تقدم
التقدم (بالإنجليزية: Progress) هو التحرك نحو حالة راقية أو محسنة أو مرغوبة. وفي سياق التقدمية، يشير إلى المنظور القائل بأن التطورات في التكنولوجيا والعلوم والتنظيم الاجتماعي قد حققت، وبالتالي ستستمر في تحقيق، حالة إنسانية أفضل؛ وهذه الحالة قد تحدث نتيجة لفعل بشري مباشر، كما هو الحال في المؤسسة الاجتماعية أو من خلال العمل الناشط، أو كجزء طبيعي من التطور الاجتماعي والثقافي.
تم تقديم مفهوم التقدم في النظريات الاجتماعية في أوائل القرن التاسع عشر، وخاصةً التطور الاجتماعي كما وصفه أوغست كونت وهربرت سبنسر. وكان حاضراً في فلسفات التاريخ في عصر التنوير. وكهدف، تمت الدعوة للتقدم الاجتماعي من خلال نطاقات مختلفة من الأيديولوجيات السياسية مع نظريات مختلفة حول كيفية تحقيقه.
كانت فكرة التقدم، بوصفه ازدياد المعرفة دقة وإحكاماً وتحسين نوعية الحياة، كانت بمثابة القوة الدافعة للحضارة الغربية طوال فترة امتدت إلى ثلاتة قرون على الأقل. وقى أثناء القرن العشرين تبنت كل ثقافة على هذه الأرض - تقريباً - نفس هذه الفكرة عن التطور، مع بعض الفروق هنا وهناك. وفى بلاد العالم الثالث يعد مفهوما التنمية والتحديث مرادفين لمفهوم التقدم.
المعنى اللغوي
المعنى اللغوي هو السير إلى الأمام، والنماء، والرقي، والازدياد في الرخاء. ولكنه كما يعني السير نحو الأحسن، فإنه قد يعني أيضاً السير نحو الأسوأ.
تاريخ الفكرة
تاريخ فكرة التقدم تاريخ معقد، بل إن معنى الكلمة نفسه محل خلافات جوهرية. إذ نجد العلماء المعاصرين يختلفون حول ما إذا كان لدى فلاسفة العصر الكلاسيكى القديم أى توقع للتقدم بصورته الحديثة التى شهدناها. وقد عثر روبرت نيسبت فى كتابه: تاريخ التقدم، الصادر عام 1980، على بعض الشواهد التى تثبت أن فلاسفة العصر الكلاسيكى كان لديهم مثل هذا التوقع فعلاً. ولكن النظريات الدورية فى نشأة الحضارات وانهيارها كانت أكثر شيوعاً بكثير إبان العصر القديم، واستمرت باقية وقوية فى العصر الحديث بفضل بعض المفكرين الأعلام من أمثال مونتسكيو، وهلفيتيوس، وجيبون، وشبنجلر. وهناك إلى جانب ذلك تراث آخر من الفكر ينظر إلى التاريخ الإنسانى نظرة متشائمة كل التشاؤم، لا يرى فى هذا التاريخ سوى الانهيار من عصر ذهبى سابق كان موجوداً قبلاً.
الفلاسفة اليونانيون
إذا تتبعنا معناه عند الفلاسفة، لوجدنا أولاً أن أفلاطون يرى أن «الشباب يتقدم نحو كل شيء» «محاورة تئيتاتوس») ؛ ويقول أيضاً إنه في المدينة (= الدولة) قد يحدث مع التقدم في الفضيلة التغير نحو الأسوأ («النواميس»)
ويتحدث أرسطو عن التقدم في نمو بني الإنسان والنبات («المسائل»).
والمؤرخ بوليبوس Polybius يتحدث عن ارتفاع منزلة الرومان، وعن التقدم في المعارف والأعمال في عصره («التاريخ») وشيشرون يتكلم عن «التقدم الجدير بالإعجاب» Progrossio admirabilis بعد التحرر من طغيان الملوك (»التسكلانيات»).
وفي مقابل ذلك نجد من بين الفلاسفة اليونانيين من يذم التقدم. فالرواقي خروسفوس يقول: «من يتقدم بخطى في سبيل المحافظة على الفضيلة فإنه مع ذلك في السُقاء تكون حاله مثل حال من لم يقم بأية خطوة» (الشذرة رقم 530 في «شذرات الرواقيين القدماء») وسنكا Seneca يعد المتقدمين من بين الحمقى، لكن ينبغي مع ذلك تمييزه من سائر الحمقى، كما توجد فروق بين المتقدمين (رسائل إلى لوكليوس، الرسالة رقم 75).
وتساءل هؤلاء المفكرون الأقدمون عن التقدم في تاريخ الإنسان وفسروا الأساطير الخاصة بذلك. فقال اكسينوفانس: إن الآلهة لم يكشفوا للناس الفانين كل شيء مقدماً، ولهذا ينبغي على الإنسان أن يكتشف تدريجياً ما أبقاه الآلهة مستوراً (راجع «شذرات السابقين على سقراط»). أما أفلاطون فإنه وإن قال إن ديدالوس، وأورفيوس، ويلاميدس، ومرسياس، وأيمنيزس قد وضعوا الفنون والصناعات لبني الإنسان، فإنه بعد الطوفان بقى الكثير منها مجهولاً، ولم يعرف الكثير من الفنون والصناعات إلاً حديثاً («النواميس») - وأرسطو قال إن التقدم هو في الفنون والصناعات أساساً، وعلى كل إنسان أن يتم ما ينقصه، وهذا يحتاج إلى زمان، ولهذا يمكن أن يقال إن الزمان «هو المخترع أو المساعد الجيد للاختراع» («الأخلاق إلى نيقوماخوس») . ويرى أرسطو أن من العبث التوقف عند ما فعله الأقدمون أو استرجاعه، ذلك لأن «التحرك هو الأفضل» (أرسطو: «السياسة»)؛ ولأن العادات والأخلاق الأولى «أولية ومتوحشة» («السياسة») . ولهذا جعل أرسطو «التقدم» هو المبدأ الذي ينبغي على الناس اتباعه.
وأبيقور قال بنظرة مشابهة، إذ قال إن «العصر الذهبي» المزعوم إنما كانت الحياة فيه «شبيهة بحياة الحيوان» (لوكرتيوس: «في طبيعة الأشياء»). ودعا الناس إلى المزيد من الثقافة والتكوين والأخلاق، والتقدم في هذه المسيرة. وبالمثل يدعو لوكرتيوس إلى المزيد من التجربة، وإلى كشف النقاب عن الطبيعة، وإلى تنمية وتطوير الفنون والصناعات.
لكن هؤلاء القائلين بالتقدم يختلفون عن القائلين به، في العصر الحديث، من حيث أن التقدم في العصر القديم لم يكن ينظر إليه على أنه يسير باطراد قدماً في خط مستقيم، بل كانوا يرون ما رآه أفلاطون من أن الزمان دوري (أفلاطون: «السياسة» («الجمهورية») بمعنى أن كل أنواع التقدم في السياسة والمعرفة والحضارة إنما تستمر دورة تنتهي بانحلال، ثم يستأنف دورة جديدة تبدأ من الصفر وتتقدم حتى نهايتها في الدورة، وهكذا دواليك.
العصور الوسطى
ثم جاءت المسيحية، وكان أول من تفلسف في التاريخ عند المسيحية هو القديس أوغسطين. حصر أوغسطين تاريخ العالم بين آدم والمسيح وقال إن عصور التاريخ ستة انتهت بميلاد المسيح في العصر السادس والأخير. وقال: إن مضمون تاريخ العالم يماثل حياة الفرد الأنسي؛ وإن الحياة في هذا العصر السادس تقوم على أساس الأمل والإيمان بعودة المسيح والتقدم مقصور على ازدياد التقوى ونماء الحياة الروحية المحضة (راجع أوغسطين: «مدينة الله») .
وقصر توما الأكويني «التقدم» على ازدياد المعرفة فقال: إن الروح الإنسانية تسعى إلى المزيد من المعرفة وهي تتقدم تدريجياً في هذا المجال، ابتغاء البحث عن أصل الأشياء (توما الأكويني: «في الجواهر المفارقة»، مجموع رسائله). وبمثل هذا قال دونس اسكوت: "في تقدم الجنس الإنساني تتزايد دائماً معرفة الحقيقة" (مجموع مؤلفات دونس اسكوت)
لكن لم يظهر مفهوم «التقدم» بوضوح في العصور الوسطى الأوروبية إلا عند روجر بيكون - إذ قال روجر بيكون إن من المهم وضع الأساس الذي عليه يستطيع العلماء في المستقبل أن يحققوا ما بدأ به على نحو جيد (مجموع مؤلفاته) . إن الإنسان في المستقبل سيعرف الكثير مما هو لا يزال مجهولاً عندنا اليوم؛ وسيأتي اليوم الذي سيتجب فيه أخلافنا من جهلنا بالأشياء. والفلسفة التجريبية ستكتشف أسرار الطبيعة والتغيرات المستقبلية في هذا العالم إن العلم سيتمكن من إطالة العمر، ومن اكتشاف آلات للطيران، وسيارات تسير نفسها بنفسها، وآلات للتحرك تحت الماء.
عصر النهصة
ثم يأخذ مفهوم «التقدم» معنى أعمق وأوسع عند فرنسيس بيكون. ذلك أن اختراع البارود، والفرجار Compas، وفن الطباعة قد أحدثت تغييرات جذرية في تصورات الإنسان. وقد رأى بيكون أن احترام الأقدمين ينافي تقدم العلم («الأورجانون الجديد»). ويؤكد أن «الحقيقة بنت الزمان، وليست بنت السلطة العلمية autoritas. وأن إغراء السلطة العلمية يشل مواهب الإنسان، وبالتالي يعوق التقدم والعلم القائم على التجريب هو الذي يصنع العلاقات الحقيقية بين الإنسان والطبيعة «أما التأملات النظرية التي يقوم بها الناس فهي غير مقنعة، لأنها تقوم على إعجاب زائف بمواهب الإنسان، ويفوقها في المهارة مهارة الطبيعة» («الأورجانون الجديد»)
ويشبه ديكارت أولئك الذين يتبعون أرسطو بنبات العليق الذي يحاول أن يصعد إلى أعلى من الشجرة التي تحمله. إنهم في النهاية سيكونون أكثر جهلاً مما كانوا قبل الدراسة (ديكارت: «مقال في المنهج»، مجموع مؤلفاته). وفي فرنسا خلال القرن السابع عشر ثارت معركة «القدماء والمحدثين». وفيها نجد فونتنل Fontnelle يأخذ يصف المحدثين، ويقول على لسان سقراط في كتابه «محاورات الموتى» إننا نقدر الأقدمين والأسلاف أكثر مما يستحقون. إن الزمان الحاضر أسمى من الزمان السالف، لأن الأول يعتمد على تبرير من التجربة وفي الوقت نفسه يستند إلى الزمان السالف. والناس يستفيدون دائماً من المزيد من التجارب التي تتم مع مضي الزمن.
القرن الثامن عشر والتاسع عشر
تطورت فكرة التاريخ العام الشامل للتقدم الإنسانى خلال القرن الثامن عشر، حيث كان مفهوم «التقدم» الشغل الشاغل للمفكرين والفلاسفة والمؤرخين والأدباء، وعلى رأسهم: فولتير، تيرجو، هيردر، كانط، روسو، هردر، شلر، لسنج، هيجل. وغيرهم من المفكرين. ولا يوجد أدنى مبالغة فى القول بأن فلاسفة القرنين الثامن عشر والتاسع عشر كانوا مهووسين بفكرة التقدم. وعندما خبت آمال الناس فى النعيم الروحى، تحولت أفكار الناس إلى الحلم بالجنة على الأرض، التى يمكن أن يحققها لهم التقدم.
تقوم فكرة القرن الثامن عشر عن التقدم على خمسة عناصر أساسية:
- إيمان مذهب الربوبية بالعناية الإلهية الرحيمة، وهى فكرة تنطوى على تفاؤل جوهرى بخصوص معنى الحياة الإنسانية و المصير الإنسانى.
- الاعتقاد بأن التاريخ لم يكن كارثة أو دماراً، ولكنه كان يتحرك عبر مراحل يمكن التنبؤ بها وفق قوانين يمكن الوقوف عليها ومعرفتها.
- الإيمان بالأجيال القادمة جميعاً وبقدرتها على تحقيق أمل التقدم وتكريم الرواد الذين جعلوا ذلك أمرا واردا.
- الأهمية المركزية للمعرفة بوصفها قوة دافعة للتقدم.
- الإيمان بقدرة الإنسانية على بلوغ الكمال.
ونلاحظ فى كل هذا نوعاً من الحنين الدينى القوى، وقد ذهب كثير من المؤرخين إلى أن إيديولوجية التقدم برمتها -وحتى الوقت الراهن- ليست سوى صورة منعكسة للديانة المسيحية، حيث حلت اليوتوبيا العلمانية محل الجنة الموعودة (انظر على سبيل المثال كتاب بيكر: جنة فلاسفة القرن الثامن عشر، الصادر عام 1932)
ومع أن الثورة الفرنسية كانت بمثابة نكسة لفلسفة القرن الثامن عشر المتفائلة، إلا إن اثنين من العناصر العلمانية من بين تلك العناصر الخمسة قد استمرا ووصلا إلى القرن التاسع عشر، محدثين آثاراً كان لها وقع الزلزال، وهذان العنصران هما: الأهمية المركزية للمعرفة، والبحث عن القوانين التى تحكم حركة التاريخ. وقد استطاع سان سيمون، ثم أوجست كونت على وجه الخصوص، أن يربط هذين العنصرين برؤية كانط عن التاريخ الإنسانى الشامل، ويخلقا نظرية فى التقدم أثرت تأثيراً هائلاً على الفكر الإنسانى فيما بعد. فقد ذهب كونت إلى أن الإنسانية نشأت وتطورت من خلال تطور العقل الإنسانى، وأن التاريخ الإنسانى يمكن تقسيمه إلى ثلاث مراحل متميزة تبعاً لمستوى الفهم الإنسانى. و المرحلة الأولى هى المرحلة اللاهوتية الدينية التى كانت تتميز بالأفكار والمعثقدات البدائية التى تنتمى إلى دين الأنيميزم. ثم جاءت يعد ذلك المرحلة الميتافيزيقية (التى ذهب كونت إلى أنها قد انتهت لتوها فى عصره) التى خلفت لنا أدياناً أكثر تقدماً وأكثر ميلاً إلى التجريد. أما المرحلة الوضعية الأخذة فى الظهور فتمثل عصراً سمته الأساسية هى العلم والفكر الرشيد، ومن شأنها أن تخلق أفكاراً يوتيوبية تتصل بتحقيق الجنة على الأرض. وهذا التطور يمثل «السير التقدمي للروح الإنسانية»، لكنه تحاشى القول بالتقدم في خط مسقيم؛ وإنما قال بأن سير التقدم يمر بسلسلة من الترجحات والذبذبات المختلفة وغير المتساوية، حول حركة وسطى تسعى داثماً إلى السيطرة، بحيث تتناقص الذبذبات والترددات. ومع أن نظرية كونت قد تعرضت للتقد فى عصره، ومازالت تتعرض للنقد حتى الآن، إلا أنها دخلت الضمير الغريى بالفعل. وأصبح نموذجها العلمى العقلى هو النموذج الإتسانى بمعنى الكلمة.
وقد ميز مفكروا القرن الثامن عشر بين التقدم في العلم والحضارة والصناعة، وبين التقدم الأخلاقي أو الروحي في الإنسان. فقال بعضهم بأن كلا النوعين متلازم مع الأخر، وقال آخرون إن كليهما متعارض مع الآخر. فمثلاً جان جاك روسو قال: «بقدر ما يتقدم علمنا وفنوننا نحو الكمال، تزداد أرواحنا فساداً» («قول في العلوم والفنون» [سنة 750]) . بل أنكر «التقدم» إنكاراً تاماً فقال: «لا يوجد تقدم حقيقي للعقل في الجنس الإنساني، لأن ما يكسبه في ناحية يفقده في ناحية أخرى، (الكتاب السابق). وأنكر التوافق بين التقدم العملي والتقدم الأخلاقي. وشايعه في هذا الاتجاه شيفتسبري ودعاة الأخلاق العاطفية وفي مقابل هذا الاتجاه نجد كوندورسيه: فهو يقرر أن العقل مرتبط بالخير الأخلاقي للإنسان، ويرى أن الطبيعة ربطت «الحقيقة، والسعادة والفضيلة ارتباطاً لا انفصام له» (كوندورسيه: «مخطط لوحة تاريخية لتقدم الروح الإنسانية» [1793 / 1794]), وهردر يرى أن الإنسان هو «زهرة الخليقة»، ويرى أن تقدم الإنسان غير محدود ويزداد كمالاً باستمرار (هردرم «المختار في فلسفة تاريخ الإنسانية» [سنة 1784، 1791]؛ «رسائل من أجل تقدم الإنسانية» [1793-1797])
كان إمانويل كنت Kant أول من درس معنى «التقدم» بعمق وتفصيل، ونجد لديه فكرة مكتملة ومتكاملة عن نوع إنسانى واحد يتحرك تجاه مثل أعلى لمجتمع مدنى شامل قائم على العدالة ومرتكز على الحد الأقصى من الحربة الفردية للجميع. وهو يرى أن «التقدم» يسير من الأسوأ إلى الأحسن»، ويسير نحو الكمال (كنت: «البداية المحتملة لتاريخ الإنسانية» [سنة 1786). ويؤكد أن التقدم مستمر إلى غير نهاية» («محاضرات في الميتافيزيقا»)، وأنه تحقيق لخطة خفية للطبيعة بهدف تحقيق نظام كامل للدولة وقانون عالمي وحالة فريدة فيها الطبيعة «تستطيع أن تنمي استعداداتها في الإنسان تنمية تامة» (أفكار في التاريخ العام بالمعنى العالمي» [1784]). والخطة الخفية للطبيعة تقوم على أساس أن الاستعدادات الطبيعية في الإنسان كما في سائر الأحياء قد قدر لها أن تنمو وتتطور تماماً ووفقاً لغاية محددة». لكن بينما تكفلت «حكمة الطبيعة» بتحقيق هذه الغاية عند سائر الأحياء، فإنه «من واجب بني الإنسان بفعلهم الذاتي أن يحققوا التطور» («أفكار في التاريخ العام»). «إن الإنسان يكمل نفسه بنفسه وفقاً لغايات اتخذها هو نفسه، من حيث أنه حيوان عاقل» . ولهذا فإن تاريخ «التقدم هو تاريخ الإنسان الذي يعمل يعقله عن حرية وإرادة حرة عاقلة وذلك بأن يحكم نفسه بنفسه «ويتوسع خارج دائرة الغريزة»، فيتخلص من النظام الميكانيكي للوجود الحيواني، ويتحرر تماماً من الغريزة، مستنداً إلى عقله وحده .
أما هيجل فإنه وإن قال «بالتقدم» فإنه يستبعد منه فكرة السير المتواصل نحو الكمال إلى غير نهاية، وينكر ارتباط هذا السير المتواصل بأي معنى أخلاقي. (راجع هيجل «العقل في التاريخ») وقد تصور التاريخ على أنه «تقدم» في الوعي بالحرية. وقانون «التقدم» هو الديالكتيك.
وتعد نظرية هربرت سبنسر عن الداروينية الاجتماعية مثلا آخر يوضح لنا كيف كان القرن التاسع عشر مأخوذاً بفكرة التقدم. ولقد كانت الداروينية الاجتماعية أكثر رواجاً فى الولايات المتحدة منها فى أوروبا. فقد ربطت التقدم بنمو وازدياد تعقد المجتمعات، وخاصة بالآلية الطبيعية التى تضمن البقاء للأصلح، والتى اعتقد سبنسر أنهايمكن أن تخلق أفضل مجتمع على الاطلاق، لو أتيحت لها الفرصة لتفعل فعلها. فعند هربرت اسبنسر أن قوانين التقدم هي بعينها قوانين التطور الكوني: إنه يمضي خلال تفاضلات وزيادة مطردة في التنوع.
الماركسية
وقد دخل كارل ماركس إلى نظرية التقدم من تراث فلسفى مختلف عن ذلك تمام الاختلاف، وإن كان من شبه المؤكد أن كونت وسان سيمون كانا كذلك من مصادر التأثير على فكره. وكانت نظرية هيجل الفائقة التجريد فى التاريخ ترى أن الروح الإنسانية تتجه نحو الفهم الكامل للذات وللعالم. ثم جاء ماركس وأسس هذه الرؤية على صعيد الواقع بربط التقدم بالصراعات الاقتصادية. وتنبأت نظريته فى المادية التاريخية بأن الحالة اليوتوبية (المثالية) النهائية -وهى الشيوعية- سوف تتحقق بفعل التأثير الأكيد للقوانين الاقتصادية.
أكد كارل ماركس أن «التقدم» ليس «قانوناً طبيعياً»، وليس «فكرة» Jdee، بل هو أمر عيني سيحدث نتيجة التنازع في المجتمع. يقول ماركس: «إن المبادىء النظرية للشيوعيين لا تقوم على أساس أفكار أو مبادئ من نوع تلك التي نادى بها دعاة إصلاح حال العام. بل هي فقط تعبيرات عامة عن أحوال واقعية للصراع بين الطبقات القائم حالياً، في حركة تاريخية تحدث أمام أعيننا» (كارل ماركس وفريدرش انجلز: «بيان الحزب الشيوعي» [1848]. والتحقيق الثوري التدريجي للمجتمع الصناعي يفترض مقدماً تحقيق ذلك في «تقدم» تاريخي.
وسنرى زعماء الشيوعية في القرن العشرين يفرطون في ترديد كلمة «التقدم» . فنجد ماوتسيه تونج مثلاً بصيح قائلاً: «إن العالم يسير قدماً، والمستقبل وضاء، ولا يستطيع أحد أن يغير مجرى التاريخ هذا» («الكتاب الأحمر، سنة 1967) ويقول في موضع آخر: «علينا أن ننشر التقدم في العالم بين الشعب باستمرار، ابتغاء أن يكتسب الثقة بالانتصار».
القرن العشرين
ويمكن القول أن نظريات التقدم قد سارت فى غالبية القرن العشرين على نفس النهج الذى سارت عليه فى القرن التاسع عشر: متفائلة، ورشيدة، وذات طابع مادى متنام. وقدم علم الاجتماع إسهامه فى هذا الموضوع فى الصورة المبكرة للنظربة الوظيفية، ثم فى نظرية مجتمع ما بعد الصناعة، واللتان تنبئتا بقدوم مجتمع المستقبل القائم على التتاغم، والرفاهية المستندة إلى العلم. ولكن يبدو أن فكرة التقدم بدأت تتداعى وتفقد بريقها مع نهايات القرن العشرين. حيث أن الفلسفات اليوتوبية الكبرى قد دمرت نفسها بنفسها، ودفعت الإتسانية فى ذلك ثمنا باهظاً. ولم يخلق العلم يوتوبيا أخلاقية بالنسبة للجانب الأكبر من البشر، وبدا لنا الآن أن المسثقبل ملفوف بالشكوك و الأخطار البيئية.
وهكذا نرى الغالبة العظمى من الفلاسفة والمفكرين يؤكدون التقدم وينادون بتحقيقه رغم اختلاف اتجاهاتهم. وهنا يثور السؤال: ما معنى «التقدم» الذي يقصده كل واحد من أنصاره؟
هنا نجد أن كل واحد منهم يفهمه بمعنى مختلف عما يفهمه به الآخر، فالتقدم كما يفهمه كنت يختلف اختلافاً تاماً عن التقدم الذي يقصده كارل ماركس وأشياعه. والتقدم الذي قد يدعو إليه رجل الدين يتناقض تماماً مع التقدم الذي ينادي به أحرار الفكر. والتقدم يفهم عند البعض بمعنى التطور الصناعي الصرف، ويفهمه البعض الآخر بأنه التقدم في الحياة الروحية، وهذان النوعان من التقدم نادراً ما يسيران معاً. والوصف بـ «التقدمي» عند المفكر المثالي هو على النقيض تماماً من «التقدمي» بالمعنى الشيوعي أو الوضعي. وأوجيست كونت حين صاغ المبدأ الوضعي المشهور، وهو: «الحب هو المبدأ، والنظام هو القاعدة، والتقدم هو الهدف» («نظام السياسة الوضعية») - لم يقل شينأ ذا محصل مفهوم.