحة الفيلسوف الألماني نيتشه. بل ان مرسيا اليـاد ابعد من ذلك، حين يرى ان اختفـاء الله او موته او نسيانه لا يدل على فقر الحياة الدينية. ويعتقد، على العكس، ان الأديـان الحقيقية تظهر بعد اختفـائه. أي في الأسـاطير الأكثـر غنى ودراميـة، والطقوسيات الخـارقة، والآلهة من كل الاجناس والأجـداد والأقنعة، والجمـاعات السرية، والمعابد والكهنوت. وحيث ان الله غـائب او منسي فهو يتجسد في كل هـذه الضروب والأشكال. هذه "الهياروفانيات " حتى لا نعرف في اي الوجوه نقع على وجه الله الحقيقي. طقوسية الرموز والأسطورة البدائي الديني لا يعالج الرموز وتجلياتها معالجة خارجية او حيادية انما هي وسائط اساسية بينه وبين كينونيته. تؤسس لفعاليته البشرية والاجتماعية. هي في حقيقة وجوده. إذ ليس ثمة وجـود حقيقي له الا عندما يتمثل العـالم من خلاله. انه يترعرع في حقـل الرموز، ويتماهى في " هياروفانياتها " كتجارب وجودية. وهذه المماهاة هي في اصل الطقس الديني. والطقوسية لا تنفصل عن الرمزية الأصلية لتكوّن بمعنى من المعاني " حضوريتها ". الطقوسية شـكل وحيـد لإقامة المقدس في الواقعي. فالمتدين البدائي لا يتأمل موضوعه تأملاً عقلياً او مجرداً. بل يعايشه وجودياً عبر تكرار شعائري. اي يدمج الصعيد الميتافيزيقي بالصعيد الحياتي. والفعل الديني لـدى البـدائي (وكل فعل لديه فعل ديني) ليس بذي مدلول، وتالياً ليس حقيقياً او شرعياً، الا اذا كرر" نموذجـه الأصلي " الرمز الاساسي بواسطـة الشعيرة. ومرمى هذه التكرارية، هو التأكيد على استواء الحدث او الفعل. واهم الفروقات التي تفصل الإنسان المعاصر وتحديدأ اللامتدين، عن الإنسان البدائي الديني، قائمـة على ان البدائي يمنح علاقاته وارتباطاته، بل حاجـاته العضوية والفيزيولوجية، مثـل الغذاء والجنس ابعاداً دينية. فالجسد لدى اللامتدين يبدو له معيار كينونيته ومن اخص خصوصياته. والمتدين لا يدركه الا كموقع في مكان اسطوري مؤهـل من خلال مواضع محددة  : (فتحات الجسد، الاظافر، الشعر، الأعضاء التناسلية) بالإطلال على المقدس، او الوصول اليه عبر سلوكيـات مخصوصة او مقننة." وهكـذا جسد يتوزع بحسب اوامر الحقيقة الشعائرية ومتطلباتها. ولا يملك نتيجة ذلك اي استقلال مادي او دلالة عضوية ". كما يقـول غوسدورف (أحد المتأثرين بالياد). هـذا التقنين الشعائري للجسد يتيح الاقتراب من منابع القوة التي تمثلها الحياة، والاندراج في الوجود، والتحرر من الآليـة، ومن الصيرورة ومن العـدم، ومن المدنس. وهومـا يحوّل الأفعـال الفيسيولوجية والعضوية إلى قيم روحية. وفي التراث الإسلامي، نقرأ صورة لمثل هذا الجسد " المفارق " التي تتملك المسـلم، عبر احتذاء السنـة النبوية في ادق تفـاصيل التعامل الجسدي : الطعـام والشرب والانتعال والترجل والمصافحة ولبس الثوب وغسل اعضـاء الطهارة، وقص الشارب والأظافر، وترجيل الشعر، وحلق الرأس والسواك، والاكتحال، ونتف الإبط وحلق العانة، والامتخاط، والاستنجاء، والتيامن والتياسر. وكل ما يضغط قواعد سلوكيـة الجسد، لا على قاعدة الوقاية الصحية، وهي نظرة علمية متـأخرة، انمـا على القـاعدة الإيمانية، على الأساس الشعـائري الذي يحتذي " النموذج الأصلي ". وتبدو شعائرية الـجسد غير مقصورة على المجتمعات البدائية او الدينية. انما هي معهودة في الأنظمة الاجتماعية العقائدية المغلقة. حيث تفرض سلوكيات جسمانية، وطرائق خاصة في تنظيم الوقت، وتوزيع النشاطات الفردية والجماعية، في ايقاعات محددة، بطريقة تدفع الجسد لإنتـاج " قراءة عضوية " للخصائص الاجتماعية، وفق تعبير بيار بورديو. الشعائرية اذن ليست لعبة حرة دون قواعد. او حركة خالية من المعنى." لا معنـاها" هو فقط في ذهن من يقف على مسـافة منها. حاله حال من يرى من بعيد، او خلف زجاج، حركات واشارات، واوضاعاً، لا يدرك مغـزاها، ولا يعرف انها خطوات راقصين، لأنه لا يسمع الموسيقى المنبعثة من الداخـل. والتكرار الطقوسي هو بالضبط هذه الإيقـاعية المنغمـة، غير المسموعة الا من الذي يمارسـها، وهي التي تمنح الطقس مدلوله. ويعد" كونراد لورانز" الطقس شكـلاً من اشكال السـلوك الحيواني الذي فقد وظيفته البدائية العدوانية او الإغرائية، ليغدو فيمـا بعد صورة من صور التواصل الذي يقوم بوظيفـة ثلاثيـة : يزيل الصراعات داخل الجماعة، ويقوي اواصر التآلف والتماسك بين افرادها، ويعـارض الجماعات الأخرى كروح مستقلة وموحدة. وتمثل صلاة الجمعة لدى المسلمين، والحث على إقامتها الوظيفة نفسها، والمتجسدة في تراص اجسـاد المصلين، وتنظيم صفوفهم وتماسكها، وتوحيد حركاتهم في الركوع والسـجود. وكما رأينا عند الياد سابقاً لا تفهم " الهياروفانيا " الا في ضوء التعدد القيمي للرمز الأصلي. كذلك الطقس بكونه تكراراً لحركات سابقة او لأحداث مضت، لا يكشف عـن فـاعليته الوجـودية الا بارتباطه " بتـاريخ نموذجي ". اي بأسطورة تروي اصول الأشياء والأحداث، وكيفيـة بروزها إلى الوجود. الأسطورة تؤسس صورة ثابتة للكون، على الإنسـان ان يستعيدها ويكررها، في كل عمل او تصرف ليظل متطابقاً مع الحقائق الأبدية الأزلية. الأسطورة " بذرة " القـوانين الحتمية. فكما يخفق اي عمل لا يراعي الضرورة او الحتميـة الطبيعية، كذلك هو شـأن البدائي الذي يتعرض لقصاص الآلهة. الأسطـورة مرتبطـة بالمعرفـة الأولى التي يمتلكها المرء عن نفسه وعن محيطه، بل أكثر. انها بنية هذه المعرفة بالذات. وعند البدائي كما يقول غيسدورف :" لا توجد صورتان للعالم، احدهما موضوعية " حقيقية " والأخـرى" ذاتيـة". انها قراءة وحيدة للمشهد الطبيعي. لا يتعلق الأمر اذا بمعرفة خارجية مجردة، انما معرفة انطولوجية معـيوشة. فلا يتذكر البدائي الأحداث فحسب بل يستعيدها. ولا يعيش في زمـن كرونولوجي احادي او خطي، بل في زمن اصلي تكراري والبدائي في عمله لا يخلق الأشياء، انما يكرر خلقاً نموذجياً سبـق للآلهة ان اوجـدته. والذهنية البدائية، ككل ذهنيـة دينية، تـرفض فكرة الوجـود على غير مثـال، او الابتداء من غيـر اصـل. فليـس مـن بداية الا البداية المطلقة، اي خلـق الكون، العالم موجود كامل غير ناقص. ممتلئ بذاته، من هنا سـر قداسته * ان سيستام الأسطورة مغلق لكنه ليس محدوداً، بل هو مغلق على اكتمـاله، ولا يحتمل زيادة او نقصانا. فيه الجواب الشافي عن كل سؤال، ونموذج كل خلق. باكتماله وانغلاقه، تزداد ثقة المرء بذاته ويتيـقن مـن جدوى فعله ما دام مطابقاً للأصول، ومصنوعاً على مثال سابق . العمل على غير مثال لا يؤدي الا إلى مزيد من التجريبية والريبية ونمو الشكوك والقلق. وان فكراً كهذا مفتوحاً على زمن الصيرورة والتحولات اللانهائية (وهو فكر القرن العشرين بجدارة) لا يعمل الا على شيـوع مصطلحات التجزيئية مقـابل التوحـد والكلية، واللاتحديد مقابل الغائية، و" العماء الصاخب " بحسب تعبير ادغار موران مقابل الإنتظـام. والمواجهة بـدل المصالحة والإكتفـاء والامتلاء. ما دامت الآفاق مسدودة امام كل جديد ومستحدث، فعلى المـرء النسج على منوال سابق، واحتذاء الصورة الأساسية النموذجية. بل اجـادة هذا الاحتذاء إلى درجـة المطـابقة الكاملة. وحيث المرء الأسطـوري لا يبتعث جـديداً، فهو مضطر إلى الرضوخ لآليـة التكرار الشعائري لتثبيت الأشياء والسيطرة عليها وانمائها وتكثيرها حقيقة الأشياء الوجودية اذن، معطـاة في الفكر الأسطوري، قبل تجسـدها " التاريخي " في الحدث. كذلك السلـوك البـدائي يتحقق بوصفه سلسـلة من الطقوس " المتحينة " للسـلوك النمـوذجي في الأسطورة حيال الحقائق الأولية. واذا كـانت " الهيارو فانيا " عند الياد تساعد على " تظهير" الرمز الأصلي، فإن الطقس بما هو عمل او موقف تأريخي راهن يحاول ايضاً " تظهير" الأسطورة او التاريخ النمـوذجي في قلب الحدث الغـابر النسبي الذي يمت إلى زمـن الصيرورة والفساد. ما دام الفعل " الشعائري " لا يكتسب قوامه او كثافته الوجودية الا بالنظر إلى علاقته بحقيقة سابقة غير تاريخية وغير تجريبية، فإنه ينحو إلى الغاء زمانيته الذاتية الخصوصية. إلى إعدام خصوصية تحققه في الزمان العادي، الزمان المدنس، غير الشرعي وغيـر الحقيقي. فالطقوسية وان تحققت في مكان او زمان محدود تعكس في سيرورة انجـازها زمانا اولياً اسطورياً، غير قابل للفساد او الانحطاط. اذ لا تباشر عملاً جديداً يمت إلى ذاته والى زمنه، انما تعيد فعلاً نموذجياً بدائياً، مرتبطاً بزمـانه الأصلي المقدس، الزمن المـؤسس لكل فعـل سلوكية محددة. لـذا يحـاول البدائي في كل تصرفاته واعماله استعادة الزمن الاسطوري الممتلئ النموذجي. في زرع حقله وبناء مسكنه او معبده. كما في غذائه وعلاقاته الجنسية. اذ الوجود الحقيقي يبتدئ لحظة اتصال المرء بهذا التاريخ الأولي الجوهري، والاضطلاع بتبعاته ينقل الياد مثلاً، كيف ان المزارعين في منطقة تيمور، اعتـادوا بحسب تقاليدهم الأسـطورية ان يقضوا ليـالي طويلة في الحقـول يروون الأسـاطير الأولى لـزراعة الأرز، كي يضمنوا لها نمـواً طبيعيـاً ومحصولاً جيداً. كذلك يقول مرسيا الياد كيف ان الاستقرار على ارض، او بنـاء منزل، يتطلب من البـدائي قراراً حيوياً. لأن البناء هو اضطلاع بإعادة الخلق، على غرار عمل الآلهة في بداية التكوين. ففي بعض مناطق الهند مثلاً، لا يمكن تشييد منزل قبل ان يستشار فلكي ليدل على النقطة التي تقـع فوق رأس الحية (الكونية) فيغرز البناؤون وتداً في الموضع، ويرفعون فوقه حجر الأساس. ورأس الحية هو في رأي الأسطورة " مركز العالم "، كما جاء في كتاب (الريغفادا) المقدس. واكتشاف "المركز" يماثل عند المتدين خلق العالم، اذ لا شيء يبدأ او يحدث قبـل التوجه إلى نقطة ثابتة او الانطلاق منها " وحيث لا يمكن ان يبنى العـالم في خـواء التجانس ونسبية المكـان الدنيوي لذا يعادل اكتشاف او إسقاط نقطة ثابتة " مركزية " خلـق الكون ". وبنـاء معبد للإله آغني عند الهنود ليس بأقل من تكوين العالم في صورة مصغرة. فالمـاء الذي يجبل به يماثل الماء الأولي، ويرمز الصلصال إلى الأرض، وتمثل الجدران الفضـاء. ويصاحب البناء ترداد مقطوعات شعرية. ولأن " مركز العالم " يستخـدم " رابطاً " بين الأرض والسماء، لذا تبنى معظم المعابد والمدن المقدسة دائماً في هذا المركز. فعـاصمة الإمبراطورية الصينية القديمة، وهيكل سليمان في القـدس، وشيز " قدس الإيرانيين " مسقـط زرادشت، والمعابد البـابلية، كلها موجودة في وسـط العالم " سرة " الأرض. المكان المقدس بإمتيـاز. ويتحدث ياقوت الحموي في " معجـم البلدان " عن مكة فيقول : " ان أول مـا خلق الله في الأرض مكان الكعبة، ثم دحا الأرض من تحتها، فهي سرة الأرض ووسط الدنيا وام القرى". وسائط الأسطورة الأسطورة اذن هي تقنن عمـل البدائي، وتسبغ على اعمـاله وتصرفاته صفتها الشرعية لتقبل من الجماعة، عبر احتذائه اصولها وتتيح له الإنتقـال من زمنه المتجـانس العـادي إلى زمن مقدس. غير ان الأسطـورة لا تنقل إلى البدائي الا عبر وسيـط يروي احداثها، وبمعنى مـا، يشرع لتقاليدها. ثم لا تلبث ان تتطـور مهمته فيمهد لظهور الكهنـوت. وهـو تطـور ضروري في كل المجتمعـات. غير ان تحكم هـذا الوسيط، او الاحتكام اليه، في قواعد التجربة الدينية، وتقنينها اجتماعياً، يؤدي إلى اضعاف بريق الرمـز الأصلي الذي تنبعث منه ظـاهرة المقدس. الرمز الأولي الممتلئ بـذاته، الذي يعلو الزمـانية والمـكانية المحددتين. ودور اللاهوت " اعتقال " الرمز. تجميده في لحظة تجل محددة في شكل (هياروفانيا) بوصفها الأساس والأصل. ان اللاهوتي، بمـا هو وجه من وجوه الاجتماعي والتاريخي، يقف في الوسط بين الرمز الأولي المتعدد القيم، وتجسداته الوقتية العابرة. عبرالإجتمـاعي، الذي بدونـه لا يمكن رؤية الظـاهرة المقدسة. هـذا التصور الإليـادي يجعل مرسيا الياد نفسه منسجمـاً مع منطلقاته، فلا يقع في محظور الاختزال الاجتماعي الذي حذر منه، والذي يمثل دوركايم ابرز الداعين اليه، حين يعتبر ان العقائد الدينية لا تقوم الا على اسـاس جماعي، بكونها تصوراً وممارسة موحٌّدة وموحِّدة. فالمنظور الدوركايمي يقلـب دور المقدس كما يفهمه مرسيا الياد ويلغي تالياً وجوده. والاجتماعي عند دوركايم يولد الرمزي. بينما الرمزي عند اليـاد هو الذي يولد الاجتماعي. في التصور الأول : الديني ثمرة الوعي الإجتمـاعي لاجتماعيته. وفي التصور الإليادي لا يرى الاجتماعي اجتماعيته الا من خـلال الديني. بيد ان الياد لا يقف عند هـذا الحد المثالي. بل يكمل دورته الجدلية، فالاجتماعي الذي يتمرأى في الديني، يعـاود انتاج الديني على صورته ومثاله. وفي هذه الاستعـادة لب المفارقة التقديسية التي يشدد عليهـا الياد. وهي في صميم العمل التأويلي الذي ندب نفسه له. وبمقارنة سريعة اخرى مع كتـاب " الفكر البري " لكلود ـ ليفي ستروس، يمكن الإلمـاع إلى جانب من المنهج التأويلي لدى مرسيا الياد، فنرى مثلاً كيف ان ستـروس يحصر جهوده، في دراسـة منظومة دينية محددة هي الطـوطمية لدراسة الفكر البـدائي. وفي اختيـار نموذجي لا لدراسة الديني او الذهنية البدائية فحسب، بـل كذلك دراسة مثال ملائم لإنتظـام الرموز داخل مدونة قـائمة على الترتيبات والسـلاسل المنظمة. حيث تكتسـب الدلالات الرمزيـة مضامينها من ارتباطـاتها المنظومية. اي من سلاسـل الترتيبـات وازواج المقابلات، المستوحـاة من التنظيم النحوي للغة. وتأكيد اولوية المدونة قبل المضامين، عائد في نظر ليفي _ ستروس إلى ان الفكر الأسطوري يقوم على حذلقة " برقلة" (كما يترجمها نظير الجاهل في كتاب الفكر البري) بمجمـوعة محدودة مـن الأدوات والمـواد وانقاض من المعاني، وادراجها في منظومة " داخل افق مرسوم لن يتخطاه شاء ام لا ". واذ نلحظ لدى ليفي _ ستروس، بناء على هـذا التصور، غلبة الترتيبات البنيوية على المضـامين، حيث " الأمثـولة الكبرى التي تكتسب من الطـوطمية، هي ان صورة البنيـة تدوم بعد ان تسقط البنية نفسهـا في الحدثي (التاريخي) نرى لدى مرسيا الياد الذي لم يقتصر على منظومة او حضـارة محددة، كونه احاط بالحضارات كافة : السامية والبابلية والإفريقية، عكس مـا نراه عند ليفي ـ ستروس : اي غزارة في المضامين وضآلة في الترتيبات. وصحيح ان الرموز لدى الياد مندرجة في منظومة. حيث " لا يمكن استعادة المعنى بدون حد ادنى من فهم البنى ". كما يقول بول ريكور. الا ان التعدد الدلالي الذي يمتـاز به الرمز الإليـادي يجعله لا يستنفد معانيه في ترتيبات بنيوية، لأنه يحتفظ بمعانٍِ " احتياطية " حاضرة لاستخدامها من جديد في بنى اخرى. واستعادة الرموز في الحالة هذه، تمثل معكوس حذلقة الترقيع. اذ لا يمكن القول باستعمال بقايا من بنيات، اهمية النحو فيها أكبر من اهمية علم الدلالات. بل وجب القـول بفائض من معنى ينظم نفسه. لا يراجع فيه الرمز معناه الأصيل فحسب، لكنه ينفتح على آفـاق من المعـاني الجديدة لا تخون المعنى الأولي. وتتميز المدونة الأسطورية الطوطمية لدى ليفي _ ستروس بالثبات والاستقرار. بل تمثل منحى متواصلاًَ لإبطال العمل المشوش الذي يقوم به العامل التاريخي للإخلال بعناصر المدونة التي تنحو حينئذِ، إلى اتخاذ شكل " قوة اجـرائية " ضابطة لمنظـومة التحول. ونجد العوامل التاريخية عند اليـاد تساعد على " تظهير " الرمز بقدر مـا تخفيه في آن. وحيث يتغلب في المنظومة الستروسية التزامن، فإنها لاتقدم الا شبـه هيكل عـظمي، بينما ينزع اليـاد إلى ما يسميـه ريكور" نزعة الرسـالة". اي إلى منظـومة ذات مضمـون مشبع لاينفـك يثير التفكير، ولايتوضح الا في سلسـلة الاستعـادات التي تضفي عليه مع التفسير تجديدا.</nowiki>

 المراجع 

1بحث في تاريخ الأديان :ميرسيا الياد (بالفرنسية)


2الحنين إلى الأصول:ميرسيا الياد


3تاريخ المعتقدات والأفكار الدينية:ميرسيا الياد

4الشامانية:ميرسيا الياد(بالفرنسية)

5الفكر البري :كلود ليفي ستروس

6البنية والتفسيرية:بول ريكور

7الطريقة :ادغار موران(بالفرنسية)

8 نظام الخطاب:ميشال فوكو

bg:Мирча Елиаде ca:Mircea Eliade cs:Mircea Eliade da:Mircea Eliade de:Mircea Eliade el:Μίρτσεα Ελιάντε Mircea Eliade]] eo:Mircea Eliade es:Mircea Eliade et:Mircea Eliade eu:Mircea Eliade fa:میرچا الیاده fi:Mircea Eliade fr:Mircea Eliade gl:Mircea Eliade he:מירצ'ה אליאדה hr:Mircea Eliade hu:Mircea Eliade id:Mircea Eliade it:Mircea Eliade ja:ミルチャ・エリアーデ ko:미르체아 엘리아데 la:Mircea Eliade lt:Mircea Eliade lv:Mirča Eliade nl:Mircea Eliade no:Mircea Eliade pl:Mircea Eliade pt:Mircea Eliade ro:Mircea Eliade ru:Элиаде, Мирча sh:Mircea Eliade sk:Mircea Eliade sv:Mircea Eliade tr:Mircea Eliade uk:Мірча Еліаде